الأمانة الفكرية تحتّم عليّ ذكر اسم الروائي اللبناني الكبير أمين معلوف. قرأت رائعته ليون الإفريقي. وتأثرت بأحداثها وجمالية السرد والحبكة التي تمسك الأنفاس والقدر الكبير من المعلومات التاريخية الواردة فيها. وجاءت قصّتي هذه نتيجة تفاعلي مع الرواية المذكورة
* * *
أخيراً دخل فرديناند الى غرناطة بعد أن استسلم واليها أبو عبد الله وسلّمها بسلامً وأمان. وكان قد تلقىّ وعداً بعدم التعرّض له ولعائلته إن سلّم مقاليد الحكم ومفاتيح المدينة. تركه فرديناند يمضي ونسائه وأطفاله وما تمكّن من حمله على ظهور البغال والجمال.
عاشت المدينة ردحاً قصيراً من الزمن دون ان يتعرّض القشتاليون للعرب المسلمين في المدينة، ولكن سرعان ما أخذ اليهود بداية مغادرة المدينة بعد أن خيّروا ما بين المنفى أو التعميد في كنائس القشتاليين، وقد خشي الكثير كذلك محاكم التفتيش والمحارق التي كانت تؤجّج النيران بتهمة السحر والشعوذة. ثمّ بدأ المسلمون يتبعون أثر اليهود الى المغرب أو الى وجهات أخرى بعيداً عن الخيارات التي أصبح حلوها مرّ.
أصدر فرديناند مرسوماً بإطلاق سراح جميع الأسرى المسيحيين في المدينة، بما في ذلك، سراح السبايا اللواتي كنّ قابعات في منازل أزواجهنّ العرب في غرناطة. وشاءت الظروف أن يعود والد الإسبانية إيزابيل كفاتح للمدينة. كان يعرف أنّ ابنته تعيش مع رجل عربيّ اسمه حامد، وكان يعرف بأنّ اسمها الجديد في كنف زوجها (زهور). أخذ خوان يسأل هنا وهناك عن حامد وكان من اعلام وأغنياء المدينة. ولم يجد صعوبة في معرفة عنوان زوج ابنته إيزابيل. فقد كان الكثير يتملّقون القشتاليين ويقدّمون الغالي والنفيس من اجل إرضاءهم.
كان حامد قد انعزل عن العالم الخارجي بالكامل، اعتزل المدينة وبقي في المنزل حيث زوجته وابنه طارق. وكانت زوجته العربية قد أصيبت بمرضٍ كاد أن يودي بحياتها بعد أن عاشت معاناة الحصار الطويل الذي أودى بحياة الكثير من الفقراء في غرناطة.
حامد الرجل الوديع الذي لم يكن يترك مناسبة أو فرحٍ أو مهرجان أضحى مهموماً لا يستسيغ لقمة ولا يهنأ له بال بعد ان سقطت المدينة وغاب عن قصر الحمراء أميرها أبو عبد الله.
- لماذا فعلتها يا أبا عبد الله؟
لم يعد الندم ينفع فقد غرق الأمير أبو عبد الله في حياة اللهو وأدارت رأسه الخمر وحسناوات القصر من السبايا وغيرهنّ من بنات الأمراء الذين كانوا يتقرّبون للأمير بكلّ ما ملكت يمينهم. وأهمل الجيش وأمور الدولة وأخذت أحوال الرعيّة تسوء حتّى شاء الله أن تسقط المدينة ويذلّ العرب فيها.
أنهى حامد عشاءه ولم يكن يتجاوز بضعة مضغات من الخبز وبعض الزيتون وعصير اللوز.
- لماذا انت مهموم يا حامد .. لقد حرقت قلبي يا زوجي الحبيب. قالت زهور وكانت صادقة في حديثها.
- لا أدري يا زهور .. لقد تغيّرت الأحوال كثيراً ولا أدري ماذا يكون مصيرنا في هذه المدينة بعد أن وقعت بين أيدي القشتاليين. ألا ترين كيف يعربد الجنود في الحانات التي فتحت أبوابها على مصارعها. أنا رجلٌ غيور، وإذا تعدّى رجل منهم عليك يا زهور فسأقتله بيديّ هاتين.
- لا يا حامد. لن يتوانوا لحظة عن قتلك ولن ينالهم عقاب بعد ذلك. وسأكون أنا وآمنة وابنك طارق الخاسرين الوحيدين من هذه المغامرة الرعناء!.
- وهل سنبقى أسرى منازلنا يا زهور؟.
كان يحدّث نفسه بعد أن أصيب في الفترة الأخيرة بالعصاب. أخذ يصرخ وينفث سمومه على آل بيته لأقلّ خطأ يقدمون عليه أو تصرّف لا يرضيه. شعرت نسائه بالتغيّر الكبير الذي طرأ على شخصيته ولم تكن كلتاهما تملكان ما يمكن تقديمه لأبي طارق.
- دعنا نغادر الى أحد المنافي يا حامد. يكفينا ذلاً. أنا لا أقدر على البقاء في هذه البلاد طويلاً. قالت آمنة والدمع يسيل على خدّها.
وفي الواقع لم يكن يمتلك حامد خيارات كثيرة، وكانت فكرة مغادرة البلاد قائمة أيضاً. بيد أنّ رزقه وماله وعمله ومركزه ومنزله والمجهول الذي كان في انتظاره عوامل بقيت تجذبه وتجبره للبقاء في غرناطة.
وفي يومٍ من الأيام، كاد الباب يسقط من شدّة الدقّ والضرب. خاف حامد وشعر بأنّ الزيارة غير المتوقّعة في عتمة الليل لا تحمل له خيراً. فتح الباب على عجل، وتفاجأ بالجنود القشتاليون يهرعون الى المنزل وأسلحتهم مصوّبة اتجاهه. ألقوه أرضاً وبقي أحدهم في حراسته ولم تمضِ لحظات حتّى حضر خوان بصحبة ابنته زهور. كانت متشبّثة به وتعانقه بشوق وكأنّها ترغب أن تعوّض سنوات الفراق الطويلة التي عاشتها بعيداً عن أهلها. ركل خوان حامد وصاح به:
- لماذا لم تطلق سراحها بعد أن أصدر الملك فرديناند مرسومه؟ ركله مرّة أخرى فصاح حامد من شدّة الألم. عندها صاحت زهور في وجه أبيها قائلة:
- لا تضربه يا أبي .. إنّه زوجي وقد أحسن معاملتي. أرجوك لا تضربه. ثمّ حاولت حمايته بجسدها.
- إيزابيل. لقد حان وقت عودتك الى أهلك وقريتك التي ربيت بها.
- لا .. أنا أنتمي الى هذا المنزل.
وقف حامد على قدميه وقال محاولاً الدفاع عن شرفه وعرضه المكلوم. صاح في وجه أبيها:
- إنّها زوجتي وأمّ ابني الوحيد. لا يمكنك الفصل بيننا.
- حفيدي لن يبقَ في هذا المنزل يوماً واحداً. سأصطحب إيزابيل وحفيدي الى المكان الذي ينتمون إليه.
اندلق حامد على الأرض يقبّل يديّ الرجل الحانق وقدميه. كان من المفروض أن يكون حماه وأخذ يتوسّل باكياً:
- أرجوك .. إنّه ابني الوحيد.
- لولا معاملتك الحسنة لابنتي إيزابيل لما توانيت لحظة واحدة عن قتلك.
جرّ القشتاليّ زهور وعادل بمساعدة الحرس الذين كانوا يرافقونه وانطلق بعيداً عن المنزل. وبقي حامد يصرخ دون أن يلتفت إليه أحد. كان يردد اسم زهور وطارق حتّى خيّم الصمت والظلام على المنزل. لم تحتمل آمنة مشهد زوجها وقد حطّمه الألم والحزن القائم. حاولت أن تخفّف عنه قدر الإمكان. لكنّه صاح كالأسد الذبيح:
- ليس لي حياة يا آمنة بعد زهور وطارق.
- لكنّها لم تعد زهور يا حامد بعد اليوم. لقد عادت كما كانت قبل مجيئها الى هذا المنزل .. إيزابيل. ولا يمكنك أنت أو واليك الهارب أن يعيدها الى منزلك. انتهى كلّ شيء يا حامد؟!.
وأخذ حامد يهيم على وجهه في الشوارع. سأل القريب والبعيد عن مصير إيزابيل. وكان أحياناً يتلّقى الصفعات والشتائم والبصقات من الجنود القشتاليّين. لكنّه تحمّل كلّ ذلك وبقي يسأل ويستفسر عن حبيبة قلبه وفلذة قلبه. وبينما هو في طريقه اعترض طريقه بضعة جنود وخطفوه على عجل. بقي الحصان يركض، ولم يهتمّ الفارس الذي رماه كخرقة بالية أمامه فوق الحصان لصراخه وتوسّلاته حتّى وصلا الى أطراف المدينة. رماه الفارس عن أعلى الحصان وعاد أدراجه. كان هناك ثلّة أخرى من الفرسان في انتظاره. قادوه الى داخل منزل كبير وهناك شاهد والدها وقد احمرّت خدّاه من أثر كميّات النبيذ الكبيرة التي تجرّعها قبل ساعات قليلة. نظر الى حامد وأطال النظر إليه.
- أنت تحبّها أليس كذلك؟.
- نعم أحبّها ولا أريد شيئاً غيرها وابننا طارق.
ضحك القشتاليّ وقال
- أنت عنيد أيّها العربيّ. أمثالك من الرجال قلّة .. خسارة أن تكون عربيّاً ومسلماً. اسمع يا بنيّ، لديّ عرض أتمنّى أن تقبله حتى تعود الأمور الى أوضاعها الطبيعية. أنا أيضاً أرغب باكتمال سعادة ابنتي إيزابيل. كما وأرجو أن يكبر أنطونيو في أسرة متكاملة.
- تقصد طارق؟
- بل أنطونيو يا حامد. لقد عمّدناه في الكبيسة قبل بضعة أيام.
- لا .. لا يحقّ لك القيام بهذا؟
- لقد قمت بتعميده وانتهى الأمر. من سيردعني عن هذا يا حامد .. أنت؟
- ما هو عرضك؟
- لقد قرّرنا تعيينك مسؤولاً للشرطة في غرناطة.
- مسؤول شرطة مرّة واحدة .. وما هو الثمن؟
- وستعود إيزابيل إليك .. وسيعود أنطونيو الى منزلك ليكبر ويترعرع في منزل والد ووالدته.
- الثمن .. ما هو الثمن يا والد زوجتي؟
- تعميدك واعتناقك المسيحية على مرأى ومسمع أهل المدينة.
- لا هذا كثير .. هذا كثير؟ لم يتعدّى عربيّ مسلم على مسيحيّ طِوال ثمانية قرون متتالية. لم يُجْبَرْ إسبانيّ الخروج عن ديانته وعقيدته طوال قرون طويلة. اسأل ابنتك زهور أو إيزابيل؟
- لا داعي أن تردّ عليّ الآن .. لديك مهلة شهر يا حامد. إمّا أن توافق على شروطي هذه، وإمّا أن تغادر غرناطة. بعد شهرٍ من الزمن لن تأمن حياتك وحياة زوجتك في هذه المدينة. لقد انتهى عصركم. انتهت حقبة العرب في إسبانيا. وإذا أردت مغادرة غرناطة إحمل معك كلّ ما يحلو لك من مالٍ وذهب ومتاع واذهب بعيداً عنّا. هل هذا واضح؟
- نعم يا سيدي. أكثر من واضح.
مضى حامد كسير الفؤاد والألم يعتصر كلّ أجهزته العضويّة وكلّ خليّة حيّة في جسده.
لم ينم تلك الليلة وأدرك بأنّ رؤية زهور أصبح من سابع المستحيلات. وبعد بضعة سنوات قد يحمل ابنه طارق أو أنطونيو السلاح في جيوش القشتاليين لمواجهة أعمامه.
ترك حامد كلّ شيء وحمل بعض المال الذي كان يملك ومضى نحو الميناة على عجل. ركِبَ مركباً صغيراً مكتظاً بالركاب الفارّين من غرناطة. سأله أحد المسافرين عن وجهته فأجاب والدمع يحرق عينيه:
- بعيداً عن غرناطة. أيّ مكان بعيداً عن غرناطة .. لقد تركت قلبي هنا وركبت البحر أبحث عن سلوى.
أجاب الآخر بصوتٍ خفيض:
- كلّ واحدٍ منّا ترك في غرناطة حكاية، علّنا نكملها وسط البحر أو في المنفى. لماذا نشمّ رائحة المنفى كلّما اقتربنا من بلادنا .. بلاد العرب؟ لماذا؟
- غرناطة كانت آخر أحلامنا الحقيقية. والآن حان وقت أحلام اليقظة.
[/frame]