| 
	
		
		
			
			 
				
				رد: فريخيليانا (Frigiliana)
			 
			 
			
		
		
		الجزء الثاني  
======= 
Frigiliana 
 
          الغريب أني صرت لا أتصرف إلا عكس ما يحاول زميلي إملاءه علي .  وأعترف أني كنت أسايره في البداية ، رغم تعارض آراءه مع مبادئي ، ربما مجاملة أو تحرجا من الإعراض عما يسميه نصائح :              
- ما الضرر في إخفاء هويتك اتقاء للشرور ؟  ألا تدري في أي زمن نحن ؟                                              
          ليلة في فريخيليانا ليست ككل الليالي ، خاصة وأنها الأخيرة لي قبل شد الرحال إلى البلد . على فكرة ، رحالي عبارة عن حقيبة ظهرية تحوي ملابس داخلية وأدوات الحلاقة والتنظيف وبعض الكتب . أكره الأثقال أثناء السفر . فرانسواز بدورها كانت  تعشق الأسفار وبدون أحمال .                                                      
- هذه الحقيبة هي كل ما تبقى لي ... استغنيت عن كل شيء .                                                               
          في نبرتها أسى وقنوط . استغنت عن كل شيء ، ولم يتبق لها إلا أن تستغني عن الحياة نفسها . هيأتها وملابسها ، رغم تناسقها ، تفضح عزوفها عن مباهج الحياة .                                                             
- حسبتك أسعد مخلوقة... الجمال ، المال ، وإذن... الحب ؟                                                                  
          تنظر إلي مليا ثم تأخذ نفسا عميقا من سيجارتها . أحس برئتيها تلتهبان . وتتابع الحديث عن حياتها  ومعاناتها خاصة مع الرجال .                                                                                                       
- لكن الرجال عندكم أشد اهتماما بالنساء وأشد حرصا على إرضائهن .                                                   
          لم تعر اهتماما لملاحظتي ، واسترسلت كأنها تسابق الزمن وتخشى انقضاء الوقت قبل أن تفرغ ما يعج به صدرها .                                                                                                                           
- مهنة عارضة الأزياء دعارة مقنعة .هذا ما أستطيع قوله . أما أولئك ، فهم لا  يرون فينا إلا سلعة بأردافها ونهودها وأفخاذها و... لم أعد أطيق النظر إلى أي منهم أو حتى التحدث عنهم .                                        
- مع أنك تبيحين لنفسك مجالستي .                                                                                               
          ضحكت باقتضاب كعادتها وأجابت بعد أن أطفأت سيجارتها بعصبية :                                           
- أنت ؟... يخيل إلي أني لم أع بعد ما يجري . استقبلتك عندي وأنا كلي تصميم على دحر كل من يسول له نفسه الاقنراب مني .                                                                                                                         
- معتقدة أن أول هدف لي بعد التعارف...                                                                                        
   ابتسمت هذه المرة دون تكلف وقالت وهي تغض ببصرها :                                                         
- بالضبط... حتى خلتك... معذرة...                                                                                               
- أتي سوف أجاريك في الشراب والتدخين و... كفرد من العالم الثالث .                                                   
- تماما -  قالت وهي تهز رأسها مؤمنة على قولي -  لكن فكرة " العالم الثالث " هذه لم يعد لها اعتبار لدي الآن . عالم أول  وثان وثالث ؟... ياللغباء.                                                                                      
          أتخيل زميلي وهو يستمع إلى ما أحكيه عن فرانسواز. حتما سيهز رأسه وهو يبتسم بتهكم . لو كان في مكاني لما تردد في مراودتها كما هو شأنه مع زميلاته في المؤسسة ومع جاراته العازبات منهن والمتزوجات ، بل وتلميذاته المراهقات . لا يغضب حين أنعته بزير النساء . قال لي يوما مقهقها :                                    
- المرأة في نهاية المطاف مطية . أما فيما عدا ذلك فتخلف وبلادة .                                                        
- فإذن لم شاركت في المسيرة ؟ وعن أية حقوق وكرامة تتحدث ؟                                                         
           دائما أفحمه في هذه النقطة ، فيثور ويتوتر ويتهمني بعدم الفهم و بالتحجر واللجاج العقيم ، فأتركه يلملم ما شاء من المبررات ليقنعني بصحة آرائه وعدم تناقضها ، ثم ، و بلا مقدمات ، ينتقل إلى موضوع آخر: 
- البس لكل حال لبوسها . عيبك هو عنادك – قال لي في أخر لقاء لنا بالرباط ، وعاب علي احتفاظي بلهجتي الشمالية وأنا أتحدث إلى أصدقاء من الجنوب – إنك تثير الضحك .                                                         
           لم أعد أناقشه . أهز رأسي وأبتسم . أعرف أنه يحمل دائما النقيض في قوله وفعله ، فلا أتعب نفسي في مجادلته ، لكني استمتع  بآرائه رغم ذاك النقيض وأكتفي بالتلميح إليه .                                             
- يعني أنك لم تحبي أحدا ؟... عفوا ،  ولكن... عارضة أزياء ؟ أشك... 
- في أن لها قلب يحب... ممكن ، لكن  صدقني ،الكثيرات منهن ضحايا الإغراء  والأوهام و...ربما الحاجة. أنظر إلى عيونهن وقسمات وجوههن . 
- حقا... أسى عميق يطل منها... إذن ، فقد أحببت يوما ما ؟ 
             تنهدت بعمق ثم قالت بمرارة واضحة : 
- لا اريد أن أنبش في الماضي . يكفي أن أقول ألا مجال لدينا ، أو على الأصح لديهن مجالا للحب رغم حسنهن و شبابهن . مشغلوهن ذوو قلوب متحجرة... لا يهمهم سوى الربح... ذئاب... يأخذونهن لحما ودما ويلفظونهن عظاما . المهم ... ما فات قد فات . لقد تحدثت كثيرا . وأنت ؟  لم تحدثني عن نفسك . 
            ليل فريخيليانا طويل ، لكنه حتما ينتهي . أو ربما انتهى ولم أشعر. فريخيلياتا حلم ؟ نعم ، ولكنه لا ينتهي رغم طلوع النهار . تنساب الحافلة عبر ساحل الشمس ويبدو البحر الأبيض شديد الزرقة وقد زرعت شطآنه أجسادا عارية . قالت لي" أنا " إن فرانكو لم يكن يسمح بذلك ، لكنه يبقى ديكتاتوريا . أندالوسيا تحب psoe . 
. و فرانسواز ؟  ماذا تحب ؟ وماذا تفعل الآن ؟ قالت إنها سوف تعود إلى بلدها وتتابع  السفر والتجوال  
          تصل الباخرة إلى ميناء طنجة . كان بودي المرور بسبتة لكني لم أجد تذكرة قبل الإبحار من الجزيرة ااخضراء . الميناء مزدحم وعملية العبور في أوجها . سيارات مرقمة من هولندا وبلجيكا وفرنسا . وجوه محتقنة وأخرى شاحبة في ردهات الميناء. صراخ وعويل وسباب وشتم وقيء وإسهال . وفي أعلى البوابة العريضة ترفرف بقوة لافتة كتب عليها " مرحبا ب.........الخارج " . وسط اللافتة ملتوي بفعل الرياح الشرقية القوية . تستقبلني وجوه متجهمة وتتفحصني في ارتياب . يسألني جمركي ما إذا كانت لدي سجائر – الحمد لله أني لا أدخن- أو أوراق نقدية... لماذا ؟... ينظر الجمركي إلى زميله الذي يشير برأسه قائلا :                       
- دعه يمر... لعله لم يفهم . ألم تر حقيبته ؟ 
          حقيبتي لا تحوي سوى الأشياء التي ذكرتها مع بعض التذكارات البسيطة ، ورغم ذلك يطول انتظاري قبل ولوج الحاجزين الأمني والجمركي وأنطلق كأسير فكت قيوده . تطالعني طنجة ، بهية بسمائها الصافية ودورها الناصعة البياض. لكني لا أدري سبب الانقباض الذي لازمني مذ غادرت الباخرة . وحين أفكر في فرانسواز أجدني أحسن حالا . وأعصر ذاكرتي لإفراغها من كل ما قيل في ليلة أمس ، دون جدوى . لو أعطيتها عنواني لعرفت أخبارها فيما بعد رغم أنها اعترفت لي بميلها للوحدة وحبها للعزلة وقطع الصلة بأي كان .       
          سألتقي بزميلي و سيبادر بسؤالي :" هيه ... هل من جديد ؟" لأني أعرف لهفته لمعرفة كل شيء بعد ما تنبأ لي بالعودة من هناك حبيس القفص الذهبي لأن أندالوسيا -  حسب رأيه – لا تدع زائرها يغادرها حرا طليقا. و سيضحك كثيرا لاقتنائي خارطة للعالم أتنقل عبرها بأصبعي ابتداء من فريخيليانا ومرورا بنيم ، ثم أخبره صراحة أني اخترت العزوبة... إلى النهاية . 
 
		
		
     |