رد: واقع يلفه الحلم
>>>>>>>>>>>>>>>> للراديو شرور ! <<<<<<<<<<<<<<<<<<<
تجاوزنا الوقت على غير العادة ، ولم يقرع الجرس ؛ فجميع الأساتذة في حركة دائمة ..
يدخلون ويخرجون من غرفة إلى أخرى .. يراوحون في المكان .. يتهامسون ، ينظرون
في ساعاتهم ثم يتلفتون وعلى وجوههم علامات الغضب ونحن التلامذة نراوح في نفس المكان ولا يقرع الجرس .
لا نعرف ما الذي أخرهم في إدخالنا غرف التدريس ؛ وبدأنا بالتساؤلّ :
هل توفي احد وجهاء المخيم أو مات احد الأساتذة .. ؟ !
الدفن عادة ما يكون بعد صلاة الظهر او العصر ، وغالبا ما تتوقف الدروس
عند مرور موكب الجنازة الذي يمر أمام المدرسة .. !
أين المدير ؛ لم يظهر كعادته اليومية والوقت قد تجاوز التاسعة صباحا ..؟
أسئلتنا تزداد مع مرور الوقت .. وتخميناتنا تذهب في اتجاهات عدة لم يقطع سيلها
سوى ظهور المدير بوجهه الصارم فأعتلى سلّمه الأثري وأخذ يخاطبنا بنبرة غاضبة وقال :
- " اليوم هو يوم إضراب . يوم احتجاج . ولن يكون يوما تعليميا كالمعتاد " !
فرح معظم التلامذة لهذا الخبر.. وحصل هرج ومرج فأنصت التلامذة أستاذنا " ألأسدي "
وطلب الإصغاء للمدير الذي استرسل أكمل : - " إن مصر كما تعلمون تتعرض اليوم لعدوان استعماري وحشي ،
ويجب علينا الاحتجاج .. ويجب ..... و ... و .. "
معظم التلامذة لم يسمعوا بأخبار العدوان ألا أنهم يعرفون ما معنى الكلمة بالرغم من عدم
تجاوزهم الصف السادس .. ولكن إن لم يتناقل الأهل هذا الخبر بعد سماعة بواسطة الإذاعات
فكيف يعرفون ..! وأصلا كم كان عدد الذين يملكون هذا الجهاز الضخم الذي يُسمى الراديو من سكان المخيم ..؟
وها هو المدير يكرر :
- " انه يوم إضراب ، و سنخرج بانتظام . وان التظاهرة سوف تعبر حدود المخيم باتجاه المدينة لتلتقي
مع تظاهرة أخرى من أبناءها الصيداويون .."
إذن .. انه يوم إضراب وتظاهرة أيضا ...؟ !
يا لسعادتنا العارمة ، انه يوم الفرح العظيم بالنسبة لنا نحن الأولاد .
سنمشي خلف الأساتذة ونهتف بشعاراتهم ، سنجمع بعض النفايات
ونشعلها وإن وفقنا سنحصل على " كاوتش " لإطار دراجة هوائية
لتشاركنا إعراس النار والدخان ؛ والأهم ... قد نوفق ونرمي بعض
الحجارة باتجاه قوات " الدّرك " والتي سوف تفرقنا بالتأكيد
بعد إطلاق أعيرة نارية من بنادقهم باتجاهنا ، فنزداد إثارة ونزداد عنفا
وبالتالي تزداد متعتنا ؛ كل ذلك بالنسبة لنا نحن الأولاد هو
جزء من لعبة مثيرة تتكرر باستمرار مع كل مناسبة .
وبالفعل انطلقت تظاهرة ضخمة من عمق المخيم وانضمت مدرستنا إليها
واختلطنا رجالا ونساء وأطفالا يهتفون بشعارات مختلفة ضد الإنكليز
والفرنساويون وبالطبع ضد العدو الإسرائيلي ؛ وقوات الدرك المعززة
بقوات امن جديدة حاولت منع التظاهرة أو إيقافها عند حد المخيم فلم تفلح
في بداية النهار .. ولكنها استطاعت تفريقها بعد ساعات قليلة
واعتقلت بعض الشبان المشاركين فيها ، أولئك الذين أصروا
على إكمال التظاهرة لتصل إلى غايتها .
وفي المساء كان الناس يتجمعون في الديوان وأمام ساحته الصغيرة، وكانوا يتهامسون
ويلحون على الأمير أبو علي بفتح الراديو قبل موعد نشرة الأخبار .. و كان يأمر الجميع
بالهدوء والصمت والصبر حتى يحين الموعد ، حيث بدا حينها أن كل الأذان صاغية إلى ما
يُذاع في التوقيت اليومي للأخبار ، يليها التعليق السياسي ؛ و لكن ذاك اليوم كان التعليق يُذاع
قبل الأخبار ولا يتوقف وكان يُلقى بنفس صوت المذيع ولكنه اليوم أكثر حماسة عما قبل فالصوت
نعرفه جيدا .. انه " احمد سعيد " وإذاعة صوت العرب من القاهرة .
ولكن لماذا هذا العدد من قوات الدرك .. وهل يحتاج إقفال الراديو إلى نصف كتيبة ..؟!
الراديو ؟ !! نعم .. أحبوه فغنوه :
" ما دام يذيع الأخبار ، ما دام يكشف لإسرار ،
ما دام صوت الأحرار .. مادام يفضح لاستعمار؛
يحيا الراديو .. يحيا الراديو ...!
لكن الأمر آتى حاسما بإقفاله ومنع التجمع والسهر أيضا .. ! أما الديوان فليبقى ولتبقى ناره
شاعلة والقهوة كلها احتساها رجال الأمن الساهرين على مراقبة الناس .
سرت بعض الإشاعات في تلك الليلة أن جهة ما قد بدأت بتنظيم حملة داخل المخيم لمتطوعين
من اجل القتال إلى جانب إخواننا المصريين ، فقوات العدو الإسرائيلي التي قامت بإحتلال سيناء ،
وفّرت فرصة التدخل لفرنسا وبريطانيا وقاموا بالعدوان على مصر واحتلوا منطقة قناة السويس
ومدنها الكبرى تحت ذريعة " أن مصر فرضت سيادتها " على أرضها وأعادت ذلك الممر المائي الحيوي المسروق .
وكنا في بداية العام الدراسي الجديد أواخر شهر اكتوبر / تشرين الأول في العام 1956 .
|