حضن براءتي ومختلف فصول نجاحاتي،
شاطئ المتوسط الممتد في شراييني على نافذة زرقاء تتلاطم أمواجها، مخلفةً وراءها أساطير عبور لآلاف الوجوه والعبرات. إنه أرض الطفولة التي أوت غضبي ومثلت نقطة هامة في حياتي، رسمت أحلامي فوق رملها، وكثيرا ما خانتني رياحها لتهدم أسوار قلاعي التي تم تشييدها، عايشت آلاف المغامرات مع الكثبان الرملية، ومرات عديدة نجوت من الغرق، ومن محاولات انتحار كانت فاشلة.
كبرت، ونسي أن يكبر الطفل في داخلي، بقي يعايش المنفى، ويصارع أمواج الغربة، يحلم بوطن حقيقي يبعث من الركام، يولد من رحم الأحزان، ينقبض على شواطئه المتمردة، يسور قلاعها بالغضب، ويتوج صمودها القاً.
في صبيحة اليوم الأول من تموز، لم أعد أذكر العام بالتحديد، ولا كم كان عمري، المهم في صبيحة ذاك اليوم استيقظنا على دوي انفجار هائل، سرق ماتبقى في جعبتنا من أحلام ليترك لنا بعضاَ من آلام ربما تحولت لصلاة، وربما لصور تروى حكاياتها للسائلين عن أحوالنا!
كانت الشمس ترسل أشعتها بكل حيوية، حتى شعرنا بأن الشوارع تحترق من تحت أقدامنا، والأرصفة تلتهب حتى تقترب من الإنصهار لتتحد بآلامنا التي داهمت أسِرتنا، وأرقت وسائدنا، لقد شب حريق بأحد المتاجر القريبة من مسكن العائلة، أكلت النيران ماتبقى من بضائع وسلع تموينية افتقدها الأهالي كثيراً فيما بعد!
لاأعلم كيف قرر أبي قطع العطلة، وقطع تواصلنا مع الرمل والبحر، وقطع آمالنا في اللعب حتى الضجر وقبل العودة للمقاعد المدرسية، بدون أي استعداد وجدنا أنفسنا نبتعد عن البحر أنا وأبي وأخي وأختي الصغيرة وأمي التي صعدت للسيارة وهي تبكي على ماتبقى من ستائر وسجاد في المنزل الذي سيدخل ذاكرة سكانه، وسيصبح رمزاً لعائلة هجرته على أمل أن تعود.
بينما كانت السيارة تبتعد عن مكان الحدث، كانت ألسنة النار تسبق عجلات السيارة، لتتحول الغابات الممتدة على طول الشريط الساحلي، إلى بقعة ارجوانية اللون، ممتدة الآفاق إلى السماء، صوت طقطقة أخشاب الأشجار من الصنوبر والبلوط، ومن السرو والحور والليمون والقطن، كان كل شيء يحترق!
لم يعد يعرف أبي أي الدروب تنجدنا وأي الشوارع آمنة، فقد السيارة صوابهم بين الدخان والرؤيا
الضبابية، لم يعد هناك أي رجاء بالنجاة، مما اضطر السيارات الهاربة من جحيم النار في تموز، إلى أن تستجير بماء البحر الذي كان ينتظر الأطفال ليستمتعوا بالسباحة والغطس، وركوب الزوارق المسافرة باتجاه الشمس.
كانت الساعة تقترب من العاشرة، ومازالت أفواج إطفاء الحرائق، تتناوب في إطفاء النار التي تلتهم أشجار الصنوبر، كانت روائح الأحراج وهي تحترق قد ملأت الآفاق، بينما الطيور هاجرت باكراً تركت أعشاشها الصغيرة لتلتحق بأسراب أصدقائها، لقد أصبحت بلا مأوى، تسري إليه بعد رحلاتها الغنائية بين غابات المدينة، وعلى شواطئها.
تعثرت قدمي بكائن متحرك بينما كنت أراقب مشهد التشرد والتهام النيران للأعشاب والأغصان، للأشجار المتشبثة كأبي بمنزل العائلة على ساحل البحر، لقد تدحرج ضفدع نال نصيبه من الحريق، فاصطدم بقدمي أفزعني منظره وهو خائر القوى، إنه على وشك أن يموت، هاهو الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليرحل عن عالمنا الذي يحترق ليحرق ماتبقى لنا من آمال وأحلام.
على جانب آخر من الأرصفة الملتهبة راحت الأغصان المحترقة تتساقط تباعاً، مخلفة فوضوية تدمي القلوب، بالأمس كانت الدروب خضراء جميلة تضفي عليها أمواج المتوسط الرطوبة مما يشعر المصطافين بالانتعاش.
تغير مشهد الشريط الساحلي، عمت الفوضى، وعلت أصوات المستغيثين من أصحاب الأكواخ الخشبية إنها ماساة حقيقية، لم يسبق أن شهدتها المنطقة من قبل كما كان يقول والدي الذي انشغل بإسعاف المصابين الذين لسع اللهب وجوههم في الغابات ففروا باتجاه الساحل لإلقاء أنفسهم في البحر!
بعد مجهود دام لساعات، وبعد أن تحولت ملامح المسعفين لدمى لفح الحريق وجوهها ونكشت الريح شعرها، ومزقت الأغصان المتكسرة ملابسها، تمكنت فرق الإنقاذ من إطفاء مساحة تسمح بمرور السيارات لتخرج من المدينة وبدون عودة!
صعدنا من جديد إلى السيارة، كانت دوريات التفتيش قد ملأت المكان، بحثا عن بطاقة لشخص ما، ربما هو الذي تسبب بالمأساة فاحترقت الغابات وقامت الدنيا بالقرب من منزلنا الذي لم نزره منذ ذلك الحين !
قبل أن أكبر بقليل نسيت أن ألقي بألعاب
طفولتي التي كنت أصطحبها للبحر، عندما قرر والدي الهجرة برفقة عائلتي الصغيرة تركنا كافة الأشياء التي تثير الذكريات، فتحرك مشاعر الحنين لنشتاق منزلنا ونوافذنا البحرية، ومراكب التنزه الملونة التي كانت تزين خاصرة ساحلنا الذي كان لازوردي.
توجهنا غرباً، صباح يوم مشمس من أيام اغسطس/آب، وبدأنا نشتم رياح الغربة، أمام عيني الدامعتين انفجرت حرائق الغابات في قلبي ومع تلاطم الأمواج واهتزاز باخرة السلام قضيت ليلتي قلقا مضطرباً لقد غادرت سريري إلى أجل غير مسمى، وتركت حاسوبي بانتظار تصفح بريدي الالكتروني، كما تركت مساحة كبيرة من حنيني تحتضن شوقي لوطني وشوارعه وأرصفته.
بدلنا الموانئ، ونزلنا أرصفة، واعتلينا أمواج، أوقفتنا إشارات المدن الغربية، تصفحت الشرطة أوراقنا الثبوتية نزلنا فنادق، وعايشنا تجربة استئجار المنازل، وكبرت أختي الصغيرة طالت جديلة شعرها الكستنائي، تعلمت الفرنسية وأيقنت الإنكليزية، وسمحت لأصدقاء من جنسيات متعددة بمشاركة متصفحها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
تواصلت مع أصدقاء، وخرجت للتنزه معهم، وزارها بعضهم لكنني تفاجأت بصدها عني، لقد شعرت برغبتها بالاستقلالية أكثروشعرت بالضيق من ناحيتي، رفعت الأمر لوالدي الذي غضب من كلانا وأنبتها أمي، ما عادت تجمعنا أي مساءات تخبرني فيها عن حيرتها وسر قلقها!
غادنا أخي الكبير لدولة أخرى، وانفتح على العالم، لدى عودته إلى المنزل كانت برفقته حسناء شقية حذرني من خوض الحديث معها، تركت المنزل سريعاً، لأنني أحمل أفكاراً لاتناسب تيار أخي الذي انقلب على نفسه، وراح يروج لقراءات لم تعتنقها سوى حسناءه التي كانت بصحبتهّ!
خرجت من المنزل أريد أن أتنفس بشئ من الحرية، أريد أن أهرب من جلدي لأعود إلى جلدتي، لقد تغير كل شيء، كنت وحدي الذي حافظ على كل ما أتى به من أحلام وأفكار، من معتقدات ومن تطلعات، من قلب كبير، سهر على راحة الجميع ليبقى متعباً وحيداً.
شعرت بشئ من الضيق إزاء هذه المشاعر، نظرت إلى البعيد تواصلت مع الرمال الذهبية، عند شواطئ المتوسط التي تصلني بمدينتي التي صارت بعيدة ركبت زورقاً أحمر، جذفت باتجاه الشمس، تراءت لي عشرات من الوجوه المدفونة التي التهمتها النيران، كانت تجذف نحو المدينة تتقاذفها الأمواج، تلقي بها على شواطئ الساحل الذي غادرته ومازالت تلتهم غاباته نيران الأعادي التي لم تتبدل أوضاعها منذ أن غادرنا واعتلينا بواخر الهجرة والسفر، نافذتنا الوحيدة للانفتاح على المدن الفاخرة المشيدة في الغرب البعيد عن شمس مدينتنا.
بقلمي:عروبة
ah'z 't,gjd J rwm rwdvm uv,fm ak;hk