الدم منا يسيل...
يعلمنا التاريخ بقسوة و ألم مسلك الشرف و النهضة، يقول لنا إننا نظهر في المكان و الزمان و نحن أسرى رسالة، أتباع كل ما بدا لنا القويم و الصائب. من لم ترقه الولادة و بيئتها، يغير لأنه يستوعب قدرة التغيير. غير أن التنكر السافر للبيئة الأولى يتنافى مع إرادة النماء و التطور الطبيعية لدى الإنسان حين ينتصر ذاتيا و بينذاتيا على كل ما هو لا عقلاني. أي كل ما يتراءى لعقله في حالة الإطمئنان المعنوي و الملموس التام قبيحا و شريرا. و هو الشر في اعتبار الإنسانية، تلك القوة العظمى الرديفة لقوة الله.
مررنا بأوضاع البؤس و الدمار، استوطننا الخوف و الصراع طوال فترات سحيقة، نستطيع أن نحدد بالدقة المقنعة التوقيت، إلا أن المقاربات الكثيرة تتقاذف حجم المأساة ما بين اجحاف حاقد و حياء في التوضيح للأغيار و جهل و نسيان لطعم الإفتخار إن لا يزال فينا من يتذوقه. كل متكلم للغة يدلي بالرأي، يتقلد الإرشاد و التوجيه و ينادي بيننا أنني صاحب الحقيقة الضائعة. أجل، بلغنا في السوء و اللاعقلانية حضيض دمج البهتان الفاتر في الحق، ليس نوعا مألوفا من الحق، إنه الحق الذي دمغ كل ما نؤمن بأنه باطل و شر. و على الأقل فقد أسهم و احتص أقصى مدى يرومه الإنسان و تحققه الإنسانية، تأييد الكرامة و الإشارة الحصيفة للظلام بامتشاق قنديل النور و الهدى.
سال منا الدم الأحمر القاني، رقراقا، رسم المجاري الموغلة في الأرض، أظهر للأغيار الموضع العميق الذي أبدعناه في القيم المقفرة، سال يوم العيد، سال ليهدينا عيدا مجيدا بعد أن تراكمت سنون هجره لمقامنا. لم ينسكب ليتلاشى و يجف، انسكب لأنه يبغض التلاشي و الجفاف، انسكب لأنه كائن بديع. استظل بالنخلة و شجرة الزيتون، سقى، بالماء و بالعرق و باللعاب، حتى إذا بان ظمأ الزيتونة و النخلة الصامدتين و المتحديتين للزمن القمطرير، سال ليسقي، سال ليسقي النخلة و الزيتونة. هما له و منه، الحب الأزلي الذي يحتفظ به وامضا و تالدا، ليس حبا براغماتيا، قزما في براغماتيته، حب إنساني. حبه للشجرتين عقيدة يستضيء بها
طاهر و مقدس لنا دمنا، مبروك لنا حبنا الخالد للنخلة و الزيتونة، مبروك لكل الإنسانية موقفها المعجزة يوم العيد. طاهرلنا دمنا، و عائد إلينا دمنا، لأنه سال فداء للأرض، انفجر ينابيع لا تنضب، من أجل النخلة و الزيتونة. لنا دم أسطورة، استوعب تاريخنا، ذكرنا في يوم عيدنا من نكون، مبروك هذا الدم، سال قارئا علينا هويتنا، سال و في كل نقطة منه يشع المسار، يتنور طريق النهضة. هنا الهدى، هذا الدم لا يفنى، يترك لمحبي الهدى معالم و منارات شاخصة تنير للماشي درب الكرامة، درب الإنتماء للإنسانية. انبلجت معجزة، أخيرا نكشف عطشنا و شوقنا الحارق للمجد، نحن عطشى للعنفوان، و ها هو دمنا مجد لنا و مفخرة.
دمنا لم يسل سدى
، سال شافيا للنخلة و الزيتونة من الظمأ المتقادم، و سال مبينا للناس سبيل الإنسانية، فتقدس لنا دمنا و تأبد لهم خزيهم و العار.
الآن، يحق لنا أن نحتفل بالعام الجديد. و لكن.....