في ذمتي رجل
* * *
بقيت تحدّق بالقاضي بعض الوقت، كانت ترغب بالصراخ في وجهه لكنّها امتلكت أعصابها بعض الوقت وقالت:
- هل تريد يا فضيلة القاضي الاستماع لحكايتي أم نفضّ المجلس في الحال؟
- لا .. بل نستمع للحكاية من بداياتها يا ابنتي!
* * *
جلس قبالة الطبيب أحمد البكري مبتسمًا وقال:
- أرجو أن تتكرّم بقبول طلب القرب من حضرتك سيد أحمد! أعتقد بأنّ لديك تصور عن حضوري اليوم أنا ووالدتي؟
- نعم لديّ تصور وأعرف كما هو متّبع الأسباب التي جعلتك تطرق بيتي. على أيّة حال وقبل أن تدخل سميرة للانضمام إلينا أريدك أن تعرف بأنّني ربيتها لتكون مسؤولة عن نفسها وذاتها، سميرة يا فؤاد تمكنت من النجاح في دراستها وتفوقت في دراسة الكيمياء العضوية ومن المتوقع أن تنال مقعد محاضر في الجامعة التي تخرجت منها. أريدك أن تدرك من هذه الكلمات بأنّها متميزة وليست مجرّد ربّة بيت وتابعة أو موظفة غير رسمية في المطبخ. هل هذا واضح يا فؤاد؟ من الأفضل أن تراجع نفسك قبل المضي في هذا المشروع لأن هناك تبعات كثيرة ومنها الأولاد ومسؤولياتهم. هل نوافق على هذا النمط من الحياة يا ابني؟
حكّ فؤاد رأسه قبل أن يجيب. كان يعرف بأنّه من الصعب أن يغيّر هذا الواقع، كان يحبّها ويرغب بقربها والزواج منها، في الوقت ذاته كان يدرك أيضًا بأن الرجل يبقى رجلاً وستغيّر الأيام مداركها وتجعلها تابعة، مطيعة، ليّنة، شرقية، مهادنة، طابخة ماهرة .. الخ .. الخ.
- كيف لا يا سيد أحمد، أنت طبيب وجراح معروف ويشار لك بالبنان.
- دعك منّي .. أنا سأصبح في مرتبة متأخرة في حياتك بعد أن تجتمع وسميرة لتأسيس بيت يا عزيزي.
- أقصد بأنك أحسنت التربية وكلّ ما ذكرت لن يكون عائقًا في حياتي أبدًا.
عندها انطلقت زغرودة من أمّه شقّت محيط المكان، سرعان ما انتشر الخبر لأن سميرة كانت قد أعطت الضوء الأخضر لوالدها إذا ما وافق أحمد على طريقة حياتها ولم يحاول تغييرها في المستقبل. دخلت سميرة إلى غرفة الضيوف، قدمت القهوة بصمت، حيّت الحضور وجلست ليس بعيدًا عن فؤاد. اشتدّ الهرج والمرج وتشعّب الحديث، عندها همس فؤاد لسميرة قائلاً:
- مرحبًا يا سميرة .. كأنّي أراك للمرّة الأولى يا حسناء الحيّ!
- يا لك من عاشق.
- أنا عاشق وسأبقى كذلك حتى النهاية يا سميرة. يقتلني الشوق إليك .. كم أنا بحاجة للاجتماع بك تحت سقف واحد.
قد تكون سميرة منفتحة على الحياة وعاشت في كنف والدها حياة ديمقراطية إلا إن الحياء هاجم كلّ خلّية من كيانها الأنثويّ. لم تردّ عليه بل أشاحت بوجهها خجلاً وكان هو يتجلّى في تلك اللحظة حبورًا واعتدادًا بنفسه. سميرة لم تكن بحاجة للمال أبدًا فلديها ولدى والدها الكثير، لكنّها كانت بحاجة إلى الكثير من الحنان والحضور الرجوليّ في حياتها. كانت تحبّ هذا الفتى وكانت على استعدادٍ لتقديم الكثير من التنازلات لفؤاد لكن .. ليس كلّ شيءٍ في نهاية المطاف.
* * *
اتصلت به قلقة وقالت:
- أنا مضطرة للتأخر قليلاً يا فؤاد، لم أنته بعد من إجراءات امتحانات القبول في الجامعة. أرجوك أن تهتمّ بالصغيرة هند حتى حضوري! أنا آسفة .. أعرف بأنها متعبة ومريضة بعض الشيء، لن أتأخر ما يزيد عن ساعة أو ساعة ونصف على الأكثر.
أغلق سماعة الهاتف دون أن يضيف كلمة واحدة، ذهب إلى المطبخ، كانت القهوة قد بردت في الفنجانين، أحدهما كان من الممكن أن يكون قد تلطّخ بأحمر الشفاه لكنّه بقي معلنًا الحداد أبيضًا في أطرافه كالثلج! هل كانت حركة عفوية تلك التي أطاحت بفنجان القهوة من سطح الطاولة؟ فؤاد وحده يعرف ذلك، يعرف أيضًا بأن سميرة مخلصة ومتفانية في عملها وانشغالها مهنيّ محض. تمامًا كما أخبرته العائلة قبل الزواج. فهل يرضخ لهذا الواقع؟
تمكن فؤاد من تغيير الكثير في شخصيتها بعد الزواج، لكنه لم يتمكن أن يغيّر شيئًا فيما يتعلق بواقعها المهنيّ. كانت سميرة خبيرة في مجال الكيماويات وها هي تبدأ دراستها العليا بمنحة على حساب الجامعة! إذن ما هو الحلّ؟ سميرة وظّفت ممرضة لرعاية هند وكانت تدفع بسخاء .. طبعًا المبلغ الذي كانت تقتطعه من راتبها لم يكن يتجاوز 10% من راتبها الشهري. المشكلة باتت في قدرتها على مواجهة كافّة متطلبات الحياة. المشكلة تكمن في استقلالها المفجع. حتى الجنس بات ضمن برنامج معيّن وعادة ما يكون في نهاية الأسبوع لشعورها بالإرهاق والتعب. كانت حقًا مستنفذة من مئات الأوراق المهنية وبرامج التدريس ومراجعة نتائج الامتحانات ووضع العلامات. بالمقابل كان هو متيقّظ جامح شهوانيّ في السنوات الأولى من زواجه، وكان لديه الكثير من أوقات الفارغ أيضًا.
* * *
هجرها تلك الليلة، بقي بعيدًا عنها ولم تتمكن هي من النوم خوفًا على صغيرتها هند التي كانت تهذي لارتفاع درجة حرارتها. قدمت لها خافض للحرارة وبقيت تهدهدها حتى نامت. كان فؤاد يراقب كلّ هذا بطرف عينه دون أن يحرّك ساكنًا، أخيرًا خلدت للنوم إلى جانبه. كانت في أشدّ الحاجة لحضنه القويّ، كانت ترغب في أن تتوحّد معه تلك الليلة كما لم تفعل قبل ذلك أبدًا، لكن الجفاء بقي ثالثهما حتى الصباح.
اتصلت بإدارة الجامعة صباح اليوم التالي وطلبت إجازة مرضية لمدّة يومين. قامت بتحضير الطعام لفؤاد، قدمت له قهوة ساخنة وبعض البسكويت، كانت مرحة للغاية ولحسن حظها أخذت حالة هند بالتحسن وسرعان ما زالت عنها الحمى. بقي فؤاد عصبيًا غاضبًا منعزلاً معظم الوقت، ولم يطل به الوقت حتى انطلق إلى عمله. حين عاد وجد أمامه الطعام جاهزًا، وكانت سميرة قد ارتدت أجمل ملابسها، همست قائلة بأنهما لم يغادرا البيت منذ وقت طويل. قالت بأن هناك مطعمًا رومانسيًا فتح أبوابه منذ أشهر معدودة ليس بعيدًا عن الجامعة. ما أن سمع فؤاد كلمة الجامعة حتى انعقد جبينه وبان عليه قلق وعدم رضا واضح! انقضى نهار ذلك اليوم دون أن يطرأ تحسّن على حالة التوتر والترقب في البيت.
اقترب منها تلك الليلة عاشرها ثم نام على عجل. حدث كلّ ذلك تلقائيًا ليس لأنه قد سامحها وتناسى الكدر المخيّم على البيت لكنه كان يرغب بإرضاء غريزته ليس أكثر. صباح اليوم التالي استيقظت سميرة كالعادة، قامت بتحضير كلّ ما يشتهي زوجها فؤاد، تضمخت بالعطر ولبست أجمل ثيابها المزيّنة بتطريز فرح وورود متناثرة على جسدها المتناسق الجميل. لم يطل به المطاف، انطلق نحو عمله بالرغم من أنها تمنت عليه البقاء في البيت. قال فؤاد بنزق بأن العمل عبادة. فؤاد كان يريد أن يختبرها بعد انتهاء إجازتها اليوم التالي، هل ستبقى في المنزل يا تُرى أم تغادر إلى مركز عملها في الجامعة!
لم تستشره ولم تتردّد لحظة واحدة في المضي نحو عملها، عند المساء حين عادت، لاعبت ابنتها، بقيت معها حتى خلدت للنوم. حين ذهبت إلى غرفة النوم وجدته جثة تشخر وقد أدار لها ظهره. عندها ذهبت إلى غرفة ابنتها وأمضت الليلة هناك. في أثناء اليوم التالي ذهبت مع ابنتها إلى بيت والدها حيث تركتها هناك ثم انطلقت إلى المحكمة لتطلب الطلاق رسميًا من فؤاد.
* * *
هذه قصتنا يا حضرة القاضي!
بقي القاضي واضعًا يده على خدّه، نظر إلى فؤاد وسأله:
- هل ما قالته صحيحًا يا فؤاد؟
- أنا أريد زوجتي وابنتي يا فضيلة القاضي، أريدها أن تملأ بيتي وتهتمّ بابنتها وتسهر على راحتي.
نظر القاضي إليه بقلق وقال:
- لكنها يا ابني توفّر لبيتها قدر ما تستطيع من الراحة .. ألم تخبرك بأنها تريد ممارسة العمل قبل أن ترتبط بك؟
- نعم يا حضرة القاضي، لكنّي أنا ربّ البيت .. أنا زوجها وصاحب الكلمة العليا في البيت. أريدها أن تترك هذا العمل الذي أخذ كيانها منّي.
نظر القاضي إلى سميرة وقال:
- وأنت يا ابنتي .. ما مدى طموحك؟
- فضيلة القاضي .. هل سمعت بجوليو كوري؟.
ابتسم القاضي ونظر بوقار إلى الأسفل:
- كيف لا يا ابنتي. جوليو كوري حازت على جائزتي نوبل. إذا كان طموحك كذلك فعالمنا العربي بخير يا عزيزتي. اسمع يا فؤاد .. والله يا ابني لا أدري ما أقول، لا يوجد ما أملكه ضدّ هذه السيدة الفاضلة، ولن أكون السبب في حرمانها من ابنتها وتدمير حياتها العملية. أعتقد بأنك مذنب يا فؤاد ولست محقّ في تصرفاتك، لا أدري لماذا تعادي هذه المرأة التي ترغب في أن ترتقي مع الحياة، تريد أن تحقق نجاحًا في مجال العلوم ولا أعتقد بأنها مقصّرة في حقّ بيتها. باختصار، أنت لا تستحق هذه الجوهرة وأرى بأنّها تمتلك كلّ الحقّ في طلب الطلاق. أنت تمنعها من ممارسة حياتها الهادفة. العالم يتغير يا ابني، هل تعتقد بأنك قادر على امتلاك المرأة بعزلها وسجنها في البيت؟ عدا عن كلّ هذا زوجتك سميرة تجهد قدر امرأتين وتعتبر نجاحها نجاحك. ماذا بخصوص الصغيرة هند يا أولاد! هل فكرتم في مستقبل هذه الصغيرة؟ قالت سميرة بثقة:
- أنا قادرة على تربيتها والاعتناء بها، وإذا أصرّ هو على تولّي أمرها فإنني أتنازل فورًا عن كافة حقوقي مقابل أن أتمكن من رؤيتها وقتما أشاء فأنا في نهاية الأمر أمّها. أريد أن أحرره من الارتباط بي لأنّني أصبحت على ما يبدو عبئًا عليه.
قال القاضي بعد تردّد:
- هناك دائمًا فرصة أخرى .. قد تتمكنون من ترتيب بيتكم مجدّدًا. لا أخفي عليكم يا أولاد لقد هزتني هذه القصّة، قد تجدون قاضٍ آخر يحكم بهذه القضية على عجل وبتسرّع. لكنّي أخشى على الصغيرة هند. ما رأيك يا فؤاد .. هل يمكنك التعامل مع هذه الوضعية ورعاية سيّدة مؤهلة للحصول على جائزة نوبل للكيمياء. أريدك أن تدرك أيضًا بأنها بدأت تتحدث عنك في صفة الغائب وهذا مقلق للغاية. اسمعوا إذًا قراري .. أريدكم أن تذهبوا الآن .. كلّ إلى عالمه بعيدًا عن الآخر على أن تعودوا إلى مكتبي بعد شهر لنرى إذا ما كان من الممكن أن يطرأ تطوّر على علاقتكما، عندها سأتخّذ قراري النهائي. هل هذا واضح؟ وحتى يحين ذلك الوقت أحكم ببقاء هند عند أمّها مع إمكانية زيارة والدها نهاية الأسابيع الأربعة القادمة.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|