طالب همّاش
كالدمعة في ماء الكأس
كمْ أنتَ وحيدٌ
وتفيضُ دموعُكَ في هجعات الليلِ الموحشِ
فوق وجاقِ النارْ !
و المطراتُ الليليّةُ
تغرورقُ في شباككَ عنقوداً عنقودْ !
كمْ أنتَ وحيدُ الدارِ
وريحُكَ جاريةٌ مجراها
في خشبِ الوحشةِ كالمنشارْ !
صوتُكَ صوتُ الشاعرِ
محترقٌ بغصيصِ اللوعة ِوالحسراتِ السودْ ..
يتساقطُ من كأسِ الصمتِ السكرانِ
كما الجرحِ على الجمَّارْ !
فلأيِّ نديم رقرقتَ الخمرةَ دمعاً يا خمّارْ ؟
ولأيِّ جريح ٍرخّمتَ الأغنيّةَ باكيةً يا عودْ ؟
فأنا لا أملكُ إلاّ قلب البلبلِ في صدري
مجروحاً ، ورقيقْ !
والمرأةُ منّي نافورةُ ماءٍ تبكي في مطرِ الدارْ !
ليسَ بمقدورِ الخنجرِ أن يجرحَ صوتي
وتجرّحهُ الريحُ على كلِّ طريقْ !
رحلَ العشّاقُ
وخلّوا أزهارَ الخوخِ تهرهرُ فوق كراسيهمْ
وتباعدَ في الليلِ نداءُ الجارْ !
وعلى الصفصافةِ يرفعُ كائنُ حزنٍ يتألّمُ
أنشودةَ حاجته لرفيقْ !
لم يأتِ صديقٌ كي نسهرَ
تحت القمرِ المتكوّرِ كالنهدِ ،
فتشرقُ شمسُ السهرةِ من كأسِ صديقْ !
مذ رحلوا طالَ هطولُ الدمعةِ
واتسعتْ كالكهفِ سكينةُ هذي الدارْ !
فالعبْ برخيمِ الصوتِ على سلّمِ أنغامٍ مشبعةٍ بالعشقِ
ليسكتَ صوتُ الجدولِ في الإبريقْ !
واصعد بالنغماتِ إلى منبعها العذبِ
لأجلسَ في صحنِ الليلِ الخالي ،
وأسوحَ بأغنيةٍ عاليةِ التحليقْ !
لا تتركني كاللقلقِ ظمآنَ على عامودِ الآجر العالي
أتأمّلُ كالمهزومِ خلوَّ الدنيا من أيِّ صدبقْ !
نغمةُ عودكَ عند شيوعِ المغرب
نغمةُ نَمْ .. نَمْ .. نمْ !
تهتزُّ على مهدِ عزيزٍ يتألّمْ !
... والموسيقى صوتُ الشاعرِ مرفوعاً للقمرِ الصديّقْ !
نغمةُ عودكَ رجعُ فراخِ الريحِ
إذا جاشتْ في السعفِ
وهدهدةُ البحرِ الهادىءِ من شبّاكِ ندمْ !
... والموسيقى حزنٌ ذهبيٌّ يبحرُ في الأفقِ الفردوسيِّ كطائرِ تمْ .
نغمةُ عودك سوداءُ ، ترنُّ رنينَ الدمْ !
وتهزُّ سويداءَ القلبِ من الجمّارْ !
أَوَتَعْرِفُ يا خمّارْ ؟
كيفَ تصيرُ الزهرةُ فوق الساقِ الأبيضِ
جمرةَ نارْ ؟
أَوَتَعْلَمُ كيفَ يصيرُ الرقصُ على إيقاعِ المطرِ المدرارِ كعرسِ الدّمْ ؟
أَوَتَعْرِفُ ما لي يا خمّارْ ؟
أشربُ كأسكَ ممزوجاً بالدمعِ
ولكن لا يبلغني صوتُ البلبلِ في الصبحِ
ولا أبلغُ بالترنيمةِ إغفاءةَ نشوانْ !
فترقرقْ بالصوتِ البدويِّ الموجعِ بالأشجانِ وغنِّ غنائكَ :
ظمآنَ إلى مائكِ يا دنيا ظمآنْ !
غنِّ حجازيّاً في هدآتِ الليلِ
ولا تتركني مغروساً في صدغِ الريحِ المهجورةِ كالمسمارْ !
أغرقني بجراحكَ في مطريّةِ نسكٍ
وتماوجْ بالصوتِ الضائعِ في عتماتِ الدارْ !
فمسيلُ غنائكَ في سكراتِ اليائس ِ( أسيانٌ ) أسيانْ !
أسمعني صمتَ نفوسٍ سكرى
ذابتْ في حزنٍ سكرانْ !
وأذبني كالدمعةِ في ماء ِالليل
المتساقطِ في قدحِ الظمآنْ !
فأنا أتقطّرُ في ساعاتِ الوحشة ِ
نقطةَ حبرٍ في بئرِ الليلِ الموؤودْ !
وأنا أسكرُ بالموسيقى والشمسِ ورخرخة ِالأمطارْ .
فلأيِّ جريح ٍرخّمت َالمرثيّةَ باكيةً يا عودْ ؟
ولأيِّ نديمٍ رقرقتَ الخمرة َدمعاً يا خمّارْ ؟
فالوحشةُ صمتٌ أسودُ
ينحلُّ على محبرةِ الشاعرِ كلَّ مساءْ !
والمغربُ أنفاسُ كمنجاتٍ ساكتةٍ سوداءْ !
يا طيراً طرتَ طويلاً في الأرض
ولم تجدِ الشمسَ لتملأَ بالضوءِ
ظماءَ جراركْ !
كمْ أنتَ وحيدٌ وجريحٌ تحت خريفِ الخوخِ
وصفرةِ أوراقِ المشمشِ في داركْ !
تُغرقُكَ المطراتُ بحالةِ حبٍّ يائسةٍ
والغيماتُ تكفّنُ روحكَ تحت أماسي الصيفِ الزرقاءْ !
كم أنتَ تكبُّ على نفسكَ كالناسكِ في الصلواتِ
وسربةُ ريحٍ تحملُ روحكَ كالعشِّ بعيداً عن أشجاركْ !
كم أنتَ ..
وأينَكَ أنتَ الآنَ ؟
لقد طارتْ كلُّ حمائمكَ البريّةِ
في صبواتِ الصبحِ
تطوّفُ بيضاءَ على بيضاءْ .
وقعدتَ تحدّقُ في القمرِ الغاربِ
مجروحاً يتزايلُ فوق نعاسِ الناسْ !
يا خماراً يغرقُ كالدمعةِ في ماءِ الكاسْ !
الليلةُ خضراءُ
وصمتُ عذابكَ صافٍ تحتَ سماءِ النورْ
فأضىءْ شمعةَ حزنك في كوزِ الليلِ المكسورْ !
وتأمّلَ معنى النورْ !
لا تنكسرِ الآنَ
فقد شفَّ الوجد وأبحرَ عقلي كشراعٍ فوق بحيراتٍ
رائقةِ الإقمار !
ولقد صارَ القدحُ الأزرقُ في كفيَّ
على شكلِ كنارْ .
فابتهجَ القلبُ وراحَ يحلّقُ كالغيمةِ نحو جمالِ الإقمارْ !
وبهذي الساعةِ تصبحُ أرواحُ السمّارِ ( زرازيراً)
تتطايرُ تحت خيالِ المشرق ِزرزوراً .. زرزورْ .
وبهذي الساعةِ يصبحُ حزنُ المرأةِ قنديلاً ،
وأنوثتها داليةً تتدلّى بالأعنابْ .
يا خمّارُ كسرنا في العشقِ الأكوابْ !
ما بكّرَ بالحزنِ السيّابُ
ولا غرّبَ بالشوقِ النوّابْ !
ما عادت فائدةٌ تُرجى
أن تخسرَ أصحاباً أو تملكَ أحبابْ !
إن شتاءاتٍ راجعةَ الغيم
ستطرقُ أبوابَ جراحكَ باباً بابْ !
ورياحُ خريفِ العمرِ الهوجاءُ
تهبُّ على عمركَ مشهرةَ الأنيابْ !
فاليوم سيشتبكُ الغيمُ مع الغيم ،
وتمتدُّ أمامك دربٌ مقفرةٌ ، وصحارى سودْ !
واليوم سيصعدُ صوتُ الشاعر من أعماقِ الآبار كزوبعةٍ من نارْ !
فلأيِّ جريحٍ رخّمتَ المرثيّةَ باكيةً يا عودْ ؟
ولأيِّ نديم ٍرقرقتَ الخمرةَ دمعاً يا خمّار ْ ؟
هدهدْ يا عودُ رقيقاً قلبي المتعبَ
واصفرْ صفراتٍ ناعمةٍ يا نايْ !
ما من ( أحدٍ) وسطَ سكونِ الليلِ يسوحُ سوايْ !
وأموتُ على صدركَ يا ليلَ العزلةِ
أينَ الأصحاب ،
وأينَ امرأة تمسحُ بالماءِ الصبحيّ عيوني
وتجفّفُ دمعاتِ أسايْ ؟
حزني حزنُ غريبٍ في الأرض
أمرُّ على ضوءِ فوانيسِ الحاراتِ وحيداً وحزيناً قربك يا دارْ !
وأقولُ مساءً صمتاً يا أمَّ الأعشاشِ
أما جاءتكِ مع الريحِ الأخبارْ ؟
وأصيحُ بصوتِ الضارعِ في ملكوتكَ يا ربّايْ !
ما دارٌ هذي الغربةُ في الأرض
ولا الأرجاءُ المتروكةُ للهجرانِ ديارْ !
يا خمّارْ !
كم نيّمتَ جراحاً في أعشاشكَ
يابنَ حماماتِ الحزنِ وكمْ ريحْ !
كم حبّة نورٍ من قلبكَ أطعمتَ
لطارقِ ليلٍ جوعانَ ، فقيرَ الروحِ ، مسيحْ !
وركنتَ غناءكَ كالألفِ المكسورِ بزاويةِ البيتْ !
كمْ أغنية ! .. وبكيت !
يا عودَ الناسكِ نمْ يا عودْ !
ما تعبتْ أوتاركَ من شربِ مياهِ القلبِ
وليس لحزنك في هذا الكون حدودْ !
ما صوتُكَ صوتُ العاشقِ في اليأس
ولا أشجانكَ أشجانُ الشوقِ
كأنّ عزاءك للمستوحشِ
ترجيعُ كمنجاتٍ سودْ !
يا عودَ الناسكِ نمْ يا عودْ !