(الخرز الملون) للأستاذ محمد سلماوي رواية نادرة مضموناً وإبداعاً ـــ د. يوسف جاد الحق
هنالك أعمال أدبية تظل جديرة بتسليط الضوء عليها ولفت الأنظار إليها لما تنطوي عليه من قيمة بصفتها إبداعاً مميزاً، ولما تتضمنه من مضمون هادف لخدمة قضية ما، على تعدد القضايا واختلافها باختلاف الزمان والمكان. فقد تكون تلك القضايا ذات بعد إنساني أو قومي أو تاريخي يستحق أن يلبث نصب الأعين وموئل الاهتمام مهما تقادم عليه الزمن.
من هذا القبيل رواية (الخرز الملون) للأديب الكبير محمد سلماوي التي أتيحت لي مؤخراً فرصة قراءتها فيما هي منشورة في أوائل التسعينيات.
من خلال بطلة الرواية (نسرين حوري) نتعرف إلى فلسطين، قبيل النكبة وإبَّان احتدام المعارك بين العرب واليهود عامي 1947/ 1948. تحدثنا عن يافا ومدينتها، وعن دير ياسين وجرائم اليهود غير المسبوقة، هذا من جانب، وعن البطولات الفلسطينية والعربية في مقاومة الغزوة الصهيونية والتواطؤ البريطاني من جانب آخر. ولم يُغْفل الكاتب سلماوي ذكر الأسماء الكبيرة آنذاك كالحسيني وعرفات والحوري وغيرهم وأسماء مصرية شاركت في ذلك النضال ــ كما كانت تفعل مصر دائماً وبعد ذلك ــ كالبطل أحمد عبد العزيز، ثم في الحقبة التالية الزعيم جمال عبد الناصر وإخوانه قادة الثورة. تذكرنا (نسرين) بيافا والقدس والخليل والعائلات الفلسطينية والحياة الاجتماعية والعلامات الإنسانية بين أهل تلك البلاد شأنها شأن أي بلد يعيش حياته الطبيعية في هذا العالم.
ويُقدَّر للكاتب هنا أمران: الأول تذكيره بفلسطين، والحياة التي كانت للعرب فيها، الجيل الذي عايش تلك الحقبة فتظل حيَّة في وجدانه على المدى، والثاني تعريفه بفلسطين وما كانت عليه قبل سرقتها واغتصابها للأجيال التي جاءت بُعْيد النكبة والتي نشأت خارجها بعدها. والمدهش أن الكاتب، وهو بالتأكيد لم يكن هناك ــ بحكم العمر ــ يسهب في الوصف سرداً وحواراً حتى لكأنك تراها بأم عينك، وتعيش المأساة، في الوقت عينه، لكأنك تعايُنها بنفسك. فتتبدى هنا براعة التقاط الصورة والمشهد وبؤرة الرؤية.
شخوص الرواية تتحرك نابضة بالحياة، كما هو الحال في شخصية (نسرين) بطلتها المحورية. يصف لنا الكاتب (نسرين) منذ البداية على لسان السارد العليم بكل شيء، فيقول: "شبَّت نسرين لتكون من أجمل فتيات يافا. ذكية لماحة ذات شخصية جذابة. منذ نعومة أظفارها وهي ترقص وتغني وتنظم الشعر. لذلك فقد كانت نسرين تماماً مثل فلسطين مطمعاً للطامعين. خفق قلبها الشاب لفتى وسيم يكبرها بثلاثة أعوام هو إبراهيم زيدان". ترى لماذا أتى على ذكر نظمها للشعر هاهنا به في سياق وصفه لها..؟ أغلب الظن أنه فعل ذلك لكيلا يقول لنا بعد ذلك، حين تعرض أشعارها، إن نسرين شاعرة ابتعاداً منه عن المباشرة الفجَّة. كما أن الكاتب يؤمن هنا في الربط بينها وبين فلسطين فكلاهما (مطمع للطامعين).
ولكيلا يقع في المباشرة أيضاً يلجأ الكاتب محمد سلماوي إلى تقنية الحوار، في رصده للوقائع والأحداث، بين نسرين وأمها زوجة رئيس البلدية. فبعد أن عم القتل والخطف والذبح على أيدي العصابات الصهيونية شتيرن والأرغون والهاجاناه جرى بين الأم والابنة الحوار (ص 36 ــ 37):
ــ الأم: هيا هيا. ليس لدينا دقيقة واحدة نضيعها. سيجري تهريبنا في سيارة أجنبية قبل طلوع الصباح.
ــ نسرين: لا أنا لن أترك فلسطين. هذا هو بلدي. وهذا هو منزل زوجي ولن أترك هذا ولا ذاك.
تعود الأم للقول، بعد أن صفعتها:
ــ إن فلسطين بلدي أنا قبل أن تكون بلدك. لكن في الصباح لن تكون بلد أي منا أتفهمين..؟
يبيِّن لنا الكاتب تشبث الفلسطينيين بأرضهم، على الرغم من كل ما كان يجري عليها. نلحظ هنا أن العبارة، سواء في السرد أو في الحوار، تنساب انسياباً طبيعياً لا تكلف فيه ولا افتعال الأمر الذي يضفي على النص مصداقية وتأثيراً في قارئه.
كما توثق رواية (الخرز الملون) لحقبة تاريخية بالغة الأهمية والأثر على صعيدي القضية الفلسطينية، والعربية على حدٍّ سواء، إذ هي، فضلاً عن خوضها في معمعان المسألة الفلسطينية، تعرض أيضاً للثورة المصرية التي جاءت في أعقاب النكبة وكانت واحدة من عوامل قيامها ومن أسبابها. ويعمد السارد هنا إلى بيان التواشج في العلاقة بين أبناء الأمة الواحدة إذ يقول:
"كانت نسرين بفضل أحمد عبد العزيز قد تعلمت أنه ليس هناك تناقض بين أن يكون الإنسان مصرياً وفلسطينياً في آنٍ واحد إنها ليست جنسية مزدوجة لكنها وجهان لانتماء واحد ص 51".
ويقول كذلك مؤكداً على هذه العلاقة التي تتجلَّى في وحدة النضال ووحدة المشاعر والمشاركة الوجدانية وتماثل ردة الفعل حيال المعتدين عند كل عربي وأخيه العربي:
"ذهبت ــ نسرين ــ قبل ذلك إلى السويس فور إعلامه تأميم القناة وشاهدت بنفسها سقوط العلم الأزرق الذي يحمل شعار شركة قناة السويس من فوق ساريتها وصعود العلم المصري، فارتجفت أوصالها، وحين وقع العدوان أحست بأن المعركة معركتها.. ص 96".
"واليوم أحست نسرين أنها تدافع عن فلسطين في بور سعيد كما دافع أحمد عبد العزيز عن مصر في فلسطين. أحست نسرين أنها بحملها السلاح ربما وفت بعض الدين الذي ظلت تحمله لأحمد عبد العزيز طوال ثماني سنوات.. ص 97".
وتغمر (نسرين) سعادة بالغة إثر قيام الوحدة بين مصر وسوريا
"كانت الوحدة تمثل لنسرين حلماً قد تم تحقيقه... ص 101.
"أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا فلم تسع نسرين الدنيا من الفرح. ثم علمت أن الرئيس عبد الناصر سيزور دمشق فأرادت أن تكون هناك.. 101
ويأبى الأديب محمد سلماوي إلا أن يسجل للتاريخ ــ الأمر الذي يحسب له حقاً ــ تعلق الجماهير العربية في كل مكان من أرض العرب بالوحدة إيماناً منها بوحدة المصير إذ هي مستهدفة من أعدائها الذين لا يفرقون بين أحد منهم:
"وانتشر خبر وصول جمال عبد الناصر بسرعة مذهلة... حتى إن الشوارع امتلأت بالجماهير من المطار إلى قصر الضيافة. انطلقت الحشود إلى سيارة عبد الناصر لتحية أول رئيس لدولة الوحدة... ص 103".
هنا أيضاً يحرص الكاتب على ذكر المكان.. المطار.. قصر الضيافة.. الشوارع.. لا لشيء إلا إضفاء لمحة الواقعية على النص. وتعميقاً لواقعية الأحداث والأمكنة يعمد إلى استخدام تقنية الحوار بين نسرين والعديد من شخوص الرواية في مناسبات عديدة لأن تسمعهم شيئاً من شعرها وما يعقب ذلك من حرارة وتعقيب من قبل مستمعيها. وربما كانت غاية الكاتب أيضاً التخفيف عن القارئ فيما ندر، كمسألة الوحدة، فهو ينطق نسرين إذن بشعرها بين الفينة والأخرى كما في صفحات 69 ــ 70 ــ 71 ــ 99 ــ 127 وغيرها كثير، وإن كان جلُّ ذلك الشعر وجدانياً مأساوياً من واقع البطلة وما حولها حيناً وتعبيراً عن مجريات الأحداث حيناً آخر من شعرها:
"وفي كنيسة الإنجيل المرتل وضع النفس أمامي.
هل أمي هذا الجثمان أم هي آلامي..
...
وخطت ذاكرتي خطوة. إلى الوراء
الجو في بلدتي زرقته صفاء
"والماعز بقع ألوان تقفز في الوديان، وأشجار البرتقال تغرس الأرض بثمار تضيء الغصون..
ثم جاء الطوفان.
(ص 70)
"وبدأ الرحيل، الأرض تميد، تميل، بلا زلزال،
الديار شظايا محطمة...
....
والذكريات طابور خيام، مقابر لاجئين.
وجثمان أمي المسجى بين أعمدة رخام.
لن يبعث بصلوات المؤمنين،
قد يبعث حين تغضب البراكين،
(ص 71).
الشعر في الرواية ــ على لسان البطلة نسرين ــ موظف توظيفاً جيداً، ليس ترفاً مجانياً، إذ يصف مكاناً في فلسطين أو في مصر أو في سوريا، أو زماناً لكنه في المكان، أو مشهداً من الطبيعة، أو حالة إنسانية، بمعنى أنه يأتي في السياق المنطقي بعيداً عن الإقحام المتعمد أو المصطنع. وبديهي أنه لا زمان إلا في مكان.
وتجدر الإشارة إلى أن شخوص الرواية يتحدث واحدهم في الحوار حسب ثقافته وتكوينه كما بناه لنا الكاتب خلال النص، بحيث لا تبدو مقولاتهم وكأنها أفكار الكاتب نفسه، مع أنها ربما كانت كذلك، غير أنه تمكن بيقظة بادية ووعي نابه أن يبعدها عن شبهة النطق بأفكاره هو.
وتمضي بنا الرواية على هذا النحو. فحيناً نحن مع قصة لنسرين في حبها لزوجها الأول إبراهيم أو زوجها الثاني إسماعيل، أو في معاناتها الشخصية لغياب ابنها من مطلقها إبراهيم الذي اشترط عليها أخذه منها فلم تعد تراه أبداً وحنينها الدائم الذي يمزق قلبها، أو في إحساسها بالفقد لذويها ووطنها، أو في نضالها سواء في الحياة نفسها أو حيال الأعداء، وحيناً مع الأحداث الجارية في الوطن العربي والتي لم تكن دائماً في أحسن الأحوال... تقول نسرين لصديقتها وداد فيما هي تضع أمامها أطباق الحلو:
"لماذا يؤخذ مني كل ما أحب..؟
....
"أخذوا مني زوجي الأول. وأخذوا مني وطني.. أخذوا مني ابني الوحيد وفلذة كبدي. أخذوا مني الزعيم الذي تعلقت به كل الآمال. والآن جاء الدور ليؤخذ مني آخر ما تبقى لي
ترد وداد:
"لا تتحدثي عن ابنك وعن زوجك وكأنهما قد رحلا عن هذا العالم. فتجيبها نسرين:
"أين هو ابني هذا الذي لا أعرف له مكاناً في هذا الكون؟ من أدراني أنه مازال يعيش؟
(ص 133)
أليست هذه ذروة المأساة...؟
لكأن الكاتب محمد سلماوي يتحدث هنا عن كل فلسطيني وعن الحالة الفلسطينية في اغترابها بعد فقدها لوطنها. فمن المؤكد أنه أراد من خلال هذا الحوار أن يصور الحالة الفلسطينية كمأساة لا نظير لها لشعب بأكمله وليست نسرين هنا إلا نموذجاً للحالة إياها.
ولأن الرواية (الخرز الملون) توثيقية وتأريخية وواقعية بامتياز فإن الكاتب ــ السارد يقدم لنا صورة مشرقة لحرب أكتوبر وما تجسد فيها من وحدة بين الجيشين المصري والسوري، وذلك على مدى صفحات من ص 136 وما بعدها حتى نهاية ص 144.
بيد أن الكاتب لا يلبث أن يعود بنا إلى الأحداث المؤسية إذ يقول، "وكأن قوى خفية حاولت تقويض انتصار أكتوبر ذاته حتى لا تبقى حول نسرين أية أفراح...
"ثم أتى فك الاشتباك الأول على الجبهتين المصرية والسورية...
"وتدهورت الأوضاع في الوطن العربي كله... اندلعت حرب أهلية شرسة في لبنان. يقتل العربي فيها أخاه العربي. وفي إسرائيل انتخب الإسرائيليون مناجم بيجن قائد الأرجون رئيساً للوزراء..! (140)
وهنا يستشهد زوج نسرين (إسماعيل) في حرب لبنان فتكتمل مأساة نسرين. بيد أنها لابد أن تشرب من كؤوس الحزن حتى الثمالة بموت أبيها (بشير حوري) رئيس بلدية يافا فيما سلف، ابن العز التليد وعزيز القوم يموت ميتة هي في حد ذاتها مدعاة للفجيعة بما آلت إليه حاله إذ بدا في أواخر أيامه فاقد القدرة والذاكرة، لا يقوى على شيء بعد أيام العز الخوالي في يافا الحبيبة.
وتتوالى الأحداث المؤسية يأخذ بعضها برقاب بعض على الصعيد الشخصي والعائلي لنسرين وعلى الصعيد الوطني لفلسطين وعلى الصعيد القومي للأمة العربية في قصة صراعها مع العدو الصهيوني ومَنْ وراءه مما زاد في حالتها سوءاً مع كل يوم جديد.
ولا تنتهي الرواية قبل أن تستكمل المأساة ذروتها حين "هبط الحزن ثقيلاً على كيان نسرين الذي لم يعد يحتمل مزيداً من الأثقال.. ص 172".
"ضربت فاطمة الشغَّالة على صدرها ولطمت خديها ولم تدر ماذا تفعل...
"كانت قد وصلت منزل نسرين لتقوم بأعمال التنظيف المعتادة. فتحت باب الشقة بمفتاحها الذي أعطته لها نسرين لتجد غرفة النوم مفتوحة ونسرين في فراشها تهذي بكلمات غير مفهومة وإلى جوارها زجاجة دواء أفرغت عن آخرها... ص 172".
وفي مستشفى للأمراض العصبية والنفسية فوق جبل المقطم تجد نسرين نفسها في نهاية المطاف. وحين صعدت إلى سطح المبنى "قابلتها القاهرة بأضوائها الآتية من بعيد تشاغلها كما شاغلتها دائماً طوال عشرات السنوات.. ص 176"
تحركت نسرين ذهاباً وإياباً فوق السطح وتتذكر أيامها الماضية كشريط سينمائي! "تطلعت نسرين ببصرها إلى الأفق البعيد.. فرأت ابنها باسم بعد سنوات وقد صار رجلاً... رأت أرض فلسطين تنتفض بأحجارها وأشجارها ووديانها ضد الاحتلال الذي طال أمده. رأت باسم ابنها مرة أخرى هنا في القاهرة يعمل مع بقية رفاقه لإقامة الدولة الفلسطينية. رأت صديقها القديم ياسر عرفات رئيساً للدولة وإلى جواره باسم رافعاً يده بعلامة النصر. (ص 177).
لبثت زمناً تردد أقوالاً تعبر عن أعماقها الممزقة لما آلت إليه الأحوال كافة.. البطل هو الذي يعرف كيف يموت في الوقت المناسب.. كما قال نيتشه.. خنقتها الدموع..
"فتحت عينيها فوجدت أنوار المدينة المتلألئة في الظلام تشاغلها من جديد كالخرز الملون في الوقت الذي ازدادت شدّة الرياح.. رياح عاتية تريد اقتلاعها من فوق الجبل. تفصدت حبات العرق غزيرة فوق جبين نسرين وهي تصرخ بكل ما تبقى لها من قوة صرخة عالية تناقلت أصداءها كهوف المقطم العتيقة. ص 178".
ثم ينتهي بنا السارد إلى القول:
"لم يكن الخريف قد جاء. لكن ورقة الشجرة كانت قد سقطت وبدأت تتهادى نحو الأرض بأشد ما يكون البطء، وكأنها تقاوم قانون الجاذبية..
"حملت رياح الخماسين الحارة في تلك الليلة من شهر إبريل جسد نسرين حوري اليابس وهوت به من أعلى الجبل إلى أسفله. ومن بعيد سمع صوت طائر يلوح في الأفق... ص 178".
هي ملحمة حقاً عايشها الكثير من الفلسطينيين ممن عاشوا تلك الحقبة وعايشوا أحداثها اليومية الدامية ووقائعها الرهيبة بفعل إرهابيين غزاة جاسوا خلال هذه الديار فخربوها وشردوا أهلها محاولين أن يجعلوا من أهلها أذلة حين أمعنوا في صنع مأساتهم فرادى وجماعات.
لا ريب أن نسرين بطلة الرواية ترمز إلى قضايانا المعاصرة، إذ إن قصتها وسيرتها الذاتية هي قصة الوطن ذاته أيضاً. صوتها الصارخ على الملأ كما صوتها الخفي في أعماق الوعي هي صرخات الوطن عربياً وفلسطينياً. اندماج الشخصي (الإنسان) مع الخارجي (الأرض) نجح الكاتب في صنعه أيما نجاح.
لقد استخدم الكاتب محمد سلماوي في عمله البديع الهادف هذا ــ ولاسيما محتواه التاريخي والإنساني ــ الكثير من تقنيات النص الروائي كالحوار بين شخوصها، والحوار الداخلي، وتيار الوعي، والحلم والاسترجاع (Flash Back) كما إن الكاتب جعلنا نعيش مع أبطالها في حلهم وترحالهم وهمومهم على مساحة من الزمن امتدت عقوداً ابتداء من النكبة إلى نهاية الثمانينيات، على وجه التقريب.
عتبات النص تبدأ من العنوان نفسه (الخرز الملون). ولن يتبدى للقارئ ما انطوى عليه هذا العنوان من شجن يذيب الفؤاد إلا حين يصل قريباً من نهاية الرواية إلى معناه بعد أن أمضت نسرين عمرها فيما عرضته الرواية، لتقول في نهاية المطاف:
"كانت ترى من حولها ألوان الطيف الزاهية التي تزول بعد قليل ولا يبقى منها شيء. كانت ترى خداع الحياة، ذلك الخداع الذي لم يكن يعرفه إلا من تعدى هذه المرحلة الوردية من العمر فلم يعد يرى من بريقها إلا خرزاً ملوناً لا يساوي شيئاً.. ص 166"
ثم يأتي بعد ذلك ما عمد إليه الكاتب محمد سلماوي من تقسيم الرواية إلى أيام خمسة تبدو للوهلة الأولى أنها أيام زمنية (فيزيقية) ولكننا سوف نجد أن هذه الأيام اشتملت أحداث عقود ثلاثة من حياة الشخصية المحورية في الرواية (نسرين) وسائر ما جرى في فلسطين والوطن العربي خلالها. استطاع الكاتب ذلك باستخدامه تقنيات الاسترجاع والسرد تقديماً وتأخيراً بحيث أمكنه شحن الأيام الخمسة هذه بكامل القصة ــ الملحمة. فاليوم الواحد هنا يغطي مساحة سنوات عديدة من الزمن، بكل ما فيها من وقائع وأحداث وحالات نفسية لشخصيات عديدة، مختلفة التواريخ متباعدتها. من عتبات النص أيضاً ذلك الإهداء الذي يقول:
(إلى من ظلت تلح علي ذكراها طوال سنوات عشر حتى كتبت قصتها) لن يخامرك الشك عند قراءة هذا الإهداء بواقعية الرواية. ويبدو لي أنها كذلك، ولكن الكاتب بما أوتي من حصافة في الرؤية ورهافة في الوجدان ابتعد عن أن ينقل إلينا حياة نسرين (فوتوغرافياً) بل صنع منها نصاً روائياً باقتدار. من هنا ندرك لماذا اختار الكاتب ضمير الغائب (الثالث) ولم يشأ استخدام ضمير المتكلم (الأول). ذلك أن الكاتب الأديب محمد سلماوي لم يعش وقائع الرواية بنفسه وإنما هو يرويها عن صاحبتها فبدا أكثر مصداقية وأمانة مما لو أنه استخدم ضمير المتكلم وإن كانت أفكار الكاتب تتسرب أحياناً عن طريق السارد.
أما المكان فلم يكن مكاناً واحداً محدداً بطبيعة الحال، بل أماكن عديدة في الوطن العربي وإن كانت فلسطين ومصر هما الأبرز والأوضح. ويخيل إليَّ أن هناك مكاناً آخر غير فيزيولوجي أو جغرافي هو ذلك المكان الخفي المستقر في أعماق بطلة روايتنا هذه ولا وعيها ينتقل بنا حيثما ذهبت وتوجهت. تتجلى هنا ظاهرة غريبة هي توحد الشخصية مع المكان.
ولا نغفل هنا الإشارة إلى سلامة اللغة. إلا من أخطاء قليلة وربما كانت طباعية. كما أنها تتميز بالسلاسة من قبيل (السهل الممتنع).
خلاصة القول فإن الأستاذ محمد سلماوي قدم للمكتبة العربية رواية جيدة بامتياز واقتدار استطاعت أن تنقل لنا حقبة من تاريخنا المعاصر بما لها وما عليها. ولقد عرضت لنا رواية (الخرز الملون) حالة قلما تطرق إليها الأدب العربي المعاصر لها في جنس الرواية، ذلك أن المسألة الفلسطينية ــ على وجه الخصوص ــ إثر النكبة وما تلاها لم تأخذ حقها من الاهتمام، على الرغم مما انطوت عليه من معاناة تراجيدية بأجلى معانيها وأبلغ صورها. إن الكتابات الإبداعية التي تناولتها محدودة لم توفها حقها أبداً، على الرغم ــ مرة أخرى ــ من غناها ورحابة آفاقها وآمادها.
رواية (الخرز الملون) للأديب المبدع المقتدر محمد سلماوي واحدة من الأعمال الروائية النادرة في هذا المضمار بحق.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|