04 / 03 / 2008, 34 : 02 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
|
غربة القلب والروح / طلعت سقيرق
[align=center][table1="width:100%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/54.gif');border:10px outset indigo;"][cell="filter:;"][align=right]
لا بدّ أن نفتح في الرابع من آذار دفتر الذكرى كي نطالع وجه الحبيب الغائب وهو يلوح لنا بأصابع الوجد مفتتحا صورة الرحيل القاسي .. أشعر بشيء من الغصة .. وبكثير من الحزن.. صحيح أنّ اثنان وثلاثون عاما قد مضت على رحيل نور الدين الخطيب ، خالي ووالد الحبيبة هدى والحبيبة نجلاء .. لكن تبقى الذاكرة مفتوحة على وسعها كي تعيد الشريط كأنه حدث في الأمس أو قبل ساعات .. ينزل درج العمارة في حيّ أبي سمراء في طرابلس متوجها إلى مكتب الجريدة في لسان الحال .. أكون ذلك الطفل المدلل الذي يمسك يد خاله بكثير من الشغف .. يضعني وراء مكتبه .. يضحك .. يقول لي : هات ما عندك: اكتب يا طلعت !!.. وماذا يكتب هذا الطفل الذي لا يعرف من الحروف إلا أنها بحر يصعب النزول والخوض في غماره .. !!..
مثل الشيطان أقفز في الغرفة / المكتب .. انظر إلى هؤلاء القادمين والراحلين .. يصعب أن تحصي كم عدد الذين أتوا والذين رحلوا .. أسأله : خالي هل مهنة الصحافة صعبة ؟؟.. يضحك ، ربما لتهوين الأمر ، لا يا طلعت كل شيء سهل إذا أنت أعطيته من حبك .. ننزل الدرج أو نصعد لا ادري فالصورة غائمة تماما ..
في احد المخيمات الفلسطينية يقف والناس في غليان .. أجلس قريبا منه .. اشعر أنه يلقي كلمات من نار تحرك أكفّ الواقفين على حدّ السكين .. ينطلق اسم فلسطين عاليا مليئا بالتصميم والإصرار .. يبقى الخال نور الدين ربما لوقت طويل وهو يخاطب الجماهير المحتشدة .. ويدي بيده نذهب إلى البيت .. لا أدري كم يبقى في البيت ، فهو لا يعرف الهدوء أو السكينة يريد أن يعطي فلسطين كلّ ما عنده ..
الصيف حار .. من دمشق إلى طرابلس مسافة .. كانت الوالدة تذهب كل صيف لتقضيه عند أهلها في طرابلس ، بعد أن صرنا كفلسطينيين سكان الكرة الرضية كلها .. أشرب كأسا من الجلاب .. ينظر لي بدفئه المحبب .. " هل انتهيت ؟؟..".. أقول نعم .. تعود رحلة الدوران كعهدي بها من مكان إلى مكان ، وأخيرا المستقر في مكتب صحيفة لسان الحال .. هل سأكتب ذات يوم كما يكتب حروفه بكلّ هذه الغزارة .. ؟؟..
مرة واحدة جاء تأنيبه غريبا عليّ :يا طلعت عليك الهدوء أريد أن أنتهي من الزاوية .. خارج الغرفة/ المكتب أقف منتظرا بحزن .. عندما ينتهي .. يأخذني إلى حضنه " الكتابة يا طلعت تحتاج إلى الهدوء ".. " الفكرة ستهرب مثل عصفور خائف حين تصرخ في وجهها وإن من دون قصد " .. يأخذني إلى البيت .. في الطريق يشتري لي عدة أشياء أرتبك في حملها .. فكرتان زرعهما في ذهن الطفل قبل أن يمضي " ستكون شاعرا يا طلعت" و" هدى ستكون معك فهي حبيبتي الأثيرة ".. ولأن الطفل لا يريد أن يكبر أحيانا أظنّ أنّ هذه الطفلة صارت معي بالفعل كما أراد خالي، وأنّ من حقي أن ألقي عليها كلّ أوامر الرجل الشرقي .. وكأنني " سي السيد " في ثلاثية نجيب محفوظ .. طفل يريد أن يبني عالما من الأحلام الغريبة ..
كانت جدتي رحمها الله عاشقة لكل أولادها بشكل يفوق الوصف ، في بعض الحالات يصل الأمر إلى نوع من المرض بل الهوس .. والدتي ورثت كلّ هذه الأشياء عنها وما زالت تعاملنا وكأننا أطفال .. الجدة كانت تخاف من العين على هذا الشاب الجميل الطالع مثل الصاروخ في صعوده .. الكل ، ويبدو أنها عادة عربية متأصلة ،يحبّ ويعشق لكنه يبقي على هامش من الغيرة .. هذا الفلسطيني القادم من البعيد يريد أن يأخذ منا جمهور لبنان كله !!.. حب مختلط بالكثير من الضغينة التي قد لا تفسر .. أو ربما كما قلت ، للأسف، هي عادة عربية صارت من تراثنا ، اختلاط الحب بالغيرة !!..
عند الصبح والمساء تقرأ جدتي المعوذات ، وتدعو أن يحفظ لها الله هذا النجم الصاعد إلى الأعلى دون توقف .. وهو الشاب الذي صار محط الأنظار غير مبال بكل هذا .. همه الوحيد أن يعطي ويعطي دون توقف .. أن يبني ثورة فلسطينية تعيد المسلوب من أرضنا .. يدبـّج في دفاتر العمر خلاصة شعره ونثره وخطبه ومواقفه ..
للأسف لم تكن المنظمة الفلسطينية ، أو نواتها ، أحسن حالا .. فهم يأخذون منه ويعملون في الخفاء بعيدا عنه .. يوجهون الطعنة له ببرود أعصاب يخافون أن يصير هذا النجم كل شيء .. وهم يريدون أن يكونوا كل شيء .. حتى في الثورات نصبح أحيانا مثل طبل أجوف، يهمه صوت القرع الشديد لا النتائج .. ويشعر أنّ ما يدبر في الخفاء يشبه الخيانة له ، إن لم يكن خيانة .. لكن لا بأس ففلسطين هي الشيء الأهم من كل شيء .. أن يعمل هو أو غيره فالطرق كلها تؤدي إلى هدف واحد هو تحرير فلسطين وهو المطلوب .. الأمر لا يتوقف عند شخص نور الدين الخطيب أو ياسر عرفات أو سواهما ..
لكن في القلب غصة .. في الروح جرح ما .. في النفس أسئلة وأسئلة .. إلى أين نسير ؟؟.. وإلى أين سنصل في الدرب إلى فلسطين .. ويكتب :
وطني الذي الجنّات بعض صفاته -- -- والحسنُ آيٌ من رؤى آياته ِ
ذاك الغريب تكشّفتْ أشواقهُ -- --- إثر الذي أذراه من عبراته ِ
بل نمَّ عن وجد يعنّي قلبهُ - --- - سيلٌ من النيران في زفراته ِ
تعتاده الذكرى ويلهبُ شجوهُ --- ماض ٍ طوى الأحلام في طياته ِ
لم يبقَ منها و الزمان عدوّه ُ ---- إلا أنين النزع في أنّاته ِ
لم يبق إلا أنين النزع في أناته .. والزمان عدوه .. !!..
حرقة جارحة..
إنسان مسكون بالحب .. بقمر حيفا وشمس فلسطين .. بتلك الشوارع التي تركض في شوارع القلب .. بحكايات الوالدة نجلاء سقيرق والوالد العالم يونس الخطيب ... برائحة الدروب في شارع ستانتون الخطيب في حيفا .. بحبّ الأشقاء الذين صار كل منهم في مكان في أصقاع الدنيا .. ضريبة اللجوء غالية والنكبة تقصم الظهر .. هل ما زالت شبابيك حيفا وأبوابها تحفظ ملامح الوجه وكلّ أغنيات الحنين ؟؟..
ويكتب الشعر شيئا من لوعة الحنين :
يا لوعة الذكرى تطوف بخاطري --- -- فتثير فيَّ مكامن الأشجان ِ
هل كان ذاك العهد إلا غفوة --- -- فصمت عراها أنمل الحدثان
ويطل يوم الرابع من آذار، شاحبا مشغولا بدمعة هاربة .. العاشرة صباحا .. لا شيء غير سكتة قلبية .. سكتة قلبية وتوقف كل شيء .. مات نور الدين الخطيب .. الوقت توقف تماما .. تجمدت الصور .. تعثرت الكلمات غير مصدقة .. ودارت الدنيا بالجميع .. أهل طرابلس يعيشون الحداد .. مات العلم الذي كان البارحة مضيئا مثل شهاب .. كيف ؟؟.. لماذا .. ما السبب ؟؟.. هكذا قانون القلب الذي يحمل العالم كله في نبضاته .. يتعب فجأة ويذوي كل شيء .. يموت الصباح تاركا لليتم هدى ونجلاء .. ولا احد يصدق الزوجة بهية الرافعي .. الأخوة .. الأخوات .. الأصدقاء .. المحبون ..
هناك شيء يسقط مثل الصاعقة على الجميع ويترك دويا وحيرة وذهولا .. !!..
مات نور الدين الخطيب .. مات الشاب الذي عشق فلسطين حتى الثمالة ..
والدتي ترتمي على الأرض فاقدة الوعي .. الوالد في حيرة لا يعرف ماذا يفعل .. أخوالي شظايا أسئلة.. ارتباك في كل ذرة تراب .. لا أعرف من الحدث الجلل إلا أنّ أمي بين الحياة والموت .. بقايا من بقايا حيرة جارحة .. تنثر وجودها جرحا على الوجود كله .. تبكي وتدور نافورة دمع..يحدثونها فلا تعي شيئا غير أنّ نور الدين قد مات ..
كبرت الأشياء أو صغرت لا ادري .. مرت السنوات كما أرادت أن تمر لا كما نريد ..ربما!!..
اثنان وثلاثون عاما .. أكل الموت من أصابعنا وشرب .. رحل الكثيرون .. وبقي نور الدين الخطيب غصة رحيل مبكر وحزن مسيطر ..
اثنان وثلاثون عاما .. نور الدين مات .. ومازالت نجمة السماء تنزل دمعة جارحة في الرابع من آذار وتكتب على صفحات القلوب .. مات نور الدين .. مات ..وأحاول قدر استطاعتي أن امنع دمعة من السقوط .. فتأبى ..
طلعت سقيرق
4/3/2008
[/align][/cell][/table1][/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
التعديل الأخير تم بواسطة هدى نورالدين الخطيب ; 04 / 03 / 2013 الساعة 23 : 03 AM.
|
|
|