لقد واجه المسلمون " السنة " على امتداد المدن السورية الواقع الجديد
والمفروض عليهم بقوة " القرارات الدولية " : الانتداب أولا ؛ وتقسيم بلادهم ثانيا
وتداعوا إلى التعبئة والحشد على الأخص عندما بدأت الأساطيل الحربية الفرنسية
والبريطانية بالزحف باتجاه الشواطئ السورية والنزول إلى مدنها الساحلية . فهبت بيروت وصيدا
وطرابلس وغيرهما من المدن واندلعت فيها المظاهرات اعتراضا و احتجاجا سيستمر طويلا ،
لكن مدينة صيدا ستلعب دورا تاريخيا عبر أحد أبناءها في مستقبل لبنان .. فدمشق هي الأقرب إلى صيدا
وميناءها هو الميناء التاريخي وبوابتها البحرية إلى العالم الغربي .. وصيدا هي المدينة الأكثر ارتباطا بمدن
فلسطين الساحلية كحيفا وعكا وسوف لن تجد مدينة على الإطلاق كمثلها يختلط فيها الدم الصيداوي
مع الدم الدمشقي والحيفاوي والعكاوي إذ ليس غريبا أن يتقدم زعيما عربيا لقيادة مظاهرة ضخمة
في وجه المحتلين ، رافعا العلم العربي فوق المباني الرسمية في المدينة ومنددا بالحشود العسكرية للمحتلين الذين
مزقوا تلك الراية وألقوا القبض على زعيم صيدا " رياض الصلح " ثم نفوه إلى دمشق مع عدد من الصيداويين .
:
23 عاما من السنوات كانت كافية لإقناع المسلمون " السنّة " أو إرغامهم على القبول بمحاسن الانفصال
عن الوطن الأم ووضعهم ضمن كيان كانوا يعرفون انه كيان هزيل ضعيف لا يملك أساسا شرعيا سيظهرون
فيه كوسطاء وسماسرة لدولة " الموارنة " مع " محيطهم " العربي .. 23 عاما .. سنوات من الزمن كانت
بالنسبة إلى سوريا معركة خاسرة لم تستطيع خلالها منع انسلاخ أجزاء منها .. هي سنوات مرّة بقيت راسخة
في وجدان معظم السوريين الذين سوف يُظهر المستقبل سر ترددهم الدائم في الاعتراف الصريح بهذا
" أللبنان " الدولة ذات السيادة ! فالمسلمون " السنة " وبزعامة رياض الصلح نفسه ( يا للغرابة ) أقروا في
عام 1943 بتخليهم عن المطالبة بالوحدة مع وطنهم الأم في مقابل أن يتخلى الموارنة عن مطالبتهم بالحماية
الأجنبية التي تمثلها فرنسا !! هكذا .. وعلى هذا الأساس وتلك الصيغة بنيّ لبنان الكيان المستقل - عن سوريا – وليس فرنسا !
من هنا يجب أن نتلمس خصوصية العلاقة ما بين لبنان وسوريا ؛ فالمسلمون فيه أُرغموا على القبول بهذا التقسيم ،
ووضعهم تحت حكم " الموارنة " بعد قرون من الزمن كانوا فيها هم الأسياد .. ولكن لماذا .. ومن أجل أي هدف ؟ !
لقد سُلخ هذا أللبنان عن سوريا ليكون خنجرا في خاصرتها أولا ، وتبريرا لخلق كيان العدو الإسرائيلي ثانيا لقد
أصبح هذا الشيء واقعا أعترف فيه كل العالم وصنع لهذا الكيان راية وجيش وحدود أصبحت مع الزمن حدودا
" مقدسة " وقدمت له فرنسا له دستورا رائعا ولكن كيف يُطبق بعد أن أصبح رئيس البلاد مسيحي ماروني ( ماروني فقط )
ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي ، ورئيس مجلس الوزراء مسلم سني ،
وأما النواب فيتوزعون حصصا كل 6 نواب مسيحيين يقابلهم 5 نواب مسلمين والمسلمون سنة وشيعة
ووضع الدروز ضمن خانة المسلمين أيضا ( قبل أتفاق الطائف ) / ومع مرور الزمن لم يشعر
المسلم اللبناني بشكل عام بالانتماء لهذا الوطن ، وهو يعلم بمشاعر وممارسة " الماروني "
أن هذا الوطن خُلق من أجله والآخرين " رعايا " .
فالمسلم السني يأتي بالدرجة الثانية من حيث التركيب الإداري لا يمتلك فعل قرار لا في سياسة الداخل أو الخارج
ولا يقرر في مناهج التعليم أو الاقتصاد أو الدفاع .. أما المسلم الشيعي فيكفي تظهير بعض النخُب فيه ولكنه فعليا
هو " الحاجب والشيال والسائق والخادم ..! وساد في البلاد وصفا على الطبقة الحاكمة " بالمارونية السياسية "
وهذا الوصف كان يشمل أصحاب المصالح من المسلمين السنة المتحالفين مع " الموارنة " أيضا !
ربما لم يُدرك الموارنة إلا بعد وقت طويل أن كيانهم أنشئ من أجل القيام بدور أقله خدمة المصالح الغربية
وأنه سوف يُستخدم كمبرر لوجوده ضد دمشق ألتاريخ والدور بصفتها المعبرة عن الهوية العربية ومهما
كان نظامها .. وانه أصبح ضمن سلسة معادية تطوقها من جميع الجبهات .. فعلى الشرق والجنوب يحكم
الهاشميون في بغداد وعمان وعلى الغرب كيان العدو الإسرائيلي وهذا الكيان اللبناني ومن الشمال
تركيا حليفة الغرب وإسرائيل !!
وسوف يدرك أيضا بعد سنوات وحروب طويلة بأنه إن لم يكن الأداة بيد الغرب سيتخلى عنه في سبيل المصالح ؛
مصالح الغرب نفسه بالتأكيد ؛ فكما خُلق عبر " تسوية " سوف يستمر بالعيش عبر تسويات تأتيه من الخارج في كل
مرة يتصارع فيها أبناءه ، ؛ فالأزمات ومنذ " الاستقلال الرسمي " سنة 1943 تتلاحق .
ففي العام 1958 خاض حربا أهلية انتهت بتوافق مصري – أمريكي انتُخب بعدها قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية .
ولكن ما هي أسباب النزاع في ذلك العام ..؟
سوف تلاحظون إني سأستدير 180 درجة وأتخلى عن عنوان الموضوع وأستعير بدلا عنه عنوان لكتاب
" باتريك سيل " الذي كتبه في ستينات القرن الماضي تحت عنوان : " الصراع على سوريا " وبالرغم
من مساهمتي بالاستطلاع وموافقتي " تضليلا " على أن الصراع " على لبنان " ألا أن وقائع الأحداث تؤكد
أن الصراع في لبنان أو فوق أرض لبنان هدفه منذ سقوط السلطنة العثمانية كان تمزيق وحدة سوريا ..
وربّ سائل : ولكنك ذكرت أحداث المعارك بين اللبنانيين في أعوام 1840-1861 ..في الحقيقة نعم ،
ولكن تسميته بالصراع ما بين " اللبنانيين " هو تسمية حديثة .. لقد كان صراعا بين الأقليات التي
سكنت جبل لبنان وهم في الغالب ليسوا من سكانه بالأصل .. ولكن الهدف الذي دفع الغرب المستعمر
ليستغل ّ تلك الأقليات ما زال هو هو لم يتغير .. فكما عُمل على استخدامهم لإضعاف السلطنة العثمانية
عملوا على عدم قيام دولة مركزية قوية للعرب في بلاد الشام وتنبه الغرب باكرا للدور التاريخي الذي
لعبته دمشق منذ عهد السلطة الأموية فدمشق هي المدينة الوحيدة في العالم التي عاش فيها البشر
بشكل متواصل منذ سبعة آلاف سنة حتى اليوم / يتفق المؤرخون على هذا /؛ والعروبة " هي رسالتها
عبر التاريخ وليس صدفة إن ترابها يحتضن قبور ثلاثة أرباع الصحابة والأئمة وهي سبب عِزها ورفعتها وشقائها أيضا !
وليس صدفة أن يستمر الغرب يطاردها بالعزل وبالحصار بعد ان طاردها بالتقسيم والتفتيت والاحتلال ؛
ف" حلف بغداد " و " منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط ومشروع " ايزنهاور " تلك المشاريع التي
صممها الغرب في الخمسينات كانت موجهة بالأساس نحو دمشق خصوصا بعد إقامتها الوحدة " الاندماجية "
مع مصر عبد الناصر ؛ هذه الوحدة التي أرقت الغرب ودفعت بالنظام اللبناني الذي كان يحكمه الرئيس
" كميل شمعون الى دعوة القوات الأمريكية لحماية نظامه من " الخطر " السوري المصري الذي يتهدده
من الشرق ، ولتمديد مدة رئاسته لست سنوات جديدة فنزلت قوات البحرية الأمريكية " المارينز " على شواطئ
لبنان فأحتج المسلمون عموما وحملوا السلاح في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها
من المدن واشتعلت أحداث ومعارك مع أحزاب السلطة \ حزبيّ الكتائب والأحرار \
مع بقاء الجيش اللبناني على حياد ظاهري ولكنه اشترك في المعارك .. اما السلاح الذي كان بيد المسلمين
ما كان يأتي إلا عن طريق دمشق عبر الوديان والجبال على الحدود المشتركة للبلدين / فقصة السلاح السوري
للبنان ولفلسطين ليست قصة حديثة فعمرها من عمر تاريخ لبنان وفي كل الأحوال !!
انتهت تلك المعارك باتفاق مصري – أمريكي تحت شعار " لا غالب ولا مغلوب " وجيء بقائد الجيش ا للبناني
فؤاد شهاب رئيسا توافقيا للبنان لمدة ست سنوات استقر فيها البلد ونعم أبناءه بالطمأنينة لعشر سنوات قادمة
حتى بداية تغيير خارطة المنطقة كلها بعد العدوان الإسرائيلي عام 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين بالإضافة إلى أراضي
مصرية وسورية ولبنانية برزت على أثرها المقاومة الفلسطينية .. " وأصبح عندي الآن بندقية أصبحت في قائمة الثوار" !