حسن الحاجبي
|
في ذكرى الإسراء والمعراج
الحمد لله الذي عم العوالم جودا وإحسانا, وجعل لغزير رحمته أوقاتا وأزمانا, فوجب حمده على ما أسدى , وتعين شكره على ما أهدى , إياه نحمد , وله نصلي ونسجد , وبوحدانيته نقر ونشهد , ومنه نستوجب ماهو عائد منا برضاه , ونستمنح ما يحبه تعالى ويرضاه , ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , الكريم المنان, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله عظيم الحجة والبرهان , اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته عدد مايكون وعدد ما كان ... آمين .
أما بعد ,, شمروا فإن الأمر شديد,وتأهبوا فإن الرحيل قريب والسفر بعيد, وخففوا أثقالكم فإن وراءكم عقبة كؤود لا يقطعها إلا المتخففون, سارعوا إلى مغفرة من ربكم , فهذا أوان المسارعة, وراجعوا التوبة من ذنوبكم فهذا زمن المراجعة, واعتبروا فقد حق لكم الإعتبار, وانظروا بعين التفكر والإستبصار, هذا شهر رجب المبارك الأصب ,الذي تصب فيه الرحمات , من رب العالمين على الكائنات, وفيه أسري بالحبيب المصطفى (ص) من مكة إلى بيت المقدس, وعرج به من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى , مصداقا لقول ذي العزة والجلال :" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا, إنه هو السميع البصير " . إنها رحلة الإسراء والمعراج التي نال بها محمد (ص) الحظوة العظمى والمرتبة العليا, رحلة كان جبريل عليه السلام هو الصاحب والمؤنس والدليل فيها, رحلة ظنها المغرضون وحسبها الملحدون فرصة للإيقاع بين الخل وخليله,حين هرعوا بعد سماعهم بها إلى أبي بكر (ض) يخبرونه بما أتاهم به صاحبه من عجب عجاب , مما لا يمكن أن تتصوره عقولهم القاصرة, ولا أن تقتنع به قلوبهم الكافرة, فقالوا : ما قولك فيما زعمه صاحبك محمد من أنه أسري به ليلا وعرج به إلى السماوات العلا , ثم عاد وفراشه مايزال دافئا ؟ وإذا بأبي بكر (ض) يرد ردا يقطع دابر الكائدين ويبطل زيف الحاقدين, ويقول :" إن كان قال فقد صدق " فاستحق بذلك أن يطلق عليه رسول الله (ص) أشرف وأنبل لقب , فسماه الصديق . ونحن نسمي رحلة الإسراء والمعراج مجازا بالمعجزة, والمعجزة سميت كذلك في لغة العرب لأنها تعجز من رآها , ولأنها خارقة من خوارق العادات , تخرج عن السنن الكونية , ولكن الإسراء والمعراج لم يشهده أحد , ولذلك فهو فوق المعجزة, إذ ليس الغرض منه إعجاز الناس, لأن الناس لم تره, وإنما الغرض منه تأسيس وتثبيت العقيدة, وأول أسس العقيدة ترسيخ الإيمان , والتصديق بما يخبر به المولى عز وجل ونبيه الكريم (ص) , لذلك لم يتردد أبو بكر (ض) لحظة واحدة , وقالها حاسمة قاطعة, " إن كان قال فقد صدق " . فطوبى لك يارسول الله وأنت في الحضرة الإلهية, طوبى لك يا حبيب الله وأنت تتقلب في نفحات الله , طوبى لك يا نبي الله وأنت تستوعب مناجاة الله , طوبى لك يا مختار وأنت تتنعم بالأنوار . ... يأتي جبريل عليه السلام بالبراق ليكون مطية لرسول الله (ص) في رحلته , ويهم المصطفى (ص) بالركوب فيفزع البراق ويضطرب, ويقول له جبريل عليه السلام : تأدب يابراق,تأدب فإنه محمد رسول الله, إنه أول من يدخل الجنة وبيده لواء الحمد يوم القيامة , وهو صاحب الشفاعة العظمى بين يدي الله, فيخفض البراق جناحيه ويطأطئ لرسول الله (ص) ويقول لجبريل عليه السلام : يا جبريل , قل لصاحب الوجه الأنور , والجبين الأزهر , والحوض والكوثر , والشفاعة العظمى في يوم المحشر , قل لصاحبك أن يطأ ظهري , فيزداد بذلك فخري , ويكون يوم القيامة ذخري, فيقول النبي الكريم (ص) : يا براق . أنت في شفاعتي , وانت يوم القيامة مطيتي .. ويركب الحبيب المصطفى (ص) ظهر البراق , ويركب وراءه جبريل , وفي رمشة عين يسرى بنبي الهدى إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف , وقد اجتمع فيه الأنبياء والمرسلون واصطفوا منتظرين قدوم محمد (ص) . ويمسك جبريل بيد رسول الله (ص) ويتقدم به أمام جمع الأنبياء والمرسلين فيؤمهم (ص) ويصلي بهم في أطهر بقعة من الأرض خلقها خالق السماوات والأرض, ويستأنف رسول الله (ص) رحلته ومعه جبريل عليه السلام إلى السماوات العلا, فتنكشف له الحجب بين يدي الله تعالى , ويتوقف جبريل عليه السلام عند حد معين ويقول لصاحبه (ص) : تقدم يا محمد, فيقول (ص) : أفي مثل هذا المقام يترك الحبيب حبيبه يا جبريل ؟ فيجيب جبريل عليه السلام , يا محمد, ما من ملك منا إلا وله مقامه المعلوم , فلو أنا تقدمت لاحترقت , ولو أنت تقدمت لاخترقت, ويتقدم الحبيب المصطفى (ص) ويخترق ويجتاز . قال (ص) " إجتزت حتى وصلت إلى مكان أسمع فيه صريف الأقلام " صريف الأقلام بأيدي الملائكة الكرام الحافظين , أرزاق تكتب , وآجال تنتهي, وأرواح تقبض, وأقدار تسطر, وقطر ينزل من السماء بميزان, وأفلاك تدور بإتقان, وأعمار لا تبدأ ولا تنتهي إلا بمشيئة الرحمان... ثم يجتاز الحبيب (ص) ويجتاز حتى يبلغ سدرة المنتهى , وتتم لرسول الله (ص) الرؤيا والمشاهدة والمكاشفة , فيناديه ربه عز وجل ويفرض عليه الصلاة , ووحدها الصلاة تفرض من فوق سبع سماوات لأنها عماد الدين وأم العبادات . ويعود محمد (ص) محفوفا بأسرار ظاهرة وباطنة, فيعترضه موسى عليه السلام ويسأله : كم صلاة فرض الله عليك وعلى أمتك؟ فيقول محمد (ص) خمسين , ويقول موسى عليه السلام : إرجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك . وما يزال رسول الله (ص) يراجع ربه مترجيا أن يخفف عن أمته ورب العزة جل جلاله ينقصها في كل مرة حتى جعلها خمسا , فلما قال موسى عليه السلام إن أمتك لا تطيق , قال محمد (ص) : إني أستحي أن أراجع ربي , وإذا بالمنادي يناديه :" يا محمد , قد أمضيت فريضتي على عبادي , خمس صلوات في العمل وخمسون صلاة في الأجر والثواب.
... ضرب رسول الله (ص) للتاريخ وللأجيال أروع صور الصمود والأناة والرفق والتسامح , فقد آذاه قومه وأذاقوه شديد العذاب, وألحقوا به أكبر الضرر , لكنه (ص) كان كلما أوذي قال :" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " خلافا لأنبياء سابقين . كنوح عليه السلام الذي نفذ صبره وضاق ذرعا من قومه فدعا عليهم :" رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا , إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا" وذي النون عليه السلام الذي عندما فشل في هداية قومه وإقناعهم , تركهم وخرج مغاضبا :" وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " . إلا محمدا (ص) الذي كان يردد : أمتي أمتي , اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " كان (ص) يدعو بالهداية للضالين , لأنه إطلع على مالم يطلع عليه أحد من الأنبياء قبله , ولأنه تكشف على ما في الملإ الأعلى من أبهر المشاهد وأصدق الأنباء : سعداء في الجنة يتنعمون , وتعساء في جهنم يعذبون , وجبريل عليه السلام معه يخبره بحقيقة ما يراه من أحوال تحير العقول وتبهر الأفكار .
الإسراء والمعراج دروسه لا تنتهي , فهو فوق المعجزة وهو يقرر العقائد , وهو يرسم للمسلم طريق الفلاح , وهو يذكرنا ببقعة من الأرض غالية على المسلمين عبر القرون , ألا وهي القدس الشريف, بقعة سلبها الله تعالى منا وضيعناها حين واجهنا ربنا بالمعاصي , هي مكان صلاة أنبيائنا وخاتمهم محمد (ص) , هي محل نظر الله عز وجل , هي التي تعدل الصلاة الواحدة فيها خمسمائة صلاة فيما سواها من البقع , هي الراية واللواء , وقد فقدنا الراية وسقط منا اللواء , هنا على الأمم فتداعت علينا المصائب والمثالب, وضيعنا فرائض الدين فسلمنا القدس للصهاينة الغاصبين , دفنا رؤوسنا في الرمل ومنينا الأنفس وقلنا سنصلي في القدس كما صلى رسول الله ومعه الأنبياء والمرسلون , ونسينا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .فاللهم أعنا على أن نغير ما بأنفسنا , اللهم صل وسلم على سيدنا محمد نور شمس العرفان,ومهبط أسرار القرآن,المنقذ العظيم والمرشد الحكيم, وخير داع إلى صراطك المستقيم, وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ,وارض اللهم عن ذوي المقام العلي , وأصحاب القدر الجلي , أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعلى الباقين من العشرة , المبشرين بالجنة دار السلام, وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما , اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم , وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|