[frame="15 70"]  
  حكاية الشعر كحكاية الوردة التي ترتجف الرابية، مخدة من العبير .. و قميصا من الدم ..
   إنك تحبها هذه الكتلة الملتهبة من الحرير التي تغمز إصبعك، و أنفك، و خيالك، و قلبك، دون أن يدور في خلدك أن تمزقها، و تقطع قميصها الأحمر، لتقف على سر هذا الجهاز الجميل الذي يحدث لك هذه الهزة العجيبة، و هذه الحالة السمحة، القريرة، التي تغرق فيها ... 
   و حين تفكر في هذا الإثم يوما، فتشق هذه اللفائف المعطورة، و تذبح هذه الأوراق الصبية، لتمد أنفك في هذا الوعاء الأنيق، الذي يفرز لك العطر، و يعصر لك قلبه لونا، حين تدور في رأسك هذه الفكرة المجرمة، لا يبقى على راحتك غير جثة الجمال .. و جنازة العطر .
   و في الفن، كما في الطبيعة و في القصيدة كما في الوردة و كما في اللوحة البارعة، يجب أن لا نعمد إلى تقطيع القصيدة، هذا الشريط الباهر الندي من المعاني و الأصباغ و الصور و الدندنة المنغومة .
   حرام أم نمزق القصيدة لنحصي ( كمية ) المعاني التي تنضم عليها ، و نحصر عدد تفاعيلها و خفي زحافاتها و نقف على ( لون ) بحرها ... 
   فالإحصاء و السحاب و التحليل و الفكر المنطقي يجب أن تتوارى كلها ساعة التلقين المبدع . لأن كل هذه الملكات العقلانية الحاسبة، فاشلة في ميدان الروح ...
   فالقمر ... هذا الينبوع المفضض الذي بذر على الكون جدائل الياسمين .. يحدث لك و لي و لكل إنسان حالة حبيبة ملائمة . إنك تفتح قلبك له، و تغمس أهدابك في سائله الزنبقي دون أن تعرف عن هذا ( الجميل ) أكثر من أنه قمر .. 
   و لو اتفق أن أوضح لك فلكيِّ سرَّ القمر و أجواءه و جباله الجرداء و قممه المرعبة و أدار لك الحديث عن معادنه و درجة حراراته و رطوبته إذن لأشفقت على قلبك و أسدلت ستارتك .. 
   إذن، فلنقرأ كما ننظر إلى القمر .. بطفولة و عفوية و استغراق ..
   فالتذوق الفني كما قال الفيلسوف الإيطالي كروتشه في كتابه ( المجمل في فلسفة الفن ) هو عبارة عن ( حدس غنائي ) . و الحدس هو الصورة الأولى للمعرفة و سابق لكل معرفة و هو من شأن المخيلة و هو بتعبير آخر الإدراك الخالي من أي عنصر منطقي .. 
     *************************
   مهمة القصيدة كمهمة الفراشة .. هذه تضع على فم الزهرة دفعة واحدة جميع ما جنته من عطر .. و رحيق، منتقلة بين الجبل و الحقل و السياج .. 
   و تلك – أي القصيدة - تفرغ في قلب القارئ شحنة من الطاقة الروحية تحتوي على جميع أجزاء النفس، و تنتظم الحياة كلها ..
     **************************
   لنتواضع إذن على القول : إن الشعر كهربة جميلة ، لا تعمر طويلا، تكون النفس خلالها بجميع عناصرها من عاطفة و خيال و ذاكرة و غريزة مسربلة بالموسيقا ..
   و متى اكتسحت الهنيهة الشعرية ريش النغم، كان الشعر .. فهو بتعبير موجز ( النفس الملحنة ) 
     لا تعرف هذه الهنيهة الشاعرة موسما و لا موعدا مضروبا، فكأنها فوق المواسم و المواعيد.. و أنا لا أعرف مهنة يجهل صاحبها ماهيتها أكثر من هذه المهنة التي تغزل النار .. 
                                                  * نزار قباني *        
       قصيدة " رسائل لم تكتب لها " ......
       كتبي الفارغة الجوفاء إن تستلميها .. 
     كاذبا كنت و حبي لك دعوى أدعيها ..
   إنني أكتب للهو .. فلا تعتقدي ما جاء فيها .. 
   فأنا – كاتبها المهووس – لا أذكره 
           اقذفي تلك الرسالات .. بسلِّ المهملات 
     أن تقعي في الشرك المخبوء بين الكلمات 
   فأنا نفسي لا أدرك معنى كلماتي ..
     و لابدَّ لطوفان ظنوني من قناة ..
       فإذا سوَّدت في الليل تلال الصفحات ..
       و لأني رحلة سوداء .. في موج الدواة 
       و دفني كل رسالاتي بأحشاء الوقود 
       فأنا نفسي لا أذكر ما يحوي بريدي .. !
           لم تكن شيئا، فحبي لك جزء من شرودي 
     لا أدري اتجاهي و حدودي ..
   أتلهى بك، بالكلمة، تمتص وريدي .. 
       و وجود الحرف من أبسط حاجات وجودي 
             [/frame]