[خالد حجار]

حيفا والحلقة الأولى في مسلسل النكبة

بقلم : خالد حجار/ فلسطين

كان نيسان عابسا قبل ستين عاما، وكأن أيار قد وشى له بما تحضره عصابات القتل، وإذ بالقمح تغير لونه، وغوارب البحر لم تعد كما نعرف، برتقالنا اليافي مذاقه تمرر، النخل في بيسان عاقر، يا إلهي ماذا دهى الأرض التي باركت حولها؟
هناك على ما يسمى بمستوطنة "هدار هاكرمل"، عشرات آلاف الجنود المدججين من عصابات "الهاجاناه و شتيرن" تنتظر الأمر للانقضاض على فريستها، حيفا، حيفا التي كانت منبرا للسلام ورمزا للمحبة والوئام، لا تعرف ماذا دُبر لها بليل، بين "ستوكويل" قائد القطاع الشمالي الإنجليزي وبين "كرستوفر كنزي" الذي كان صهيونيا ويعمل برتبة جنرال في الجيش البريطاني، وقائدا "للهاجناه" في مستوطنة "هدار هاكرمل"، كانا متفقين على أن سقوط حيفا يجب أن يتم قبل الخامس عشر من أيار، تاريخ جلاء الانتداب البريطاني عن فلسطين، وذلك لكي يتسنى للصهاينة إتمام تكتيكاتهم العسكرية دون معارضة من داخل المدينة.
إذن كان مخطط التهجير معداً منذ البداية وينتظر التطبيق. الساعة في اللحظات الأخيرة، 18 نيسان عام 1948 بدأ، وبدأ معه تحرك مجموعة من قطعان الليل البهيم، أكثر من 7000 ألاف مقاتل صهيوني مدججين بأسلحة حديثة ومدربين على شتى وسائل القتال بدؤوا هجومهم على حيفا. كان الضابط الفلسطيني أبو ذياب لا يمتلك أكثر من 400 مقاتل، يحملون بنادق إنجليزية وفرنسية وربما عثمانية، أكل عليها الدهر وشرب، هناك على جسر راشميا بالقرب من مقر المناضلين كان حسن الأسمر اليعبدي، أطفاله يسعلون بشدة ودرجة حرارتهم تصل الأربعين أحياناً، والطبيب هاجر .كان اليعبدي يقف بقنابله اليدوية وبندقيته الفرنسية، وكان الضابط أبو عمر يقف متحصنا فوق بناية تشرف على موقع حسن الأسمر ومن معه، وعلى الأرض وضع المناضلون الحواجز والمتاريس ليمنعوا تقدم الدبابة الصهيونية .
تقدم الصهاينة، خرج حسن اليعبدي للدبابة بعنفوانه المعهود، ورماها بقنابله اليدوية فأوقف تقدمها، تقدمت دبابة ثانية من أبو عمر فرماها هو أيضا. رائحة البارود تنتشر في كل صوب، تغير نسيم حيفا، بالأمس كانت رائحة الطيون وعبق نسيم البحر على جبل الكرمل، أما اليوم فالسماء غضبى، لم يتردد المناضل اليعبدي ولو للحظة واحدة، تقدم نحو الدبابة وحده، وكان جنود الصهاينة يختبئون خلفها، رماهم ، قتل العديد منهم، فر الجبناء، تركوا دبابتهم المعطلة، أخذوا جثث قتلاهم وجرحاهم، ولكن دماءهم بقيت شاهدا على ما فعل هذا البطل. لم يستطع الصهاينة اقتحام حيفا، فلجؤا للمكيدة، إذ تسلل عدد من الجنود الصهاينة نهارا وهم يرتدون الكوفيات الفلسطينية إلى أسفل البناية التي يتحصن عليها أبو عمر، فظنوهم الأهالي مناضلين، حيث اعتاد المناضلون أن يذهبوا إلى أعمالهم في النهار، وفي هذه الليلة تقدمت دبابة انجليزية إلى الحي وأطلقت نيرانها نحو المناضلين، فخرج للدبابة كعادته حسن الأسمر، وإذ بها تطلق قنبلة مضيئة إيذانا للمتسللين الصهاينة ببدء الهجوم، ورافق ذلك هجوم آخر من الشارع العام، هنا سقط الحصن المنيع، لقد نال رصاص الخسة والغدر من بطل عرفته حيفا وجبالها جيدا، بل وعرفه الصهاينة، وسقط أبو عمر مدرجا بدمائه الزكية، تقدم القتلة حتى جسر راشميا وهناك تصدى لهم القائد أبو ذياب ومن تبقى معه من المناضلين، فكبدوا المهاجمين خسائر جسيمة أوقفت تقدمهم، حتى نفذت ذخيرة المناضلين، والجيوش العربية لم تصل بعد، سقطت حيفا بتاريخ: 22 نيسان 1948 سقطت حيفا ومخازن الأسلحة في الحارة الشرقية بالقرب من ساحة الخمرة لم تفتح ، فالأمر من الجيوش العربية لم يأتِ بفتحها بعد، غنم الصهاينة أكثر من 9 شاحنات أسلحة وكأنها قدمت من الأنظمة العربية المتواطئة هدية للهاجناة وشتيرن، وبدأت المجازر الصهيونية، وفر أهل حيفا إلى لبنان وعكا، ويا لروع الحدث، ويا لمشاهد النكبة، امرأة تحمل وسادة ظنا بأنها تحمل مولودها، وأخرى خرجت بملابس نومها فزعى وثالثة تسأل: أين ولدي محمد؟ . هاجر الأستاذ غالب من حيفا إلى عمان وهناك في وسط عمان رأى "كرستوفر كنزي، فصاح في الشارع مشيرا إلى "كرستوفر" : اقبضوا على هذا الصهيوني، هذا الذي قتل حسن الأسمر اليعبدي وهجّر حيفا، وإذا بأحد الأردنيين يقول: اتق الله يا هذا، هذا "كرستوفر كنزي" قاهر اليهود والعضو الرئيسي في لجنة الهدنة الأردنية الإسرائيلية المشتركة، وهو الكل بالكل في الحكومة الأردنية والجيش الأردني
"وما كدت أجيبه حتى اعتقلتني المخابرات الأردنية وزجتني في السجن، وحوكمت على أنني شيوعي، وأنا أصلي كل وقت، أنا أستاذ الدين في المدرسة الإسلامية بحيفا، أأكون شيوعيا ويكون "كرستوفر" محررا لفلسطين، يا لسخافاتكم، وبعد عام خرجت من السجن فذهبت إلى لبنان وأنا أتساءل هل أنا شيوعي؟ إنها الخسة والنذالة المدموجة بالخيانة، سقطت فلسطين ولم يعد لها اسمٌ يذكر في العالم، أصبحنا لاجئين، الضفة الغربية للأردن، وغزة لمصر، وباقي فلسطين للصهاينة، إذن شطب اسم فلسطين عن الخريطة الدولية. وبقي الحال إلى أن نهض حسن الأسمر بكوفيته السمراء من أجداثه، نعم نهض فينيق فلسطين، نهض حسن الأسمر ثانية، فجرها ثانية، قلب الطاولة على رؤوسهم، فخسئت مؤامراتهم، أعاد اسم فلسطين ثانية خاض الصراع وكانت حيفا تبارك خطى هذا المارد العنيد، وسقطت الكوكبة تلو الكوكبة، والكل متمسك بحق العودة، يا إلهي الم تسقط حيفا قبل ما يقرب من ستين عاما، وإذا بصوت أبناء حيفا يزمجر في مخيم جنين ويقول: ما سقطت حيفا ولكن المعركة تتطلب أن نتراجع قليلا، فالمعارك كر وفر، وصمد المخيم حتى نفذت ذخيرته تماما كما صمدت حيفا والمعارك مستمرة، ولن يخلق القائد الذي سيتنازل عن القدس، والثورة جيل بعد جيل .
ويا تشرين قل لزيتونة الكرمل وبرتقال يافا وعصافير الجليل:

أيار من أدمى عيون الناصرة والخنجر المسموم دق الخاصرة
اللدُّ مـزقها الغزاة وأعملوا طعنا وغدرا واستباحوا الذاكرة
أيار في بيسان أم في الخاصرة

لا عليك يا تشرين فنحن باقون ما بقي التين والزيتون و الزيزفون، وحتما عائدون، عائدون ، عائدون
عاشت الذكرى الستون للنكبة
وكل عام وانتم عائدون

التوقيع
ابن النكبة/ الجيل الثالث
خالد حجار

[نصيرة تختوخ]

وحتما عائدون..
ماأشد قتامة و مرارة قصص النكبة وماأقسى الاحتلال لكن يبقى الأمل كل الأمل في وعود آخر النص بالعودة الحتمية.
تحيتي لك أخ خالد