![]() |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
غياب..! ــ[align=justify] 1 ــيا إلهي، من كان يدري أن ما حدث كان سيحدث، وأن رنّة الحزن ستمتدّ وتستطيل مثل وهج النهار. من كان يدري أن البنت جورية، زينة الحي، الطويلة الملأى ذات الغمازة العميقة الضاحكة.. ستدير ظهرها لعبودة الذي منّى العمر كله أن يأخذها بين ذراعيه في ضمّة حانية لهوف، ثم.. فليأت الطوفان. أبداً، ما من أحد، من أبناء الحي، كان يشكّ بأن جورية الرهيفة قد تعبت كثيراً مع أمها العجوز التي تورّمت ساقاها، فعجزت عن الحركة، وعادت مثل طفل صغير، تنظر بعينيها فقط، وتهمهم وتناغي من دون كلام. لقد أقعدها المرض، فباتت تقضي شؤونها كلها في فرشتها الملونة التي شرعت بين حين وآخر، تطلق روائح لا تحبها جورية، تلك الروائح التي لا تشمّها أمها أبداً، لكأنها صارت جزءاً منها أو جزءاً من المكان. (كانت جورية، وفي غبشة الصباح، تفتح النافذة الوحيدة، وتنظف جسد أمها بعناية شديدة، تمسحه بالماء الدافئ والصابون، وتدلك ساقيها بزيت الزيتون الصافي، ثم تكنس أطراف الفراش، وتسحب الأوساخ، وترش هواء الغرفة بالكولونيا. وحين يغدو كل شيء في تمامه، تغادر الغرفة، ونظرُ أمها عالق عليها يطردها بالرضا والامتنان. تغسل يديها ثم تهيئ طعام الإفطار لها ولأمها وسط حديث وحيد، وتمتمات حزينة، وضحكات صغيرة مرتبكة، ورجاءات طويلة بان يمنّ الله عليها بالشفاء لتملأ بيتها بالحركة والأحاديث، والضحكات الصاخبة، لكن الرجاءات ظلّت رجاءات، والأماني يبست على الأماني!. ــ 2 ــ منذ سنين بعيدة، جاءت جورية إلى الحي مع أمها، طفلة في الثامنة من عمرها، وردة أو تكاد. سكنت مع أمها غرفة صغيرة فوق السطوح مثل طيور الحمام، وبأجر زهيد.. كانت الأم تدفعه ل»أبو راجي« صاحب البيت في نهاية كل شهر، بعدما عاشت وجورية، في أحياء وبيوت عديدة، على طيف من القلق والمخاوف من زوجها الذي طاردهما طويلاً. كانت الأم تنتقي البيوت الظليلة المتوارية، وترحل من مكان إلى آخر. وكانت كلما ازدادت طمأنينتها مع الناس، تمحو المكان. لكنها، ومع الأيام، امتدّت نحو أهالي الحي فعاشرتهم حتى صارت منهم، وتربّت جورية مع الصبيان والبنات، فكوّنت لها معهم عداوات وصداقات!! وما من أحد، في الحي، عرف سرّ الأم وابنتها سوى عبودة الذي لهف قلبه لجورية، فسعى إليها مرات ومرات، عبودة الذي سهر ليالي البرد الطويلة قرب نافذتها، وهي ممعنة في الصدود والعذاب. وحين عرفته رقّت له، وقد أسرها بلطفه، وطول صبره، فالتقيا.. شكت له مُرَّ أيامها، وأحزانها الولود، وشكا لها قسوتها، وجمرة الغياب. وحين تذوقها جنَّ بها، وطارت هي بحلاوة ريقه، وعذوبة حديثه، فضمّته إليها ضمّةً أغلقت عليه باب محبتها حتى لقد صارت دنياه وسعادته الضافية. (كانا، وحالما يباغتُ أحدهما الآخر في النهار، يسترقان النظر، فيبتسمان، وتنادي الروح روحها، وتواعدها عند حلول المساء، وعندئذٍ، يهفو عبودة إليها حذراً، هامس الخُطا، مورّداً كالأرجوان. فتلقاه هي ريّانة دائخة كأنها في منام، ويهبطان فوق السطوح، قرب البراميل في مفرش طيِّ الدفء والهمهمات التي تجمّر الكلام. كان عبودة، وحين يسبقها دائماً إلى مكانهما تحت السماء الفسيحة المنجّمة، ينصت عميقاً ليسمع وقع قدميها كمن ينصت لعزف كمنجات ضاقت عليها أوتارها بالحنين. وقربه، ترمي أحزانها البعيدة، فيحسُّ عبودة وكأنها، وهي في هدأتها وطمأنينتها، مطاردةٌ من شيء ما، مذعورةٌ من وحش يكاد يلامسها، أو ينقضّ عليها، وهي نفور متأهبة لتنتفض هلوعةً بين لحظة وأخرى، فيهامسها، ويهزها كي لا تنفرد، ولو للحظة واحدة، بمخاوفها الدائمة. ويخبرها بأنه ما عاد يطيق صبراً، بعدما صار خوفها خوفه، فهو سيفاتح أمها في المساء القادم، بأنه يريدها.. ولو بالإشارة أو الهمهمة!!. فتدور الدنيا بجورية وتغدو خفيفةً، شفيفة كالطيف، فتنشدُّ إليه بحنو لم يعرفه من قبل، ويقترب منها، فينطفئ الكلام، ولا يمضيان إلا بليلين بالندى قبل أن يفضحهما النهار). وفي الصباح، وكأن ما كان لم يكن، يتقابلان. تحكي له، ويحكي لها.. ثم تأخذهما الدروب إلى أن يحين وقت المساء. (هذا الصباح، كانت جورية على عجل، فواقفته للحظات، ثم استدارت. رأى وجهها معتكراً، كأن النوم جافاها، أو لكأن أمها تودّ أن تبكر بالغياب فيدنو منها، ويسألها، وقد حثّت خطاها فتقول: ــ »إنه منام«!! وتلوّح له بيدها، وتمضي نافرة كأنها في طراد، فيناديها عبودة مذكّراً: ــ »في المساء«. فتهز رأسها، وترمي له ابتسامتها البيضاء الوسيعة كي لا يظلّ حائراً وقت النهار. يرامقها، وقد ابتعدت، فيحسُّ بمخاوفها، وساعة المفاجأة التي لطالما حدثته طويلاً عنها، يتذكر الآن أنها قالت له بأن سرها أبوها، الذي صورته أمها لها رجلاً مرعباً كالغول، وهي التي لم تره منذ أمد بعيد، يوم كانت طفلة في الثالثة. لكنها تشعر، وفي كل لحظة بأنه على مبعدة ذراع منها، وأنه سيأخذها متى يشاء وحين يشاء ويترك أمها لمصيرها وحيدة للقدر. فيحسّها الآن وهي تتلاهث لكأن يداً ما تطبق على روحها، فيهدهدها، ويطمئنها بأن أباها لن يعرفها الآن بعدما نمت وزهت مثل حبق الدار، وأنه لن يلتقي أمها، وقد صارت قعيدة الفراش، فلتهدأ روحها ولتطمئن.. فهو قربها كالزمان. غير أنها تظلُّ تردد جملتها المحزنة: ــ »أنت لا تعرف أبي، يا عبودة، فهو سيد الأمكنة والسؤال«. وتغصُّ، فيستوضحها، لكنها لا تجيب. تبدو له، وهي قربه، أنها في دنيا أخرى موحشة نائية. خائفة من المفاجأة التي ستجعل أمها وحيدة غريبة ترفو أحزانها بخيط دموعها، والتي ستجعله هو.. ندبة الأحلام). ــ 3 ــ وفي المساء. جاءها عبودة على موعدها، ممنياً النفس بلقياها، وقد غابت كل النهار، حاول مراراً أن يراها فوق السطوح، أو قرب بوابة الدار، لكنها لم تظهر، كان مستنفراً لا يهدأ على حال. دفع بوابة السطح بهدوء، فصرّت بأنين حزين لم يعهده، فانقبض قلبه وانتفض. وخطا إلى الأمام. كان ما بينه وبين الغرفة الصغيرة المنزوية في آخر السطوح، ممر طويل ضيق. تقدم، فتناهى إليه ضجيج خافت رتيب يتعالى من الغرفة، لكأن جورية تعدّ له مفاجأة للقاء. بدا مضطرباً لا يحسّ بالظلمة التي ظلّلت الأشياء. تقوده قدماه نحو مكانهما المعهود. ولم يفطن لغياب هديل الحمام، وفزعه الحميم الذي اعتاده كل مساء. وفي مرقدهما هبط منتظراً قدوم جورية، ووقع قدميها فوق الخشب الحنون. انتظرها طويلاً ولم تأت. حتى لكأن طيور الحمام نامت مبكرة، وإلا فأين هديلها، وحيرتها اللجوج؟!! ابترد قليلاً وجورية لم تأت. انتظرها وقتاً آخر، ولم تأت. ظلّت ممعنة في الغياب. أخذته الحيرة، ولعبت به الظنون، وهاجمته المخاوف والهواجس، فنهض كالمقروص. ومضى حذراً نحو الغرفة كمن يمشي على أنفاسه. اقترب من الغرفة، بحث عن بابها وسط العتمة التي لا تفصح عن شيء، ولم يجده، دار حول الغرفة ولم يجب الباب أيضاً، أحسَّ كأنه أضاع المكان. استدار ثانية، وجاء الغرفة من طرفها الآخر، فقابله الجدار، عاد فجاء إلى الغرفة من مدخلها الطويل الضيق، مقابلة لبابها لكنه لم يدفعه، أو يطرقه فقد صار في وسط الغرفة تماماً. هي ذي نافذتها مشرعة، تعبرها الريح الضاجّة الرتيبة. لكن أين جورية وأين أمها الرقيدة، وأين الفراش؟! فما من أحد هنا. دار في المكان الصغير واستدار. يكاد يهوي. يتقاوى قليلاً، فيستند إلى أحد الحيطان. يجول ببصره فيما حوله فلا يرى شيئاً ولا يسمع أنيناً أو لهاثاً. يحسُّ بأنه وحيد مع الريح العابرة. ويدور ثانية كمن يبحث عن الهواء. أبداً ما من أحد هنا، ما من شيء! ينحني على الأرض. يمسحها بيديه وبجسده، فيحسُّ ببرودتها بعدما اختفى بساط الخرق الملونة. يجفل عبودة، ويدرك أن المفاجأة وقعت، فالغرفة وحيدة تماماً. لكنه لا يصدق. يشرع في المناداة، والهمهمة، ويمضي في البحث والدوران. يتعالى زفيره، ويمتدّ لهاثه، لكن دون جدوى، يوهم نفسه بأن جورية موجودة لكأنها عالقة به فيناديها، ويغمغم بالكلام، وما من أحد. وحين يهدّه التعب واللوبان يجلس خائراً، خائباً.. كأنها لحظات ما قبل البكاء. يخلع حذاءه ويمشي حافياً لعل قدميه تلامسان آثار الخطا التي مشتها جورية، ويلمس الحيطان بيديه، ويمر بأصابعه على الرفوف المذيلة بأوراق الجرائد المقصوصة يبحث عن صندوقها ليضمَّ عرائسها القماشية، وأمشاطها، وليقبّل مرآتها التي رأت وجهها طويلاً. ودَّ لو عثر على ثيابها المعلقة فوق المسامير لشمّها ثم لثمها.. ليمتلئ برائحتها. لكن لا شيء هنا. لا أحد سوى الحيطان. يهبط الدرج إلى الأسفل، الأسفل، الأسفل. ينفلتُ في الأزقة والحارات. يمشي الدروب التي مشتها، لعله يصادفها آيبة إليه. يقضي الليل البارد العبوس باحثاً عنها في كل الأرجاء، وحين يطلع النهار يمضي مبكراً إلى البيوت التي عملت فيها ويسأل عنها. يواقف الناس ويسألهم، يناديها، كلما انفرد بنفسه، بملء الصوت لعلها تبدد كل هذا الجولان. بدا، كمن ضيّع روحه، ناشطاً في البحث، والمطاردة، والسؤال، لكن دون جدوى، فعاد، وقد عاد المساء، وافاها على موعدها كأنه يجيء إليها للمرة الأولى. دفع البوابة، فصرّت بأنين كالبكاء، ومضى في الممر الطويل نحو غرفتها التي تصفر فيها الريح. بحث مرة أخرى، ونادى طويلاً. لكن ما من أحد. بدا المكان كالخراب. صعد الدرج الخشبي فشعر، لأول مرة، بأن صعوده لا يترك وراءه ذلك الرنين العذب. صعد متراخياً لكأنه في جنازة. مضى.. فوق السطوح، نحو البراميل وأعشاش الحمام. وما من أحد. أحسّ بالبرودة تملأ قلبه. فنادى، وردّ الصدى جورية. ولا أحد، دار ولفَّ حتى خارت قواه، فارتمى، لكأنما الدنيا دارت به أو انعتمت عليه، وقد أيقن أن كل شيء انتهى، وأنه كان في حضرة السحر ليس إلا. رفع رأسه نحو السماء الفسيحة المُنجمة، فرأى من حوله طيور الوطاويط محوّمة في المكان، لها رهجة الفضة كلما استدار بها الجناح، فراح يراقبها، وهو يحسُّ، وقد هاجت به الروح، بأنها.. طيور الحمام. * * *[/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في المساء الأخير..! [align=justify] ــ 1 ــ عيناي غائرتان، تجولان في وجهي الناحل الممصوص. أفقي معتم تماماً. قدماي لا تبصران طريقي بوضوح. الكآبة تخنقني. حالات الماضي تبعثر لحظات صفائي. أبحث عن أيامي، وساعاتي الرائقات.. فلا أجد. أبداً.. لكأنما المدينة صبّت مرارها فيَّ! ــ 2 ــ أنا خميس الشايب من قرية (الفوارة). قدمان للحزن، وكفّان للخيبة. والليلة رأس السنة الجديدة. أريد الاغتسال.. من أوجاعي، وعثراتي الماضية، أريد أن أفرح.. لكن الفرح لا يقاربني. كثيراً ما أناديه؟ أرجوه أن يبدو لي (ولو) مرة واحدة.. لأشكو له مرار أيامي وأحزاني.. الدائمة. أتصوّره أنثى، فأتودّد لمن هن حولي.. لحظات فقط وأصدّ. أحسبه ضوءاً من أضواء المدينة، وما أكثرها، أقترب منها.. فتبدو معايبي، بل يأخذني خيالي إلى أن أظنه.. الإخلاص في العمل والاجتهاد عليه، أسعى إلى ذلك.. فأوصف ب(دب الشغل). محاولات، ونداءات، وانتظارات.. رمّدت روحي. ــ 3 ــ هي ذي أمسية آخر يوم من أيام السنة تذوي بين يديَّ. فالليلة تمضي وتأتي أخرى. والدنيا ستموج بالناس، والفرح، والأمنيات.. وأنا طيّ وحدتي وأماني.. الباردة! قبل قليل فقط كنت أسمع رفاقي في العمل يتحدثون عن طقوس السهر، وما أعدوه لها، ومع من سيسهرون، وأين؟ وما من أحد منهم دعاني، أو حدثني عن هذه الليلة.. لكأنني بينهم منبوذ أو هكذا أبدو. كنت أتقصد، وهم يتحدثون عن السهر، المرور بهم، أطلب منهم بعض الأشياء، أو أسألهم أسئلة عابرة.. لكن دون نتيجة. تجاهلوني تماماً، وكأنني غيرُ موجود. .. ومع انتهاء الدوام، غادرتُ مكان عملي وحيداً تحت مطر خفيف. شاغلت نفسي، وحدّثتها.. بأنه من الممكن للمرء أن يسهر وحيداً.. فتجيبني (وكأنها ضدي)، يسهر وحيداً.. نعم، لكنه لا يفرح. فأغتمّ! مع ذلك، وبسبب المطر والبرد، أحاول تكريم نفسي في هذا المساء.. فألغي فكرة مواصلة السير إلى البيت مشياً، أو الركوب في الباصات وسيارات (السرفيس)، أسعى إلى مكافأة الجسد مكافأة كبيرة، فأمامي، هذه الليلة، سهر طويل، وقائمة طويلة من الأسى المكتوب، والأماني المشتهاة. تروق لي الفكرة.. فأقبض على خطاي في طرف الشارع، وأنتظر سيارة أجرة فارغة. يمرّ عليَّ وقتٌ طويل وأنا تحت المطر، وما من سيارة. كلما أهمّ أن أصل إلى سيارة أجرة فارغة، يسبقني إليها مخلوق ما ينبت أمامها كالفطر.. يندسّ فيها ويمضي. أنتظر أكثر.. فتبتل ملابسي، ويأخذني البرد، وحين يطول انتظاري.. ألعن ساعة تفكيري بمكافأة الجسد.. فلو مشيت، من ساعتي، لكنت الآن في غرفتي أحتفل بنفسي على طريقتي، أعدّ لها عشاءً فاخراً (أوقية من اللحم المفروم الناعم، وفحل بصل مفروم ناعم أيضاً، وحبة بندورة، وثلاثة أرغفة. سأضع اللحم والبصل في الصحن القيشاني الوحيد الذي أملكه.. ولحظتئذٍ، هات يا قابلية! سآكل وكأنني في أحسن فنادق البلد)! لكن الآن.. ما من شيء سيرضيني، فقد تورّم غضبي وازداد. أتمتم بأسى: ــ لو ذهبت إلى البحر، يا خميس، لجفَّ. دنيا بنت حرام، تعطيها وجهك، فتدير لك قفاها. دنيا أعجب من البراغي«! .. بعد الانتظار الطويل المُرّ، ألغي فكرة ركوب السيارة. أمحو المكافأة بشتيمة كبيرة. أمضي في دربي الاعتيادي مشياً إلى غرفتي بوجه محتقن، وشفتين مطبقتين، في البدء كدتُ آكل نفسي من الغيظ، وقد اشتدّ المطر، وهاجت الريح، لكن، وبعد وقت قصير، هان مسيري وحلا حين رأيت فتاة ناهدة الصدر، طويلة ممتلئة، تمشي بهدوء كأن الرصيف تحت قدميها لوح من البللور تخاف أن.. يتوسخ. تشدّ إلى صدرها محفظةً وكتاباً. يرفّ صدرها.. فيرتجان رجة خفيفة.. آسرة. تسير، قربي، تحت المطر غير عابئة بالناس، والبرودة، والريح اللعوب. تمشي.. فتنسحب معها الأرصفة، والشوارع، والمحال، وأشجار الطريق.. توازيها للتحية، وللمرأى الجميل. يعجبني ثبات خطوها، وأحسدها على تمتعها بالمطر. تروق لي الفتاة فأطوي ببصري بداية الشارع على نهايته.. لأرى إن كنتُ وحيداً قربها أم لا. ألحظ انشغال الناس بأنفسهم، وقد أشعل المطر في أجسادهم الحركة، بدوا يتراكضون ويتناثرون هنا وهناك، وما من أحد منهم مهتم بالآخر. أقترب من الفتاة وأنظر إليها. مرةً أسبقها بخطوات وأنظر إليها. وأخرى أتخلّف عنها وأتفحصها. أنثى كالنخلة، طويلة وممتلئة، ومطمئنة. تبدو لي وكأنها سارت طويلاً تحت المطر.. فثيابها مبتلة تماماً، وشعرها هامد، كفَّ عن إبداء وجهها ورقبتها وإخفائهما. بدت كأنها خارجة لتوها من البحر، بعدما دخلت إليه بتمام قيافتها. أقترب منها ناوياً أن ألاطفها بكلمة، أجسُّ (نبضها)، فأتردد كثيراً، أو أسألها إن كانت بحاجة إلى خدمة ما، فلا أتجاسر، لكن، مع مرور الوقت، تلحُّ الفكرة عليَّ. أقترب منها أكثر. تلحظ هي اقترابي منها وابتعادي عنها، فترامقني مرات عدة، ثم ألحظها ترامقني وتبتسم. تمتلئ الروح برغبتها. أدنو لمحادثتها كطفل، وأنا أتمنى من الله أن يمنَّ عليّ بوقت طيب معها. إن حدث ذلك.. سأكتب تاريخ هذه الليلة على باب قلبي. أدنو أكثر. أهمس ببحة: ــ »مساء الخير«! فتجيب دون تردد: ــ »مساء الخير«! أتلعثم بالاعتذار، وسؤالي إن كانت بحاجة إلى مساعدة، فتهزّ رأسها نافية (ينقبض قلبي) فأكفُّ عن الحديث. تسألني دون توقع مني: ــ »إلى أين«! فأجيبها بحرارة: ــ »لقد تركت دوامي المسائي منذ قليل«. ــ لكي تسهر«؟ ــ »لا.. فأنا وحيد«. تقول بعذوبة، وقد صمتت قليلاً: ــ »ترافقني إلى مكان سهري«! فأراوغ قائلاً: ــ »قد أزعجك«. فتهزُّ رأسها نافيةً. (نفي لا أجمل ولا أرق)! أنسى نفسي قليلاً لأشكر الله الذي استجاب لدعوتي. .. ففي هذه الليلة سأجد لرأسي صدراً دافئاً، وفوقه سأبوح بكل أحزاني، سأقول لها، مصارحةً، أن المدينة عذَّبتني، وأكلت قدميَّ، وأن العيش فيها ضمورٌ لا امتداد، وأنها لم تكن سُلماً، كما قيل لي، له بداية ونهاية، وأن سنوات الحياة فيها درجات.. سنة تقود إلى سنة، حتى أصل إلى القمة. سأصارحها بأشياء كثيرة. لمَ العجلة؟! أمشي.. فأوازي الفتاة في مسيري. دون أن أهتم بما حولي من أشياء، وأصوات، وألوان. أحاول، قدر استطاعتي، كتم صوت حذائي. وأرجو الله أن يكون وجهي، الذي دعكته في غفلة من الفتاة مرات عدة، لامعاً مثل وجهها. أتأسف لها لأن المطر بلّل ثيابها وشعرها.. فتبتسم. (أنتظرها لتتأسف لي.. لأن المطر بللني أيضاً، لكن انتظاري يطول). أحفًُّ بها مصادفةً.. فأضطرب وأجرض بريقي. أسمعها تقول بصوت هادئ أنها قررت أن تفاجئ أصحابها الساهرين بمنظرها المبلول، فأبتسم وأنا أنتهز فرصة التمعن بجسدها الذي بدت مفاتنه، بعدما لصقت الثياب عليه. بدا وجهها الواسع الطويل لامعاً متورداً.. كأن الدموع غسلته للتو. تقول لي: ــ »سنفرح هذه الليلة أكثر من كل الليالي الماضية«. فأتمتم لها: ــ »هذه الليلة جديرة بالفرح«. (لماذا.. لمخلوق مثلي، لست أدري)؟! تحدثني عن وحدتها مع والديها، وأنها عاتبة عليهما جداً لأنهما تركاها بلا أخ أو أخت، وأن حيرتها كبيرة دائماً لأنها لا تعرف كيف تقضي أوقات فراغها. وأحدثها عن قريتي والحياة فيها، وكيف كنت أظنّ أن شهادة الجامعة (حجاب) من الفقر، والخوف، والأماكن العالية، والتردد، والسقوط. (حجاب) سيمحو صفرة لوني، وعثراتي، وماضيَّ. (حجاب) سيأخذني إلى صدر أتمناه، ودربٍ أشتهيه وقد طاردته طويلاً. كنت أظنها دنيا، فسعيت إليها. (بهدلتني) المطاعم ليلاً وأنا أغسل صحون روادها.. فتحملت. وعذَّبتني نهارات الدراسة، فصبرت. ولم أفطن إلى أنني حين كنت أتقدم في الدراسة سنة بعد سنة أن الدنيا تقدمت كثيراً. وحين حصلت على الشهادة انقلب السحر على الساحر.. فلا همومي ولّت، ولا دفئي المرغوب.. دنا. تقول باندفاع شديد: »إن الشهادة صفر، وما عادت تفيد بشيء«! فأوافقها! وتضيف بأنها لذلك، ضحَّت برغبتها في دراسة الأدب الفرنسي، ودخلت الجامعة لتدرس الحقوق كما أحبّت أمها. أؤمِّن على كلامها وأظلُّ طيَّ صمتي؟! أم أنثر ما في القلب من غصّات؟. أتردد قليلاً، فتجتاحني، رغماً عني، كآبة أعرفها جيداً. أسمعها، بعد صمت قصير، تتحدث عن والديها الرائعين اللذين ذهبا إلى سهرتين مختلفتين. فأودّ أن أقول لها إن أهلي، الآن، نيام في هجعة واحدة كعشِّ من (الدبابير).. حلاوة الليل عندهم.. هي أنه هدنة مع الحياة ليس أكثر! أسألها، وقد مضى علينا وقت طويل ونحن نمشي: ــ »أما اقتربنا«؟! فتجيب: ــ »بلى، لكني أقترح عليك أن نتسكع في الشوارع حتى ما قبيل منتصف الليل بقليل. ما قولك«؟! فأغمغم، وقد حننت لمجالستها وملامستها، كأنني أعرفها منذ زمن طويل: ــ »لكن الدنيا.. مطر، وبرد، وأنت رقيقة«! فتهمس: ــ »لا عليك«! وتعود لمحادثتي. تقصُّ عليَّ أخبار عشاقها الذين تركتهم لأنهم غير جديرين بحبها. وتمدُّ أمامي طقوس هواياتها، وصفات صديقاتها وما حدث لهن مع أصدقائهن، وتكشف لي عن أحلامها في السفر. ولكي تسايرني، وقد استمعت إليها طويلاً، تسألني عن ألواني المفضلة، فأقول لها: ــ »الأحمر. الأخضر..«. فتهزُّ رأسها مستغربة، لتقول: ــ »الألوان الأحلى هي الموف، والسكلما..«. وهكذا ظللنا! حديث يأخذنا إلى حديث، وشارع إلى آخر إلى أن أنفقنا وقتاً طويلاً جداً حتى اقتربنا من منتصف الليل (الذي حسبته لن يأتي)! .. لحظتئذٍ، قالت: ــ »هيّا، لقد تعبنا«! فانطلقنا باندفاع بادٍ. كنت أمّني النفس بأن أرتوي من رؤيتها تحت أضواء مبهرة، داخل بيت دافئ. سأنزع عنها ثيابها المبللة قطعة قطعة. وسأمنحها كلّ الدفء الذي اختزنته الروح لأنثى حقيقية. سأنشِّف شعرها ووجهها بخفيف أنفاسي، وسوف..! كانت صامتة، مستمتعة بوقع أقدامنا، وصوت تساقط المطر.. لابدّ أنها، هي أيضاً، تفكر كيف ستُفرح قلبي. وكيف ستجعل من ليلتي هذه.. ليلةً لا شبيه لها. سأساعدها كثيراً.. سأمحو عنادي وترددي، وأكون بين يديها ليّناً طيّعاً، سألبي رغباتها كلها، وسأجعلها توقن تماماً بأن أبناء القرى جديرون بالمحبة أيضاً. أحمّس نفسي وأشجعها.. بأن هذه الليلة ليلتي، وفيها لا فرق أبداً ما بين الوقوف والانحناء. (يبدو أنني سأعرف الفرح.. أخيراً)!!. بغتةً، تنقطع أحلامي دونما تنبيه حين تقف رفيقتي أمام باب خشبي عالٍ، مزيّن بالنقوش والرسوم.. فأقف. تقابلني، لأول مرة، وجهاً لوجه، وقد حضنت صدرها بذراعيها، وشدّت عليه. تقول: ــ »لقد وصلت. هذا هو البيت«. فأقول لها، وأنا أبتسم: ــ »أخيراً..، كان المسير استثنائياً«! توافقني. تزمّ شفتيها على ابتسامة ناحلة، وتهزّ رأسها بعزم، ثم تتمايل أمامي بهدوء، وترمش بعينيها، ثم تقول: ــ »أشكرك على كلّ شيء. وأرجو لك ليلة طيّبة، وعاماً طيّباً.. أيضاً«. سقط قلبي أو كاد!.. فهي تودعني!.. بعد كل هذا المسير، وكل هذا الحديث تودعني! (اعتقدتُ أنني وإياها.. كنا ننثر عتبات صغيرة هنا وهناك.. حتى إن خلونا، تكون الروح قد عرفت الروح وتاقت إليها..). إنها تودعني. تبدد أحلام ساعات طويلة، أحلام عمر بحاله. تمدّ حياتي بكآبة إضافية، وإحباط جديد (وهل ينقصني؟!). أخطو نحوها. أحاول أن أقول لها شيئاً، أن أشرح موقفي، وأبيّن لها أنها إن تركتني الآن.. سأردُّ باب الحياة عليَّ.. وأنتهي، سأحاول أن..!! لكنها استدارت دون أن تسمع كلمة واحدة. ودون أن تواعدني لمرة قادمة. فتحت الباب، ودخلت! وخلفها.. صرَّ الباب ثانية وانغلق،.. فانغلقت الروح على ما فيها.. وانطوت. .. مع ذلك، وقبل أن يخدر الجسد في وقفته، جررتُ خطاي نحو غرفتي.. فما زال لدي هناك جارتي العجوز التي تنتظرني كأنني ابنها الوحيد.. وكتبي، وزهور الأقحوان، وفراشي، وعشاء عامي.. الأخير!! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في غيابهما..! [align=justify] مساءً، أحسستُ بالأسى يملأ قلبي، وقد بتُّ وحيداً في الحديقة العامة، وهما لم يحضرا بعد!! لا أحد حولي، لا عشاق يتهامسون، ولا أطفال يجرون أو يتصارخون، ولا عجزة مثلي يتأملون. يخيفني هذا الفراغ العجيب، فأطلق بصري في ما حولي فلا أرى سوى المقاعد المنزوية تحت الأشجار، وقرب مراتب العشب، وفي البعيد، أرى الحارس العجوز الضامر يترامح هنا وهناك، يغلق الأبواب، يتفقد الأدوات والأسيجة ومصابيح الإنارة، ويخرج!! كان المطر، قد بدأ منذ لحظات، يتساقط ناعماً رخواً، وكنت ألوذ بمعطفي الأسود الطويل تحت واقية التوتياء المصبوغة بإعلانات الأشربة الباردة، أتفرج على الناس الهاربين من المطر وعتمة المساء والريح اللافحة، والسيارات اللجوجة، والبيوت التي راحت تبدي جمالها بعدما أضاءت نوافذها وشرفاتها العديدة. أحسستُ بوطأة الصمت، ووحشة المكان، وبوحدتي المديدة، فهممتُ أكثر من مرة أن أذهب وقد ازدادت البرودة وتضاعفت، إلا أن شوقي لرؤيتهما وهما يتهاديان إلى موعدهما الاعتيادي، جعلني أتلبث في مكاني لكي أراهما فقط!! كانت روحي، لحظة يطلان، تطمئن وتهدأ كأنني ملاكهما الحارس، وما أن يجلسا حتى أنهض مديراً لهما ظهري، متمنياً لو أن أشجار الحديقة تتقارب وتتزاحم حولهما لتحجبهما عن نظرات الناس اللائبة. لا أدري ما الذي حببهما إليّ دون باقي الخلق الوافدين إلى الحديقة. كما لا أدري لماذا رضيتُ عن لقاءاتهما دون أن أعرف محتواها؛ بل لا أدري لماذا كان النوم يجافيني في المساءات التي لا أراهما فيها؛ كلّ ما أدريه هو أنني، وكلما رأيتهما، تذكرت الماضي، يوم كنتُ ألتقي ربيعة قرب بيتهم بعيداً عن العيون الراقبة؛ ربيعة جمال الدنيا الذي لا أنساه، وغصّتها التي لم أستطع محوها بعدما التهمها المرض فجأة فقطع خيطها مرة واحدة!! طال الوقت وامتدّ، ولم يأتيا!! لعنتُ العتمة والبرد الشديد؛ لكنني لم أفقد الأمل، ولم أغادر مكاني. نشطتُ في مراقبة المداخل، وأرهفت سمعي، ولكن دون جدوى، فالحارس ولّى بعدما سها عني قاصداً كعادته. أخثر بصري فوق مقعدهما الخشبي القريب مني، والمتواري وراء مشتل الورد القريب من الشارع العام، والمطل على البحرة الواسعة ونافورتها التي تحيل الماء إلى خيوط من الفضة اللامعة. لقد اعتدتُ على رؤيتهما في كلّ مساء وهما يتقدمان ببطء فوق خطا خجلى نحو مقعدهما المعهود، وقد عششت كفُّ الفتاة البيضاء الطويلة في كفّ رفيقها الطويل الأسمر، وقد مال رأسها نحو كتفه لائذاً في هجعة أرقُّ من الشوق وأحنّ، يمشيان على مهل وهما يتبادلان الهمس، والنظرات، والدفء الرغوب. لم أقترب منهما أبداً، ولم أرَ تفاصيل وجهيهما، ولم أسمع همهماتهما. كنتُ أكتفي دائماً بعذوبة هذا المشهد الرخي، ورهافته الآسرة. في مرات قليلة، كنتُ أشعر بالحزن وأنا أرى الشاب يدخل الحديقة وحيداً يهفو إلى المقعد كالمطرود، يجالسه ويمسّد عليه بكفّه لكأنه يدفئ المكان والوقت ريثما تأتي هي، فلا يهدأ أو يستكين إلا عندما يراها قادمةً على عجل تموج مثل عيدان القصب، ترمي للدرب خطاها ولهاثها ونظراتها الشرود؛ لحظتئذٍ يصير مشهد اللقيا أبعد من اللهفة وأبقى!! أحسُّ بالليل يوغل في العتمة والهدأة الفائقة، وهما لا يأتيان. تأخر الوقت كثيراً، والبيوت أطفأت أنوارها، وهما لا يبدوان! أرفع قامتي رويداً رويداً، وأدفع خطاي نحو مقعدهما الوحيد البارد، فيلفّني المطر الحنون، ونظري يلوّب عليهما حائراً هنا وهناك في مفارق الحديقة، وخلف الأشجار فلا أراهما. أصل إلى المقعد. أدقق النظر فيه كأنني أراه للمرة الأولى. ألمّس عليه. أمسح نقاط المطر المتساقطة على أطرافه. أطرد بلله، وأجمع أوراق الأشجار الصفر المتناثرة حوله، أجعلها طبقاً فوق طبق مفرشاً طرياً لأقدامهما. أبدو كمن يؤثث المكان بأنفاسه وحيرته، وحين أطمئن أنسل مبتعداً كي لا يضبطاني خلسةً قرب عشهما فينفران كطيرين عزَّّ عليهما الأمان، وقبل أن أحثّ الخطا خارجاً أستدير نحو المقعد، أحدّق فيه وأطيل النظر، ثم أحدّق فيه وأطيل النظر، فلا أمضي إلا وقد رأيتهما مثل غيمتين يهبطان عليه بعدما أعياهما التعب والجولان، إحداهما تدنو من الأخرى وتمسح عليها كيد ناحلة تقطر زيتاً تمرّ بخشوع على أيقونة ملأى بالألم العميم، وأبتعد حابساً أنفاسي وطاوياً وقع خطاي، وقد خلفتهما ورائي تضيئهما أنوار السيارات حيناً، وتخفيهما حيناً آخر في لحظة أرحب من المساء وأغنى!! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في شرفتها..! [align=justify]ـ 1 ـ الآن، أيقنت أن الأيام دفعتها إلى الوراء كثيراً. وأن ما فات فات، وأن الندم ما عاد يفيدها بشيء.. لذلك.. علقت حياتها على نهار دافئ قادم أو على مساء فضيّ بَليل.. قد يأتي! ـ 2 ـ وحدها.. وفي كل مساء، وعلى شرفتها العالية تساهر أيامها الماضية. تتذكر صدودها عن شبانها الذين تقدموا إليها والعيوب التي اكتشفتها فيهم وعجزها ـ رغم محاولاتها الكثيرة ـ أن تعيش مع واحد منهم. تتذكر كيف أذنت لها الشهادة أن تودع أهلها وقريتها وتنحدر نحو المدينة، لتتعلم مهنة التمريض، والخواطر والمشاعر التي استولت عليها وهي في قطار الليل تحبو نحو المدينة، والمطر الخفيف الناعم الذي رافقها طوال الرحيل، والأرض الممدودة المرتجفة تحت عجلات القطار.. بمنظره الكالح المهيب. تتذكر كيف قابلتها المدينة بعتمة.. أضواؤها شاحبة أعياها السهر وعذَّبها، تلك العتمة التي أرعبتها وسمرتها فوق مقعد رخامي بارد في المحطة حتى الصباح. وكيف أن صباح المدينة باكرها بالبرودة.. والوحل، وعمال القمامة.. والناس النيام الموزعين حولها بوجوههم المصفرة، وأفواههم المفتوحة وكأنهم في هيئة استغاثة أو حزن عميم!! تتذكر الآن أشياء كثيرة.. مريولها الأبيض، ودروس التمريض والأطباء، والمرضى، وروائح الأدوية، والعمليات، وانكشاف صدرها وشعرها وساقيها لأول مرة أمام الناس في المشفى.. والطريق. (الآن، في شرفتها.. وقد كرت الأيام كثيراً، يعتكر وجهها حين يراودها المستقبل في صورة وجه من وجوه السيدات المتقدمات في العمر اللواتي تعتني بهن في المشفى، أو حين يبدو لها في هيئة من هيئاتهن الحزينة! وحدها.. تتذكر وتحلم ثم تتباهت، فتغفو)! ـ 3 ـ اعتادت، منذ ليال عدة وهي في شرفتها.. مع طعامها وشرابها ونباتات الزينة، وموسيقاها التي تحب.. أن ترى رجلاً يدنو نحوها في وقت متأخر. يقوده إليها درب ناحل مترب يكاد لا يبين. كان يبدو لها، من بعيد كتلة عاتمة تقترب. يتلامع جبينه كالفضة بين حين وآخر وكلما باغته الضوء. يتقدم نحوها فوق خطا واهنة متعبة لكأنما السهر أطفأ رشاقتها. يدنو فتراقبه باهتمام شديد حتى يصبح تحت شرفتها تماماً. عندئذٍ، تسقط بصرها عليه حبلاً حبلاً، وتحاول معرفة ملامح وجهه، لكنها لا تستطيع، لأن الرجل سرعان ما يغيب في مدخل البناء الكبير دون أن ينتبه إليها أو يلحظ وجودها. وحين يتوارى.. تعيد جسدها المتدلي فوق الشرفة.. إليها، وتفكر به قليلاً ثم تمضي في سهرها.. وهي تراقب البيوت من حولها وهي تنعتم واحداً واحداً. في أول الأمر لم يكن الرجل يثير اهتمامها أبداً.. وقد عدّته واحداً من الذين مصَّتهم المدينة ثم صدّت عنهم، يغافل الناس ليلاً، وقد هجعوا وناموا فيأتي إلى أحد مداخل الأبنية وينام فيه، لكن الرجل راح يثير اهتمامها حين بدا لها.. في واحد من المساءات، وعلى حين غرة ـ وهو قرب شرفتها ـ رجلاً طويلاً ممتلئاً. ثيابه نظيفة، وشعره طويل أسود، ووجهه أبيض لامع بشاربين أسودين، وشفتين منفرجتين عن أسنان شديدة البياض، وذقن عريضة مثلومة، وقد انكشف قميصه عن صدر واسع عريض. لحظتئذٍ.. أحسّت بغصّة لأنها ظلمته. وخُيّل إليها أنها رأته من قبل مرات كثيرة، وأن طيفه عالق في خاطرها منذ زمن بعيد، وأن شيئاً ما يربطها به، ويشدّها إليه. (حاولت جاهدة أن تتذكر أين رأته ومتى؟!.. وهل هو من سكان البناء أم من معارفها في المشفى، أم أنها رأته في الطريق لمرة أو أكثر؟! لكن دون جدوى)!! وحين تكرر ظهوره وغيابه، وازداد إلحاحها في مراقبته صار أكثر ما يعذبها في لياليها أن يأخذها النوم قبل قدومه أو أن تطيل سهرها دون أن يجيء، وغدا كل ظهور له يؤكد أنها تعرفه تماماً، وأنها جالسته وحدثته، وأكلت معه وشربت، وأن ثيابه التي يلبسها كانت قد نظفتها وكوتها مرات عديدة. .. ولكم استنفرت حواسها في ليالٍ متعددة وحالما يدخل البناء لكي تسمع صوت باب يفتح له أو يغلق عليه، أو أن تراه صاعداً ملهوثاً.. يرمي للدرج تعبه وعتبه عليه.. لكنها لم تسمع أو ترى شيئاً. ولكم تجرأت، وتركت له الباب مفتوحاً مضاء وتشاغلت عنه.. لعله يدخل أو يسأل، لكنه لم يأت أبداً، ولم تشعر بوجوده داخل البناء. بل إنه لم يعرها اهتماماً حين حاولت لفت انتباهه إليها وهي في شرفتها.. وحزنت!! ـ 4 ـ في هذه الليلة وقد هدتها الأسئلة، والحيرة.. قررت أن تراه وجهاً لوجه، وأن تتأكد من معرفته.. بعدما أقلقها وأغلق عليها نهاراتها. في لحظة من اللحظات، وقد فكرت به كثيراً اعتقدت أنه وحالما يراها سيعتذر إليها طويلاً لأنه وفي كل يوم يأتي إليها فلا تقوده قدماه إلى بيتها. يدخل البناء والدنيا ليل فتتشابه عليه الأبواب، والمداخل ويظل يدور ويدور قليلاً أو كثيراً فلا يجدها، وعندئذٍ يعود خائباً ممروراً حالفاً الأيمان الغليظة ألا يعود..)!! حين صممت على رؤيته، نظّفت الشرفة بالماء والصابون، ولمّعت سياج الألمنيوم المحيط بها، وأسقطت الأوراق المصفرة من نباتاتها، وبدّلت غطاء المنضدة الصغيرة، وأعدت شرابها وطعامها وموسيقاها، ومكاناً خالياً للرجل. وحينما لاح لها أنه من الممكن أن يدخل إلى مطبخها أو غرفة نومها سعت إلى مسح شيء من سواد أحد حيطان المطبخ.. (كانت المدفأة قد تركته منذ سنوات بعيدة) وخبأت ثلاثة فناجين قهوة مكسورة الأيدي، وصحناً من البلاستيك الأصفر مشقوقاً من منتصفه، وركوة قهوة يدها الخشبية القصيرة محروقة من طرفها. وحزمت علبة القمامة بقطعة من البلاستيك الأسود الطري، وربطتها بخيط رفيع من المطاط. ومسحت واجهة البراد بإسفنجة مبلولة. ورتبت ملابسها داخل خزانتها، وأخرجت شرشفاً نظيفاً وغطت به سريرها، ورمت علبة كرتونية كان فيها بواقي قطع من أقراص الغريبة والبرازق. وشمّت كأس الماء التي تشرب منها مرات عدة. كانت على قلق. وحيرتها كحجر الطاحون لا أول لها ولا آخر. وأحسّت منذ أول سهرها أن الليل طال وامتد كما لم تعهده من قبل. بحثت عن أغنيات وقطع موسيقية تحبها، وانتظرته طويلاً حتى أشرف الليل على الزوال أو أوشك. كانت وكلما امتد بها الوقت، تضبط نفسها بين حين وآخر وهي واقفة أمام المرآة.. تستشيرها. وقبل أن يطويها النوم واليأس معاً.. رأته قادماً كالضباب.. منقاداً لخطا رخية. يدنو على ريث شديد. ولما اقترب أكثر، سيّجته بنظرها، وتأكدت أنه هو. واهتاجت الروح في داخلها، وضجّت قدماها بالحركة. ودونما إبطاء انطلقت إليه لتستقبله قبل أن يذوب في المدخل. لحظات.. وأصبحت في فم البناء واقفة باضطراب وارتباك تدعك وجهها براحة يدها، وتهدئ ضجيج أنفاسها رويداً رويداً، وهي تستعد للقياه. نفضت ثوبها مرات عدة، ومشطت شعرها بأطراف أصابعها.. وطال انتظارها، وبدت أعضاء جسدها مستنفرة لا تستقر على حال. تقدمت من مدخل البناء وأطلت إلى الخارج لترى إن كان الدرب مازال عالقاً به أم لا.. فما رأته! اعتكر وجهها أكثر، وساورها شك ضعيف بأنه ربما أحسّ بها فسبقها إلى تحت الدرج وتوارى عنها.. فاستدارت نحو الدرج، واندفعت إليه وهي تتمتم له همساً. وتبحث عنه بنظراتها ويديها وسمعها.. مهمهمة لتشعره بوجودها ودون نتيجة. عادت إلى المدخل، وأطلقت بصرها نحو الدرب.. وما من أحد! مضت وبحثت عنه حول حاوية القاذورات.. فما وجدته! توهمت أنها لم تبحث عنه جيداً تحت الدرج فسارعت، ومسحت حيطانه الواطئة بجسدها لعله التصق بأحدها. وانحنت على الأرضية، ولمستها بكفيها.. وما من جدوى!! شعرت أنها أضاعته فعلاً.. وقبل أن تصدق ذلك نفرت إلى الدرب الذي كان يقوده إليها. ركضت فيه وبحثت عنه في جانبيه كالمذعورة، وعندما لم تجده، راحت تتبع آثار خطاه وسط عتمة لا تكشف شيئاً، وأخيراً يئست، أحسّت ببرودة شديدة تلفّ جسدها الذي أنهك تماماً فاستدارت عائدة إلى البيت.. خطوة إلى الأمام وعشرات الالتفاتات إلى الوراء.. بدت كطائر خرب عشه. كانت، وقبل لحظات فقط، وحين نزلت لتستقبله مشرعة الذراعين والوجه، مفتوحة العينين والصدر والفم، شعرها يعلو ويهبط كرف من العصافير، وثوبها العريض الواسع يتراقص بامتداد فوق قدميها القافزتين. لم تدرِ كيف هبطت كل تلك الدرجات الكثيرة ولا كيف وصلت إلى المدخل.. أما الآن فهي تصعد إلى بيتها درجة درجة ببطء ثقيل، وقد همد شعرها وسكن، وتراخى ثوبها، وانكمش، وانغلق صدرها وانطوى بذراعيها المضمومتين. فمها مطبق، ووقع قدميها كأنه طبل يشيعها. كانت تحصي الدرجات التي تصعدها فترى السليمة منها والمكسورة الأطراف.. فتهز لها رأسها. وترنو إلى أعقاب السجائر التي تناثرت على الدرجات هنا وهناك.. فتتمتم لها: »أعقاب، أعقاب«!! وترى الأوساخ التي علقت في الزوايا، وكتابات الأطفال ورسومهم على حيطان الدرج وقرب الأبواب، الأبواب التي لها عيون سحرية والتي ليس لها، المدهونة منها وغير المدهونة.. وابتسمت بذبول.. لأنها وحين خرجت، تركت له الباب مفتوحاً والشرفة مضاءة، وزمت شفتيها. وها هي.. الآن تنسل إلى شرفتها إلى حيث هي نباتاتها وموسيقاها وشرابها.. وقبل أن ترتخي في جلستها ودون قصد منها شملت دربه بنظرة عجلى فرأته.. وقد قطع نصف الدرب يدنو نحوها على مهل.. كالغبش!! * * * [/align] انتهى الكتاب |
الساعة الآن 14 : 06 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية