هذه التجربة الجديدة للشاعر طلعت سقيرق
[align=justify]
بقلم : د. سمر روحي الفيصل
الحق أنني لم أعبأ كثيرا بالبطاقات التي طبعها طلعت سقيرق عام 1996 و هي ست عشرة بطاقة تضم كل منها مقطوعة شعرية أو ومضة حسب المصطلح الحديث الذي انتشر في العقد الأخير و اكتسب نوعا من القبول في الحقل النقدي و لم يكن قرن المقطوعات بلوحات للفنان فتحي صالح قادرا على أن يستحوذ على اهتمامي لأنني أعلم أن هذه التجربة مطروقة من قبل يتآلف فيها فنا الشعر و الرسم التشكيلي بغية التأثير في المتلقي
بل أنني كنت اطلعت عليها في الشعر و الفن الفلسطينيين عند الشاعر محمود علي السعيد و الفنان محمد أبو صلاح (رحمه الله)في "محمد أبو صلاح يطير عصافير المخيم" (1988) و إن اختلف الشكلان شكل الكتاب عند سعيد وشكل البطاقة عند سقيرق و الحال كما يقول المناطقة أنني أسرتُ بالبطاقات لأن صاحبها صديق لي أفرح له و أبارك ما يفعله ما دام فعله إيجابيا و هذه البطاقات فعل ايجابي يسعى صاحبه إلى إيصال شعره إلى المتلقي بوسيلة مبتدعة و لم أجاوز آنذاك و الحق يقال ذلك الموقف الانفعالي و ما خطر لي أن يكون هناك شيء آخر وراء هذه البطاقات /الومضات...
ثم فوجئت و أنا جالس على مكتبي في جامعة الإمارات برسالة طلعت سقيرق تضم بطاقات جديدة صدرت هذا العام (1997) أقول فوجئت لأن البطاقات وصلتني في رمضان و أنا أفكر في شراء بطاقات تهنئة بعيد الفطر القابل أرسلها لبعض أحبتي في سورية و كان أول عمل قمت به بعد الفراغ من محاضرتي الأخيرة كتابة تهنئة بالعيد لطلعت سقيرق على إحدى البطاقات التي أرسلها إليّ و أودعتها بريد الجامعة دون أن أنعم النظر في هذا كله و كأنّ هذه البطاقات جاءت لتلبي حاجة اجتماعية بنت وقتها بيد أني بعد ذلك سألت نفسي إذا جاز أن أرسل بطاقة من هذه البطاقات لطلعت سقيرق و هو صاحبها فلماذا لا أرسلها لغيره ممن أثق بتذوقه الشعر و لم أتلكأ في التنفيذ فأرسلت بعض البطاقات إلى أصدقاء في سورية و لبنان و المغرب متوقعا أن تردني أصداؤها الأدبية و كان هذا التوقع بداية سؤالين هجست بهما نفسي هما :
السؤال الأول :
ماذا أسمي هذه التجربة ؟؟.. لا أسميها ديوان شعر لأن مصطلح ديوان ارتبط في أذهاننا في العصر الحديث بطباعة الشعر في كتاب حتى أن الاعتراف الأدبي بأي ديوان من دواوين الشعر لا يمكن بلوغه إذا بقي الشعر مخطوطا في الدفتر و إن جمعه صاحبه و منحه عنوانا أي أن الاعتراف الأدبي مرتبط بطباعة الشعر في كتاب ليس غير بل إننا نقول إن القصائد المطبوعة في كتاب تكتسب اعترافا جزئيا لان المجلات متجددة ليس لها صفة البقاء و الثبات في أذهاننا و هذا كله اثر من آثار انتشار (الطباعة) نلمحه أيضا في القصة القصيرة حتى نستعمل مصطلح (مجموعة قصصية) للدلالة على انتقال قصص ذات مناخ واحد أو متقارب إلى داخل كتاب مطبوع يحمل عنوانا دالا على مناخها المشترك و إن شاع للمصطلح نفسه مفهوم غير سليم هو جمع القصص داخل كتاب مطبوع دون أن يكون لها مناخ واحد متقارب و فقدان الدقة في مصطلح (المجموعة القصصية) يقابله الخلل في مفهوم مصطلح (الديوان) فهو مصطلح حديث في رأيي انتشر بعد ظهور الطباعة بزمن طويل و أصبح يدل على أي مجموعة من القصائد يجمعها الشاعر بين دفتي كتاب مطبوع..
و إذا كان مصطلح (ديوان)قد تطور دلاليا(بعد تعريبه من الفارسية) من الدفتر الذي يضم أسماء الجنود و أهل العطاء ، أو المكان الذي يجتمع فيه الكتبة، إلى المكان المطبوع الذي يجمع الشعر فانه لم يتخلص من آثار المصطلح العربي القديم و هو (مجموع شعر الشاعر) فكلمة مجموع التراثية الأصيلة كانت تدل على شعر الشاعر كله و لما كثر لجوء المحدثين إلى استعمال لفظة ديوان و نبذوا استعمال مصطلح مجموع استقرت دلالة جديدة للديوان ثم شاعت و أصبحت مصطلحا دالا على المعنى نفسه (مجموع شعر شاعر) و حين كثرت طباعة الدواوين دون الحفاظ على مفهوم المصطلح اكتفاء ببعض شعر الشاعر برز شعور أدبي بعدم الدقة في استعمال مصطلح (ديوان) نتجت عنه دعوة إلى المصطلح القديم بعد تحريفه فاستعمل الشعراء مصطلح (مجموعة )بالتاء الدالة على الوحدة ليدلوا بها على أنّ هذا المكان ، مكان واحد من أمكنة شعر الشاعر و ابتدعوا مصطلحا آخر للدلالة على (مجموع شعر شاعر) هو الأعمال الكاملة و قد بدأ الشعراء و الكتاب يخرقون في أخريات الثمانينات هذا المصطلح الجديد فينشرون أعمالهم الكاملة ثم ينتجون بعد نشرها كتبا أخرى يخرق وجودها مفهوم مصطلح (الأعمال الكاملة) و الظن بأن اتساع الخرق سيقود في المستقبل إلى تعديل آخر للمصطلح و الحال أن المصطلحات الثلاثة(ديوان –مجموعة-الأعمال الكاملة) ما زالت مستعملة على الرغم من الخلل في مفهومها كلها و- لا بد من أن يضطر المرء- و هو يدرك هذا الخلل إلى السؤال عما إذا كانت تجربة الشاعر طلعت سقيرق الجديدة تحتاج إلى مصطلح جديد مغاير للمصطلحات الثلاثة المستعملة في الحقل الأدبي و النقدي ؟؟..
الواضح أن طلعت سقيرق استعمل في كل بطاقة ثلاث كلمات هي (ومضات-شعر-بطاقات) أما الكلمتان الأوليتان فلا نستطيع استعارتهما لأن الأولى ومضات بدأت تتجه في الحقل الشعري و النقدي إلى أن تكون مصطلحا فنيا دالا على الشعر الحديث على ما يقابل المقطوعة في الشعر التقليدي و من ثم اقتربت من مفهوم محدد هو اللمحة الشعرية المكثفة المكتفية بنفسها المبنية استنادا إلى صورة وصفية عن الحياة أو النفس الإنسانية أو إلى صورة ناقدة لبعض ما يعتمل في المجتمع و الصورة في الحالين معا تضم عنوانا يفترض أن يكون دالا على طبيعتها أو مضمونها و لا تخرج ومضات طلعت سقيرق عن الحد العام و إن كانت تتسم لديه بالبوح الذاتي الشفيف و القدرة على دفع القارئ إلى التفكير بالصورة بدلا من الدلالة المباشرة و قد ساعدها على ذلك قدرة الفنان فتحي صالح على تعميق الإيحاء الشعري باللوحات المواكبة للومضات ..
و أما كلمة (شعر) فلا نستطيع استعارتها لأنها مصطلح دال على جنس أدبي يستعمل اللغة استعمالا مجازيا للتعبير عن مضمون محدد و يستعين غالبا بالموسيقى الخارجية و الداخلية بغية توفير الإيقاع المواكب للحال الشعورية ..
و أما كلمة (بطاقات) فهي الأكثر قربا من التسمية الجديدة المقترحة إذ أن الشاعر طلعت سقيرق أو من يود خوض المغامرة نفسها يستطيع استعمال مصطلح جديد هو بطاقة شعرية يضعه مكان الكلمات الثلاث السابقة و هذا اقتراحي و لا اعرف ما سيؤول إليه ثباتا أو إهمالا و لكنني اعتقد في الحالات كلها انه لا سبب إلى فوضى المصطلحات وخير لنا أن نتلقف المفهوم و نقترح له مفهوما خاصا به من أن نتركه للاستعمال و الابتداع العفوي.. إن كلمة بطاقة وحدها لا تكفي خوفا من تداخل دلالاتها مع الدلالة المعروفة في الحياة اليومية و في حقل إعداد البحوث و الدراسات و لهذا السبب ارتأيت قرنها بالجنس الأدبي الذي اعتمدته في لغة تعبيرها و هو (شعرية) على أن نستعمل هذه العبارة المصطلحية بصيغة التنكير لا التعريف حرصا على الإيحاء بأنها بطاقة شعرية واحدة من بطاقات شعرية أخرى ..
السؤال الثاني:
ما الوظيفة التي تؤديها هذه البطاقات الشعرية ؟؟.. لا شك في أن الوظيفة الجمالية التربوية أساسية لدى طلعت سقيرق و لدى غيره من الشعراء و من ثم لا مجال للاعتقاد بأنه لا يرغب في تجسيد هذه الوظيفة.. بيد أنني اسأل نفسي ثانية عن أثر الطباعة في تجسيد وظيفة الشعر ذلك لأن العادة التي رسختها الطباعة هي إيصال الشعر إلى المتلقي بواسطة الكتاب (الديوان المطبوع) ثم الدوريات، وهاتان الوسيلتان مطبوعتان في حين انحسر الإلقاء في الأمسيات الشعرية و التلفاز إلى المرتبة الدنيا على الرغم من أنه الوسيلة الأساسية لتجسيد وظيفة الشعر الجمالية و لم يكون انحساره زهدا فيه بل كان نتيجة التضييق عليه ،فليست هناك إمكانية في العصر الحديث لإلقاء الشعر على المتلقين في غير الأماكن المحددة لذلك (نواد –مراكز ثقافية) و لكل مكان شروط يفرضها على الشاعر و يطلب منه التقيد بها إذا رغب في استعمال المكان لإلقاء شعره و هناك تضييق آخر نبع من كثرة عدد الشعراء بالقياس إلى عدد الأمسيات الشعرية فلو رغبنا في أن نتيح لكل شاعر بعيدا عن المستوى الفني لشعره فرصة واحدة في العام يلقي فيها شعره في مكان ذي وظيفة ثقافية لانتهى العام قبل أن نفرغ من الشعراء و إن خصصنا لكل يوم من أيام السنة أمسية لهذا السبب حملت الدوريات (المجلات والصحف) جزءا من عبء إيصال الشعر إلى المتلقي و لكن فرص نشر الشعر في الدوريات محددة أيضا إضافة إلى أنّ شروط الدورية أكثر قسوة من شروط المكان الثقافي ..
فالمطبوعة أكثر انتشارا و التزاما بالجهة التي تصدرها كما أنها لا تغامر كثيرا قي هذه الأيام بنشر الشعر كذلك الأمر بالنسبة إلى طباعة دواوين الشعر سواء أكان حديثنا عن عدد الدواوين المنشورة في العام الواحد أو توزيع النشر بين المؤسسات الرسمية و الخاصة أم كان حديثنا عن الفرص المتاحة لكل شاعر لنشر ديوانه..
إن الطباعة التي أسهمت في مراحلها الأولى في تعميم الشعر على المتلقين العرب باتت الآن متحكمة بهذا التعميم من خلال تحديدها عدد الدواوين المنشورة و هي تملك كما هو معروف مسوغاتها الخاصة الأدبية و التجارية و هي مسوغات غير مقبولة لدى الشعراء عموما و لهذا كله يمكننا أن نسأل أنفسنا هل اللجوء إلى طباعة الشعر على بطاقات وسيلة جديدة لإيصال التجربة الجمالية إلى المتلقي كما فعل طلعت سقيرق اعتقد أنها كذلك مع مراعاة التأثير الجزئي لان البطاقة لا تستطيع أن تضم قصيدة طويلة أو متوسطة الطول تبعا لحجمها المحدود ومن ثم يضطر الشاعر إلى نشر المقطوعات أو الومضات و هي نصوص ذات تأثير جمالي بيد أن هذا التأثير الجمالي يمكن استغلاله لتحقيق وظيفة ثقافية جليلة هي إحياء قيمة الشعر في وجداننا العربي أقصد إمكانية لجوء ناشري البطاقات الخاصة بالتهنئة إلى اختيار مقطوعات أو ومضات شعرية ذات مستوى فني راق و تكليف فنانين بصنع لوحات تواكبها في الحياء و التأثير ثم طباعتها و توزيعها بدلا من الاقتصار على صور البلدان و الكتل اللونية العامة، إن هذا العمل كفيل بنشر الشعر بين الناس و الإسهام في ترسيخه إضافة إلى تأثيراته الأخرى كالعمل على ذيوع أسماء الشعراء و الدعوة للدواوين الشعرية في سبعة أركان الوطن العربي ..
لقد دفعتني التجربة الجديدة إلى فيض من التخيل و الاستطرادات الأدبية فهل أنا في هذا كله واهم؟؟..
-----------
• نشر في مجلة " صوت فلسطين " العدد 353 – حزيران 1997
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|