[عبدالله الخطيب]

دير بالك، الفرجة بمصاري يا أبو الشباب.. لا تأكل اللحمة بعينيك
غاب وسط الزحام، غابت خلفه أكواخ الصفيح و الصنادق الخشبية المنتشرة كأحزمةِ بؤسٍ على تخوم الساحل الجنوبي للمدينة الصاخبة. مئاتٌ، بل الألافُ من العشش و المنازل المتصدعة المتكدسة كعلب السردين، تحملُ في أحشائها تاريخاً من البؤس و القهر و المعاناة لسكان تلك المنطقة المنكوبة.. منطقةٌ برزت معالمها بتجلي و وضوح.. معالم ليست سياحية، بل معالم بائسة لمآساة أنسانية تقف عند منعطفٍ حادٍ و خطير.. بيئةٌ عشوائيةٌ تتدنى فيها أبسط مقومات الحياة الأنسانية الطبيعية.. صراع ضاري، يخوضه أدميون من أجل البقاء في مخيم لا يصلح أن يكون مكباً للنفايات.. صراعٌ لا بد لأبطاله بأن يلتزموا بقوانينه المُستمدة من شرائع البلطجة و قوانين الغاب.. صراعاً لعبت فيه العولمة دوراً جبروتياً قذراً.. قوانينه العرفية تحكمها أعراف القهر و الأستبداد، أعراف أستغلال تجار المخدرات و أرباب المواخير للبسطاء و المحتاجين.. أعراف أجرامية لا ترحم.
- نفذ صبري يا أبن ال******، لقد طال أنتظاري عليك.
- أرجوك أن تمهلني مزيداً من الوقت يا معلم، سأتدبر لك المبلغ قريباً.
- سأمهلك الى الغد، إما أن تأتيني بالنقود و إما بأختك سماح.
- ما لأختي بيني و بينك يا معلم؟.. لا شأن لها بذلك.
- هي من سيقوم بالتسديد عنك يا حيوان.
- أستحلفك بالله و بأولادك يا كبير، سماح ما زالت طفلة بريئة لا تأخذها بذنبي.. أمي ستموت بحرقةٍ عليها إن فعلت.
- تعال يا حمار، أجلس بقربي. ها هنا.. نعم هنا (ربت على كتفه ثم أكمل): غايتي هي مصلحتكم يا غبي. أختك في مقام أبنتي، لا يهون لي بها..سنتدبر أمرها و نقوم بتأمينها في عملٍ عند أحد العائلات الثرية، ستخدمهم و تلبي طلباتهم المنزلية لا أكثر و لا أقل.. يعني خادمة محترمة يا بهيم. ستكون لك عوناً في السداد، بل ستسد رمقكم و تطعم تلك الأفواه الجائعة، و قريباً جداً سوف تنتشلكم من ذلك الجحر و تودّعوا حياة الشقاء الى الأبد.. المكسب سيكون بالدولار.. يعني بالعملة الصعبة.. أفتح عينك تأكل ملبن يا أحمد.
فَتَحَ عينيه فجأة في منتصف الشارع على صوت زعيقٍ حادٍ لأطارات سيارةٍ توقفت بسرعة حتى لا تصدمه.
السائق: أنظر أمامك يا حمار.. أمشي على الرصيف يا أعمى، يلعن أبوك على أبو إللي خلفك يا أبن ال******
تابع سيره غير مكترث، فهذا قليلاً من المذلة اليومية التي يُلاقيها.
- الى متى سنبقى رهن هذا الذل؟.. نحن نعيش كالشحاذين.. الجرذان و الفئران التي تنغل في هذا القن تعيش أفضل منا.
- لكن يا ولدي أختك ما زالت قاصراً لم تتعدى السادسة عشر.
- والله يا أمي المعلم أبو راشد أكد لي أنها ستكون في مأمن و مبسوطة.. ستكون في كنف عائلة غنية يخافون الله.
وافقت الأم على مضض، فتوجسها خيفة على أبنتها من غدر الزمان و من أولاد الحرام ما زال رابضاً في قلبها.
ها نحن قد وَدّعنا حياة القن بفضل سماح الله لا يعطيها العافية.. وطّت راسنا و حطته في الوحل الله لا يوفقها.
ليتنا بقينا و لم نخرج.. ليتنا بقينا و لم نخرج.. الكيّفُ هو السبب.. السم الهاري الذي أدمنته و الخمرة الخبيثة التي أحتسيها في الليل و في النهار إستشرت في دمي كالشيطان الرجيم.. تغيرت المعالم في خريطة دمي.. فقدت ما تبقى من الكرامة.. ذهبت غيرتي و أصبحت ديوثاً.. أنا السبب.. أنا السبب.
جرته قدميه الى وسط البلد.. كان يحاول الفرار من نفسه.. عقارب الزمن تلدغه بلا هوادة.. زمنه رُهن بالقدر منذ ولادته.. قدرٌ يتحكم بالأختيار.. قدرٌ جلبه صدفة ليضيع في قلب مدينةٍ عارمة، تتزاحم أبنيتها الشاهقة التي تناطح السحاب مع سكانها على أختلاف طبقاتهم الأجتماعية.. قدرٌ رماه في لجة القهر اللعين، بين أبواق السيارات الصادحة بأستمرار و بين أصوات الباعة الجوالين الذين تمترسوا في كل ناحيةٍ و صوب، عند كل ناصيةٍ و زقاق.
منظرٌ أعاده بالذاكرة الى حِقبة الحرب الأهلية.. عندما أنتشرت المليشيات المسلحة بكل تنوعاتها الطائفية و السياسية متمترسة خلف الكمائن متربصة ببعضها البعض.. في تلك الأيام درجت ظاهرة القتل على الهوية أو قد تقتلك حبة بندورة أذا أخطأت تسميتها باللهجة المحلية.
والده لم يحمل هويته قط.. لعله تقصد ذلك معتمداً أتقانه اللهجة المحكية المحلية.. أو قد تكون هويته قد صُدِرَت يوم لجئتهم قبل أثنتي و ستين عاماً.
كان سائق مركبة لتوزيع أحد الصحف اليومية. كان دائم التنقل بين المنطقتين الشرقية و الغربية. حذفه حظه العاثر يوماً الى يد مسؤلٍ أمنيٍ لا يعرف الرحمة على أحد الحواجز في المنطقة الشرقية، و على الأرجح تعثر لسانه بتسمية حبة بندورة .. الى الأن لا يزال أسمه على لائحة المفقودين، بأنتظار أكتشاف مقبرة جماعية قد يكون قد وري فيها.
أوشكت الشمس على المغيب.. وقف كالصنم يراقب حركة الناس..
ما زالت الوجوه هي الوجوه ذاتها.. مكفهرةً، شاحبةً و حزينة.. الأجساد تتهادى ذهاباً أياباً كأنها أجساد أشباح، لأمواتٍ أحياء. يقف أصحابها على عتبةِ زمنٍ مكسورة كأنهم أخشاباً مُسندّةً. غلظت قلوبهم و جفت مآقيهم من كثرة أدمعهم. ذهبت مشاعرهم و أستسلمت ضمائرهم للباطل.
وقف عند كشكٍ لبيع الصحف. راح يقرأ العناوين و المنشتات
ما زالت أخبار أزمة المصارف العالمية تستحوذ أهتماماً كبيراً. الكل يبحث عن الحلول لأنقاذ الرأسمال العالمي، ذلك الرأسمال الذي جثم على صدورنا نحن الفقراء على مر التاريخ و ما زال. سُلِط على رقابنا كالسيف البتار. من أجله ضاعت أرضي. و هُتك عرضي و أستُبيح شرفي.
شرفي؟؟؟... و أين هو الشرف بعد أن مرّغته سماح؟
لقد بعته بثمنٍ بخسٍ لنخاسِ المخيم.. ذلك الخنزير الذي باعها بدوره لأحد أرباب المواخير و بيوت الدعارة.
- أذهب و أبحث عنها في حانة "فرانكو" يا بو القرون.. قال له أبو راشد.
كانت صغيرة و غير ناضجة، بأستطاعة أي شخصٍ تشكيلها و تطويعها كما يشاء.. رفضت العودة معه بعد أن تذوقت طعم عفونتها، طعم المال الملوث بالفسق و بالفجور.. خرجت أليه كاسية عارية.
- ما الذي جاء بك الى هنا يا أحمد؟.. أذهب بالحال.
- لن أخرج بدونك.. لن أتركك في هذا المكان.
- هل أنت مجنون؟.. سيمنعونك.. بل سيقتلوني و يقتلوك.. عدى أنني أرفض ترك هذا المكان الذي يطعمني و يطعمكم لقمة العيش.
- تباً للقمةٍ ملوثةٍ و مجبولةٍ بالعار.
- أأنت من تقول هذا الكلام؟.. لا أصدق أنك تغيرت.
- لم أتغير.. و قد لا أتغير.. لكني لا أستطيع العيش و ذنبك كالخنجرِ في رقبتي.
- لن أعود.. و لن تعودوا أنتم الى ذلك القن الحقير.. أرجع الى أمك و أخوتك.. سيصلكم مني مبلغ في كل أول شهر.
كان يتميزها بحسرةٍ من رأسها الى أخمص قدمها عندما تقدم منه قواد الماخور و قال له بسخرية و أستهزاء: "دير بالك، الفرجة بمصاري يا أبو الشباب.. لا تأكل اللحمة بعينيك".
جره أنفه هذه المرة، الى مشوى لحمٍ أمام دكانٍ للجزارة تنبعث منه رائحة أسياخ اللحم المشوي التي يسيل لها اللعاب.
مشهد أثار حفيظة بعض الحواس المكبوتة عنده.. فرائحة الشواء شطت لعابه و أثارت الأضرابات في الجزء الخاص بحاسة الشم في دماغه.
أما أصوات الزبائن.. فطلباتهم هيّجت القسم الأخر المختص بحاسة السمع.
أحدهم: أعطيني ثلاثة كيلو كفتة و ثلاثة كيلو كباب.
أخر: خمسة كيلو كباب و كيلو كفتة
و هلم جرى..
وقف مشدوهاً أمام منظر أسياخ الكفتة و الكباب التي عبق دخانها ملىء المكان.. كان نظره يُراوح ذهاباً و أياباً بين الذبائح المعلقة داخل الدكان و بين أسياخ اللحم المشوي عندما آتاه صوت الجزار هادراً من بعيد:
"دير بالك، الفرجة بمصاري يا أبو الشباب.. لا تأكل اللحمة بعينيك".
رمقه بنظرةٍ شاتمة و تابع سيره ليضيع وسط الزحام من جديد.
*****

[روبير الحلو]

روعة .. روعة
ألف شكر

[عبدالله الخطيب]

اقتباس  عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المشاركة الأصلية كتبت بواسطة روبير الحلو روعة .. روعة ألف شكر

كل الشكر لك أخي الكريم روبير الحلو..
أسعدتني بمرورك.. أهلاً و سهلاً بك أخاً عزيزاً في بيتك الثاني نور الأدب.
أتمنى لك أطيب الأوقات هنا.