الموضوع: الغرفة رقم 25
عرض مشاركة واحدة
قديم 20 / 02 / 2008, 16 : 03 PM   رقم المشاركة : [1]
ليلى محمد
ضيف
 


الغرفة رقم 25



الغرفة رقم 25


’يا ليت الشباب يعود يوما’ هكذا حدثني الشيخ وهو يستعرض شريط حياته في هدوء داخل حجرته الصغيرة في المستشفى التي تعودت أن أزوره فيها , كان شيخا طاعنا في السن هادئا صامتا طوال الوقت لكن رغم ذلك كانت عيناه تحدثانني بأن ما يخفيه قادر على أن يهز هذا الكيان الماثل أمامي . أحيانا كنت أهم بسؤاله عما يخفيه في صدره لكن شيئا ما كان يدفعني إلى التراجع, إحساس لم أتبينه على وجه التحديد.
وذات يوم وبينما أنا أقوم بزيارتي الصباحية فاجأتني الممرضة بقولها إن شيخي لم يرد النوم طوال الليل وليس على لسانه سوى اسمي . اندهشت, لم هذا الإصرار على حضوري؟ . ولجت غرفته فوجدته يجلس في منتصفها على كرسيه المتحرك , طلب مني الاقتراب والجلوس بجانبه , لم أتردد لحظة في تلبية طلبه , مددت يدي له فضغط عليها كغريق يتعلق بطوق النجاة , آنذاك أحسست أن القدر جمعني بهذا الرجل وليس من قبيل الصدفة . لكنه قطع علي حبل تفكيري بقوله ّ ماذا تريدين أن تعرفي ّ فاندهشت بادئ الأمر لكن سرعان ما عرفت أنه كان يقرأ ملامحي كما كنت أفعل فلم أتردد بأن أقول له ّ كل شيء , أريد أن أعرف كل شيء ّ اعتدل شيخي في جلسته ثم طفق يقول ّ لم أعرف في شبابي معنى الحزن كنت أعيش حياة جنونية إلى أقصى حد , سهرات ,ولهو ومجون إلى حد أنني لم أكن أعتبر مقياسي الزمن والمكان كانت الأيام عندي متشابهة ّ توقف لم أدري لم , خيم الصمت لبعض الوقت فعرفت أنه تعب من الكلام ,فطلبت منه أن يرتاح قليلا وتركته على أمل أن أعود لرؤيته غدا ولم أتركه إلا وهو غارق في سبات عميق .
في الليل لم يعرف النوم طريقا لعيوني كنت في ما يشبه الصراع, صراع داخلي مرير, صراع بين قلبي الذي يحدثني بأن حياتي مع هذا الرجل, وعقلي الذي يصمم على أن أعيش حياتي ولا أجعلها رهينة بشيخ على حافة القبر. فنهضت في ما يشبه الجنون واتجهت صوب الهاتف , لم أعرف لماذا ؟ لكن لم أجد نفسي إلا وأنا أركب رقم المستشفى , رفعت السماعة وانتظرت انتظار متلهف لسماع حقيقة تنتشله من الغموض الذي يعيشه . غرقت في التفكير لكن صوتا نسائيا قطع علي حبل تفكيري ,عرفت بعد لحظة أنه صوت الممرضة , سألتني عما أريد , لكني لم أعرف بماذا أجيب , لكن بعد تفكير أجبت ّ كيف هي حالته ؟ ّ أجابتني ّمن؟ ّ فقلت ّ الشيخ , الغرفة رقم 25 ّ فطلبت مني الانتظار قليلا لتعود بعد ثواني قائلة ّ لقد ساءت حاله كثيرا , أعتقد أنه يحتضر ّ لم أتبين ما قالته لأني كنت فيما يشبه غيبوبة , الخبر زلزل كياني فلم أجد نفسي إلا وأنا أمتطي سيارة باتجاه المستشفى , كان قلبي يضرب بقوة لدرجة أنه كاد يخرج من جسمي . أخيرا وصلت إلى المكان المنشود , لم أنتظر استقلال المصعد بل بدأت أركض في السلالم كالمجنونة إلى أن وصلت إلى الغرفة , كانت مكتظة بالممرضين والممرضات . دخلت ... لم أجده في الغرفة بل وجدت سريره فارغا قيل لي أنه نقل إلى غرفة الإنعاش , فبدأت بالبكاء لأني أحسست أنني فقدت جزءا لا يتجزأ مني . فنصحني الطبيب أن أرتاح قليلا في منزلي ثم أعود لأطمئن على حالته . أصررت بادئ الأمر لكني رضخت بعد ذلك واستسلمت.
توجهت إلى منزلي وأنا محطمة كليا , فعلا أنا إنسانة مؤمنة بالقضاء والقدر لكن ما حصل كان بمثابة صدمة أفقدتني عنصر التمييز , التمييز بين الحلال والحرام , بين الخير والشر , صعدت السلالم ودخلت إلى منزلي لأول مرة أحس فيها أنه بارد لا إحساس فيه فأدركت ولأول مرة أنني سأحس بوحدة ووحشة قاتلين , لأنني في الأيام الفارطة وجدت في شيخي ما يملأ حياتي و يمدني بالقوة و يعطيني إحساسا بالمسؤولية , أما الآن فحياتي فراغ في فراغ . أرخيت نفسي على الأريكة مسلمة نفسي لمصيري المجهول , فجأة, رن الهاتف لكني لم أستطع أن أرد , كنت خائفة إلى حد الموت , كنت خائفة من لاشيء , خائفة من الخوف نفسه . ظل يرن و يرن و يرن ولا من مجيب , لكني تغلبت أخيرا على مخاوفي فرفعت السماعة لأجد ذلك الصوت النسائي الذي حدثني المرة السابقة , لم أعرف من أين أتتني الجرأة فقلت في ما يشبه الهمس ّ مات ؟ ّ فردت ّ لا ليس بعد لكنه يحتضر ومع إصراره المرة السابقة ارتأيت أن أطلبك ّ , هذه المرة لم أستطع استقلال سيارة بدأت بالركض في الشوارع الخالية إلى أن وصلت إلى الغرفة , قالت لي الممرضة أنهم أرجعوه إلى غرفته بعد أن يئسوا من حالته . ولجت الغرفة التي تعودت أن أراه ينتظرني في منتصفها , اتجهت صوب السرير فلما وجدته غافيا أردت الخروج ريثما يستيقظ , فإذا به يمسك يدي بقوة , فاستدرت لأرى في عينيه نظرة استرحام و استعطاف , فدنوت منه وقبلته على جبينه فقال لي ّ أردت أن أريح ضميري قبل أن تفيض روحي ّ فطلبت منه أن يتكلم بهدوء وبكل تأن لكي لا يتعب. فقال ّ كما قلت لك لقد كنت شابا طائشا إلى أن جاء يوم تعرفت فيه على امرأة رائعة , عرفت في تلك اللحظة أنها ستقلب موازين حياتي رأسا على عقب . بدأنا نخرج و نسهر إلى أن تعاهدنا على الزواج , لم اعرف إلا ونحن متزوجان , كنا في غاية السعادة, لقد حلمنا وهانحن نحقق أكبر أحلامنا . بقينا في هذه السعادة مدة ليست بالطويلة إلى أن جاء يوم عدت إلى البيت لأجده ساكنا باردا , بدأت أناديها فلم أسمع جوابا فدخلت الغرفة لأجدها تبكي بحرقة , حاولت أن أقترب لكنها قالت ّ لا تلمسني وارجع من حيث أتيت ّ بقيت مشدوها لم هذا الانفعال؟ فأردت أن أعرف منها ما الأمر لكنها أقفلت جميع أبواب التفاهم في وجهي وقامت توضب حقائبها وأنا أحاول أن أثنيها عن عزمها بلا جدوى . بعد مرور عدة أسابيع اتصل بي أبواها ليعرفا مني ما الذي حصل وليخبراني أن زوجتي حامل . لم أصدق أنها حامل ولم تعلمني بالخبر, وبقيت بضعة أيام على أمل أن تعود وفي أحشائها رابط يجمعنا وهو أسمى من كل الروابط , هذه الأيام تحولت إلى شهور ثم سنين إلى أن جاء يوم رن فيه هاتفي لأجد زوجتي , فرحت لأنني اعتقدت أن انتظاري لم يذهب سدى , لكني سرعان ما عرفت أنها طلبتني لتقول لي أنني إذا أردت أن أرى ابنتي لأول وآخر مرة علي أن أذهب إلى كليتها , شعرت برعشة غمرتني , هل حقا سأرى ابنتي ؟ ولأول مرة ؟ شكرتها وانطلقت إلى حيث وصفت وانتظرت طويلا لتظهر فتاتي بعض قليل , لقد كانت مطابقة تماما للوصف الذي أعطتني إياه أمها , جميلة جدا صورة طبق الأصل من الأم في شبابها. بقيت واقفا بلا حراك لم أستطع أن أذهب إليها وإن ذهبت فبأي صفة سأقدم نفسي لها ؟ ركبت ابنتي سيارة استطعت أن أميز وجه سائقها لقد كانت زوجتي , مازالت جميلة لم يغير فيها الكبر شيئا ّ قاطعته قائلة ّ أيعقل أنك لم تذهب و تأخذها في حضنك وتطلعها على هويتك ؟ ّ فرد قائلا ّ اسمعي , لقد أحسست في تلك اللحظة أن هناك شيئا أكبر من أن يفرق أبا وفلذة كبده ولم يخب إحساسي فنفس القدر الذي جمعني بالأم جمعني بالابنة , لقد لعب القدر دورا مهما في إسعادي في أيامي الأخيرة وهاأنذا أستمتع برؤية حبيبتي كل يوم ّ فأجبت ّ ماذا تقصد هل تزورك هنا ولم تعلمني ّ فابتسم ابتسامة لم أعرف مغزاها وأجاب ّ قولي فقط أنك قد سامحتني , لكن أمك كانت السبب في ابتعادي عنك ..... ّ فقاطعته قائلة ّ ما دخل أمي بالأمر أم..؟ هل..؟ ّ ولم أنتظر منه جوابا فأحسست أن الدنيا تلف بي وتدور وأحسست بتقزز من نفسي كيف لم أعرف أبي وهو أمامي طوال الوقت , لأول مرة خانني إحساسي الذي كنت أتباهى به أمام كل الناس . وفي تلك اللحظة أحسست أنني مرتبطة بهذا الشخص ارتباطا لا فكاك منه وأحسست أنني أريد أن أنتشله من بين يدي الموت لأنعم بحلاوة إحساس الأبوة الذي عرفته منذ قليل . التفت إليه لأعرف منه أكثر لأجده قد فارق الحياة وعلى شفتيه ابتسامة جميلة ابتسامة من أدى رسالة على أكمل وجه . وتركني وحيدة منتشية بإحساس عظيم عرفته للحظات.





حرر بتطوان : 01/01/2007


ليلى الميموني

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
  رد مع اقتباس