![]() |
كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
[align=CENTER][table1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/21.gif');background-color:silver;border:4px groove sandybrown;"][cell="filter:;"][align=center]
مختارات مما ينشر في منتدى القصة القصيرة سيكون سجلا باقيا في نور الأدب [/align][/cell][/table1][/align] ملاحظة : لإضافة أي قصة لكتاب نور الأدب .. يتم ذلك من خلال مشرف منتدى القصة القصيرة الأديب القاص رشيد حسن .. وكل ما يضاف دون الرجوع إليه يحذف .. لكم الشكر |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
[frame="1 98"] الصبار ... قصة للأديب القاص : رشيد حسن [/frame] [ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/22.gif');background-color:silver;border:7px groove silver;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center] [align=justify] ولجت الفصل ، فطالعتني عشرات العيون في تحفز وفضول، وران صمت عميق لا يشوبه سوى وقع قلم أو أزيز كرسي . أشرت بالجلوس ثم أخذت مكاني بمكتبي وفتحت دفترا دونت فيه ملاحظات هي عبارة عن تعليمات للصغار حول طريقة العمل... الأدوات ، التغيب ، الشغب ، الزي المدرسي ، الفروض ... استمع إلي جمهوري بانتباه هو أشبه ما يكون بصلاة . الآن ... تيقنت أني أحكمت سيطرتي على حشد يملأ القاعة طولا وعرضا. خمسون نسمة ، لا تسمع لها همسة . الآن... يمكنني العمل كما يحلو لي ، وبما يمليه علي كل ما اكتسبته من تجربة واطلاع في ميدان التربية والتعليم . الطفل ، المراهق ، الانحراف... شملني زهو وأنل أدير ببصري من فوق نظارتي المكورتين متفرسا في الوجوه . ربما كان كلامي بلغة أجنبية عاملا في هذا السكون المعبر عن استسلام تام . "- حسنا ، لنبدأ العمل – قلتها بفصاحة أهل السين- أنت... هناك... إلى السبورة ." ولو أن زلزالا رج الفصل رجا ، أو أن عاصفة دمرت المكان تدميرا لكان أهون من رد ذلك "الشيء" الذي أحنى رأسه وهو يحركه رافضا . تملكني شيطان التحدي والعناد ، ورأيت أن هيبتي وسمعتي في خطر فقلت في حزم: - ألم تسمع ؟ قف ، وتعال إلى السبورة . لعله لم يفهم . أشرت له بأصبعي . صرخت بصوت رن في أرجاء الحجرة . أمرت أحدهم بشرح الأمر، دون جدوى :"- حسنا... سوف نرى ." في الحقيقة ، لم أكن أعرف ما يجب فعله ، فقد تعودت أن تنفذ أوامري بحذافيرها . ويبدو أنني لم أحسب للأمر حسابه ، و... رن الجرس. - أنت... لا تعد إلا وولي أمرك معك...مفهوم ؟ طأطأ رأسه . خيل إلي أنه سيحركه يمينا و يسارا . شققت الحشد المتدفق نحو الباب ، وأمسكت بأذنه: - انتبه… سيكون عقابك أليما… فهمت ؟ لا شك أن شيئا ما آلمه قبل أن يحس بإبهمي وسبابتي تضغطان على شحمة أذنه، وأنه يغالب البكاء فانسل بين رفاقه واختفى ، بينما توالت الحشود وترددت نفس الخطبة :"- حذار، إياكم ، أنصتوا ، انتبهوا ..." ولكي أبدو واسع الاطلاع والمعرفة ، امتدت تعليماتي إلى التغذية :"- الحليب ، البيض ، اللحم ... هذه المادة فيها حديد ، وتلك فيها كالسيوم ، وفيتامين أ ، ب..." ولم تنته الحصة حتى كان الإعياء قد بلغ مني مبلغه . فانصرفت والطنين يصم أذني، فلم أعرج كعادتي على القهوة رغم إلحاح جاري علي بالحضور لنشاهد سويا لقاء برشلونة وريال مدريد في صراعهما الأبدي الذي تطال شرارته المقاهي المنتشرة كالأخطبوط عبر شوارع المدينة . عزفت نفسي عن مشاهد السباب والصراخ والمشادات الكلامية ، ولم أمر على منزل خطيبتي حتى أوفر علي مسامعي السؤال المتوقع: -" هيه...ماذا عن الساعات الإضافية ؟" تاقت نفسي إلى لحظة سكون أستجمع فيها أفكاري. فقد كنت مشتت الذهن دون معرفة السبب. قد يكون وراء ذلك انهماكي المفاجئ في العمل بعد عطلة طويلة . وربما يكون انقباضي راجعا لمعاناتي من جراء فشلي في الإنتقال إلى مؤسسة قريبة من مقر سكناي ، إضافة إلى تأخر ترقيتي بعد أن نالها كل زملائي ، القدماء و الجدد . وأنا في شرودي هذا ، لم أنتبه لجاري الغارق في متجره وسط السلع المكد سة وهو يناديني معاتبا : - على الأقل ردوا السلام... لا نريد منكم جزاء ولا... - عفوا ، لقد كنت ساهيا فلم... - هكذا أنتم معشر المعلمين... كأنكم تحملون أوزار العالم فوق ظهوركم . - ما العمل وأمثالك ممن لا يطاق تحمله ؟ أطلق قهقهته المعتادة ثم توقف ليقول جادا : - ألم تسمع بآخر الأخبار ؟ الإنكليز يصرحون أن للفلسطينيين الحق في إقامة دولتهم . - هل قالوا ذلك حقا ؟ - إيه والله... هؤلاء أناس شجعان وصرحاء... لله ذرهم . - هنيئا لنا بمثل هذا الكلام ... لكن اعذرني . أنا متعب . مع السلامة . أوصدت الباب واستلقيت على السرير. للمرة الأولى وددت لو ينقضي الليل بسرعة. هل وصل شغفي بالعمل إلى هذا الحد ؟ الليل عندي لحظات الشرود والانطلاق والانفلات من أغلال النهار وأعبائه. لكني اليوم أستدني النهار وأستعجل بزوغ الفجر. حتى النوم أبى إلا أن يجفوعيوني. لم أصدق أن النهار طلع . فانطلقت كالمجنون . هاهي الإعدادية . التلاميذ مصطفون . يدخلون الفصل ويبدأ الدرس . في عيون الصغار توجس وحذر . لا شك أن منظر ذقني الذي نسيت أن أحلقه وعيني الشبه المغمضتين قد راعهم : -" أنت... هناك ... قم إلى السبورة ." لم يحرك رأسه . التفت نحو أحد زملائه فقرأ في عينيه رجاء . الكل يتوسله في صمت ، وأنا كلي غليان ، أنظر من أعلى . أخالني على وشك الانقضاض عليه... على أي واحد منهم... على أي شيء . لكنه ينهض متثاقلا . تتبعه نظرات الخمسبن رأسا ... أعصابي تتراخى ، متزامنة مع تقدمه نحو السبورة . انتصاري وشيك : - تقدم... أين ولي أمرك ؟ تابع تقدمه في تؤدة دون أن يجيب . لا يبدو منه سوى الرأس و الكتفين ... و أخيرا يقف أمامي . قامته لا تتجاوز خصري :-" خذ واكتب... علي بالاجتهاد وطاعة معلمي ."... بدأ يكتب . خطه جميل . نظرت إليه من قمة رأسه إلى أسفل قدمه ، وانتبهت للآخرين يكتمون ضحكة. لا شك أن فتحة سرواله من الخلف قد استرعت انتباههم مثلي . وأكيد أن أصابع قدمه البادية من ثقب بالحذاء المطاطي قد جلبت الأنظار. وفي لحظة ، سقط من يده الطبشور فانحنى ليلتقطه . زادت الضحكات . رفع عينيه إلي . تلاقت نظراتنا . قال لي أشياء وأشياء في صمت...تجاهلتها. - حسنا... أهنئك على خطك وقلة أخطائك... عد إلى مكانك . هذه أول مرة أثني فيها على تلميذ في بداية السنة لحرصي الشديد على ألا ينتابهم نوع من الغرور... ويسود الصمت . في الجو شيء مبهم لا ندري كنهه... لا أنا ولا صغاري ولا هو . أو على العكس ، كلنا يعرف بما يفكر فيه الآخر. ويظل الجميع صامتا حتى يدق الجرس ، ويختفي الصغار كالفئران ... سيطلقون العنان لتعاليقهم اللاذعة ، وسينضاف إليهم آخرون وآخرون... ولليوم الثاني على التوالي أتجنب المقهى والبقال الذي ينتظر بشغف أن أبادره بالحديث عن فلسطين و البوسنة والعراق والشيشان . فهو مغرم باندفاعي في الحديث و بحدة كلامي ، ومعجب باطلاعي الواسع على مجريات الأمور، ويستغرب قبوعي أياما منزويا عن الخلق... متأثرا بما يجري هناك . أقبل الليل ، ويتجدد حبي له . لا أطيق الحيطان ، فأصعد إلى السطح . تستلقي المدينة أمامي متثائبة . تخمد حركتها رويدا رويدا . أصوب نظري ناحية الجبل الجاثم فوقها . تبدو المنازل متعلقة به كأنها تخشى السقوط . وأتفحص الدور الآجورية كأني أبحث عن شيء معين ... ماذا تخبئ وراءها ؟ كأني بها تكاد تميز من الأنين والحرمان فلا أشعر إلا وأنا أهتف : - أنت...هناك... حذار من طعنة غادرة تخترق جسدك الغض... كفاك طعنات . هذا السحر، كل شيء فيه لذيذ... السهر ، الحلم ، الألم ، الذكريات . وهذه المدينة المنبطحة في استسلام عند سفح الجبل ، تثير الشفقة... تطوان ، بنت غرناطة ، كما يحلو لمحبيها تسميتها . هواءها سم ، وماءها دم ، والصاحب لا يكون من ثم . هكذا وصفها أحد المجذوبين في القرن ما قبل الماضي . أعصر ذاكرتي لأتذكر اسمه فلا أفلح... قيل إنه كان يذرع البلاد مقرضا الشعر، ثائرا على الوضع . ولازلت أذكر إحدى قصائده الزجلية : سوق النسا سوق مطيار §§§§§§ يا الداخل له رد بالك يرينك من الربح قنطار §§§§§§ ويضعنك في راس مالك لا شك أنه اكتوى بنار إحداهن . حب ؟ انتقام ؟... النساء...خطيبتي ... الدروس الخصوصية . كم من مرة بينت لها موقفي الرافض لها ، لكنها تحثني متعللة بضيق الحال وضرورة الاستعداد للمستقبل . حسنا... سأفعل ، ومن الغد . لا أدري لم غيرت رأيي . في الأيام التي تلت الدخول المدرسي ، أوليت اهتماما خاصا بذلك الشيء العزيز ذي الأسمال المرقعة والرأس الحليق واللكنة الجبلية . وصار من عادتي قضاء وقت طويل في توجيهه ، حتى أثناء الحصص الفارغة ، وفي الطريق . وربما سهوت ، فاستسلمت لخطواتي لأجد نفسي أخترق الزقاق بين دور القصدير ونبات الصبار الشائك ، فلا يوقظني سوى توقفه ونباح الكلاب... هناك، عند عتبة بيت الصفيح ، تقف الأخت منتظرة ، مبتسمة، ثم أنصرف . أحس أني فعلت شيئا ما . ربما كفرت عن ذنب أو حققت رغبة . لكن الأهم أن توتر نفسي قد انمحى ، وأن قلقي قد اندثر. وجاء اليوم الذي لم أكن أتوقعه... غاب عن الدرس يوما ، ثم يومين ، فأسبوعا... وجاءني الجواب عن سؤال لم أجرؤ على طرحه... لقد رحل- كما قيل لي- مع زوج أمه وإخوته العشرة . لماذا ؟ وإلى أين ؟ ما جدوى السؤال بعد أن انتهى الحلم ؟ "انتهى كل شيء" ...هكذا واجهتني خطيبتي وهي تتفحص حذائي الملطخ بالوحل : - عد إلى الوسخ والحقارة من أمثالك . واهنأ بالحثالة بين نبات الصبار... لم أثر ، ولم أشعر بالإهانة . بل لم أحاول شرح الأمر... سأعود إلى فصلي متفحصا الأجساد والأفدام . سأفتح ، وأندمج في النقاش حول الكرة . وأعرج قلبي على مصراعيه حتى يتسع لكل مع هب ودب ... ثم أعود إلى المقهى على البقال فأخبره أن الدنيا لا زالت بخير... فلفلسطين حجارتها ، وللبوسنة والشيشان رجاله ، وللنفس... كرامتها. [/align] [/ALIGN] [/CELL][/TABLE1][/ALIGN] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
الطريــــــــق إليها .. للقاص الأديب :يـــــــــوسف جاد الحـــــــق
جلس "وليد" في ركن من الزنزانة، ذات الأبواب الحديدية الصدئة، والجدران المتآكلة، تكاد تطبق على أنفاسه، يفكر في أحداث ذلك اليوم وكأنها وقعت منذ أجيال. كانوا قد تركوا له قلماً وأوراقاً، كي يكتب فيها تاريخ حياته، وعلاقاته وصداقاته، والمنظمة التي ينتمي إليها، وكل ما يعرف عنها .. ! لكنه بدلاً من ذلك راح يكتب قصة تلك الأحداث، ربما تحديّاً .. ربما لأنه أحب أن يسجل ما حدث، للحقيقة أو للتاريخ، حتى لو لم يكن واثقاً من وصوله إلى حيث يبغي أن يصل. كانت الريح تهب رخاء، وأمواج البحر تترقرق كأحلام فتاة نقية. وقرص الشمس يقترب من صفحة الماء عند الأفق، يتلاشى شيئاً فشيئاً، كما رأيناه آلاف المرات من قبل، خلف غيوم بنفسجية قاتمة، إلى أن يختفي أخيراً، فتتحول المياه إلى دكنة معتمة، وتسود الكون كآبة تغمر النفس بحزن شجي، يُشعِر المرء بالحنين إلى غامض مجهول لا يعرف كنهه، بيد أنه يود لو يعانقه .. أن يحتضنه .. أن يذهب بعيداً معه حتى أعماق الكون .. صوت الترنزستور يردد متموجاً، علّواً وانخفاضاً أناشيد .. أخبار .. أغنيات .. أحاديث عن الصحة والحياة .. عن فضيلة الصيام .. المرأة والرشاقة .. الرياضة .. ! كرة القدم .. كأس العالم .. ! تتكاثف الظلمة. تسقط من السماء رقائق مخملية. تنبع من جوف المحيط. والنجوم القليلة التي استطاعت أن تطل من ثغرات ضيقة بين السحب لم تلبث أن انطفأت بعد قليل. خامرنا إحساس بأننا قد غدونا ذرات ضائعة في غياهب الكون كحبيبات الرمال في صحراء مترامية الأطرف على المدى اللانهائي، أو كنقاط الماء في بحر لجي بغير شطآن. بدأ الموج يتعالى ويصطخب، بغتة وبغير مقدمات، لكأنما استنفره أحد على حين غرة، وهدير صاخب يضيع في خضمه صوت المذياع. الريح القادمة من الشمال تلفح وجوهنا، وتزداد عنفاً في كل لحظة. نحاول اتقاءها، دونما جدوى في ذلك العراء المطلق، تحت رحمة الطبيعة الهائجة والمفاجآت القادمة من غياهب المجهول. ساد الصمت فترة غير قصيرة. ما من أحد يتفوه بكلمة. لا يسمع سوى صوت القارب يمخر العباب وهدير الأمواج المتصارعة كما البشر فوق اليابسة. ونشيد ارتطامها وهي تتكسر على جوانب القارب. قطع الصمت صوت كادت نبراته تضيع وسط الهدير: _ هذه عاصفة هوجاء يا شباب .. ردّ صوت آخر، في هدوء موحش، في صيغة تساؤل: _ أهي العاصفة الأولى في أيامنا .. ؟ قال آخر في سخرية تتشح بحزن دفين: _ لكنها ربما تكون الأخيرة يا صديقي .. جاء صوت رقيق من الطرف الآخر للقارب .. إنه صوتها: _ بل هذا فأل حسن يا رفاق .. ! وإن صمت ينم عن إعجاب ومحبة، أردفت دلال بصوت لا تعوزه الحماسة: _ لأن هذا قد يعني أن ما سنقوم به الليلة سوف يثير عاصفة، بل إعصاراً تهتز له الدنيا بأسرها. تلك الدنيا التي نسيتنا تماماً .. ************! ارتفع صوت رفيقنا صالح بلهجة ساخرة: _ أتراها عاصفة استحسان أم استهجان ؟ انبرى علي، وهو من قطر عربي شقيق، كان قد انضم إلينا منذ شهور: استحسان لدى بعضنا، وسخط لدى آخرين، والصمت لدى فريق ثالث، والسفسطة الفارغة التي لا تعني شيئاً لدى فريق رابع.. وهكذا .. تتعدد ردود الفعل تعدد الأصدقاء والأعداء.. قال نبيل، ابن السابعة عشرة: _ لا جدوى لشيء على ما يبدو في هذه الأيام الكالحة. جاء صوت دلال، مرة أخرى: _ ليست ردود الفعل هي أهم ما يعنينا يا رفاق. إن الذي يعنينا هو ما سنحققه على أرض الواقع هناك .. ما ستكتبه دماؤنا من سطور فوق أرضنا. تعالى الموج حتى أوشك أن يغمرنا في بعض اللحظات. أخذ القارب يرتفع مع الموجة الصاعدة، ثم يهبط، دفعة واحدة مع الموجة الهابطة، فحسب في كل مرة أنها الأخيرة، إلى أعماق بلا قرار. لم يساور الخوف أحداً منا، لم يكن خافياً علينا أنها ربما تكون الرحلة الأخير، على الأرجح، لا أزعم أن أيّاً منا كان سعيداً لأنه قد يلقى حتفه خلال ساعات، فالموت، نموت ونحيا ألف مرة لكي نقوم بألف دور من أجلها. لم يكن هدفاًَ لنا، وما نحن بهواة انتحار. بل إنَّا لنود لو أما والمرء لا يموت إلا مرة واحدة، وإذ كان لا بد من ذلك، فليكن. ها هي ذي أمنيتي الأزلية تتحقق أخيراً، فأرى أرضي رأي العين .. أمشي فوقها .. يغمرني هواؤها.. بردها .. عطرها .. أسهم بما يفضي إلى تحريرها في يوم قريب أو بعيد ما برح في بطن الغيب .. لن يضيع عبثاً ما نصنع.. سننتقم من الغزاة .. نقض مضجعهم .. نثبت أنها لن تكون لهم أبداً .. أحاديث أبي في أمسيات الشتاء، في دارنا .. "حبة التين، يا بني، كانت في حجم حبة البرتقال .. ". كان يعتز بذلك، لا أدري لماذا .. "بيادر الحصاد عند مشارف القرية، بين القرية والحقول، تفعم الجو برائحة السنابل الجافة والقش والقمح .. الأعراس التي كانت تقام فيها عند نهاية موسم الحصاد، وبداية موسم قطف البرتقال .." صور طالما ألهبت خيالي .. هيمنت على روحي … شيء واحد كنت أخشاه، أن أعيش أو أن أموت دون أن أراها. الرفاق ملتصقون، في هذه النقطة من الكون، في وحدة فريدة مخلفين وراءهم صحارى التيه الشاسعة _ انهار الجدل والسفسطة.. يتذكرون .. يحلمون .. ربما تشابهت القصص .. ربما اختلفت الحكايا .. لكنه الحلم الواحد. حساباتهم المرصعة بالحكمة .. قواميسهم المبتكرة لا تعنينا .. قاربنا هذا هو ما نملك، نحاول أن نصنع شيئاً .. نحطم تلك النظريات العديدة الأسماء .. أمننا نحن لا يخطر ببال أحد .. يتذكرون موتنا .. ويجمعون عليه .. أحس الأمن حيث نحن الآن أكثر من أي مكان آخر حتى ونحن على ضفاف الموت .. ذا هو السلام يرفرف فوق قاربنا في سكينة سرمدية، تأتلق في ومضة البرق هذه، في هدير الرعد، في اصطخاب الموج .. سيمفونية أزلية.. لن أعود إلى ذلك العالم _ المستنقع مرة أخرى .. عالم الحساب والمحاسبة .. على الفكرة في تلافيف الدماغ .. على المعتقد في حنايا القلب .. على الكلمة .. على الخاطرة السانحة .. هذه اللحظات أيها الرفاق، هي التي تصنع تاريخاً مجيداً لشعب صغير.. لأمة عظيمة .. هي التي تحدد معنى الحضارة .. وتلغي جدران الوهم، وعناكب المبادرات والمناورات .. لست بواعظ أحداً .. ولكن كيف لمثلي أن يفكر بغير هذه الطريقة .. ؟ ألم يقل لنا هؤلاء أن الفكر انعكاس للواقع .. واقعي بين لحظات اندماج الحياة بالموت .. ماذا يمكن أن يكون قاموسي، وقد عشت المأساة دقيقة بدقيقة .. لقد بات الألم عنصراً إضافياً في تركيب دمي .. *! أنستني العاصفة مكاني .. أو لعلي أنا الذي نسيتها في غمار أحلامي .. صمت الرفاق أيقظني، أم صوت دلال في منتصف جملة لها تقول بفرح غامر: نحن نقترب من الشاطئ .. انظروا .. تلك الأنوار .. إنها في انتظارنا حتى قبل أن نخلق .. *! مددت بصري بعيداً .. عبر الظلام .. شهقات بكاء خافت .. شجن يعتصر فؤادي تنوء بحمله الأمواج .. أتراها أنوار حيفا أم أنوار قريتنا.. أيّها هو الذي يضيء باحة دارنا .. أيّها ينشر الضياء حول الزيتونة العتيقة، فوق شجرة التين .. قلبي يذوب حنيناً إليها .. وإذا لم تكن هي .. أنى لي أن أعرف الحقيقة .. ؟ وماذا يهمّ.. *؟ هي قريتي .. أرضي أيا تكون.. لست مشرداً هنا .. لست أفّاقاً بغير وطن.. ضائعاً مضيَّعاً رغم أنفي .. لسوف تنجح في اختراق جدار أمنهم المصطنع .. ربما نمتطي (أوتوبيساً) متجهاً إلى حيفا.. آه يا حيفا .. إلى يافا .. هل أراها .. أمشي في شوارعها .. *؟ أدخل منزلاً من منازلها القديمة حيث كان الأهل يقيمون قبل الرحيل ؟، يصبحون ويمسون .. تنتظر الأم عودة ابنها من المدرسة .. تعد طعام الغداء لزوجها العائد من العمل .. تسكب صحناً لجارتها … جريمةٌ ذلك في نظرهم .. سوف يستنفروا جيشهم لمنعي من ذلك.. وحتى حين يقتلوننا سوف يقول العالم المتحضر اننا إرهابيون ومعتدون ..نستحق ذلك الموت .. ويستنكرون صنيعنا، كائناً ما كان، بعصبية متئدة .. بأدب جم ..*! يا أصدقائي .. هذا العالم لماذا ناسف على أي شيء يصيبه .. ما الذي بقي لنا فيه .. ما علينا لو يذهب عالمهم هذا إلى الجحيم..*؟ أرمقها .. عند طرف القارب، مرتكزة بكلتا يديها على حافته. أخالها عروساً في يوم زفافها .. ملاكاً قادماً من عالم آخر .. لن تلبث طويلاً .. تتم الآن _ ربما _ الدقائق الأخيرة من ربيعها السابع عشر .. وتمضي عما قليل .. كيلا تلوث براءتها حضارة عالم مزيف .. تحتضن رشاشها كذلك الطفل الذي حلمت يوماً أن تضمه إلى صدرها. لن يكون عرسها كأعراس أترابها .. عرسها يسهم في تغيير مجرى تاريخ ما .. تحلم .. ما برحت تحلم أن تهز ضمير العالم الذي طال رقاده .. تأمل أن يصحو أخيراً على صرخة دمها .. منذ الآن باتت تحمل اسماً آخر .. سمّوها ما شئتم فإنها لا تأبه للتسميات .. خيوط الدم تطرز ثوبها .. عطرها من تراب الأرض ونداها .. وشاحها .. شعرها المخضب يتناثر حول جيدها .. تستلقي في براءة ملاك .. صدرها يحتضن الثرى.. يرضع الأرض التي توحدت مع ذراتها .. شفتاها تقبلانها في ثمالة حتى الموت. موجة عاتية تقذف بالقارب. يرتطم هذا باليابسة. الريح ما برحت تعصف .. هدير الموج يصخب عالياً. اختفت النجوم وراء السحب .. البرق يمسح الأفق .. الرعد يقصف كشلال هادر .. نشوة اللقاء مع الأرض توشك أن تصيبنا بدوار .. تنهمر الدموع من أعيننا. نلتقي أمنا أخيراً … نغرق في حلم يختزل الكون. نبحث عن الطريق في وجوه بعضنا بعضاً .. قالت آخر كلماتها، والبسمة المفعمة بالحزن العتيق تقطر من شفتيها. كان صوتها أنشودة فرح .. هديل حمامة إذ هي تقول: _ ها نحن أخيراً فوق أرضنا يا رفاق. لم يكن واجباً أن ننتظر حتى تستيقظ الملايين .. ها قد بلغنا الشاطئ يا أخوتي، في أمان لم نشعر بمثله من قبل .. في طريقنا إلى يافا .. ! _ انحنينا نقبل الأرض ساجدين .. |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
أرملة في غزة ... للقــــــــاص الأديب : مجــــــــدي السمــــــاك
[align=justify]الجسد الأسمر يرتعش والذراع ، والكف المرفوع أيضا يرتعش ، بشدة ، والسبابة التي ضغطت كبسة الجرس وأطالت ضغطها كانت تنتفض كالعصفور المبلول بماء بارد ، سمع رنات الجرس الشبيهة بزقزقة البلابل الطليقة .. وقف لحظة ينتظر أن تفتح له الباب أخته الأرملة ، هي لحظة تختلف عن كل اللحظات التي مر بها في حياته ، وشعر كأنها تمتد به إلى ملايين السنين ، والأرض تميد تحت حذائه المغطى بالغبار، لقد نسي أن يمسحه .. ها هو ذا يقف بوجه عابس ، وربما للمرة الأولى في حياته يعبس وجهه المستطيل ، وينخر الحزن عظامه ويحز في أعماق قلبه .. فمعروف عنه أنه كثير الضحك والمزاح ، أو هو كتل ملتهبة وعواصف قوية من الضحك تهب في حين وتضعف في حين آخر ، لكنها لا تنتهي .. وعادة ما يختم ضحكته بصرير أو يتبعها بصفير حاد بعد شهقة عميقة ، فيبدو كأنه يكبحها فجأة بفرامل قوية مثبتة في حنجرته توقف حبالها وتمسك بلسانه .. حتى عندما يضحك ضحكات وانية فهو يهيئ نفسه ومن حوله إلى موجات قادمة عاتية من الضحك الهادر ، كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، ومن عادته أن يضحك بذمة وضمير ليمنح النفس حقها في الحياة ، هكذا هو إبراهيم ومن المحال لأي أحد ممن يعرفونه تخيله إلا ضاحكا أو مبتسما في الأقل .. وكان دائما يردد أنا اضحك إذن أنا موجود .. أكيد موجود .. ومن عادته أن يضحك في الأحزان ، أحزان جيرانه وأقاربه حتى أقرب الأقارب ، لا يكترث إلى من هم الحزانى ، إلى درجة أنه يضحك ويطلق العنان لفمه الواسع بالقهقهة في بيوت العزاء ، فتلتف الناس حوله في دائرة تتسع وتتسع مع زحف الدقائق ، فيغشاهم الضحك حتى ينسوا أنهم في بيت عزاء ، كأنهم يقايضون الحزن بالضحك ، ويستبدلون البلية بالابتسامات العريضات ، وقد تأخذ الابتسامات بالتحول إلى ضحكات عالية ، فيتحول العزاء إلى ما يشبه العرس أو الحفل السامر ، فيمد من يجلس بعيدا عنه رقبته ويحرك رأسه ويميل بجسده حتى يتقوّس ، كي يرى وجهه من بين الأجساد الملتفة المكومة ، وبعضهم يميل رأسه ويحركه مسلطا أذنه بفضول صوب مصدر الصوت ، عله يلتقط كلمة أو يختلس جمله تسعفه بابتسامة ، حتى من يستاء لضحكاته كان يضحك ، والغبي منهم الذي لا يفهم نكاته كان أيضا يضحك ، كل هذا يحدث بلا ميعاد أو اتفاق ، فيكون للضحك متعة أكبر ورونق أجمل ، فألذ الضحك وأمتعه إلى القلوب هو ذلك الذي يأتي بلا أي ميعاد .. وفي المشفى بحكم أنه ممرض من عشر سنين اكتسب خبرات كثيرة في الطب ، فكان يسخر وينثر النكات لهفوات الأطباء حديثي العهد بالمهنة ، فيضحك جميع الموظفين ، حتى المرضى كانوا يضحكون ، وفاقدوا الأمل منهم بالحياة كانوا أيضا يضحكون ، فكأن عزرائيل يجذبهم إلى جهة وإبراهيم يجذبهم إلى جهة أخرى . وله محاولات عديدة فاشلة في تعلم العبوس ، كثيرا ما كان يقف أمام المرآة محاولا التدرب على رسم تكشيرة صارمة على وجهه ، وذلك بتجعيد إرادي لجبينه وشده حتى يتقارب حاجباه العريضان المنفوشان وينحدران إلى الأسفل كالمظلة ، ويضغط عضلات وجهه حتى تنتفخ عروق رقبته وتنفر عضلاتها ، فتبرز حنجرته في أعلى رقبته مهتزة كسنام جمل يحث الخطوات ، لكنها لحظة لا تزيد عن ثانيتين أو ثلاث حتى يرتخي وجهه من جديد ويغرق بضحك عميق صاخب ما أسرع أن يتعالى إلى قهقهات مجلجلات . مد يده وضغط كبسة الجرس مرة أخرى ، بات يتمنى أن لا يجد أخته في البيت ، أو تنشق الأرض وتبلعه ، فالأمر الوحيد الذي يشغل باله الآن ويزلزل كيانه هو طريقة إخبارها بموت ابنها الوحيد عبد الحميد في مجزرة ومحرقة غزة في مخيم جباليا ، مات عبد الحميد قبل ساعات قليلة ، وهو في السابعة عمره ، كل عمره ، ولدته أمه بعد سنين مريرة من العلاج المضني ، وبعدما باعت كل ما لديها من صيغة وأنفق زوجها كل ما لديه في البنك من نقود ، النقود التي جمعها عندما كان يعمل في السعودية سنوات طوال .. وهي حزينة على زوجها الذي مات بحسرته قبل شهر بالفشل الكلوي ، بعدما أحكمت إسرائيل حصارها القاتل على غزة ولم يجد الدواء وتوقفت أجهزة المشفى عن العمل لانقطاع الكهرباء ، وأخته حزينة وغارقة في حزنها على أخيها الذي مات بالجلطة منذ شهرين قبل العيد الكبير بيوم واحد ، مات لنفس الأسباب ، وإن كان موتهما من النوع النادر في غزة ، فقد ماتا وأجسادهما كاملة غير منقوصة وغير ممزقة وبلا أي ثقوب لرصاص إسرائيلي أو قذائف ، إلا أنه موت أجساد محاصرة بالمرض ومحاصرة بالحصار الخانق القاتل الملفوف حولهم بصمت من كل الجهات .. كيف سيتحدث مع أخته ؟ وكيف سيخبرها ؟ كيف .. كيف ؟!. مد كفه للمرة الثالثة وضغط على كبسة الجرس ، فتحت أخته الباب ، ما أن رأته حتى راق وجهها الحزين وتوهجت ملامحه وانتعش في وسطه ابتسامة .. - تفضل يا أخي .. ادخل يا إبراهيم.. أهلا وسهلا.. " وين هال غيبه" - كيف حالك .. إن شاء الله بخير.. أيقظتك من نومك! . - بخير .. لم أكن نائمة .. تفضل.. طالما أنت بخير فأنا بخير. راحت مسرعة تبسط له الفراش وجلبت وسادتين ، كي يسند ظهره إلى الحائط بواحدة ويضطجع بكوعه على الأخرى ، وأخذ يحمّلق إلى وجهها ، ويتابع بعينيه الواسعتين مشيتها بثوبها الأسود الطويل الكاسي ، هو ثوب الحداد .. بالنسبة لأخته لم تكن زيارته مجرد زيارة عادية كالزيارات ، إنما كانت دفء حياة وجرعة أنس ونسمة أمل . جلست مقابله ، نظرت إلى وجهه المكشر ، دون أن تلاحظ صفرته أو ازرقاق جفنيه ، فظنت أنه كعادته يقلد تكشيرة الفنان عادل إمام ، في مسرحية مدرسة المشاغبين ، فراحت تضحك بعمق وهي لا تريد أن تضحك ، أو حتى تبتسم ، لمّا أفرغت ما بقلبها من ضحك لعنت الشيطان عدة لعنات واستغفرت الله عدة مرات ، وأخذت تحوقل وهي تحدق بصورة زوجها المعلقة بمسمار على الحائط ، انتابها شعور داخلي بالذنب لأنها ضحكت وهي ما زالت في ثياب الحداد .. - " الله يقطع شيطانك يا إبراهيم .. أضحكتني رغما عني ". - " الله يلعن كل الشياطين في هذه الدنيا .. اضحكي يا أختي ..اضحكي ". نهضت أخته بتثاقل وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها وراحت تجهز له الشاي ، أخذت تتحدث بصوت لزج أثناء توجهها إلى المطبخ مذكرة إياه بالهدية التي وعد بها عبد الحميد لأنه حصل على درجات كاملة في الامتحانات الشهرية ، امتحانات شهر فبراير الماضي ، فنحن الآن في مطلع شهر مارس .. - أين الحذاء الرياضي الذي وعدت به عبد الحميد ؟ وعد الحر دين عليه ! - أي حذاء ! .. آه .. نسيت .. غدا سأشتريه . - جميع درجاته كاملة ، الله يرضى عليه لقد رفع رأسنا عاليا في السماء ، فهو اشطر طالب في المدرسة.. الحمد لله .. صار لي ابنا يروح إلى المدرسة ويأخذها الأول .. يا رب أعيش لغاية ما أراه ينهى تعليمه الجامعي . - آه .. ما شاء الله .. بالكاد استطاع النطق ، وأوشكت عيناه أن تذرفان لولا أن مقاومته لهما كانت قوية وقاسية . - وأنا سأجهز لك الشاي الغامق الثقيل مع النعناع الذي يحبه قلبك . لم يكن بإمكان عقله أن ينسى الساعات الماضية ، والساعات لم تكن تنساه ، بل هو محفور بها وهي متغلغلة به ، داهمته بكل تفاصيلها .. ففيها كان وسط الأجساد البشرية الممزقة الناقصة أعضاء ، أو محروقة متفحمة ، أو مثقوبة ، وكومات من الأشلاء يفتش عن أجسادها ، ويودع الموتى الثلاجات .. كل هذا وسط الازدحام ، والعويل والنحيب والصراخ ، حتى الرجال كانوا يبكون ويصرخون ، ويعلو صراخهم ويعلو حتى يفلق الأفق ، كل شيء حوله يبكي ويصرخ : الجدران ، الأّسرة ، أجهزة التنفس ، الكراسي ، الطاولات ، جهاز الأشعة ، الحجارة عبر النافذة ، حتى السماء كانت تبكي .. لا وقت لديه لأن يمسح العرق عن جبينه ، حتى نسي أن يأكل ، نسي أنه بحاجة إلى دورة المياه ، نسي أن يصلي ، ولما ذكره زميلة بالصلاة انتهز لحظات قليلات لها ، لكنه اضطر لقطع الصلاة بعد أداء الركعة الأولى مع وصول سيارة إسعاف تحمل جثثا وأشلاء ومصابين ، وأخذ يحاول إعادة النبض إلى قلوب بعضها ، هي أجساد مرصعة بالثقوب الكثيرة ، ثقوب واسعة باتساع فوهة الفنجان ، وزميله يحاول أن يضغط عليها بيديه لإغلاقها محاولا إيقاف نزيفها المتدفق كالنافورة .. شعر للحظات بالغثيان وهده الإرهاق ، إرهاق ممزوج برائحة البنج واليود والموت ، وتعب مخلوط بالدماء الجافة والطازجة ، والملاءات البيضاء تحولت إلى حمراء وصارت تقطر بالدماء .. وسط هذا كله كان يعمل .. كان يحاول إعادة الحياة إلى أجساد لا يعرفها ، لكنه يعرف أنها تترنح بين الحياة والموت ، ويعرف أنها تفارق الدنيا ، وإن كان يأمل لبعضها – فقط يأمل – أن تعيش .. تموت الأجساد الآدمية بين يديه وكأن عزرائيل يلبد لها بين أصابعه .. تملكته رغبة عارمة بالبكاء لكن الوقت والظرف لا يسمحان ولو بدمعة واحدة . عادت أخته تحمل أكواب الشاي على صينية بلاستيكية مدّورة ، جلست مقابله وتربعت بعد أن وضعت أمامه الكوب ، ارتشفت منه رشفة واحدة ضعيفة ، وراح لسانها يتحدث عن عبد الحميد وأعماله الصبيانية واصفة إياها بالشيطنة ، وأخبرته كيف بالأمس قفز عن طاولة المطبخ فكسر بقدمه الصحن الأبيض الصيني إلى عدة قطع .. وعبد الحميد بالنسبة لها لم يكن فقط ابنها ، إنما كان حجرة من حجرات قلبها ، ونفحة من روحها ، أو هو روحها .. اسمع يا إبراهيم .. - لمّا تنتهي من شرب الشاي ، اجلب لي عبد الحميد من الخارج ، صار قلبي يغلي عليه ، أخشى أن يذهب إلى أطراف المخيم .. حيث الفاشيون الصهاينة يقتلون الناس بلا تمييز بين طفل وشاب أو عجوز .. فهم يقتلون أيضا النساء والأطفال الرضع . - حاضر .. سأبحث .. سأبحث عنه . سادت لحظة صمت طويلة .. أفسحت المجال للحظات أخرى دموية أن تقتحم عقله من جديد ، عندما كان في المشفى ، ووقع بين يديه ذراع صغير لطفل ، أخذ يدقق كي يبحث له عن جسد مناسب ، شاهد في قفا الذراع آثار حرق قديم وشامة بجانبه .. هل هي صدفة ؟ إنها ذراع عبد الحميد لا محالة! .. بعد بحث وجد بقية الجسد المحروق حتى التفحم ، لكن الرقبة والرأس بلا حروق ، واستطاع التعرف على جثة عبد الحميد .. بل هو تأكد وصار واثقا أنه هو عندما شاهد السن المكسور وشحمة الأذن الملوية .. شعر وكأن مكواة حامية لسعت قلبه ، أعفاه مدير المشفى من الاستمرار في العمل ، وطلب منه الاستراحة في البيت بعد أن استدعى بديلا عنه . سألته أخته عن حاله .. - لماذا وجهك اصفر؟ وجفنك ازرق وعينك حمراء ! - لا يوجد شيء. - بالله عليك ما هو الموضوع ؟.. حلفتك بالله ! - عبد .. عبد الحميد . - زعقت : ما به ؟ - لقد .. لقد .. إنه .. توقف لسانه كأنه ربط بحبل .. سالت الدموع ، رجف جسده رجفا شديدا كأنه يجلس على كرسي كهربي ، وصدره يكاد أن يتفسخ وقد تهدجت منه الأنفاس ، خرج مسرعا ، لحقت به أخته تصرخ وقد نسيت أن تغطي شعر رأسها بالمنديل الأسود .. توجه إبراهيم إلى بيت عمه الشهيد وأخذ سلاحه وتوجه مسرعا كالصاروخ إلى أطراف المخيم .. كي يقاتل الفاشيين الصهاينة .. وما فتئت صرخات أخته تشق الفضاء . [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
الطفل وزهرة الأقحوان .. للقاص الأديب : حسين خلف موســـــــى
[align=justify] تراب الأرض ضم أروع أسطورة، سوف يتغنى بها الناس على مر العصور، فكلما تهب الريح وتعصف سوف يستعيد الناس قصة الحجر الفلسطيني بعذوبتها وعظمتها. وقف الطفل أمام الريح، بادئ ذي بدء، قلقا محتاراً، حتى تعبت أفكاره، يتأمل الريح التي عصفت بالأزهار، وراحت تقتلعها من جذورها، فخيل إليه أن أحدا سوف يصد العاصفة، لكن أحدا لم يحرك ساكناً. فوقف يفكر ماذا يفعل ؟ كانت زهرة الأقحوان قد رمت بنفسها على الأرض . لكنها بقيت ضاربة جذورها في أعماق التربة.فإذا هي جريحة فانحدرت نقطة دم من بعض جراحها ، غيبتها ، فروت التربة وما فيها من دمها ، فرقت لحالها الأزهار ، فانتصبت ورفعت رؤوسها ولوت أعناقها حناناً وإجلالا ، وأصبحت كل يوم ترفعها على أجنحة الحب الشفافة ، وتستحم بقطرات الندى وتعطر جراحها بأحلى أريج وأطيب طيب . كان تراب الأرض المعطاء، من حين إلى أخر، يحدث زهرة الأقحوان عن الطفل الجميل الذي لا يوجد له مثيل على الأرض، فتتواضع زهرة الأقحوان وتسال تراب الأرض عن الطفل. قيل لها: انه هناك يقف في أعلى قمة على الجبل يستعد لصد الريح. وذات يوم مر ببالها خاطر حلو جميل ، فراحت تتجول على الدروب ، وتصعد الجبال تائهة شاردة تبحث عن الطفل الجميل ، حتى وصلت إلى أعلى القمم تحمل بداخلها ثورة ثائرة وهادرة ، فقابلت هناك الطفل مستغيثة به حتى إذا اقتربت منه، قالت له : إني بحاجة إليك ، كلنا بحاجة إليك ، وإنني ابحث عنك كي اكشف لك ســر ، لا يجوز أن يسمعه احد إلا أنت . ـــ وما هذا السر ؟ قال الطفل . قالت زهرة الأقحوان: هناك في تلك الجبال أيدِ وأصابع متوحشة تريد تحطيمنا، كما أنها تريد قتلك وتريد لجميع الكائنات العدم والفناء.... أنت رائع كقلب الحياة ونور الصباح ... اهرب ... ابتعد ... إلا تسمع صوت الريح انه يحذرك. صرخت زهرة الأقحوان خوفاً وراحت تركض وتلهث !!! وقف الطفل بجرأة ... وقال بأعلى صوته: لا تخافي ولا تحزني... أنا من سوف يصد الريح ومن يقطع الأيدي والأصابع المتوحشة، فهتفت زهرة الأقحوان بصوت يسمع صداه: انه الفارس.. انه الفارس وبعد معركة طويلة وحادة انتصر الطفل على الأيدي والأصابع المتوحشة، وأنقذ الأزهار من خطرها، لكنه أصيب بجروح خطيرة جدا ً. صرخ بأعلى صوته : تعالي . زحفت نحوه فقبلها وضمها إلى صدره والدم ينحدر من كل أنحاء جسده ، ونام نومه أبدية ، فروى تراب الأرض من دمه الزكي . حزنت زهرة الأقحوان لما أصاب الطفل، فتمزقت من شدة حزنها وهوت فوقه فتوحدا معا وأصبحا حجراً. ومن يومها أصبح الحجر رمزا للفداء والتضحية والبطولة . [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
رسالة من نفق مظلـــــــم : للقاص الأديب : أحمد التابعـي
[align=justify] عزيزى/ الكاتب الفاضل أرسل لك تلك الرسالة المُترجمة لحياة جمراء لا أدرى لماذا أرسلها لك وأنا لن أقرأها، لكن ربما كنت أريد أن أترك ُوريقة تبقى منى لعل أحد يقرأها ..ويجد حلا للواقفين صفا بعدى إنتظارا لدورهم المفروض عليهم للدخول فى ذلك النفق المظلم ربما ينجون من رعب الإنزلاق البطىء الخانق المرعب إلى داخله..وبذلك أكون قد فعلت شيئا فى وطن لا يجد أبناؤه فرصة لفعل شىء؛ لأن من يملكون أقدارنا فى ذلك الوطن لا يتركون لنا شيئا حتى إرادتنا وقدرتنا على الإختيار مُغتصبة منا بعنف وتجبر قد تسير الحياة بنا بخطوات تبدو بطيئة لكن أحيانا ماتكون مُبهجة ولذيذة خاصة فى سنوات الطفولة التى قضيتها فى أحضان أسرة متوسطة الحال، لكنها أسرة دافئة المشاعر يعشش رب تلك الأسرة على أفراخه بما أوتى من حول وقوة.ولكن تكون الكارثة الكبرى عندما يسقط رب الأسرة فى منتصف الطريق ويترك أفراخه التى لم يكتمل ريشها بعد عُرضة لرياح ماكينة حياة أُنتزع من قلبها الشرس قطرات الرحمة لن أحدثك عن معاناة أم تناطح العمر والأيام لتجعل لأنوفنا ثغرة نتنفس منها نسمات تحيينا فى حجرة الحياة المتزاحمة.تخرجت..وجدت عملا ، أيام كانت هناك فرص عمل للمواطن سارت الأيام!!؟؟ ولا يهم كيف سارت بمرها قبل حلوها النادر ثم تزوجت مثل كل البشر الطبيعيين ولا يهم وقتها كيف ومن تزوجت، لكن المهم أننى الآن عندى أربعة من الأولاد والبنات وبدأت الحياة تبطىء من خطواتها متثاقلة تلقينى فى وجه أعتى لحظات الضيق والألم وقلة الحيلة،أمام أفواه تريد أن تحيا وتعيش لا يهم كيف ولكن..الوالد لابد أن يوفر لهذه الإفواه على الأقل خبز وفول وعدس وأرز وقليل من الزيت!!هذه هى مشكلتى..لم أستطع توفير تلك المطالب من أين أحضر لهم تلك الأشياء كل شهر بمرتب لا يتجاوز ستمائة جنيه، أى عشرين جنيه يوميا..إنتبه سيدى مازال هناك متطلبات عديدة لم أذكرها مثل:فاتورة الكهرباء والنظافة المُجحفة وأنبوبة الغاز والعلاج(لأننا نمرض مثل كل البشر) أو الأسمال التى نريد أن أستر بها الأجساد طرقت كل أبواب البحث عن العمل وكانت الإجابة شبه واحدة:- (الشباب العاطل اللى بشتغل بصحة أحسن منك ميت مرة مش لاقيين له شغل يبقى أنت هنلاقى لك شغل..روح ياعم ربنا يسهل لك) وجاء يوم لم يكن فى البيت سوى بقايا لقيمات جافة وقطعة من الجبن وسمعت الأولاد وهم يتصارعون على تلك الغنيمة..وصرخوا ينادون من ألم الجوع بعد فناء تلك اللقيمات.. وبعد أن تأهبت المعدة لتلقى العون(بابا إحنا لسةجعانيين) وتناهى إلى سمعى من بعيدصوت أمهم تحاول مواستهم ومد حبل الأمل بأننى سوف أحضر لهم طعاما وشعرت لحظتها كأن حجرتى البالية تضيق على جسدى حتى كادت تحطم ضلوعى وأمتلأت الحجيرة بأناس آخرين ماهذا ؟...أكتاف الآخرين تقتحم عظام كتفى وأنفاسهم تكاد تخترق رئتيى بصوت فحيح ورائحة عطنة [/align]ونظرت إلى أقدامى أريد أن أتحرك ولكن من أين سأجد مساحة الحركة،رفعت رأسى لأعلى ربما وجدت نافذة يتبعث منها قليل من الهواء شبه المنعش ، ولكن الجدران صماء والضوء شحيح يجعلك فقط ترى عذاب تواجدك مع أشباح الأكتاف التى تزاحمك فى الحجرة تنظر إليك بعيون باردة كالثلج ،صماء كالحجر منزوعة الروح.. صرخت ماذا تريدون منى لماذا تزاحمون أنفاسى؟ كيف تسلبون هوائى الذى أتنفسه؟ ولم أسمع مجيبا..وزاد التدافع وتطاحن الأكتاف ..وأصبح الهواء يدخل صدرى كأنه كرابيج إفعوانية تلهب الصدر والقلب، تصبب العرق من جسدى ..لم يجد مكانا يتساقط فيه فظل العرق المحمل بكل همومى متشبسا بجسدىوزاد إندفاع العرق. .ثم تهاويت من فرط ثقله.صرخت بأعلى صوتى..ولا مُغيث.. تهاويت ووأنا لا أسمع سوى صوت (طقطقة) عظام جسدى وهى تتحطم..وقرقعة بقاييا وهى تُطحن ثم وجدتنى محمولا إلى نفق مظلم...خرجت من نفق مظلم إلى نفق مظلم وتبدو على بعد من النفق وشوشات ضوء قادم |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
زوجة عزيز لدي... للقاصة الأديبــــة : ميساء البشيتـــــــي
[align=justify]احتضنها بين يديه يودعها قبل سفرها ، يطلب إليها أن لا تطيل الغيبة فلم يتبق معهم من الوقت الكثير لإتمام مراسم الزفاف قبل نشوب الحرب ووعدته بعدم إطالة الغياب فهي ستذهب لإحضار بعض الأوراق المهمة وفستان الزفاف وأشياء من هذا القبيل ، احتضنها للمرة الأخيرة واحتضن شفتيها في قبلة الوداع وغابت وما هي إلا ساعات من مغادرتها حتى قامت الحرب. اختفى هو، تضاربت الأنباء ، منهم من قال انه مات في الحرب ، ومنهم من قال انه وقع في الأسر ومنهم من قال فرّ مع الفارين وتاه في بلاد الله الواسعة ، ومنهم ... ومنهم ... أما هي فقد هدتها الصدمة وهول المفاجأة ، شهور مضت قبل أن تصدق ما حدث وتفقد الأمل بعودته وبالزفاف ، شهور مضت قبل أن تطلق تلك الصرخة معلنة حالة الحداد .[/align][align=justify] أعلنت لنفسها وصارحت قلبها ومشاعرها بأنه قد مات ولن يعود إلى هذه الحياة ، وغرقت في الحزن إلى أن انتشلها منه شاب في مقتبل العمر أحبها وعرض عليها الزواج ووافقت واقترنت به ولم تخبره عن أي شيء ، لأنه لا يأبه للماضي وما حصل قبل أن يلتقيا . كان زوجا ً رائعا ًوكان زواجهما زواجا ً ناجحا ًتمخضت عنه أسرة وأبناء وعائلة ليس لها مثيل ، كان يحبها جدا ً ، وهي أحبته وأحبت إخلاصه لها وتفانيه من أجلها ومن أجل أسرتها ووهبته قلبها وروحها وكل أسباب السعادة باستثناء تلك القُبلة فقد كانت قُبلة سيف _رحمه الله _ كما كانت تقول ولم تكن تخبره عن السبب الحقيقي ، وهو كان يحترم رغبتها والتي كان يخّمن أن هناك سببا ً قويا ً وراء رفضها . مضت السنوات وبدأت الإشاعات تظهر بالساحة ، سيف وقع بالأسر ، أحدهم شاهده في المعتقل ، سيف لم يمت أو يفرّ ... وبعد سنوات أخرى أعلن عن أسماء المحررين من الأسر، لكنها لم تر اسمه بين الأسماء ، فتأكدت أنه مات وما كان مجرد إشاعات ليس لها أساس من الصحة . وفي يوم طلبت منها والدتها اصطحابها إلى حفل زفاف ابن صديقتها في أضخم فندق في البلد، ولبت دعوة الوالدة خاصة وأن هذه الصديقة هي التي عرفتهم بسيف وهي التي كانت تشرف على إتمام زفافها منه .. فهو من أقاربها ، وهي التي تتكهن دائما ً بأخباره وتبثها بين فترة وفترة. ذهبتا إلى الحفل وحضرت الصديقة(هاشة باشة) مرحبة بهما ومسرورة جدا ً لرؤية رفقة بعد كل هذا الغياب وقامت بتعريفهما على عدد لا بأس به من العائلات التي كانت تلتقيهم في تلك العاصمة الآيلة للسقوط قبل نشوب الحرب فيها ، ولكنهم تغيروا جدا ً وظهرت عليهم معالم الثراء مما دفعها لتسأل والدتها من أين هبطت عليهم الثروة ؟ وفي أثناء تلك التساؤلات ظهرت بين المدعوين سيدة تبدو من ملامحها أنها أجنبية وتصطحب فتاتين أيضا ً فيهما من ملامحها الكثير. وظنت على الفور أنها زوجة أحد أفراد أسرة العريس . قامت الصديقة مهللة ومرحبة لتسلم عليها وتدعوها للجلوس على نفس مائدة رفقة ووالدتها اللتين قامتا بدورهما بالترحيب الشديد بها وجلس الجميع واستدارت الصديقة إلى والدة رفقة تسألها إن كانت تعرف هذه السيدة ، وأجابت الصديقة على الفور قبل أن تعرف إجابة الوالدة إنها زوجة سيف ، فلمعت عينا رفقة ونظرت بحدة إلى تلك المرأة التي أخذت منها سيف ، وبادرتها بالسؤال وكأنه من حقها ، أين سيف ؟ فأجابتها أنه قادم فقد التقى صديقه وهو يسلم عليه الآن وسيأتي في الحال ... وما هي إلا دقائق حتى ظهر أمامها رجل ٌ في غاية الأناقة والترتيب ، تفحصته جيدا ً ، هل هذا سيف ؟ تقدم سيف مرحبا بالصديقة ثم التفت إلى والدة رفقة ، تذكرها على الفور وصافحها بحرارة شديدة ونظر إلى رفقة وتساءل بقرارة نفسه هل هذه هي رفقة ؟ ماذا فعل بها الدهر ؟ ورفقة تطيل النظر إليه ، أهذه ملامح العائد من الموت ، العائد من الأسر ، من الضياع ؟ لا أرى إلا رجلا غارقا ً في النعيم ، في الثراء ، في الرخاء . أهذا سيف ؟ أهذا سيفي ، وحبي، وقُبلتي ، التي عشت في كنفها أكثر من خمسة عشر عاما ً، رفعت إليه بصرها وكأنها تراه لأول مرة وقالت له أهلا بك يا سيفي .. نظر إليها وكانت الدموع قد أغرقت عينيه وانحدرت على وجنتيه المحمرتين من هول المفاجأة ، أجابها وشفاهه ترتعش ، نعم يا رفقة أنا سيف. أيا رفقة ترفقي بنا هل تذكرين يا رفقة ؟ تابعت رفقة نظراتها الجامدة إليه وقالت : لقد تذكرت بما يكفي يا سيف ، خمسة عشر عاما ً وأنا أتذكر ، لم تغب فيها يوما ً ، كنت أحضرك كل يوم ٍ من قبرك واستذكر معك ، أما الآن فقد حان دورك في التذكر، وآن الأوان كي أنسى أنا. قاطعهما سؤال زوجته المندهشة من كل ما يجري هل تعرفها يا سيف ؟ من تكون هذه السيدة ؟ نظر سيف مليا ً قبل أن يجيب ثم استجمع قواه والتقط أنفاسه وقال : هي زوجة عزيز ٍلدي مات في الحرب. [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
أمسية وداع ... للقاصة الأديبــــــــة : سلوى حمـــــــــــــاد
فتحت عينيها وكعادتها بقيت في الفراش في حالة استرخاء وتأمل ، شخصت في سقف الغرفة ،تجولت بنظرها في انحاء الغرفة الى ان وقعت عيناها على كتاب متكئ على رف المكتبة الصغيرة في غرفة نومها. نهضت بسرعة متجهة الى الكتاب ، التقطته وفتحته بسرعة لتعثر على وردة جورية كانت غافية بين الصفحات منذ زمن، ياااااااااااااااه ، لقد نسيتها تماماً ، لها شهور هذه الجورية غافية بين طيات الكتاب ومازالت تحتفظ برونقها بالرغم من شحوب لونها. عادت على عجل الى سريرها ، واندست تحت الغطاء والكتاب مازال بين يديها ، اغمضت عينيها ورحلت بافكارها الى تلك الامسية. شعور بالحنين كان يغلفها ، حنين للطلبة ، للزملاء، لمكتبها الانيق الذي يشهد على احداث اعوام طويلة. بالرغم من ضغط العمل وطول ساعاته كانت كلمات من حولها تهطل على تعبها كحبات المطر فتغسل كل ارهاقها الجسدي والفكري. الكل كان مشغولاً في برنامج الحفل ، يتهادى الى سمعها من فترة لأخرى اسمها ، يتردد على لسان الطلبة والزملاء، كانت تتجول بالمكان ولسان حالها يقول وداعاً احبتي، ترنحت دمعة بين اهذابها ولكنها تماسكت واتكأت على حافة عينيها حتى لا تفسد المناسبة، انها آخر حفلة تخريج تقوم هي بالاشراف عليها. شعور الرحيل كسا وجهها بمسحة من حزن وهي تلوح مودعة لصفحة من حياتها، مالبث هذا الشعور ان ذاب في زحمة المناسبة ، فعليها أن تقف على منصة التخريج لتسلم الشهادات لآخر دفعة ستقوم بتخريجهم . انتزعت نفسها من حالة الحزن وركضت خلف الكواليس ، هتف أحد الخريجين :"مدام ...... نريد لمساتك الجميلة ."، وآخر يقول : " مدام....من فضلك عدلي لي الكاب على ذوقك.."، ضحكت من قلبها وقالت مازحة : "انزل قليلاً حتى استطيع فعل ذلك ايها الزرافة." تأكدت بأن كل شيء يسير على مايرام وحسب المخطط، خرجت من خلف الكواليس لتحيي بعض الأهالي والضيوف، وجدته يرمقها من بعيد بعينين يسكنهما الاعجاب والتقدير، فحيته ببسمة خجولة ووعد من عينيها بحديث. وما أن لاحت لها الفرصة حتى سارعت بالاقتراب منه معلنة عن وجودها بجانبه لتنتزعه من حديث جانبي كان قد بدأه مع أحد الضيوف. تهلل وجهه فرحاً لرؤيتها عن قرب لدرجة الارتباك ، دعاها للجلوس والحديث، كان لحديثه مذاق النضوج ونكهة التفاهم ، استمعت له بشغف فانسابت كلماته كنهر بلا سد ، وامتدت يداه الى وردة جورية تزين سترته انتزعها ليضعها بين يديها مكافأة لها على انصاتها الجميل . طلب منها ان تحتفظ بها لتذكرها برجل يكن لها كل الاحترام والتقدير. احتضنتها يداها وتعاطفت معها عيناها وشعرت بأن بتلاتها سرعان ما ذبلت وكأنها تشاركها شعور الرحيل. فتحت عينيها و هي لا تزال ممسكة بذلك الكتاب . تنهدت ولسان حالها يقول صعبة هذه الحياة . نلتقي بأناس نحبهم ويصبح بيننا وبينهم حالة من الارتباط الوثيق .. نمارس مهام نحبها وما تلبث ان نتركها مخلفين وراءنا ذكريات كالعسل المر. [/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
الفنان .. كوميدية قصصية .. للقاص الأديب : عبده حقي
[align=justify]خفق قلبه و دارت به الأرض ب 180 درجة .. أخيرا بعد طول هذا العمرهاهو يحظى من أحد أشهر الغاليريهات بدعوة لعرض أجمل لوحاته .. أخيرا تحقق الحلم ... هذا كل ماكان يأمله وما كان ينقص سيرته الفنية إن على فقرها أو غناها لا يهم ، المهم هي ذي إذن فرصة العمر كي يرتقي درجات الشهرة أو على الأصح كي يسخر من كل من إستخف بعبقريته التشكيلية فيما قبل . كيف له أن ينسى نظرات الإزدراء من زوجته حين كانت تداهمه في ورشة المرسم لتلقي بقائمة أغراضها على وجهه أو على الأصح على وجه لوحته متعمدة في حقيقة الأمر أن تفسد عليه خلوة إلهامه ونشوة إنغماره اللذيذ في لحظة تيه الإبداع وجذبة الفرشاة ... أما الأصدقاء !! أي أصدقاء ؟؟ ــ دائما يهمس للوحاته ــ فلافرق بين بطونهم وجماجمهم ... كل شيء في حواسهم وجوارحهم إما ترينه يمضغ أو يجرد العابرات من سراويل الجينز اللصيقة بخاصراتهن .. هذا قصارى ما ينجزون لأنفسهم وللآخرين . .. وكثيرا ما فكر في فتح باب مرسمه لهم ، غير أنه كان يحدس أن مرورهم من هناك سيكون كاجتياح التتار والماغول أو مثل الحريق الذي سيأتي على معلمة ثقافية وطنية لذلك فقد أوصد في وجوههم كل دعوة للزيارة ثم فوق كل هذا وذاك أن ما أجج حقده على الأصدقاء أنه لم يستخلص بعد ولو درهما واحدا عن لوحة إقتناها أحدهم من دون أن يفطن فناننا إلى اليوم لابالغمز ولا باللمز، أن صديقه لم يقتن اللوحة إلا إشفاقا عليه ومؤازرة معنوية له ليس إلا .... واليوم ها فنان آخر يولد من رحم رسالة وردية نائمة في غرفة ص . ب .. وها شمس الإعتراف تلقي بأضوائها الكاشفة عليه ... لاشك أن وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومقروءة سوف تتدافع لهذا السبق الصحفي كما الفنانين التشكيليين العظام مثل القاسمي والصالدي والغرباوي ... وسيوقع المئات من الزوارفي دفتره الذهبي وسيملؤ جيب معطفه بكثير من الشيكات عن لوحات معروضة وشيكات أخرى مؤداة مسبقا عن لوحات لازالت أفكارا هائمة في مخياله ... وفي مساء الإفتتاح كما جرت التقاليد الثقافية في ربوع الوطن سيتناول عشاءا فاخرا وراقيا لاتحد مائدته العين في فندق ( الفردوس ) على حساب نائب برلماني أو عمدة المدينة ... ـــــ الفنان !! الفنان !! هكذا يناديه أصدقاؤه ومعارفه وحتى أولئك النازحين الذين إستوطنوا الحارة في آخر لحظة .. أما النداء فلم يكن في حقيقة الأمر سوى شماتة في غالب الأحوال لذا فقد كان يتغافل النداءات .. ليقولوا ما يشاؤون ــ يقول في نفسه ــ أجل أنا فنان موتوا بغيظكم ولدي ورشة لم يحلم بها أشهركم فنا في البلد ولي بها الكثير من اللوحات الجاهزة و اللوحات الوشيكة والعشرات من اللوحات الملغاة .. أما هؤلاء الأصدقاء الأوغاد فهم لايدركون ما معنى أن يعيش بينهم فنان تشكيلي ... يسحق عقب سيجارته .. يسوي قبعته البودليرية ويطلق على الصدر شاله الوردي الطويل المطرز ويمضي في متاهات الحارة خافضا بصره ومتلافيا المرور من أمام الدكاكين والحوانيت ونظرات الباعة وألسنتهم المسننة التي مرغت غير مامرة كبرياءه العبقري في وحل القروض والسلفات الطفيفة ... ــــ الفنان !! الفنان !! ها..ها..ها... دس الرسالة في جيب بلوزته البيضاء المرقطة بلمسات الأصباغ التي يسميها حوادث الشغل .. نزل إلى الورشة ، أشعل سيجارة .. دار دورة ببصره حولها .. يمج وينفث الدخان في إنتشاء وزهو فائق .. كان أمام كل لوحة يتقدم ثم يتراجع .. يقطب حاجبيه .. يزم حدقتيه ويلوي عنقه .. عشرات اللوحات هنا وهناك .. صامتة تنتظر حظها كعارضات الأزياء .. لوحات بلا أسماء وبلا عناوين ... إن أشد ما يكره هو أن يعنون لوحاته بدعوى أن عنونة اللوحة هو إغلاق لانفتاحها على جمالية اللامعنى كما أن الإسم يطوق عالمها الفاتن والمطلق وأخيرا فهو يعتبر العنوان إجابة فاشلة بشكل ضمني على الأسئلة العالقة التي قد تدور في أذهان الزوار .. لذا .. لذا فهو يترك لوحاته لفرضيات الإسقاطات النفسية ... وفي لحظة ما شرع ينتقي لوحاته الثلاثين التي سيعرضها أو بالأحرى ستودعه قريبا وإلى الأبد وسيقتنيها مدراء الأبناك والمؤسسات الخاصة وشركات التأمين ومكاتب المحاماة والمصحات النفسية والفنادق الباذخة و..و... ولقد قررأن يكتم سر الرسالة عن زوجته وأولاده ، فلوعلموا بها فلاشك أن شهيتهم ستنتفخ وأن لائحة المطالب ستطول ولامحالة أن زوجته سوف ترتبط به أيما ارتباط وسوف تلازمه في سفرته الفنية إلى العاصمة ليس من أجل مؤانسته بالهمسة الرخيمة والإبتسامة الدافئة وإنما من أجل إستخلاص الشيكات وحساب المداخيل وهو يعلم علم اليقين بطيشها وخفة يدها وعماها المالي حين تسمع برنين الدراهم في جيبه فهي لن تتوان ولو لحظة قصيرة عن إخراج الآلة الحاسبة وأمام الجمهوركان من كان ... لذا .. لذا واتقاءا واستباقا لكل هذه الكوارث المهينة فقد قرر أن يدعي أن الأمر يتعلق بمعرض جماعي تنظمه إحدى سفارات الدول العربية الخليجية بالعاصمة ... لف لوحاته في لفائف من الجرائد القديمة .. كان كل مرة يدخل محملا بحزمات منها .. أدركت زوجته أن أمرا ما قد طرأ .. نزلت الورشة خلسة فألفته منهمكا في تلفيف آخر اللوحات ... أيقنت بما لايدع مجالا للشك أن أوان رحيلها قد حل بعد كل هذا العمر الطويل من الغطس في الأصباغ وألوان البؤس والتحليق عاليا في قوس قزح للبحث عن الشهرة الواهية ... الحمد للـــــــــــــه .. الحمد للـــــــــــه .. قالت في سرها وعلت محياها إشراقة هناءة وانفراج .. لقد آن لهذه اللوحات أن ترحل .. لكن إلى أين ؟ ومقابل كم ؟ وترى من سيكون هذا المنقذ من الأصباغ الذي سيفرج كربتها من غم تلك الشخابيط واللخابيط التي تملؤ القبو بلا طائل ... وقبل أن تقصفه بأسئلتها الرصاصية كالعادة إستبقها إلى الحديث وأخبرها أنه سيشارك في معرض جماعي بإحدى السفارات العربية بالعاصمة ..( لامفر من الكذب ... الكذب شرط من شروط الشهرة ... الكذب أقصر طريق إلى المجد !! ) هذا ما علمه الفنانون وهكذا وصل الكثيرمنهم إلى القمة فلماذا لايجرب أن يكذب هذه المرة ولو على زوجته . قبل تاريخ إفتتاح المعرض بأيام كان جاهزا .. اللوحات ملفوفة بعناية وكل لوازمه على أهبة .. كان في قرارته يستعجل الموعد وكان كل يوم يمر يشعره كما لو أنه يبعده عن اليوم الموعود .. وبدأ يشعر بالزمن يتثاقل حتى خمن أن الزمن صديق وقح مثله مثل الأصدقاء الآخرين .. وفي صباح ما قرر أن يسافر ، فعليه أن يحل باكرا بقاعة العرض فمديرة الغاليري تعلم بقلة تجربته في تنظيم المعارض ... لذا فقد جاءته دعوة جاكلين رسالة وردية مفصلة بإجراءات مرتبة باليوم والساعة لوضع الترتيبات الفنية المتعلقة بمساقط الإنارة وتناسقها مع الأضواء الطبيعية الخارجية وعلاقة كل هذا بإطارات العرض وزوايا الرؤية ومواقع المشابك ... إلخ كانت الناقلة رابضة على الرصيف ، وكان الحمال يلقي بالأمتعة على السطح . حين وصل الفنان ولوحاته الثلاثين على متن ( هوندا ) كان من حسن طالع حظه أن رتب الحمال اللوحات فوق الأمتعة الأولى على سطح الناقلة .. وحمد الله على حظه هذا وحظ لوحاته . صباح ربيعي جميل .. ربما أجمل صباح في العمر .. بعض سحابات سكرية كأنها لمسات بيضاء سوريالية على قماش أزرق .. منظر أنعش وأيقظ كل الحواس الفنية ، وهناك في المدى الرمادي البعيد باتجاه العاصمة لحاف غيوم داكنة تنذر بزخات خفيفة .. عالم رائع ، ملتئم في إنصهار تلقائي ليشكل مع نشوته الجوانية لوحة طبيعية رائعة ... شعرأن لاأحد من الركاب عبئ بهذا المشهد الطبيعي الفاتن .. وحده إذن .. وحده وقدره أن يعيش نعمة الفن كل لحظة وحين وفي كل مكان حتى داخل هذه الناقلة المهترئة . كانت العجلات من تحته كتيوس أربعة تلتهم المسافات والمنعرجات ، وكلما أوغلت الناقلة في الطريق كلما شعر بالأفق يفتح ذراعيه له وللواحاته الثلاثين على السطح . بعد لحظة توارت الشمس خلف سحابات داكنة ، ثم لاحظ على النوافذ قطرات رذاذ قليلة .. ذاعبته وسنة لذيذة .. لقد ألف أن يغفو بعد الظهيرة .. تمايل وتهويدة الناقلة يؤججان أيضا حلاوة غفوته المعسولة .. لقد إستطاب هذا الإسترخاء ، فلابأس إذن أن يحلم قليلا وهولا محالة على وشك تحقيق حلم أكبر لكنه حلم واقعي هذه المرة وفي العاصمة الرباط ... لقد غفا واستغرق في نومه إلى حد الغطيط وضاع شخيره في هرهرة ولعلعة وصفطقات أضلع الناقلة ولم يستفق إلا على خبطة كف العون على الباب الخلفي ( باط .. باط .. باط .. لقد وصلتم ) إستفاق فجأة .. إنها العاصمة تغرق في أمطار عاصفية .. ألفى مياه الأمطار مثل خراطيم صغيرة تتدفق على جنبات الناقلة تلتها طقطقات حبات برد كثيف أتلفت صوت الراديو ولغط الركاب ونظراتهم التائهة ... كان لايسمع من حوله سوى ( الحمد لله .. مبروك الروا .. الحمد لله مبروك الروا ) وانفرجت أسارير الركاب البدو الوافدين على العاصمة لحل مشاكلهم التي إستعصى حلها في الأقاليم .. فقد كان الموسم الفلاحي على شفا كارثة جفاف آخر وعطش على عطش سابق .. أما هو فقد كان ينتشي برؤية تشكلات مطرية تجريدية تتدفق وتنزلق على زجاج النوافذ .. هو فنان وكفى .. فنان فوق كل الأحوال الجوية والأزمات الإقتصادية ووعكات البورصات .. ما شأنه بكل هذه التقلبات فأرضه لوحاته ومحراثه ريشته وبعد قليل سيجني مازرعت يداه منذ عقود ... توقفت الناقلة وتحولت الأمطار والبرد إلى زخات خفيفة منعشة ورائقة .. كان الركاب يهرعون إلى سقوف المقاهي والمطاعم الصغيرة .. شرع الحمال ينزل اللوحات الواحدة تلو الأخرى . أوووووه !!! ياللمصيبة وياللهول !!! كانت كل اللوحات مبللة كأنها انتشلت للتو من قعر صهريج ، ومن خلل التخاريم بدت الألوان شخابيط ولخابيط .. كل الألوان تميعت واندلقت وطمست ملامحها السيول الجارفة .. كل اللوحات بارت .. الخطوط والدوائر مثل أفواه كاريكاتورية واسعة منصرفة في كركرات لاتنقطع ... تذكر نداءات الآخرين ( ألفنان .. ألفنان ) هو الزلزال نفسه يرجه في الداخل .. ماذا يستطيع الآن ؟ لقد إنهار عليه الهرم .. الصرح الذي بناه في القبو.. حتى الطبيعة على نقائها وطهرها خذلته في آخر لحظة .. ماذا يستطيع الآن ؟؟ صوت إمرأة يأتيه من بعيد ( فين اللحمة والخبز والغاز ... يألفنان ؟) صدى أصوات تطوقه من كل جانب ( ألفنان .. الفنان ) والأمطار أيضا تهتف به ( الفنان !! الفنان ) حتى هدير السيارات تحول إلى نداءات ، فجأة شعر بلكزتين في جنبه ويد سيدة تطبطب على صدره وتقول : ( إصح .. إصح من نومك قبل أن تزهق روحك الكوابيس . دعك عينيه بقوة كانت الساعة قرب الوسادة تتكتك الساعة السابعة صباحا ، جلس على حافة السريرأرسل زفرة قوية : ( الحمد لله .. الحمد لله اللوحات لم تبللها الأمطار !!! )[/align] |
رد: كتاب نور الأدب للقصة القصيرة
شرف العيــــــــلة .. للقاص الأديب : نزار ب. الزين
[align=justify] إسمه عِزَّة و يلقبونه (عزّو) تارة و ( أبو العز) تارة أخرى عندما بلغ المرحلة الثانوية كان خجولا و إنطوائيا ، فلقبه زملاؤه في الصف بالسلحفاة ؛ ثم حاول بصعوبة أن يندمج معهم و لكن تربيته الصارمة ، كانت تمنعه من مسايرتهم ، فمعظم ألفاظهم كانت سوقية ، و قاموس شتائمهم كان أوسع من مجلد ، و طريقة عبثهم مع بعضهم بعضا تدور كلها حول الجنس و الجنس المثلي . كانوا يرفضون مشاركته في أحاديثهم و يأبون مشاركته بألعابهم ، كان إذا أخطأ في إجابة مدرس على سؤال ، ينفجرون ضاحكين حتى لو لم يكن في الأمر فكاهة ، و إذا حاول التقرب من أحدهم يشيح عنه بوجهه و يتجاهله ، و ظل منبوذا و في حالة صراع مع نفسه إلى أن إكتشف أنه لا بد من الإستسلام . و رويدا رويدا بدأ يتقبل من بعضهم ما كان يرفضه من قبل ، ثم ما كاد العام الدراسي ينتصف حتى طال لسانه و تضاءل خجله ! و ذات يوم أسود ، وفي أعقاب الإنصراف خرج أبو العز مع ثلة من زملائه ، و أخذوا جميعا يتعابثون و يتشاتمون و يتضاحكون ، و فجأة وجد نفسه بين براثن والده . ***** بادره على الفور بصفعة دوخته و ألقته أرضا ، ثم بدأ يعالجه بمظلته فوق كل موقع من جسده . صُدِم زملاؤه و قفوا مذهولين فاغرين أفواههم و عندما أراد أحدهم التدخل أجابه بضربة من مظلته فابتعدوا جميعا و قد تملكهم الأسى على زميلهم مر أحد المدرسين ، فحاول التدخل ، فصرخ في وجهه : - " هذا إبني و أريد أن أربيه " - و ما الذي فعله يا أخ ، أنت تكاد تجهز عليه ؟ فصاح أبو عزة بشكل هيستيري : - هذا ابني و أنا حر التصرف به ، أذبحه أشنقه أدفنه حيا ، أنا حر ( و ما حدا دخله ) . ثم انهال عليه ضرباً من جديد . الفتى يصرخ و يستغيث و الناس بدؤوا بالتجمهر حوله ، و لكن أمام هياج الوالد الشديد لم يتمكنوا من فعل شيء ! ***** صاح الوالد و قد تملكه الغضب الشديد : - إنهض يا كلب ، و إمشِ أمامي حتى الدكان ... استطاع عزة النهوض بصعوبة ، و بدأ يتحرك ببطء فقد كان يشعر بالدوار ، و لكن والده كان يعالجه بضربة من مظلته كلما حاول التلكؤ لإلتقاط الأنفاس . و بلغا أخيرا الدكان أمر أجيره بالإنصراف أغلق الدكان من الداخل و بدأ ت من ثم دورة أخرى من التعذيب .... كان الأجير، قد أطلق ساقيه يسابق الريح نحو دكان عم الفتى ، ثم عاد به جريا ، ثم أخذا يقرعان الباب معاً ، ثم كان لا بد من من كسره و اقتحامه ، ثم استطاعا معاً تخليص الفتى بصعوبة . كان عزة ساعتئذ في حالة غيبوبة تامة . - أتريد أن تقضي بقية حياتك في السجن يا أخي ؟ سأله أخوه لا ئما ، فأجابه و هو يرتعش غضبا : - أريد أن أشرب من دمه و ليكن بعدئذ ما يكون !! ( شرف العيلة أهم من ستين ولد ) لقد شاهدته بعيني و سمعته بأذني كان يتبادل مع رفاقه العبث البذيء الذي يؤكد وجود علاقة شاذة بينهم ! ثم أضاف بغضب شديد : - هل ترضى لهذا الكلب أن يلوث شرف العائلة ؟ - و لكنه ذكر ! - لا فرق عندي بين ذكر و أنثى في مسائل الشرف ! صمت أبو سليم طويلا و هو يهز برأسه ، ثم اقترح و هو يربت على كتف أخيه : - دعه لي ، و سأنتزع منه الحقيقة على طريقتي ! ***** كان أبو سليم أعزبا و لُقب أبو سليم رغم عدم وجود سليم ، فقد رفض الزواج بإصرار لا يعرف أحد سببه .. تعاون مع سامي أجير أخيه ، حتى أوصلا عزة شبه محمول ، ثم ألقياه على أريكة في ( ليوان ) المنزل . لم يقصر العم أبو سليم بالعناية به بداية ، فقام بتنظيف جراحه الكثيرة و استعان بحفنات من البن لقطع نزيف بعضها ، و عندما لاحظ ارتفاع حرارته ، غادر المنزل فاشترى قطعة جليد و إبريقا من عصير الليمون ، ثم عاد إلى منزله محاولا تخفيض حرارة ابن أخيه . ثم دأب على ذلك كل يوم . ***** بعد حوالي أسبوعين بدأت بعض مظاهر العافية تبدو على عزة ، فقد أفاق من رقوده الطويل و تمكن من تحريك رأسه و لكن إحدى يديه لم يستطع تحريكها . كان يشعر بالإمتنان لعناية عمه به ، فكانت العبارة الأولى التي نطق بها شكره لعمه ، و لكنه صدم عندما أجابه عمه بغلظة : - كنت أخشى على أخي و ليس عليك ! فرد عزة مستاء : - أنت تكرهني كما يكرهني أبي ، إذاً دعوني أسافر إلى أمي ... فأجابه عمه في لهجة تهكمية : - أمك ؟ أنت من عائلة فستق و لست من عائلة العبد الله ، ثم إن أمك ، يا حبيب أمك ، بعد أن طلقها أبوك ، تزوجت من آخر و تعيش معه في حلب ، إن قبلت إستقبالك فزوجها لن يقبل ، و خاصة إذا علم بفعلتك الشنعاء . - فعلتي ؟ و ما الذي فعلته ؟ أجاب عمه و قد بدأت الدموع تتساقط من عينيه مرغما ، فرد عمه قائلا و قد تجهم وجهه و قطب جبينه : - عندما تتعافى تماما ، أنا من سيسألك عما فعلت ، و أنت من سيجيبب ، و لن ترحمك دموعك ! ***** التحقيق و بعد أسبوع آخر بدأ أبو سليم : يستجوب إبن أخيه : - إليك ورقة و قلما ، قبل كل شيء أكتب لي أسماء أصحابك الذين كانوا برفقتك . فكتبَ الأسماء ... - أيهم كان على علاقة بك ؟ - كلهم ! قالها ببراءة ، فأجابه عمه و قد ازداد تجهمه : - كلهم يا كلب ، و تقولها بملء الفم ؟ - أجل ، كلهم زملائي في الصف و أصحابي ؟ - عزة ، لا تتلاعب معي أو تراوغ ( إن كنت العدل فأنا رباطه ) ، اعترف لي بكل شيء ، إلى أين كنتم متوجهين ، و أين اعتدتم ممارسة رذائلكم . - عمّو .... أقسم لك أننا كنا نلعب و لا شيء غير اللعب . و عند رأس شارع المدرسة كنا سنفترق كالعادة ... هنا ، نهض العم أبو سليم غاضبا ، توجه إلى أحد الأدراج أخرج منه صندوق من الورق المقوى فتح الصندوق أخرج منه مسدسا ثم وجه كلامه إلى ابن أخيه مهددا : - أنظر إلى هذا المسدس ، إنه محشو بالكامل ، سأفرغ رصاصاته في رأسك ، إن لم تعترف لي اعترافا كاملا . صاح عزة بعصبية : - أعترف بماذا ، قلت لك كما قلت لأبي من قبل ، أننا كنا نلعب و نمزح و حسب و لا شيء بيننا غير اللعب و المزاح . إلا أن عمه عاجله برفسة أصابت يده التي لا زالت مصابة ، فصاح متألما ، ثم ما لبث أن فقد أعصابه و في أقصى حالات الهياج أخذ يشتم عمه و أباه و أبا أباه و كل ما يمت لعائلة فستق بنسب . تقدم أبو سليم نحوه ثانية و قد استبد به الغضب يريد توجيه ضربه جديدة ، فهب عزة واقفا ثم مبتعدا عنه ثم أسرع نحو الطاولة ، و بلمح البصر اختطف المسدس ، وجهه نحو عمه و أخذ يصيح بشكل هيستيري : -أنا من سيفرغ رصاصاته برأسك إن مسستني ثانية ! ثم إزداد صراخه و هو يقول : * لا مزيد من الضرب .... * لا مزيد من الإذلال .... * لا مزيد من الظلم ....يا غجر .. يا نَوًر.... * لا مزيد من الضرب.... يا حثالة البشر .... * يا وحوش .يا.وحوش .يا .وحوش. و فجأة انقض عليه عمه محاولا انتزاع المسدس منه و لكن رصاصة انطلقت خلال العراك فأصابت ساق العم و إذا بأبي سليم ملقىً على الأرض يتلوى و يتأوه و يستغيث . أصيب عزة بالذهول ، و العجز عن التصرف ، و لكنه أخذ يصرخ بشكل هستيري : - دم ....دم ... دم ....دم... يزداد صياح العم، و يزداد نزفه ... و أبو العز ، يدور حوله ، و هو يهتف بصوت مبحوح ، و في مزيج من الهلع و الفرح ، بين ضاحكٍ و باكٍ : - قتلت الوحش .. قتلت الوحش ! سأقتل كل الوحوش ... سأقتل كل الوحوش ..... سأقتلهم .. سأقتلهم ... ثم رفع المسدس عاليا ، و بدأ يطلق الرصاص في الهواء و هو بهزج : -الله الله يا مفرج المصايب أضرب رصاص .. خلي رصاصك صايب ..... [/align] |
الساعة الآن 31 : 09 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية