![]() |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
لحظة غضب .. للقاص الأديب :علاء الدين حسو
[align=justify] اجتاح غضبه المنزل كله. صرخ، صفع، كسر، مزق، حطم...صرخ في وجه زوجته، صفع طفله الوحيد، كسر إبريق الماء الخاص به ، مزق الشهادات التي زينت جدران بيته ، كسر الصحون والكؤوس المرمية في مغسلة المطبخ، وحتى الأثاث لم يسلم. حطم مقعده المفضل ... [/align]جلس على أنقاض الكرسي المحطم, متأملا آثار التدمير.. أشعل سيجارة ،نظر في وجه زوجه،و طفله المذهولين، المصعوقين، الخائفين، كأنهما على ظهر سفينة، وسط بحر الرعب، تواجه إعصارا ينذر بالفناء.. وكمن فاق من سكرة، سأل نفسه ماذا الذي فعله ؟ أيُّ صباح صبّح أهله..؟ رمى السيجارة وقد حرقها بشربة واحدة. نهض بهدوء ، دنا من طفله الذي التصق بأمه كالتصاق الحلزون بالأرض، ودفن رأسه خلفها، فامسك به ورفعه إلى الأعلى وقد همّ بتقبيله فأحس برطوبة فاترة تلسع رسغه، أدرك بأن طفله بال في بنطاله ، لحظتئذ ..يمكننا القول إن الغارة انتهت.. و كطفل فقد لعبته بكى .. حتى إن بكاءه طغى على بكاء طفله المذعور..ترك الطفل وارتدى طقمه البني المخصص للعطلة والأعياد ..صفق الباب وخرج... *** إلى أين يذهب؟ سأل نفسه ، نظر إلى ساعته ماركة "سايكو 5" أرسلها له عماد المستقر في السعودية منذ عام 1983 بعد عام من سفره إلى جدة. انقطعت أخباره من وقتها ..كان يتذكره كلما نظر إلى الساعة ويتذكر أيام المعهد معه ..ويضحك أحيانا متذكرا مغامراتهما، تخرجا عام 73 ، وبعد عشرة أعوام سافر عماد ،وبقي هو في وظيفته كمحاسب ، ثم أمين صندوق لشركة الغزل والنسيج الحكومية.. الساعة الثامنة صباحا . إلى أين يتجه ؟ البارحة كان يتمنى النوم حتى الظهر واليوم ينهض قبل موعد استيقاظه بساعة وبدل أن يحدث زوجه، ويداعب طفله حوّل صباحهما إلى جهنّم حرقتهم وحرقته..ودون شعور كانت خطواته تقوده إلى مقهى (الخيزران) احد المقاهي الشهيرة حول قلعة حلب، تحضن السياح في الصباح وتلهي أهل المدنية في المساء حتى الصباح . احس بمتعة وهو يسير نحو المقهى عبر (ساحة الملح) الشارع المؤدي للقلعة من (دوار باب الحديد) القريب من حارة النحاسين حيث يسكن ..تلك الحارة التي اشتهرت بمهن انقرضت، أو تقاعدت، أو تحولت لمهنة أخرى، مثل مبيض الأواني النحاسية، والسرّاج، ومشحّذ السكاكين، وصانع براميل الغسيل من الصاج المز يبق .. خمسة عشرة دقيقة تكفي الوصول إلى المقهى، حفظها كل شهر، وقد اعتاد صيفا ارتياد المقهى مع بعض الأصدقاء..وهو المكان الوحيد الذي يعرفه بعد بيته، ووظيفته، وشقة صديقه فريد السرية في غرب المدينة، والتي تركها بعد زواجه. يشربون النارجيلة ويحتسون القهوة . متأملين النساء العابرات للمقهى ، ويستمتع بمبارزة خصمه التقليدي في طاولة الزهر عبد الوهاب صاحب مخزن للخردة في جادة( الخندق) أشهر شارع في حلب لبيع الخردوات والمتصل باب الحديد.. و ينزعج عندما يُظهر النرد أرقاما صغيرة لحظة حاجته للأرقام الكبيرة فيعلّق عبد الوهاب "هذه فلسفة الحياة ".. *** كدفتر تُمزّق صفحاته وترميه كان حاله ، وأحس بان أثقاله تخف في كل خطوة كأنه عاد الشاب ابن العشرين ، يركض حول (أميرة)، الطالبة التي أحبها ولم يعرف اسمها، فأطلق عليها اسم أميرة. كان يرى ظهرها، وهي تسرع نحو المدرسة الشرعية القريبة من القلعة . لم ير وجهها سوى مرة واحدة .رفعت الحجاب ورمقته بعد سنتين من المتابعة .لم يرها بعد ذلك، ولم يستطع البوح حتى لعماد أعز أصدقائه بأن وجهها كان يشبه وجه نجاة الصغيرة المطربة المشهورة.ولعل هذا سر عشقه لاغاني نجاة القديمة . توقف عن سماعها بعد زواجه المتأخر.. خاليا كان المقهى ، لم يرتده السياح بعد. مع أن أيلول من أجمل الشهور في حلب . حيث تخف حرارة الطقس ولم تبدأ قساوة الشتاء..جلس على أقرب طاولة، متأملا القلعة التي لم يزرها ولا مرة ، والتي أصبحت بعيدة عنه كبعد شاشة السينما عن أول مقعد في الصالة ، يفصله الشارع الملبس حديثا بالحجارة السوداء عن رصيف القلعة، وحين تلتفت نحو اليمين سترى مدخل القلعة بوضوح، وتراقب الزوار كمسقط جانبي.. تلك رؤية يحبذها فريد صديقه الآخر المغترب في المانيا، وحين يسأله فريد "الم تزر القلعة بعد؟" ..كان يجيب إجابته المشهورة "القلعة كأميرة أفضّل رؤيتها من الخارج فقط ".. ويضحك فريد الذي اعتاد كل عامين زيارة أهله" لن تدرك أهميتها إلا بعد أن تتغرب..ولكن معك حق إنها أميرة".. كانت كل شلته القديمة تعرف قصة حبه لأميرة ..ومع انه تحول إلى زير نساء بعد التوظف إلا أن أميرة كانت رمزا كبيرا له. أدرك متأخرا، بأن كل النساء اللواتي عرفهن وعاشرهن قبل زوجه، تشبهن أميرة في ناحية واحدة على الأقل. فسهام كانت تمشي مثل أميرة، وغالية كتفها ككتف أميرة..أما عزيزة التي دوخته كان أنفها مثل انف نجاة الصغيرة.وكادت امتثال تجننه لعشقها لاغاني نجاة ..إلا انه لم يقل لأحد بان أميرة تشبه نجاة...ولا احد من أصدقائه يعرف أن عيني زوجته تشبهان عيني نجاة ... توقف قلبه عند حلقه, قبل أن يرشف من فنجان القهوة الذي قدمه النادل..تسألني لم ؟ لأنه لمح امرأة ترجّلت من سيارة مرسيدس (شبح)، وبمساعدة شاب توجهت نحو القلعة ..نعم إنها أميرة..مستحيل ألا تكون أميرة ..انه يحفظ قوامها. وهل يعرف غير قوامها وخاصة ظهرها ورقبتها والاهم مشيتها..نهض من الكرسي يراقب لوحة المرسيدس فتأكد بأنها لوحة دولة عربية . ..ومرت السيارة بسرعة فلم يميز الدولة .. وجلس ثانية ..يراقب المرأة المستندة على ظهر الشاب وسارت نحو مدخل القلعة بعد أن توقفت مستقبلة القلعة كمحراب . حين سارت نحو مدخل القلعة بدا عليها التعب ، فاختلط عليه الأمر واستبعد أن تكون أميرة ... *** لماذا غضب؟ سأل نفسه وقد رحل الغضب عنه ، هو مشهور بروحه المرحة، والتي جذبت النساء رغم قصر طوله وصلعته، ودائرية وجه .لسانه (الصنارة)، وضحكته (الطعم) لالتقاط النساء ،وبيت فريد (السفينة) التي يبحر فيها ليكتشف عالمهن، وذلك قبل أن يتقاعد عن النساء بعد زواجه..تقاعد ..نعم تذكر انه اليوم الاول من تقاعده ..لعل هذا سبب غضبه ..صحيح انه أعلن انه ارتاح من الروتين ولكنه اكتشف انه انتهى .. لا دور له..كان كأمين صندوق ..كأب يوزع المصروف لأولاده وكان يدهشه تمسّح الموظفين به، ولعل هذه الميزة ساعدته كثيرا مع النساء. وان كان ينكر ذلك.. كان أمينا ولكنه مسايرا يقدم القروض القصيرة وأحيانا الطويلة واستطاع إدارة الصندوق ربع قرن من الزمن وجاء اليوم أخيرا.يوم التقاعد.. رشف من فنجانه الذي برد، وأشعل سيجارة مراقبا المرأة المستندة على الشاب والتي توقفت عند المدخل، راقب الشاب يصعد درجات المدخل، يبدو انه سيسأل عن ساعة الدخول، وهز رأسه محدثا نفسه " الوقفة وقفة أميرة إلا إن مشيتها..!؟ هل تعاني من الديسك ؟ ثم إنها أكثر بدانة؟ ..أربعون عاما زمن طويل".. تعجب لغضبه، وسأل نفسه هل السبب تقاعده أم الحقيقة التي كشفها مديره.. كان على علم بأنه يمضي أيامه الأخيرة في الوظيفة ..ولكن الحوار الأخير مع مديره الجديد الشاب أشعره بالتعب والغضب وطفق يتذكر نهاية الحوار: -كم يبلغ عمر المحروس؟ -سبعة. -الله يعينك ،مازال صغيرا ..يبدو انك تأخرت في الزواج! توقف عقله لما رأى المرأة ترجع مع الشاب، يبدو أن القلعة لم تفتح بعد، اخرج نظارته، مسح العدستين وارتدى النظارة محدقا بالمرأة، التي كانت تقترب منه على رصيف القلعة. لن يستطيع الجزم بأنها أميرة، فهو لم يرها ولا مرة وجها لوجه..وهجمت عليه عدة أسئلة ..كصور الفيديو كليب ..هل ستقطع الشارع ؟ هل ستدخل المقهى ؟ أيمكن أن تراه ، هل ستجلس بجانبه ، ستكشف عن وجهها وهي تحتسى الشاي .. إلا إن المفاجأة حصلت عند عودة سيارة المرسيدس وتوقفها ومن ثم اختفاء المرأة والشاب ... باردة جدا كانت أخر قطرة من الفنجان ذكّرته بما فعله صباح اليوم وقبل أن يطلب فنجانا أخر وجد صديقه عبد الوهاب أمامه وقد بدا عليه القلق: -توقعت أن أجدك هنا -من أخبرك؟ -أنسيت؟ أنا خال زوجك..هيا -إلى أين ؟ -الا تعرف باني بحاجة لمحاسب ممتاز ؟ نهض صاحبنا وتوجه نحو سيارة عبد الوهاب ركب بجانبه وقال: -أظن باني رأيت أميرة؟ تجاهل عبد الوهاب كلام صديقه وسأله: -ماذا فعلت اليوم؟ ابتسم صاحبنا وهمس: - لحظة غضب.. |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
الموت والجنس .. للقاص الأديب : خيري حمدان
أسرعت في طريق العودة، وكنت أدرك جداً بأنّني قد ارتكبت خطاً فادحاً عندما غادرت المنزل. هكذا أخسر لحظاتٍ لا تعوَّ ض يا نجوى. ابتدأ شهر العسل قبل أيامٍ فقط، فلماذا تركت عشّ الزوجية وغربت عن المنزل. هل كان من الضروري الابتعاد عن المنزل؟. أسئلة أطرحها الآن في وقتٍ غير مناسب والحشود أصبحت امامي بأعدادٍ كبيرة .. تمضي الأحداث بشكلٍ لا يمكننا السيطرة عليها، وتبدو وكأنّها تسيطر علينا بطريقتها الخاصّة. أتوق لمعانقتك يا نجوى، ليلة البارحة قضيتها بين أحضانك، كنت أمتصّ رحيقك مع كلّ لحظة من الليل. وبكينا من فرحة اللقاء وكنّا نتساءل: هل يعقل أن تتحقّق بعض أمنياتنا في هذا الزمن الصعب؟ زمن الرصاص المسافر من قلبٍ الى صدغٍ ودماغ، زمن البحث عن هويّة في عقر الدار، زمن الاعتذار للجلاّد ومسح دموعه السخيّة!؟. أشتاق يا نجوى ثانية لتقبيل شفتيك والبقاء معك في سرير الزوجية حتى آخر النهار، دفعت ثمن هذه الأمنية نصف حياتي من الركض والتعب والتودّد لوالدك العنيد، قبّلت يديه آلاف المرّات وكان يشمخ بأنفه الى الحاجز البعيد حيث أمكث الآن. كنت أحتار حقّاً من نظرته تلك، ولعلّي أدرك الآن بعض ما كان يدور في باله وهو ينظر عبر عينيّ الى شتات الوطن. وكأنّه يريد أن يستشف مستقبل الرجل الكامن بين جوانحي! أنا لست مشروع شهيد كما كان يطيب للكثير التشدّق بهذه العبارات! أدرك بأنّ الحياة مقدّسة كما الموت. لم يحن الوقت الذي أفكّر به بمغادرة هذه الدنيا، وكنت أدرك بأنّ الأعمار بيدِ الله ولا حاجة لاستباق الأحداث. كان الموت بعيداً عن مشاريعي، وكنت أعيش حالة من العشق لا تنتهي. الدنيا نجوى والحاجز ما يزال قائماً كالأفعى تبثّ سمومها في كلّ اتجاهٍ يا سيدّة الدنيا. محرّك السيّارة أضحى بارداً. وكان قد مضى على الفخّ اللعين الذي وقعنا به ما يزيد عن الستّ ساعات. أخرجت مفكّرتي وأخذت أكتب بعض الكلمات المتطايرة، أفكارٌ رماديّة تلغي قدرة النهار على محاكاة القصائد ويطول الحديث الى ما بعد الصفحة الأخيرة من ألف ليلة وليلة. أغلقت المفكّرة ورأيته على وشك أن يفقد رشده. كان وجهه أصفر وعيناه شاخصة. خرجت من عربتي وسألت قائد السيّارة عن حالته، حرّك يديه مستغرباً. عندها صرخت بأعلى صوتي بأنّه يموت. فتحت باب السيّارة الخلفي وحرّكت الرجل بكلتا يدي، نظر إليّ وشبح ابتسامة ارتسمت على شفتيه : - على مهلك يا ابني، عظامي لا تحتمل جموحك ! - كيف لي أن أساعدك يا عمّ؟ أجبت والألم يعتصر خلايا جسدي المتفجّرة. - سكّري وضغط وغضب وقهر. عندها أخرجته برفقٍ من تلك السيّارة ووضعته على مهلٍ في المقعد الأمامي لسيارتي . - هذا أفضل. قال مازحاً. - ماذا تقصد يا عمّ .. المقعد الأمامي أمّ.. قاطعني الرجل ووضع يده على كتفي وهمس. - أنا أبو علي يا صغيري، دعك من يا عمّ هذي؟ - هل تريد بعض الحلوى .. قد يساعد في حالة هبوط السكّر في الدمّ؟ تناول الحلوى من يدي وقال: - أنت من سكان هذه القرية. - وكيف أدركت هذا يا أبو علي؟ - لأنّ الشوق ينهش قلبك .. المنزل على بضع خطوات ولا يمكنك الوصول الى غايتك بسهولة . ما اسمك أو ما اسمها؟ - هذان سؤالان يا أبو علي . وضحكت. - أنت تضحك يا صغيري؟ - في مجتمعنا يلحقون اسم المرأة بالرجل يا أبو علي .. لكنّني اليوم أشعر بأنّني زوج نجوى. - أنت شاعري يا فتى .. لا بدّ أنّها جميلة؟. - ليس الجمال هو وحده وازعي يا أبو علي ! لقد شاهدت فتيات يذبلن في ربيع العمر دون أن يحققن أمراً في غاية البساطة. إنّه الاحتلال الداخلي والخارجي. قد يكون الجهل أكثر مرارة من الموت وحيداً على حاجز عسكريّ. أنا محظوظ للغاية .. كلّ نساء الدنيا نجوى. عندها فتح أبو علي عينيه وكأنّه أصبح رجلاً آخر غير الذي كان يحتضر قبل ساعات وقال وقد بان الارتياح على قسمات وجهه. - كنت قد فقدت خاتم زواجي في إحدى الترع ليس بعيداً عن القرية يا ابني. قالت فاطمة: لماذا يا أبو علي؟ ألا يكفيك حضوري ومحبّتي يا زوجي العزيز؟ أجبتها بأننّي أضعت الخاتم، هذا كلّ ما في الأمر. ومضى الزمن وتسارعت السنوات تعاتب إحداها الأخرى، وشحبت الابتسامة على وجهها. لقد تسلّل الشك الى روحها. لم أكن أرغب بالزواج من امرأة أخرى يا ابني. ولكن الخاتم إيّاه كان يعني لها الكثير. لقد اخترناه على عجل بعد أن أعلن الاحتلال حظر التجوّل. هربنا من جميع مظاهر الحياة في ذلك النهار الدامي. لكنّ خواتم الزواج كانت بالقرب الى أفئدتنا، ووصلنا الى خطّ الأمان وعُدْنا الى نهارنا وتزوّجت فاطمة رغماً عن إرادة الخليقة. سافرت الى الخليج للعمل سنواتٍ طويلة وكنت كلّ عامٍ أعود وأجدها آخذة بالغروب. أصيبت بالسكرّي وتقرّحت أطرافها، لا أدري لماذا غادرتها الرغبة بممارسة الحياة بكلّ ما فيها من جنون وحبور ومغامرات. لم يتمكّن الأحفاد من إضفاء الكثير من الفرح على أيامها. كانت غريبة الأطوار وكنت أحبّها، وذات يوم حدثت المعجزة يا عزيزي، عُرِضَتْ الأرَْض حيث الترعة للييع، وكنت أملك المال الضروري لذلك. - اشتريت الأرض يا أبا علي؟!. - اشتريتها وبدأت أبحث بكلّ ما أوتيت من قوّة ورغبة في إزالة غمامة ظهرت ذات يومٍ في خريف العمر. كنت املك رغبة جامحة للقضاء على الشكّ الذي وُلِدَ دون دعوة في حياة فاطمة. - وماذا حدث يا أبا عليّ ؟.. لقد شوّقتني .. تحدّث يارجل. - كنت أعمل في ذلك الحقل طِوالَ النهار، وأخيراً وجدت الخاتم يا ابني .. وجدته وكاد يُغْمى عليّ من شدّة الفرحة وانطلقت أركض الى فاطمة. خيّم صمتٌ ثقيل، كنت أسمع دقّات قلبي وقلب العجوز المخلص النبيل وكان قد انقضى وقتٌ طويل ونحن نتحدّث، اختفت الأصوات والضجيج الخارجي وعمّ صوت الحياة الخافت المجرّد داخل العربة. - كانت على فِراش الموت يا ابني. نظرت إليّ مطوّلاً وعندها، أخرجت الخاتم وكنت قد لمّعته وهمست في أذنها قائلاً: لقد وجدته يا فاطمة، بحثت عنه في كلّ مكان .. وجدته هناك حيث سقط منّي قبل عشرين عاماً وازداد الخاتم يا فاطمة لمعاناً وجمالاً .. لأنّه رمز الحبّ الذي هزّ كياننا ذات يومٍ وما يزال. عندها يا ابني شعرت بأنّ الشباب عاد الى كلّ خليّة في جسدها وللحظة، كانت ترقص فاطمة بين الغيوم ترتدي ثوباً أبيض.. أبيض، وترقص وتدور حول نفسها. لم يعد للشك مكانٌا في روحها، وانتظر الموت حتّى أنْهَتْ فاطمة رقصتها الأخيرة بين الغيوم ثمّ أسلمت الروح. كان وجه أبو علي متألقاً وسالت دمعتان توقّفتا عند حدود ابتسامته. وكان الجندي يضرب على شبّاك سيّارتي صارخاً ( فلسطيني بليد، هل تريد أن تنام عند الحاجز؟ ألا ترى بأنّ الجميع قد رحلوا .. أغربوا عن وجهي .. يا لكم من شعبٍ غريب!). [/align] [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
العتمـــــــــة .. للقاص الأديب : حسن حميــــــــد
[align=justify]أعترف بأنها عذّبتني كثيراً، وأنها تركتني لأحزاني البعيدة.. ومضت!! كانت قد جاءت إليّ في ظهيرة يوم أحد لأعطيها بعض الكتب، وتمشي، غير أنها جلست وأطالت جلوسها. كانت صامتة تنظرُ إليّ بتأمل واضح، وتستمع إلى حديثي بانشداه عجيب. تهزُّرأسها، فيتراجف قلبي، وذؤاباتها تحوّم فوق جبينها كأنها رفُّ عصافير، وتبتسم لأرىحدود شفتيها الرقيقتين، وبياض أسنانها المتشابكة، ما أجملها!!. كنت أسمع بها، ولا أعرفها، لكن خيط لهفتي لها امتدّ منذ ذلك المساء العتيق، حين التقيتها في معرض للرسم. رمقتها، وهي تقف قبالتي مباشرة، ونظرت إليَّ، لكأنما كناعلى استعداد مشترك لتلبية نداء روح واحدة مقسومة نصفين. كانت نظرتها عميقة وبعيدة مثل غابة لا تخوم لها، ولأنني عجول في كلّ شيء، واريتُ نظري عنها بعدما أشعرتها بأنها بعثرتني، واقتربت. كان لابدّ لها من الاقتراب، فقد تلاقى بصرنا وهي تدلف من الباب واقفة على خطوتها الأولى. كنت مفتتح رؤيتها في ذلك المساء الذي غصّ بالكثيرين. حاولتُ، وقبل أن آتي إلى المعرض أن أمنع نفسي عن الحضور، لأنني لاأحبُّ معارض الرسم في ساعات افتتاحها؛ تلك الساعات التي تكون مرهقة ومربكة وبعيدةعن الفن؛ لكن صديقي الوهيبي، صاحب المعرض، ألحَّ عليَّ، قال: أودّ أن أراك قربي، فأنا أحسُّ بأن الثياب الجديدة والأمكنة الجميلة لا تخفي ارتباك السنين الماضية . تعال أرجوك!! فوافقته، وجئت. أحسست بأن تلامع عينيه، وهو يراني داخلاً، أمرٌ يخصني وحدي. كان يريدني أن أراه وقد أحاطت به الوجوه الجميلة، والزهور، والروائح الرائعة،ودنيا الألوان. وما أن سلمتُ عليه حتى بادرني قائلاً: * "أترى.. من كان يتوقع بأننا سنصيرشيئاً مهمّاً"!! كنت أعرفه بالتفصيل، وكان يعرفني تماماً. كنا طفلين في العاشرة نجوب شوارع دمشق في حالة من التشرد الجديرة بالبكاء الضاج. كنا نبحث عن قطع النحاس والألمنيوم وبقايا العظام وشظايا الزجاج.. من أجل بيعها بفرنكات قليلة. أذكربأننا تعاركنا ذات صباح على عدة عبوات صغيرة من الألوان. كانت يدي أول من أمسكها.حسبتها عبوات (بويا) من النوع القصير، وقد عملت من قبل ماسحاً للأحذية، وعرفها هو،قال: * "إنها ألوان للرسم. اتركها لي"! كانت أصابعي متشبثة بها جيداً، لكن قولته الراجية المدفوعة بنظرته المنكسرة، جعلتني أعطيها له عن طيب خاطر. كنتُ أعرف أنه يرسم جيداً، فقد كان يرسم لي ولغالبية طلاب صفنا. وكان الأستاذ حمودة يمتدحه كثيراً. يقول عنه إنه شاطر، إذا لم تأخذه الفدائية سيصير رساماً كبيراً ..وهكذا كان فعلاً. [ ياالله، مات الأستاذ حمودة، ولم ير الوهيبي في مثل هذا المشهد الباذخ!]. المهم، بعد تلك النظرة الطويلة، اقتربت سوزان! يا إلهي، طولها زينة،مثل حورة كلُّ شيء فيها مضموم إلى الأعلى. اقتربت، فتابعتها بنظراتي السائلة. جعلت من بصري سياجاً يحفُّ بها لتتقدم نحوي بالضبط. اقتربتْ، وواقفتني مواجهة. كنت أعرفها من مقالاتها في الجريدة. كانت مجنونة بالحقائق، والعمل الميداني، وكانت تعرفني من صوري المنشورة هنا وهناك، ومن الأحاديث التي تثار عن كتاباتي. وقبالتي،على خطوتها الأخيرة وقفت. مدّت يدها نحوي، فأخذت كفها في كفي، وهززتها بلطف شديد،ورمشت هي بأهذابها، لكأنها أمطرت في قلبي. ونسيتْ كفها في كفي، كفها الناعمة كمفرش العشب. وهمهمتْ، وهمهمتُ. ولم أفهم من كلامها سوى قولها :سأزورك قريباً. فرحّبتُ بها. لابدّ أن وجهي الفضّاح كشفني، فأدركت اندفاعي نحوها!! وأفلتتْ كفها، ومضت نحوالوهيبي مهنئة، وحين تركته لتتنقل أمام اللوحات، بدت لي هادئة حالمة مثل طيورالحمام! وعدت إلى البيت فرحاً. كنت ممتلئاً بها، فقد رافقني طيفها طوال ذلك المساء. ظلَّ معي أياماً عديدة. صرتُ أراه قبالتي، وإلى جواري، وفي مرآتي. كان معي في كل شيء. أحسست بأنها أغلقت عليَّ نهاراتي، بل إنها، راحت تعذبني في الليل أيضاً، فهاتفتها مرات عديدة، ولم أجدها. أخبرت زملاءها في الجريدة ورجوتهم أن تتصل بي لأمر هام جداً، دون نتيجة. حاولت أن أنساها، وأن أقنع نفسي بأن ما حدث لم يكن سوى لحظات عابرة، وأن حديثها كان للمجاملة وحسب. لكنني ما استطعت. كانت معي، داخل روحي؛ امرأة تأتي بعد ألف عام من الغياب، فتوقظني على وحدتي المرعبة، والسنوات التي تكرُّ بلا حساب،ومضيت إليها. سألت عنها في الجريدة، فقالوا لي: هي تكتب للجريدة، وليست موظفة فيها،ترسل مقالاتها وتحقيقاتها بالبريد فتنشر، وهم لا يعرفونها أصلاً، وحرت في أمري.وندمت، لأنني لم آخذ رقم هاتفها، أو عنوان سكنها، وما كان لي سوى أن أنتظرها، لعلها تأتي!! وجاءتني فعلاً في ظهيرة يوم أحد لتأخذ بعض كتبي، قالت لي إنها مقصرة في قراءة كتبي بعدما تكاثر الحديث عني مدحاً وقدحاً. تمنيت، وهي لا تزال واقفةأمامي، لو كان بمقدوري أن آخذها إلى صدري في مرجحة لا تنتهي. أتت غفلة، دون أن تخبرني، بعدما يئست من حضورها، وقد حسبتها خيالاً ليس إلا!! [لوأخبرتني، لتقيفت لها بأحسن ما لديَّ من ثياب، ولنقعت كفي في الماء الساخن، ودلكتهمابالكريم بحثاً عن طراوة مضاعفة، ولرفعت زغب خديَّ، وشربت برميلاً من القهوة لأبني لها صحواً خاصاً بها. لا أدري لماذا علقت حياتي عليها، وأنا النفور الملول]! حين جلستْ، حاولتُ أن ألغي كل شيء، رنين الهاتف، ومقابلة المراجعين، وتسجيل المواعيد.لكنها رفضت. قالت لي: * "أريد أن أراك وأنت تعمل..أرجوك" !! فعلاً، كانت محقة، فالهواتف المتقطعة، ودخول المراجعين وتسجيل الملاحظات، كل هذا منح اللقاء لطفاً وحلاوة. كنت فرحاً بها، أتأملها، وكانت تكتشفني على مهل بكل حواسها وصارحتني بأن هذا اللقاء تأخر خمس سنوات فقط، فقد عزمت أن تتعرف إليَّ منذ قرأت مقالة مكتوبة عني، كان صاحبها يشتمني. آنذاك انزعجت جداً لأنهاأحستْ بأنني مظلوم؛ وفتحت حقيبتها، وأخرجت جريدة قديمة، ونثرتها أمامي، فرأيتُ المقالة تلك، وتعليقاتها المكتوبة بالحبر الأخضر؛ كانت تدافع عني بكلماتها الصريحةالحادة دون أن تعرفني؛ فأحسست بأنها تضع اللمسة الأخيرة على امتلاكي؛ ودونما وعي مني، وصفحة الجريدة بين يديَّ ويديها، ونظري ونظرها متوحدان فوق السطور والحروف..أخذت كفيّ بين كفيها وضمّتهما إلى صدرها، وضغطت عليهما، فتلامعت عيناها حتى لكأنهما تدمعان، وسرت في وجنتيها حمرة شفيفة كحمرة الرمان. وشعرت بها تدنو مني أكثر، لربما زاغ بصري، فأنفاسها الحارقة تتلاهث قرب أنفي تماماً. وهمهمتْ وهي تنهض: * "نلتقي في المساء"!! ومشت، وهي تترك وراءها نثاراً من الضوء المُذاب، دون أن تلتفت أو تستدير! وعدتُ إلى عملي مدهوشاً، فقد أوقدتني المخلوقة، ومضت!! [والتقيتها مساءً. كانت مثل طائر يهفو إلى عشه، وكنت كالطائش الحيران. حسبتها ستأخذني إلى مكان ما، أو أن تترك لي الخيار، لكنها لم تقترح شيئاً،فقط، حاذتني مخاصرة، وراحت تقصُّ عليَّ أخبارها المحزنة، فواسيتها. عرفت بأنهاوحيدة مثلي تماماً، وأن الأحلام بعدت، والرغائب ولت، ولم يبق لها سوى نافذة صغيرةعلى قدها، ترى الدنيا الكبيرة منها، وتغصّ. مشينا في شوارع عديدة، واسعة وضيقة، والحديث يلفّنا، كنا كلما تعبنا، مررنا بحديقة،واسترحنا فيها. كان القمر كبيراً وقريباً جداً، جعل السماء صحناً واسعاً من الفضةالمشتهاة. وامتد الليل، ونحن نمضي من شارع إلى شارع، ومن مكان إلى آخر. وأشرقت الشمس دون أن نعبأ بها، ثم غابت. وعاد القمر فآنسنا قليلاً ثم غاب. كانت تحكي لي وأحكي لها، دون أن نرى أحداً من الناس في الشوارع، والحدائق، والأمكنة الأخرى، شعرت بأنني غني بها عن كل شيء. لا أريد أحداً غيرها، ولا أشتهي شيئاً بوجودها ، لكأنني عشت هذا العمر الطويل منتظراً قدومها. وصارحتني بأنها ومذ رأتني تتعذب، لكأنها كانت تبني عشاً لي في صدرها. وما أن انتهى حتى التقينا. وأن غيابها الطويل لم يكن سوى امتحان لها. أشعرتني بأنني أعرفها منذ أمد بعيد، لذلك اقترحتُ عليها أن نمضي إلى البيت، بيتي أو بيتها، لا فرق، فرفضت بشدة، ومشينا مرة أخرى. مررنا بطيور، وأزهار،وحيوانات، ومحطات لقطارات مهجورة. وحين هدّنا الجولان، جلسنا على الرصيف البارد.وما أن شرعنا بالحديث، حتى أحسسنا بأن الرصيف راح يتحرك تحتنا، وقبل أن نفعل شيئاً،سَحَبنا الرصيفُ كبساط متحرك شديد الانزلاق نحو منخفض فسيح. فتشبث أحدنا بالآخروانشدَّ إليه، لكن السرعة الشديدة طوّحتنا. فمضت سوزان في اتجاه، وأنا في اتجاه آخر؛ كان المنخفض كهفاً واسعاً، بارداً ومعتماً جداً. ناديتها بملء الصوت، فمااستجابت إليَّ. ناديت مرات ومرات ودون جدوى. وطفقت أبحث عنها في كل الأرجاء،فصادفتني دروب، وأشواك، ومنحدرات، وجرذان، ولم أجدها. لابدّ أنها كانت تناديني أيضاً فلا أسمعها، وتبحث عني فلا تجدني، وظللتُ ألوَب وأبحث عنها، ولم أعثرعليها!! فجأة رأيت، وسط العتمة المديدة، فانوساً يدنو مني. وقبل أن يقترب أكثر، جفَّ حلقي، ولفتني الحيرة، وضجَّ قلبي، وثبتت عيناي، كان وقع خطا حامله يتعالى في صخب وضجيج كالخيل في ساعة الغضب. واقترب أكثر. صار بمحاذاتي تماماً. فرأيته معلقاً بيد رجل ضخم، بطنه كبيرة، على رأسه قبعة من القش ، وعلى صدره ألوان زاهية، حذاؤه ثخين ومدبب، وحزامه الجلدي رفيع جداً ينتهي بحبات خرز لامعة. وإلى جواره سوزان، ذابلةالوجه، شاحبة. ترمقني من خلف كتفه بأسى!! ولم يتوقفا. تقاويت على نفسي وصرخت بالرجل، وناديت سوزان فلم يحفلا بي. تقدمت من الرجل وتشبثت به لكنه عبرني وكأنني أتشبث بالهواء. ناديت وصرخت، وبكيت.. دونما رجاء أو أمل. ركضت وراءهما فخانتني رجْلاي، ولم ألحق بهما. ولا أدري من أين خرج إليَّ نمل كثيف لايُعد، وراح يحيط بي..لكأنني استنفره عليَّ كلما ناديت سوزان، أو صرخت بالرجل. وواصلت ركضي وراءهما،والنمل يطردني، وقد تسلق جسدي، وراح يمتصني، فأصابني بحالة من الخدر اللذيذ،ورويداً رويداً خارت قواي، وغاب صوتي، وانطفأت رؤيتي، فوقعتُ على وجهي فوق صخرةكبيرة مسننة حادة. فسال دمي، وشهقت جروحي، وعلى الرغم من ذلك، ظللتُ أفرُّ من النمل، وأزحف باتجاه الرجل الضخم وسوزان الباكية في عتمة لا أول لها ولا آخر.. [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
من لهيب الذاكرة المهاجرة
مواسمنا في عسقلان للقاص الأديب : عمر حمش [align=justify] تقول راويتي الطاعنة: واعلم يا ولدي أنّ لنا في بلادنا – قبل أن يطردنا اليهود – مواسم أفرحت الكبير قبل الصغير، وأعدّت لها الملابس الزاهية من قبل أيام، واستعرض لها ما اشتهي وطاب، وأنّ أعظم شهورنا كان شهر نيسان، الذي فيه البلاد تغدو حديقة، والفضاء يعبق بأريج الأزهار، والأمواج الهادئة تتهادى مختالة على صفحة بحر عسقلان الوسيعة! وأننا يا ولدي تعودنا - قبل مجيء اليهود - أن نقسّم أسابيع نيسان الأربعة، ونصنّفها أبا عن جدّ، تصنيفا مدروسا لا يختلّ! فالجمعة الأولى أسميناها التائهة، ذلك علامة بدء شهرنا الجميل، أمّا الثانية فالنبات، على تقدير أنّ الأرض تستكمل زينتها فيها، وتفصح الأنواع عن تلاوينها، وتبدأ مجدل عسقلان باستحلاب مكنونات البساتين، وأزهار جنبات الحواكير، المتسللة تحت أكعاب أشجار الصبار الهائلة! أمّا الثالثة، فخصصناها يا ولدي لزيارة القبور، للترحم على الأرواح المغادرة، والتذكر لمآثرهم، واستجداء الخالق أن يعطف في شأن مخاليقه! والرابعة الأخيرة، وهي مربط الحصان في الشهر كلّه، فكانت الحلوات، نسبة لما يجري فيها من ابتهاج، ورمزا لما يصرف فيها على صناعة وشراء الحلويّات! وأهمّ ما في ذلك الأسبوع نصفه الأخير، من الثلاثاء إلى مساء الخميس، ففي الثلاثاء كانت المجدل تستقبل الآلاف المؤلفة من فلسطين، فتصطحبهم إلى شاطئها الجميل، المعدّة منذ أيام خيامه، والمنتشرة عليه بسطاته، لتستعرض عسقلاننا أسرارها، وتعلن في إبرة أيوب أبهى زينتها ، وتبدأ بممارسة ألعابها، فأولئك الفرسان يتسابقون، وهناك الأولاد يتأرجحون، وزمر الرجال - بهنادي الألاجا أو الشامي - يتبارون، أو يرقبون جمال الصّبايا الفتّان، وهنّ بثياب الحرير، يهزجن أحلى المواويل، ويناشدن البحر منح الشفاء مثلما منح من قبل - ببركة الله - أيوب العليل، وللعاقر كانت يا ولدي فرصة الحمل العزيز! كلّ هذا والبحر هادئ رقراق يؤدي طقوسا متسقة مع الموسم المعتاد، ويقلّب على شاطئه ويدحرج الصّغار! تقول راويتي الطاعنة: ويستمر الأمر إلى المساء، فيبدأ الناس بالانتقال - وليس الرحيل - إلى تلال عسقلان التاريخية، ويبيتون ليلتهم في رمالها الذهبية، تحت أشجار الجميز العملاقة! وفي الصباح يتدفق الخلق من جديد، على مواسم وادي النّمل الشهيرة، فيتزاحمون كما النّمل على التلال، ويبدؤون من جديد، لا شيء يعكر صفوهم، ولا مكرهة تفسد غبطتهم، وما كان جرى على البحر يجري على التلال، منذ الصباح إلى أن يقطف البحر قرص الشمس الجميل! عندها يا ولدي يحتشدون، كأنّهم إلى ساحة وغى ذاهبون، وفي لحظات يمسون جيشا عرمرما، تقودهم فرق الدراويش المرعدة، والفرق الكشفية صاحبة الطبول الهادرة، والمدائح تنطلق إلى عنان السماء، وتسمع بين الحين والأخر أشخاصا يهدرون: - دستور يا حسين! ذلك موسم سيدنا الحسين يا ولدي، الذي كان - قبل مجيء اليهود - يبدأ مساء الأربعاء، يقود جحافله شيخ مجدلي، فيخرج على الناس ممتطيا فرسه، رافعا من فوق عمامته البيضاء( سنجقه ) يجاوره عشرات الفرسان، والمشايخ، ويمضي الركب العظيم، مومضا في بقايا غسق الشمس المغادرة! وتقول وهي تهتز: وعند خروج السنجق العالي من ضريح سيدنا الحسين، تنصفق الكاسات ، والطبل يجنّ، وزفة ( السنجق ) تحتدم من الحسين إلى المجدل! واعلم يا ولدي أنّ موسم الحسين في بلدنا كان أعظم المواسم، لا يضاهيه ما كان يجري في فلسطين كافة من مواسم وأعياد! أمّا الزفة فتدخل البلدة، وكلّ جوقة آتية ترفع رايتها، وتصدح بضرب صوانيها، حتى يصلوا جميعا إلى باب مسجدنا المملوكيّ، وعندها يدخل الشيخ ( بالسنجق ) ويرفعه فوق المنبر، ثمّ يبدأ الخلق بالعودة حالمين! فيكون في الصباح يوم الخميس، وهو يوم الحلوى يا ولدي، المنتشرة بكلّ أنواعها كالقرعية الصفراء، والشيشية البيضاء، وكذلك ( الطقاطق ) الأخرى كالفزدق، والبندق، والجوز، واللوز، والقطين، والزبيب، فينتشر أهالي القرى على البسطات، يشترون لعوائلهم بالأرطال، فتكون مؤونة لشهور! وتدمع محدثتي العجوز، وتضرب كفا هزيلة بكف: أما أهالي المجدل يا ولدي فكانوا يبدؤون بتبادل الأطباق المحملة بحلوى الموسم، ( وطقاطقه ) وترى الناس يهنئون الناس، والنسوة يقبلن النسوة، كأنهم في أعظم يوم! وتتنهد راويتي والدمع يجري في عينيها الرانيتين إلى البعيد، وتتمتم: كلّ هذا قبل أن يطردنا إلى المخيمات اليهود! [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
خالتي فطيمــــــــــة للقاصة الأديبة :غاليــــــــــة
[align=justify]هكذا كان يحلو لي أن أناديها...وسرعان ما كانت تستجيب لندائي....فتجيب على سؤالي...أو تساعدني في حل مشاكلي البيتية الصغيرة...كانت هي صاحبة البيت...تقيم بالدور الارضي...بينما اقيم أنا وممرضة بالدور العلوي....لكن علاقتي بخالتي فطيمة كانت أقوى وأوثق...لان الممرضة كانت لا تحب الثرثرة...وتؤثر العزلة....بينما كنت في حاجة الى من يحسن لغة المؤانسة....والحكي....وينسيني مرارة فراق العائلة...لذلك توطدت علاقتي بخالتي فطيمة...في بداية معرفتي بها كانت نظراتها الحادة تثير القلق في نفسي وتشعرني بعدم الارتياح...لكن سرعان ما اطمأنت نفسي اليها مع مرور الايام...عندما كشفت النقاب لي عن جوانب مرة من حياتها....حيث القسوة والمرارة غلفت أيامها....وفي ذهني وقلبي ..لم أكن افهم كيف تحسن هذه المرأة القوية...في أن تقرن بين المتناقضات....الحنان الرحمة المتدفقة...والشدة والقسوة والصرامة لكنني كنت كل يوم أدرك سر هذا الذي يبدو تناقضا وليس بذاك علمت فيما بعد أنها ذاقت مرارة اليتم....واضطرت منذ صغر سنها أن تعمل لتساعد اسرتها....ثم اضطرت للزواج من رجل ثري...يكبرها بسنوات...والادهى انه كان شديد القسوة قليل الرحمة...خاصة عندما أدرك ان خالتي فطيمة عقيم لاتلد.....حيث تزوج من بعدها ثلاثا....لم يفلحن في الانجاب...وبوجودهن تحولت خالتي فطيمة الى خادمة لزوجها ونسائه المحظيات....لكن سرعان ما أينع صبرها...عندما فشلن مثلها في انجاب الولد...فطلقهن من غير أسف...واقتنع بأهمية زيارة الطبيب الذي أطلعه....أنه هو العقيم...وانه عاجز عن الانجاب....في سرها لاشك أنها ضحكت بشدة....لان جزءا من كبريائها المجروح قد استعاد عافيته....امام الزوج القاسي الذي انكسر....وحتى عندما قرر زوجها تبني أولاد....لتربيتهم والاستئناس بوجودهم...حيث كانت تعايش خالتي فطيمة صور الأمومة باسمى معانيها...بحدبها عليهم وحرصهاالشديد على راحتهم....لم تفلح في ان تنال نصيبا من المحبة والاحترام من قبلهم....فسرعان ما كبروا ...وتذمروا منها لما أدركوا...انها ليست لهم بأم...وكأنهم عدوها مسؤولة عن وجودهم وحياتهم على هذا النحو....فتحولت مشاعرهم حيالها الى كراهية وبغض... كانت في عقدها السادس....قد أضنتها الحياة بمتاعبها...لكنها كانت تبهرني بقلبها الحديدي ونشاطها الدائم...وروح المرح والدعابة التي لا تغادر ثغرها....ولانني كنت احسن مجاراتها والاستماع اليها ومشاطرتها متاعبها....كانت تستمتع بسرد قصص حياتها....وحياة بعض عائلتها...وربما اسهبت...لتنقل طرائف بعض جيرانها....وحيثما ذهبت تاخذني معها...خاصة اذا تعلق الامر بدعوة من اقاربها....ومع اني لم أكن من العائلة....فقدأشعرتني بساطتها واهتمامها اني واحدة منهم...أشاركهم يوميات حياتهم وأخوض فيما يخوضون...وربما ابديت رأيا أو نصحا يحسنون الأخذ به...ولاأنسى لحظات بعينها..صورها لاتزال مطبوعة في الذاكرة...عندما كنت أعود من عملي...في أيام الشتاء الباردة....فتناديني بصوتها القوي...غالية تعالي...لابد انك متعبة...فأدخل الى الغرفة الدافئة...فأجدها وقد أعدت لي الشاي وطبق لذيذا من السمك المشوي....فاجلس تسامرني وأسامرها...وفي قلبي تشرق صور المحبة والاعجاب نحو هذه المرأة الغريبةالتي احببتها.....كنت أستمع اليها باهتمام...وعيوني تترصد حركات عينيها وتفاصيل وجهها...لادرك أن تلك القسوة ماهي الاقناع مزيف فرضته قسوة أيامها الماضية...وان وراء نظراتها الحادة قلب ينبض بالحب والحنان والعطاء....تصورت للحظات انها.... أمي التي كنت أشتاق اليها[/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
حتى يلج الجمل .. للقاصة الأديبة : زينة عـــــــــادل
جلست ترقبها وبداخلها رغبة تستعر بألم مشتعل ..... عيناها تتوهج بإحساس موجع ينهشها بدون هوادة ...........قلب ينزف ...........ينضح وجعا بعمر السنين - لم أعد أحتمل أمي _ عليك الصبر والتحمل _ عشرون عاما _ خمسون عاما _ وجع ينقضّ ويمزقني ..... يضع اللوم علي في كل شيء حتى لو أخبرتك أن ما حصل في العراق كان بسببي فقلة حيلتي بالدعاء أدت لسقوطها كل يوم يزداد جنونه تارة يضربني وتارة يغدقني بالسباب حتى آذاني _ تحمــّلي وتجــــمــّلي بالصبر _ الموت أهون _ عليكِ العودة إليه _ آآآآآآآآآآآآآآآ آآآآآآآآآآآآآه _عودي فإنك ستخلقين عندي مشكلة بيني وبين أبيك ، وسيضع اللوم علي ّ بأن تربيتي قد أفسدتك نظرت إلى أمها بحنان وبأعماقها أمنية مذبوحة ، وربتت على يدها بابتسامة مخضبة بالأسى _ ستعودين يا بنتي قبل علمهما بخروجك حملت حقيبتها ............ قبلتها في رأسها .... ومشت نحو الباب _ستعودين .... متى ؟ ..الآن .... ؟؟؟؟؟ أجيبيني _نعم سأعود حين يلج الجمل سمّ الخياط ... وأغلقت الباب من خلفها بهدوء |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
النعش .. للقاص الأديب :سعيد محمد الجندوبــــي
[align=justify] استفاقت حوريّة وأنفاسها تكاد تنحبس من هول الكابوس المرعب الّذي أقضّ مضجعها. كان جسمها يرتعش ويتصبّب عرقا.. لم يعاودها النوم، فمكثت في فراشها منتظرة انبلاج الصبح حتّى تُفضي بكابوسها إلى أمّها. هكذا تعوّدت منذ الصّبا.. رأت فيما يرى النّائم مجموعة من النّاس تحمل نعشا، وسط مكان قفر، وفجأة ثارت زوبعة تحمل رمالا حمراء كلون الدّم، تبعها تساقط رذاذ أحمر، سرعان ما لطّخ ملابس وعمائم الرّجال من حمَلة النّعش، في حين لم تلمس قطرة واحدة كفن الميّت المسجّى وسطهم. توقّف الرّجال، ووضعوا النّعش أرضا، ثمّ تحلّقوا حوله، فيما يشبه الدائرة، من دون أن ينبسوا بكلمة واحدة.. وما هي إلاّ دقائق معدودات حتّى هبّ الميّت واقفا. فقام أحد الرجال، وكان أكبرهم سنّا، وقد أضاءت وجهه لحية طويلة بيضاء، ففكّ رباط الكفن، وقفل راجعا إلى مكانه ليجلس من جديد.. تساقط الكفن أرضا، فإذا بها فتاة في مقتبل العمر، ارتدت فستانا أبيض طويلا كفساتين العرائس والأميرات، في حين انساب شعرها الأسود الطويل المتموّج على كتفيها وعلى جزء من وجهها النّاصع البياض.. لم تكن ملامح الفتاة قاطعة الوضوح.. استعاذت الأمّ من الشيطان وتشهّدت ثمّ قالت لابنتها وهي تُرَبِّت على يدها المرتعشة: "فأل خير إن شاء الله.. هذا عرس.. ربّما عرسك أنت يا حوريّة.. فالأحلام تُؤوّل بالخلاف.." *** المكان: مقبرة تكاد تكون مهجورة على مقربة من قرية صغيرة من القرى الجبليّة بشمال غرب تونس. الزمان: شتاء سنة 1972. انتهت مراسم الدّفن، وتفرّق الجمع الصّغير بعد أداء واجب العزاء لعائلة الميّت، في حين انشغل القرّاء في تقاسم أجرتهم بعد أن قاموا بمهمّتهم بإتقان المحترفين. وضعوا النّعش الفارغ على ظهر الشاحنة الصّغيرة، وانطلقوا عبر طريق ترابي وعر، تتخلّله برك وأوحال شتاء الشمال القاسي. تنفّس السّائق الصعداء حينما وطئت عجلات شاحنته إسفلت الطريق الرابط بين "عين دراهم" و"فرنانة"*.. حمد الله على ابتعاده عن المسالك الترابيّة بأوحالها وحفرها، بدون عوائق ولا مكدّرات. قطع السّائق الصّمت متذمّرا: -الله يهديهم! لماذا لم يدفنوه في مقبرة البلدة.. هناك في "فرنانة".. متحمّلين كلّ هذه المشقّة؟ -لقد كانت تلك رغبته، رحمة الله عليه.. أراد أن يُوارى الثرى تحت سدرة "سيدي يحي" العتيقة، على مقربة من أهله.. جلّ أولاد "منَوِّرْ" يرقدون هناك.. -الله يرحمهم .. أجمعين.. خيّم الصمت من جديد.. وحدها "البيجو 403"، استرسلت في الشخير.. كانت الطريق في تلك المناطق الجبليّة صعبة المراس؛ فقد كانت كثيرة المنحدرات والمرتفعات، ملتوية، تعانق بلولبيّة صارمة الجبل، وتتلاعب بسالكها رفعا وخفضا إلى حدّ الغثيان. تكاد تلك الطريق الجبليّة تكون مغطّاة بسقف أخضر كثيف مما يغدق به شجر الصنوبر والفرنان من أغصان؛ وهذا ما يُكسبها صيفا رونقا وظلالا، وشتاءًا رهبة وانعدام أمان. كلّ من يعرف تلك الطريق يتجنّب سلوكها بعد مغيب الشمس، لا سيّما خلال فصل الشّتاء حيث تُغرق بعض منحدراتها السّيول، وتنهال من بعض مرتفعاتها الصّخور؛ وقد تخترقها من حين لآخر الذّئاب والثعالب والخنازير.. سكّان تلك المناطق المحاذية للطريق، هم أكثر من يخشاها؛ إذْ هم أخبر النّاس بخفاياها.. فكثيرا ما تناقلت الألسن، عبر الأجيال، أخبار ما يجري فيها ليلا من حين لآخر، والّذي لا تفسير له عندهم إلاّ بما اكتنف بعض مقاطعها من غموض ووحشة.. فالطريق تسكنها الأرواح.. أرواح من أكلتهم عبر السنين. -ما أوحش هذه الطريق! قالها أحد القرّاء بعد أن تنهّد مردّدا الشهادتين. أجابه الثاني، وكأنّه خشي أن يزعج مثل هذا الكلام الأرواح والعفاريت، فتخرج من سباتها: -اسكت يا هذا! اترك الرّجل يقود السيّارة.. لا تُربكه! ضحك السّائق وشفتاه تمسكان بالسيجارة فترتعش بينهما وسط سحابة كثيفة من الدّخان الأبيض.. كان أصغرهم سنّا.. -دعه يحكي يا عمّ "رابح".. همزهُ الأوّل في إشارة استفزازيّة: -بَيّكْ "رابح" معروف عنه الخوف.. إنّه يخشى حتّى من ظلّه! *** -"آهاي.. آهاي.." عرفه السّائق، بعد أن تبيّن بصعوبة ملامحه، فتوّقف على جانب الطريق. بعد التّسليم والسّؤال عن الأحوال، اتّخذ مكانه الى الخلف، بجانب النّعش الفارغ.. قال له أحد القرّاء بلؤم: -"أُحرسْ لنا الميّت، حذاري من أن يفرّ!" ابتسم "ابّيْ صالح" قائلا: -"توكّلْ على الله.. لا مفرَّ له تحت هذه الأمطار! وانطلقت الشّاحنة من جديد. "ابيّْ صالح" ذو القلب الصخريّ، كصخور الجبال التي نبت بين أحضانها، فضّل التّمدّد داخل الصندوق الخشبي على أن تتبلّل ملابسه الصّوفيّة الخشنة.. "سوف أُغادره حين تكفّ الأمطار عن النّزول.." *** *** *** *** [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
لا إجابــــــــــة .. للقاص الأديب : عمربا وزيـــــــــــر
لا إجابة! ذهب إلى المطبخ ليعد لنفسه قدحاً من الشاي…إن يده ما زالت ترتعش ،وهو يشعل موقد الغاز…! جلس ليشرب الشاي ،رشفة واحدة ،رشفة أخرى..حتى الشاي لاطعم له! ترك الفنجان وقام لينظر في المرآة ….ماهذا ! لماذا يحدق هكذا ؟ هل هذه علامات الجنون بدأت تظهر عليه؟! ويبدأ بدفن همومه بالتخدير بمضغ تلك الأوراق الشيطانية! الساعة الثامنة صباحاً،وهو يستعد لأداء امتحان شهادة الثانوية العامة….يمتطي الريح ليصل قاعة الإمتحان،وبين أربعة جدران ...يشرد بصره للنافذة المغطاة بستائر بيضاء ،والباب الخشبي القديم يوشك أن يسقط وعليه تلك المسامير الصدئة...في قاعة الإمتحان كانت الوجوه مضطربة ..والقلوب كذا.يُسمَع صوت صرير الباب...يدير وجهه نحو الباب فإذا بها أوراق الإمتحان ويحمل رأسه القلق بين راحتيه...يستلم ورقة الإمتحان..يتمعن في الورقة..يشرد ذهنه قليلاً،يرتعش القلم وتحمر عيناه ويقرأ السؤال:"متى قامت انتفاضة الأقصى الفلسطينية؟" شعر بفورة دفء في أعماقه،أخذت تندفع صعوداً مثل فيض ملأ عينيه حتى تلاشت الغرفة في غمرة من الألوان والأشكال المتموجة وسط هذه الضبابية_إنها دماء القومية_لأن من عرف...هومن يكون، فقد عرف الحياة.يدير صاحبنا وجهه للخلف ليرى...؟! الطلاب قد ناموا على أدراجهم بعد أن أغلقوا آذانهم عن صرخات الضمير ويئسوا من التنبيش في جميع كتبهم المصغرة عن لا شيء.إنها همسة في زمن الصمت...وبوح في دنيا الكتمان،ولانهرب من الواقع ظلت أوراقهم بيضاء وليست هناك إجابة؟! |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
الغــــــــروب : للأديب القاص فيصل الزوايــــــــــــــــــدي
أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أَخَذَه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزَمَني زَمَني ما لا أُطيق .. فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فَحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُـمومَها فـي دِمائي فَلا تُـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَنـي لِـحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الـخوفَ عنّي .. أسيرُ نَـحوَ الـمِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الـجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَـمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ الـمِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ فـي عَينيَّ .. أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا.. أُغادِرُ الـمَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتـي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُـهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته الـمُمَيَّزَةُ ما تَزالُ عَطِرَةً في الـمَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا على الطاولةِ ،كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. ترددت في مسامعي شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لـي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لـي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ فـي الصفحةِ الـمفتوحةِ أَمامي :" إِنَّـما تقتُلُنا الـحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيـمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَـمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ الهربَ مِنَ الـحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَـمضي الوقتُ ، لا أَبـحَثُ عَن ساعَةٍ و لا أحاولُ البَحثَ عَنها فانأ اعلم أنني لن أجد واحدة .. قَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنـزافَها الـمريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟ أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها .. أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا .. |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
أذلته ليلة العيــــــــــــــد : للأديب القاص يمن الوريـــــــــــــدات
بدأت الطرقات تتعرض لهجوم كاسح من بهارات كعك العيد ومعموله ، أنفك وأنفي وأنوفهم لا تستطيع الصّمود أمام هذا الهجوم ، الدّكاكين عرضت السّميد والتمر والعجوة المطحونة وحبة الطيب وما يرافقها من جوقة البهارات الأخرى ، وبدأتَ تسمع عزف السدور الّتي تخرج من بيت أمّ فلان إلى بيت فلانة ، وبدأت استعارات قوالب الكعك تسجّل أرقامًا قياسيّة ؛ فأمّ أحمد عندها عشرون قالبًا بكلّ الأشكال والألوان ، وإذا أردت واحدًا منها عليك الإسراع في تقديم طلبك ، وفي حفلات صنع الكعك تحلو الأحاديث بين نساء الحيّ ، أحاديث الطّبخ والنّفخ والكعك والمعمول وطرق إنضاجها ، والاستعداد للعيد ، وشرح لآلية شراء الملابس وأشهر محلاتها في السّوق ، وتشكيلة كلّ محلّ ،ولا يفوت أمّ المحروس أن تلمّح لأم فلان برغبتها في أن تكون ابنتها كنّة لها. أطفال الحيّ يذرعون الطرقات والزقاق من وإلى المسجد ليصلّوا بعض ركعات التراويح وسط نهر وزجر الرجال لهم ، لكنهم سرعان ما يعودون ،فمرة في المسجد وأخرى يتحلّقون حول أمهاتهم يتلمّظون ، ويفركون أيديهم شوقًا ، لعلّهم يفوزون بحبّة كعك استوت للتوّ ، وثالثة تجدهم يغنّون أغنية العيد الخالدة : (( بكره العيد وبنعيد وبنذبح بقرة ............ )) ويتجمهرون في مسارحهم الخالدة يشير كلّ منهم إلى اللعبة الّتي سيشتريها صباح يوم العيد ، ويتفنّن بعضهم في وصف تفصيليّ لملابس العيد الجديدة ، ويتماسك آخرون تاركين للملابس التحدّث عن نفسها يوم يرتدونها،ويقصّون ما سيقومون به في اليوم الأول ؛فهذا سيزور قبر جدّه أو جدته ، ثم يصلّي صلاة العيد ويكبّر حيث يحلو لهم أن يطلقوا العنان لحناجرهم ، ويتحدّثون عن زيارة الأقارب والجيران ، وعن ركوب المراجيح الخشبيّة ، وكيف سيحتالون على صاحب المراجيح ، وعن إصرارهم على حصولهم على الشوط الحامي ، ويتباهى كلّ منهم في حساب مبلغ العيديّة الّتي سيحصل عليها . وسط هذه الأجواء الكرنفاليّة ؛ بأضوائها وألوانها وأفراحها وروائحها يعود عمران من عمله في المدينة الّتي تبعد عن مكان إقامته 200 كيلو مترًا ، بعد أن حصل على راتبه الشّهريّ ، ومكافأة إضافية بمناسبة العيد ، يعود يحملها في جيب قميصه قريبًا من قلبه النابض بحبّ أبنائه وأهله وأهل حيّه ، تُداعب أنفه روائح الطبيخ الصادرة من غرف عمليات إعداد طعام الإفطار ، يدخل وسط الترحيب والتهليل من صغاره وكباره ، وابتسامات ولا أروع من أمّ عياله وحبيبة قلبه ، ويدعو بعد التراويح لاجتماع عائليّ طارئ لمناقشة ميزانية العيد ، عيديّات الأرحام كذا ... وعيديّات الأولاد ... ويخصّص الحصّة الكبرى لملابس العيد ، وتصرّهنّ زوجته في طرف إشارها، إلى ليلة اليوم التّالي حيث رحلة التّسوق المتعبة المفرحة ، وتصحب فيها كلّ الفرقة ، ليشعروا بالبهجة ، فالأسواق مزيّنة ومنارة بالأضواء من كلّ لون ولون ، ورائحة الكعك والحلويات تهاجم شوارعها ، وغناء الباعة المتجوّلين يطرب ، فهذا ينادي على ألعابه ويدقّ الطبل ليجذب المشترين ، وذاك يبتدع الموّال تلو الموّال، وسط هذه الأجواء المبهجة تدخل زوجة عمران السوق وتدخل الكثير من المحلات ، يعجبها شيء ولا يروق لها أشياء ، كلّ هذا وسط صريخ وإصرار وأخذ وردّ بينها وبين ( كورس الفرقة ) فهذا لا يعجبه ( الموديل ) وتلك لا يروق لها اللون ، وأخرى لا تريد نفس فستان ابنة الجيران ، وهذا قصير وذاك واسع ، وألسنة أصحاب المحلات تزيّن الملابس وتطري عليها وتكيل لها المديح ، وتقسم أنّ هذا السعر لم يكن من قبل ، لكنّ الرأي الفصل للأولاد غالبًا ، فهم الّذين سيلبسون ، وتسلّم أمرها لأولادها وتمضي في رحلتها، وتعرج خلالها على بائع الحلويات فهي رحلة ربع سنويّة ، يدخل الكل ويلتهمون نصف سدر من الكنافة النابلسيّة الّتي يتقاطر قطرها ، وتعلو رائحتها فوق كلّ شيء على عجل ، فالمشوار طويل ، وتعاود الكرّة على الأسواق ، وها هي العقد بدأت تفكّ ، محل كبير وجد معظم أولادها وبناتها ضالتهم فيه باستثناء صغيرها صعب المزاج الّذي لا يعجبه العجب ولا الصّيام في رجب على حدّ تعبير أمّه ، فانفرجت أساريرها فمعاناتها إلى زوال ، وفرحة أبنائها ترقص في وجوههم ، لباس وقياس وتبديل ووضع في الأكياس ومفاصلة وأخذ وردّ واتّفاق على السعر ، وتحميل كل ابن لملابسه ، اكتملت فرحتها وبدا هذا على محيّاها عندما رأت كل واحد من فلذات كبدها يحمل ملابسه وهو في غاية الفرح ، أحست بالعيد وفرحته قائلة : العيد فعلا للصغار ، لكنّي أفرح معهم وبهم ، ومدّت يدها إلى كتفها لتنهي يومها الحافل بدفع ما استحقّ عليها ، نظرت يمينًا وشمالا ، أين الحقيبة ؟ كانت معي منذ قليل ، التفتت إلى أبنائها ، سألتهم واحدًا واحدًا ، أوقفتهم وأجلستهم ، أدارتهم يمينًا وشمالاً ، لا حقيبة في الأرجاء ، في الأرجاء ذهول وسكون وحيرة وقلق أطفال وصبية ، وقبلها بلحظات شيطان وابن حرام سرق الفرحة من قلبها ووجهها ، أطرقت قليلاً تأمّلت ، تخيّلت أولادها دون ملابس العيد ، نظرت إلى يدها ، لمعت الفرحة في وجهها من جديد بلمعان إسوارة الذهب الّتي تزيّن معصمها ، أجلست أبناءها ، فكّرت ركضت أسرعت ، وفي لحظات كانت في محلّ الصياغة تبيع الإسوارة ، عادت بالمال ممسوكًا ذليلاً بين يديها ، تمسكه وهو صاغر مطيع لها ، لن تسمح له بسرقة فرحة أبنائها ، وأكملت رسم الفرحة على وجوههم بكلّ ألوان العيد ، كانت أكبر من كلّ شيء ، أكملت عيدهم وعيدها ، وأذلّته . |
الساعة الآن 50 : 06 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية