![]() |
عش رشيد الميموني الدافئ
(1)
[align=justify]التفت يمينا و شمالا .. ووجهت بصري نحو الجبال و الروابي الممتدة حتى الأفق وهي لا تزال تهتز وتربو مبتلة بآخر قطرات المطر لخريف يأبى إلا أن يزيد بهاء .. الكلمات و الحروف تتأجج في داخلي .. تريد أن ترى النور عنوة .. لكني لا أجد المكان و لا الزمان المناسب لأطلق سراحها و أجعلها ترتع على صفحاتي كما تريد .. وتمتد خطواتي حثيثة حتى أوغل في متاهة الجبل .. و اظل ابحث عن مكان يأويني و كلماتي .. حتى أقف عند دوحة لا يعرف إلا الله عمرها .. تنظر إلي بصمت مشوب بالحنان ، فألمس جذعها المبتل و أنظر إلى أعلاها في شبه ابتهال لأجد كل ما فيها يفتح لي الأذرع .. ولا أتردد في في تسلق الأغصان الكثيفة لأصل أخيرا إلى ما كنت أبحث عنه .. وجدت مستندا لي وقد أحاطت بي الأوراق من كل جهة إلا من فجوة أمامي سمحت لي بنظرة إلى الوادي الممتد اسفل الجبل .. هنا عشي الدافئ .. وهنا مأواي .. وهنا ملاذي و ملاذ أفكاري .. الآن فقط يمكنني أن أطلق لكلماتي العنان .. كلماتي .. انطلقي الآن .. الهي و ارتعي .. فلا أنا ولا أي أحد يمكنه منذ هذه اللحظة أن يكبح جماحك .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(2) من عشي هذا و أنا أرقب الوادي الذي غلفه الضباب .. تعتريني أحاسيس مبهمة و السكون يحيط بي من كل جهة إلا من حفيف الأوراق أو زقزقة عصفور فاجأته ربما باقتحام هذا العش المقابل لعشه .. نظر إلي وهو يحرك رأسه الصغير متسائلا ربما عن هذا الغريب الذي تجرأعلى الدنو من مملكته أو على الأصح جمهوريته الخاصة .. سعدت لأنه لم يفر من أمامي .. ربما لأنني جمدت في مكاني حتى لا أخيفه بحركة مني .. هل كنت محتاجا لأحد يؤنسني رغم أني كنت أهفو للوحدة أناجي فيها نفسي و أطلق العنان لأحاسيسي ؟.. كنت محتاجا لأعيش على سجيتي دون قيد .. أضحك .. ابتسم .. أبكي .. أبكي ؟ .. ولم لا ؟ .. هل كلمة رجل تقف حائلا بيني وبين البكاء ؟ .. هل الدموع مقتصرة على الإناث ؟ .. ألا يبكي الرجال ؟ .. و إذا بكوا ، هل هو ضعف ؟ .. ولم لا يكون ضعفا مادام الباكي إنسانا .. أجد نفسي أترنم بصوت خافت أمام عصفوري الذي بدا و كأنه متجاوب مع ترنيمتي : علمني حبك .. أن أحزن و أنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أحزن ثم أسهو مع ترنيمتي و العصفور ماثل أمامي يتعهد عشه بالعناية اللازمة .. فيشجعني ثباته أمامي وعدم خوفه مني على أن استمر مترنما : أدخلني حبك سيدتي مدن الأحزان و أنا من قبلك لم أعرف مدن الأحزان لم أعرف أبدا أن الدمع هو الإنسان أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان . في لحظة .. اختفى العصفور .. ربما ذهب ليبحث عن قوت يسد به رمقه .. وجدتها فرصة للنزول من أعلى الدوحة حتى لا يعود و يطير بسبب حركتي . في نيتي أن آتي ببعض البر و أضعه في عشه .. نزلت و شعور بالطمانينة يغزو فكري و جسدي .. نظرت إلى أعلى .. لأطمئن على عشي .. فوجدت العصفور هناك يطل علي بفضول .. ابتسمت ، ثم عدت منحدرا الجبل .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(3) عودتي اليوم إلى عشي كانت على غير ما توقعته .. فأحاسيسي المتضاربة التي كانت تعتريني و أنا أغادر أغصان شجرتي المتشابكة قد انتفت مني فلم أعد اشعر بشيء ، أو لنقل إن شعورا واحد بقي ملتصقا بي .. أحس بالكآبة رغم أن الصباح جاء كما أشتهي و سمح لي بأن أسرح بنظري إلى الأفق الصافية سماؤه الزاهية شمسه .. حتى عصفوري لم أجد له أثرا .. أين يكون اختفى ؟ .. انتابتني هواجس لما يمكن أن يلاقيه من مصير و احس بحاجتي لمناجاته و بثه كل ما يكربني و يقض مضجعي . كلما نظرت إلى ما حولي أجد شكل قبة صفراء .. وساحة يعيث فيها همج و رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون .. و أحس بالقبة الصفراء و الساحة الطيبة تئنان تحت وطأة المتوحشين من هؤلاء المرتزقة .. أنين و شكوى و صراخ و همس و نحيب و بكاء وصدى يملأ جهات هذا العالم العالم "المتحضر" المنغمس في أنانيته و نفاقه و جوره ..ولا حياة لمن تنادي . أين أنت يا عصفوري لأبثك ما لا طاقة لصدري به ؟ هل حلق بك جناحاك الصغيران إلى هناك فرأيت ما رأى قلبي و مهجتي من فظائع ؟ ما أسعد حظك إذ تقتحم هذه الحدود بدون رقيب أو حاجز .. وما أتعسني من عاجز لا يملك سوى الصراخ أو الصمت . عد يا عصفوري لأخبرك أنني ضقت ذرعا بما يجري هناك .. ولتخبرني كيف أعوض عجزي هذا بشيء أستطيع أن افخر به في دنياي و آخرتي .. حملت لك برا و أنا اعلم أن رزقك مضمون ممن خلقك .. وأحمل إليك حبا ولد يوم رأيتني فلم تهرب مني .. عد لأنسى ولو للحظة حزني . لأني أعلم أن هذا الحزن متجذر في حنايا النفس و القلب .. ولن يزول إلا إذا تطهرت القبة الصفراء و الساحة الكئيبة من الدرن و النجس . سأدعو و أصوم و أتبتل .. ثم ماذا ؟ سأكتب .. لأني أعلم أن الكتابة سلاح أيضا .. وقد تفوق فعاليتها نيران المدافع و القنابل .. أحس أنني أعيش ليلا سرمديا .. لكني اعلم بكل إيمان أن هذا الليل سينجلي عن فجر بهي .. فجر يضيء الكون وقد تناثرت أشلاء الهمج وعصابات الإجرام .. وقطيع سفاكي الدماء .. سأعود يا عصفوري لنقضي وقتا في المناجاة و البوح .. فقط ، عد ولا تختف كما اختفيت اليوم . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(4) هذه الليلة .. لم أطق التواجد بين أربعة جدران .. أحسست بأنفاسي تضيق حتى خلت أن تنفسي صار حشرجة و أن نبضي يتسارع ويكاد يتوقف .. الوقت سحرا .. تسللت إلى الخارج ليتلقفني هواء بارد لكنه منعش .. الصمت يلف المكان .. تركت غطائي الصوفي على كتفي ومضيت أذرع الطريق الملتوي بين الروابي الغارقة في سبات عميق .. القمر لم يظهر له أثر بعد ونحن في نهاية الشهر .. لكن الظلام ليس حالكا و لمعان النجوم يسمح لي بتمييز الطريق نحو الدوحة المنتصبة في إباء .. [/align]أتسلق فروعها الضخمة حتى أصل إلى عشي وأنا أحرص على ألا تبدر مني حركة توقظ عصفوري فيما لو كان هنا .. لكن أملي بتواجده خاب وظلت عيني ترنو إلى عشه الصغير في حنان و أسى .. أين تكون يا صغيري ؟ هل امتدت إليك يد الغدر كما يحدث هناك ؟ انزويت داخل عشي مسندا ظهري إلى الغصن الكبير وأنا ملتف بغطائي الصوفي .. كانت الفجوة التي تلوح بين أوراق الدوحة تسمح لي بتفحص الوادي الغارق في الظلمة .. لحظات سكون خلتني أسمع ترنيمة و ابتهالات تخترقه .. نعم .. هي لحظة نزول الخالق إلى السماء الدنيا محفوفا بملائكة عرشه .. لأغتنمها فرصة أبث خالقي كل شجوني و آلامي ، ولأدعه أن يفرج غمي وغم كل المقهورين على هذه البسيطة .. وأن يحفظ لهذا الإنسان كرامته التي منحها إياه وحمله في البر و البحر .. فكرت في مآل هذا العالم الذي كان من المفروض أن يعمه الحب و السلام بعيدا عن الجشع و الطمع و الأنانية وسفك دماء الأبرياء وعادت من جديد صورة القبة الصفراء و الساحة الطيبة تملأ مخيلتي فيزيد غمي و تنقبض نفسي من جديد .. أخذتني سنة و أنا في ابتهالي و تضرعي .. أحس بسخونة الدموع تروي خدودي و تنسكب على عنقي و شفتي فأشعر بملوحتها .. كل من حولي أراه يبتهل و يتضرع ..الربى أمامي تهتز و تربو على إيقاع الترنيمة الشجية .. حتى لم اعد اسمع ولا أرى شيئا .. تتفتح عيني شيئا فشيئا لتقع على شيء جعلني أكبح جماح نفسي كي لا أنتفض و اسقط من أعلى الشجرة .. هناك على غصن مقابل لعشي وقف عصفوري .. أي و الله .. ولكنه لم يكن وحيدا . جاء بصحبة عصفورة وقفت إلى جانبه وكأنها تضايقت من وجودي فلم تلزم مكانها وصارت تنط من غصن إلى غصن .. خفت أن أقوم بحركة تتسبب برحيلهما .. وجمدت في مكاني رغم إحساسي بدبيب كدبيب النمل في مفاصلي .. لم أتحرك و لم أسمح لضحكتي أن تتجاوز شفتي .. لكن داخلي كله كان يرقص و يصرخ و يترنم بهجة و سعادة بعودة العصفور .. بل و لتواجد عصفورين في عشي المتواضع .. |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(5) كم لبثت في مكاني أتامل العصفورين وحركتهما لا تهدأ ؟ .. كان العش الذي بدأ عصفوري تشييده قد بدأ ينتفش و يفقد بعضا من عيدانه ، فصرت أرى عملا دؤوبا لم يخل من أوقات استراحة كان يقف فيها العصفوران ربما ليتأملا ما صنعته مناقرهما الصغيرة من عمل ..أو ربما كان هناك غزل خفي لم يريدا أن أطلع عليه .. فراقني انسجامهما .. الوقت ضحى ..وعلي أن أنزل لأسد رمقي .. ولكن كيف والعصفوران لم يغادرا الغصن المقابل لي ؟ .. هل أغامر بالنهوض وأعرض نفسي لأوخم العواقب فلا أراهما من بعد أبدا ؟ .. لأصبر قليلا .. دوحتي تستقبل العديد من العصافير كمحطة يلقون فيها نظرة شاملة على المكان ثم أسمع حفيف أجنحتها وهي ترفرف عاليا منطلقة في حرية و دعة إلى ما شاء الله لها أن تذهب .. حين اختفى عصفوراي لحظة ، اسرعت بالنزول ونظري لا يزال معلقا بالسماء حيث أسراب الطيور الخريفية تطير مجتمعة وهي ترسم أشكالا هندسية مختلفة .. ما أسعدها وهي تنعم بحريتها .. و أسائل نفسي ألست حرا ؟ .. ألا أفعل ما يحلو لي و أكتب ما أريد و أذهب حيثما يروق لي ؟ الجواب لا أجده صعبا .. لكن هل أنا حر بالمعنى العام و الشامل ؟ .. هنا أعجز عن الإجابة .. و أنا في معرض التفلسف حول كلمة الحرية نسيت أنني عدت لأتناول فطوري .. وجلست على ربوة تطل على الوادي من الجهة اليمنى .. بدا لي النهر واضحا بعد انجلاء ضباب الصباح .. كل شيء كان ينطق بالبهاء .. وتحركت في رغبة الكتابة .. ماذا أكتب ؟ وعماذا أكتب ؟ خطر لي أن أكتب خاطرة تحتفي بعودة عصفوري صحبة رفيقته .. وهنا شعرت بأني أولي اهتماما مبالغا في لهذه الرفقة الجديدة .. هل هو إحساس بالغبطة إن لم أقل بالحسد تجاه عصفوري ؟.. طردت سريعا فكرة الحسد عن ذهني و استبقيت الغبطة .. إذن فهي غبطة تفضح شعوري بالوحدة .. هل ينادي لا وعيي عصفورتي أنا ايضا ؟ .. خفقان قلبي المضطرب أخبرني أنني على صواب .. إذن فلأكتب لهذين اللذين ملآ علي دنياي .. فلربما تناثرت كلماتي في عنان السماء لتصل إلى عصفورتي الساجية هناك في مكان ما من هذا العالم الرحب ..ربما تنتظرني أو تنتظر إشارة مني لتهل على عشي يوم ما . عدت إلى عشي بالزاد وبعض البر و الأوراق وقد شمل نفسي حبور لا يوصف وقد غطى ما اعتراني من ضيق وتوتر . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(6) [align=justify] بعيون متفحصة يبدو فيها مزيج من الفضول و الترقب ، كانت عصفورتي تقف على غصن قريب من عشي ، إلى جهة اليمين قليلا .. كان رفيقها قد طار إلى جهة لا أعرفها .. ربما ليبحث عن أعواد و قضبان رفيعة يقوي بها عشهما .. تأملتها لحظات و أنا أعد نفسي لكتابة شيء ما ، حسب ما تمليه علي أحاسيسي المتضاربة في ذلك الأصيل الذي لونت شمسه الكون بصفرة فاقعة . لم أبد حركة ولكني حاولت الابتسام .. ثم مددت يدي إلى جيبي لأستجمع حبات البر .. لكن العصفورة لزمت مكانها .. سحبت يدي ببطء شديد ثم فتحت كفي .. كانت جرأة مني وكنت أعلم أنني قد أتسبب في اختفاء العصفورة .. لكن شيئا من هذا لم يحدث .. ولبثت على تلك الوضعية بضع دقائق حتى كدت أيأس من ردة فعلها التي أترقبها بفارغ الصبر .. ثم ، وبدون مقدمات ، قفزت العصفورة قرب ركبتي وهي تتطلع إلي .. كانت عيناها تنطق بشهية عارمة ولا أدري لم تمثلتا لي نجلاوين كعيني عصفورتي الأخرى الغائبة عني .. ولا أدري أيضا لم تخيلت ريشها شعرا غجريا ومنقارها شفتين قرمزيتين .. هل أحلم ؟ .. لا أدري .. ففي الوقت الذي انكبت فيه العصفورة على كفي تلتقط البر مدغدغة كفي ، كنت سابحا في دنيا أخرى ووجدت نفسي أتحدث إليها هامسا : كلي يا عصفورتي و قري عينا .. هنيئا مريئا .. لم كل هذا الخوف مني ؟ هل حسبتني اغار من رفقتكما ؟.. ألا فاعلمي أنني كنت أنتظر هذه اللحظة من رفيقك الغائب فجئت عوضه .. وكنت في أمس الحاجة لمن يؤنس وحدتي فكنت أنت المؤنسة .. لا يغرنك معدات الكتابة هاته فهي لا تسمن ولا تغني من جوع .. قد تبدد وحشتي للحظات لكن لا شيء يملأ علي دنياي منذ غادرتني تلك التي وهبتها القلب و الروح .. لم تغادرني وهي تعلم أنها الهواء الذي اتنفسه و الضياء الذي يملأ عيني ؟ .. هل من جواب لديك ايتها العصفورة الجميلة .. ما أشبهك بها .. قولي أين أنت الآن ؟ ومتى تعودين .. كل جداولي قد جفت وكل أوراقي قد ذبلت .. أفلت شمسي و خسف قمري وانكدر نجمي حين فضلت الرحيل لتجربي - كما قلت لي - حبك لي ومدى صبري و صبرك على الفراق .. هل جربت الحب و الفراق ؟ أم تخجلين من أن تبدي أمامي منكسرة مهزومة .. عجبا لك .. كنت تمقتين الفراق و تخشين الهجر وتقبلين على الحب بنفس متعطشة لا ترتوي .. وكنت تعبرين لي عن خشيتك من يوم نفترق فيه .. بل إنك لم تكوني تريدين تخيل هذا الفراق ..رحلت فرحل معك الضياء .. وهجرت فلم يبق لي سوى حزن يطبق على القلب و الروح .. وجرح لا أخاله يلتئم يوما ما .. نفسي مثخنة بالجراح .. ذهني مشتت لا يملي علي شيئا أحبه .. كلماتي تستعصي علي ولا أطوعها إلا بعد جهد جهيد .. أنسيت أنك كنت ملهمتي في كل ما أكتب ؟.. و أنك كنت تقرئين معي كل القصائد التي كتبتها لك .. فتتيهين خيلاء و تهمسين أنك ستحفظينها عن ظهر قلب لتحرقيها فيما بعد ، لأنك لا تقبلين أن تقع عليها يد أحد .. كنت تملكينها وتعتلين عرشها كما ملكت القلب و اعتليت عرشه .. هل علي الآن أن ابحث عنك في الآفاق و أجوب كل الأمصار لعل كلماتي و حروفي تطاوعني .. أم قدر لي أن أظل هنا أراقب حركة الليل و النهار واندفاع الشهب ليلا و أستمع إلى زمجرة الرياح و هي تدوي بين الوديان لعلها تأتيني بأخبارك ؟ نعم .. سأظل هنا .. أنتظرك .. يوما أو شهرا أوعاما وربما دهرا .. فكما جئتني من الأزل .. سوف أنتظرك إلى الأبد . أفقت على حفيف جناح العصفورة فوجدتها تتطلع إلي من جديد وقد عادت إلى غصنها .. لم يكن رفيقها قد عاد .. فأحسست أنني و إياها نعيش وضعين متشابهين .. فلم أملك إلا أن أتأملها من جديد و أتفحص عينيها .. منقارها .. ريشها .. و قلمي يسطر أشكالا دون أن أعي ذلك .. تنفست الصعداء وكأن ما بحت به قد نفس عني بعض ما كنت أحسه من ضيق و كرب .. ثم نظرت إلى أوراقي لأجد بوحي كله هناك .. وقد ذيلته صورة غادة نجلاء العينين.. قرمزية الشفتين .. تسبح بين الغيوم وقد تناثرت جدائل شعرها الغجري في أرجاء السماء .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(7) [align=justify]مع أفول آخر شعاع من شمس ذاك المساء البهي كانت الأوراق تصدر حفيفا متواصلا يقوى مع مرور الوقت .. وكان شرودي يمنعني من الانتباه إلى ما يحدث حولي .. بينما واصلت العصفورة النط من غصن إلى غصن و كأن شيئا ما يقلقها .. هل هو غياب رفيقها الذي طال أكثر من اللزوم ؟ أم أنها استشعرت شيئا أفزعها ؟ .. ابتسمت لها و أنا أهمس : لاعليك يا صغيرتي .. أنا أيضا أفتقد عصفورتي التي تاهت عني بمحض إرادتها .. عسى أن يأتي بهما القدر كليهما .. لا تخافي والزمي عشك واستريحي ، فالظلام وشيك و الليل قد اقبل بالاعتكار .. حفيف الأوراق كان يقوى و تمايل الأغصان يتزايد حتى أحسست بالأرض تميد من تحتي .. نظرت إلى الأفق عبر الفجوة الصغيرة بين الأوراق فهالني اسوداد الأفق .. هو عارض ممطر ولا شك .. هل تكون عاصفة ؟ .. ربما تكون العصفورة قد أحست بدنوها .. هاهي أولى قطرات الغيث تنزل على أنفي و يدي .. علي بالنزول و الاختباء في مكان ما حتى لا تداهمني العاصفة .. نهضت و أنا أنفض ما علق بثيابي من عيدان صغيرة ، وأخذت في النزول بطريقة خلفية .. نظرت إلى أعلى لأجد العصفورة تطل علي بفضولها المعتاد وقد نفشت الريح ريشها .. هل أتركها لمصيرها ؟ .. مستحيل .. المطر زادت حدته ووقعه على الأوراق صار واضحا .. فعدت إلى الصعود من جديد ومددت يدي نحو العصفورة الحائرة .. لاحت مني التفاتة نحو عشها لأجده يكاد يتطاير من شدة الريح ، فلملمته .. لم تهرب العصفورة و استكانت إلى راحتي بكل طمأنينة . أحسست بارتعاش جسمها الصغير المبتل و أسرعت إلى أقرب كهف بالجوار .. وكأن الليل قد هبط فجأة .. فساد الظلام و صارت الرؤية صعبة للغاية و أنا أتلمس طريقي إلى الكهف .. ولولا البرق الخاطف بين الفينة و الأخرى لتهت عبر الربى الغارقة في الظلام و الأمطار . وصلت أخيرا إلى الكهف و أسرعت بوضع العش و العصفورة في مكان آمن وعدت إلى مدخل الغار أتملى بالطبيعة و هي في أوج ثورتها .. كان البرق يريد أن يريني هذه الثورة فتبدو لي زخات المطر كأنه سيل عارم .. ثم يتلوه هزيم الرعد ليتردد دويه عبر الجبال المحيطة بي .. الكل ثائر .. الريح .. البرق .. الرعد .. النهر وهو يرغي ويزبد جارفا معه كل ما اعترض سبيله من أحجار و فروع الأشجار اليابسة .. نفسي أيضا كانت تتجاوب مع هذه الثورة الجنونية .. وبين الفينة و الأخرى كنت ألتفت نحو العصفورة لأجدها قد استكانت إلى عشها و أتوجه نحوها لألمس ريشها فأطمئن إلا جفافه و أحس بلهفتها الخفية و قلقها المبطن على مصير رفيقها الغائب ، وأعود إلى مخرج الكهف .. لكن تأجج نفسي و ثورتها كانت تشعل جسمي نارا تلظى .. فصرت أتقدم خارج الكهف بخطى و ئيدة غير عابئ بالمطر الغزير وهو يبللني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي فيطفئ شيئا من اللهيب المستعر في كياني.. و استمر في السير حتى أقف على صخرة مطلة على الوادي وهديره يصم الآذان .. " أين أنت الآن يا عصفورتي ؟ .. الم يئن الأوان لتعودي إلى رشدك و تضعي حدا لهذا الفراق المضني ؟.. ألم يكفك ما نخره الحزن في جسمي حتى لم يبق منه إلا الخيال ؟ .. هل جربت حبك لي ؟ .. تعالي وانظري إلى ما يحدث الآن .. كل شيء ينطق بحبي الذي تريدين أن تجربيه .. انظري إلى ما حوالي من هيجان .. هو الحب .. في أوج قوته و عنفوانه .. زخات المطر حب .. وهبوب الريح العاتية حب .. ولمعان البرق حب .. وهزيم الرعد حب .. حتى هدير ذاك النهر و هو ينهمر كالسيل العظيم حب .. كل شيء ينطق .. يصرخ .. يهذي بهذا الحب الذي لم تستشفيه من قبل فاخترت الرحيل .. كل ما يهدر حوالي ما هو إلا رجع لصدى ما يعتلج في نفسي من هيجان . تعالي وكفاك تدللا .. وضعي حدا لهذا الرحيل الذي لا معنى له .. فلربما طال الزمان و صدقت مقولة "البعيد عن العين بعيد عن القلب " .. تعالي إلى عشي الذي بنيته بكل نبضة من قلبي و رويته بكل الدموع و الآهات .." عدت أدراجي و جسمي يقطر ماء .. كنت أحس بثيابي ملتصقة بجلدي فيكسبني هذا متعة و انتعاشا ، حتى وصلت إلى باب الكهف و ألقيت نظرة على العصفورة الغافية .. ترى بماذا تحلم و أين ذهب بها خيالها الصغير ؟ .. هل هي مثلي تترقب اليوم الذي يهل عليها رفيقها وتناجيه كما ناجيت أنا عصفورتي ؟ على باب الغار استلقيت مستندا ظهري على مدخله . كانت العاصفة قد خفت حدتها وهدأت الريح قليلا .. لبثت أتأمل الأفق والنعاس يغشيني ويتسلل شيئا فشيئا إلى جفوني المثقلة سهادا .. بزغ الفجر و أنا لا زلت على وضعيتي .. أفقت لأجد كل شيء هدأ .. وبدا لي كأن الطبيعة لا تزال تلهث بعد هيجان وثورة لم أعهدها فيها منذ مدة ليست بالقصيرة .. لكن جفوني ظلت مثقلة بالنوم الذي لم أذقه إلا في السحر .. فعدت إلى إغفاءتي . لم أشعر إلا و أشعة الشمس تلفح وجهي في الصباح .. فتحت عيني منبهرا بضيائها ووضعت يدي عليهما لأحجب ذاك الضياء .. وهنا انتفض جسدي بعنف وخفق قلبي حتى أحسست أنه يكاد ينخلع من صدري .. على باب الكهف ..كانت جدائل شعر أعرفها حق المعرفة تتطاير من فوقي بينما تمثلت لي عينان نجلاوان تحدقان في وجهي .. وقد علت المحيا ابتسامة مشرقة ..[/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(8) [align=justify] أغمضت عيني ثم فتحتهما لأتأكد من يقظتي فلم أجد أحدا .. فانتصبت واقفا وأنا التفت من حولي .. وكان أول شيء لفت انتباهي هو اختفاء العصفورة من العش الذي كان على مقربة مني .. هل هذا فأل سيء لي ؟ ولو أني لا أحب التطير إلا أن شيئا بداخلي جعلني أنقبض و أحال بهجتي الخاطفة التي أحدثتها رؤيتي لجدائل الشعر والعينين النجلاوين المبتسمتين إلى أسى . لكني مع كل هذا الإحساس بالإحباط كنت اشعر بشيء ما يشدني لتتبع الجداول وامتطاء الربى .. فأخذت العش الفارغ من ساكنته و أعدته إلى مكانه في أعلى الشجرة حيث عشي لا يزال بانتظاري .. ألقيت عليه نظرة حنان و ابتسمت له في ود .. من كان يتخيل أن ثورة الطبيعة في الليلة الماضية سوف تسفر عن كل هذه الروعة ؟ ومن كان يظن أن هذه الطبيعة ، وبعد كل ذلك الغضب و الغليان سوف تعود وقد ارتدت أجمل ما لديها من حلل .. كل شيء حولي ينطق .. يبتسم .. يضحك .. يعانق .. يحب .. الجداول.. الربى .. الجبال .. العشب .. كل شيء يتلألأ ويمرح في دعة .. الأرض أحس بها رخوة تحت قدمي .. إلى أين تقودني خطواتي ؟ أرى نفسي مندفعا إلى قمة الجبل عابرا الغابة الكثيفة حيث يكاد يسود الظلام من شدة تقارب الأشجار و تشابك أغصانها .. كنت أحدث نفسي :"ماذا رأيت ؟ .. هل هي أضغاث أحلام ؟ .. أم هي الحقيقة ؟ .. كان في الجو شذا يجعلني متفائلا .. لأنه شذى مألوف لدي .. وهذا ما جعلني أنساق لخطواتي .. وبين الفينة و الأخرى كان ذهني يشرد إلى حيث كانت العصفورة تترقب مثلي عودة رفيقها .. هل تمثل لها شيئا مشابها لما حدث لي ، فطارت تبحث عن عصفورها مستدلة عليه بشذاه أيضا ؟ هل نلتقي هناك في قمة الجبل الجاثم فوق التلال و الوديان في جبروت صامت ؟ غريب هذا المزيج من الأحاسيس .. لهفة و أسى و أمل و سكينة وسط عالم موغل في الجمال و البهاء .. مع اقترابي من القمة كانت الوقت ضحى .. وكان بإمكاني و أنا أنظر إلى أسفل أن أرى دوحتي التي تحضن عشي و هنا وهناك انتشرت التلال و الحقول في تناغم و انسجام .. كان يحلق بين الفينة و الأخرى من فوقي سرب من الطيور ، فأتوقف عن الصعود و أحدق مليا واضعا يدي فوق على جبهتي لأحجب أشعة الشمس عن عيني وأهتف دون وعي : "هل أنت هناك ؟ .. هل وجدت عصفورك ؟ .. لعلكما الآن معا .. " و أستريح قليلا على صخرة نبت العشب على بعض أنحائها .. مجيلا النظر عبر الحقول المترامية فأجد كدحا وعملا مضنيا من أجل القوت اليومي .. ثم أنتبه إلى دابة تنوء بحملها و نملة تصر على الصعود بحملها مرتفعا صغيرا ..وفي لحظة و جدت نفسي أتساءل و أنا أنظر إلى الطريق الصاعد نحو قمة الجبل : ماذا تطارد ؟ أخيط دخان تريد أن تمسك ؟ أم شبحا تريد أن تتبع ؟ أم سرابا تبتغي ؟.. أهذا هو الحب ؟ .. ما هو الحب ؟ .. أهو لهو ولعب وفراق ولقاء و تدلل ؟ .. هل يضاهي حبك هذا عشق ذاك المحب لحقله وتلك الحشرة لحملها وذاك العصفور لقوته و عشه ؟ .. هل فكرت يوما في أنين أو نحيب أو شكوى ؟ هل نسيت أم تناسيت ما يملأ الجو من صيحات يرزح أصحابها تحت نير الجور و الطغيان ؟ .. لا لشيء سوى لتفانيهم في حب الحرية و الكرامة المسلوبتين منهم .. هل صممت أذنيك عن آهات المعذبين في الأرض ، من أقصاها إلى أقصاها ؟ .. ما هذا الحب الذي يجعلك لا تفكر إلا في تحقيق نزوة من نزواتك أو بلوغ مأرب من مآربك؟ .. افتح عينيك جيدا و أصخ بأذنيك و أرهف قلبك .. تجد كل شيء ما حولك يستحق منك الحب .. أفق من غفلتك أيها العاشق السابح في دنيا الأحلام .. كل ما حولك يحب ، لكن لكي تستمر الحياة ، شكرا و امتنانا لمن وهبها .. أفق .. أفق .. أفق .. خلت للحظة أن الجبال المحيطة بي تردد صدى هذا النداء المنبعث من أعماق نفسي و جوارحي . فلم أملك إلا أن أنهض و أنحدر مسرعا غير مكترث بالأخاديد المنتشرة في طريقي نحو أسفل الجبل .. هرعت إلى عشي متسلقا الدوحة .. ولبثت ردحا من الوقت ألهث مرتعبا وكأني كنت مطاردا من شيء لم أدر كنهه . احتضنت غصنا من أغصان شجرتي و صرت أنتحب .. كان الأصيل يلون الأفق بصفرته الزاهية حين أفقت من غفوتي و أنا لا أزال أحتضن الغصن ، لأجد فوق رأسي عصفورتي ، وبجانبها رفيقها ، وهما لا يتوقفان عن الزقزقة و الحركة .. شملني حبور كبير و ابتسمت لهما .. و أنا أمد يدي أتحسس جيبي لعلي أجد ما تبقى من بر .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(9) [align=justify]و الآن .. ماذا تنتظرين مني أكثر مما قلته لك سواء في عشي أو على الربى و الصخور وبين الوديان و الخوانق .. عند الأصيل و في السحر .. سواء صحا الجو أو امطر ..؟ هل تريدين المزيد ؟ ألم أشبعك كلاما حتى أتخمت مسامعك ؟ أين تختفين ؟ ومتى ستظهرين من جديد ؟ كنت أحسب أن ذاك الصباح الذي تلا العاصفة إيذان بلقاء لن يعقبه فراق ..وتفاءلت حين وجدت العصفورين أمامي وقد التقيا بعد أن ذاقا مرارة الفراق مثلي .. لكنهما الآن ينعمان معا بالأنس و المودة هناك في عشهما المقابل لعشي .. هل تدرين أنني صرت أستوحشه كلما دنوت منه ؟ ولولا وجود العصفورين لكانت هذه الوحشة أشد و طأ على قلبي والجريح و نفسي المكلومة . هذا المساء ، وجدت في عش العصفورين قطعة من ورق كنت أكتب عليه بوحي وأنا أرسم صورتك .. لازالت جدائل شعرك الغجري وعيناك النجلاوان كما رسمتها و كأني بها قد قاومت ثورة الطبيعة و أمطارها و ريحها العاتية لتصمد و تبقى ملتصقة بالأغصان .. أنا أعلم أنك قريبة مني .. تسمع أنفاسي اللاهثة وأنا أذرع الربى و الوديان بحثا عنك .. و أعلم علم اليقين أنك تنتشين بملامح القنوط و اليأس التي تعلو محياي وكأنك تخشين أن يدب الفتور إلى لهفتي عليك متى ظهرت و وضعت حدا لهذا الفراق ..أنت تعرفين جيدا مدى حبي وعشقي لك و شوقي إليك .. ربما حملت لك أوراق الخريف الذابلة أجزاء هذا الحب لتلملميها و تشكلي أبهى صورة لهذا العشق الذي لا يزيد إلا تمكنا مني و من كياني .. حب غزا جوانحي وتغلغل في روحي عبر مسامي و سرى في شراييني مسرى دمي .. كم حاولت اجتثاثه واقتلاع جذوره لكني كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة ، ولا أدري ماهي هذه القوة الخفية التي تجعلني أحتفظ به لك بين جوانحي .. ربما كانت كل لحظة أعيشها تذكرني بك .. سواء في الصباح أو المساء مرورا بالضحى و الزوال و الأصيل ، و انتهاء بالليل و السحر .. كل لحظة تسمعني منك ترنيمة أو تضوعني شذا أو تلهبني أنفاسا و همسا لا أفيق من سكرته .. حبك سيدتي شيء عذب ، أليم ، غريب .. حبك يدنو مني حتى يكون في متناولي و طوع إشارتي فقط حين أعرض عنه و أفكر في استئصاله .. لكنه يختفي كالسراب و ينأى كلما هفوت إليه أروم احتضانه و التنعم بدفئه .. لقد تعودت عليك .. وتعودت على نزواتك و أهوائك .. وصرت أتحملها عن طيب خاطر و بصدر رحب .. صرت أعرفك أكثر وأنت بعيدة عني .. أعرف طبائعك و طريقة تفيكرك .. اعرف متى تفرحين ومتى تغضبين .. أعرف متى تشتاقين إلي فتزهر الأشجار و تهتز التلال و تربو ، و حين تتبدل مشاعرك نحوي أعرف ذلك في ذبول أوراق الشجر و تساقطها .. بل إنك صرت ملمة لكل جزئيات نفسي المتعطشة دوما لرؤياك .. تحصين علي أنفاسي وتتظاهرين باللامبالاة .. تقتفين أثري ثم تكابرين لكي لا يبدو منك اي اثر للهفتك علي .. تتجاهلين نظراتي وأنت تتحرقين شوقا إليها .. تعرضين عن بوحي ، لكنك تغلين لهفة للمزيد . تبدين عدم اكتراثك لتهافت المعجبات ، لكنك تتميزين غيظا و غيرة وتودين لو صرخت فيهن كلهن أني لك .. لك وحدك . لم كل هذا ؟ .. ألا تعلمين أن هذا سيتعبك كما أتعبني ؟ .. وأنك ستتألمين كما اتألم ، فقط لأنك تريدين ذلك .. هاهو الخريف يمضي .. وتمضي معه ايامنا و ليالينا .. يمضي وفي جعبته بوحي لك منذ أن بدأ حبي لك وليدا ، فتعهدته بالرعاية و العناية رغم تجاهلك له .. فشب و ترعرع حتى صار يافعا .. جميلا بهيا .. وسيبقى بوحي يتردد هنا و هناك عبر الجبال ، بين الوديان .. عند الغدير .. ولن يتوقف ، بل سيستمر مع توالي الفصول .. وسوف أبقى هنا أنتظر الخريف الآتي .. فلربما حملتك نسائمه عن طواعية لننعم بلقاء ما بعده فراق .[/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اليوم صرت طفلا .. أو على الأصح عدت طفلا ..كما كنت منذ الأزل .. هل كان القرار قراري ؟ لا أدري ، ولكني وجدت نفسي ألهو و أرتع هنا و هناك .. ألملم أشيائي الخاصة .. وأقطف باقات ورد حين أشتهي ذلك .. أو أقذف بالحجر بعيدا حتى يتوارى عن ناظري أو أرمي به على سطح الغدير لينط مرات ومرات قبل أن يهبط و يستقر في قعره .. استطابت نفسي هذا التحول المفاجئ ، وكان لا بد لي أن أبحث عنك كما اعتدت على ذلك في كل ضحى لنخرج سويا ممسكين بيدي بعضنا البعض .. نتحدث دون رقيب أو حسيب في داخلنا .. حين أغضب فإني لا أواري غضبي ، وحين تزعجك تصرفاتي تعبسين في وجهي وتنصرفين غير مكترثة ببقائي وحيدا .. لم يتنازل أي منا عن أنانيته الطفولية ، لكننا سرعان ما كنا نهدي بعضنا البعض أحلى و أجمل ما وقعت عليه أيدينا .. هل تذكرين كم باقة ورد أهديتك وكم إكليل زهر وضعته تاجا على رأسك أو طوقت به عنقك ؟ صرت شقيا كما كنت ، بل أكثر شقاوة من ذي قبل .. وزادت مشاكساتي لك بقدر ما كنت تتدللين و تثيري غضبي بتصرفات ربما هي غريزة في الأنثى . كنت تغيبين في الوقت الذي كنت أبحث عنك متلهفا .. وكنت تظهرين دون أن يبدو عليك شيئا ينم عن لهفتك .. بينما أنا أتحرق شوقا لرؤيتك .. لكنك في المقابل كثيرا ما تأخذك نوبة من البكاء وعلى حين غرة ، فأفاجأ بك تلقين ما بيدك أرضا وتولين الأدبار ثم تهرولين لا تلوين على شيء .. فأغتم لذلك ، و أظل أنتظر إطلالتك من جديد حتى تقبلين علي ، ربما بعد يوم أو يومين مبتسمة مشرقة و كأن شيئا لم يكن . أنا الآن أنظر إليك من عشي .. تلتقطين بعض الأعشاب الجافة لنرمم بها أعشاش العصافير التي تضررت من الرياح العاتية التي هبت أمس .. أراقبك تنحين و خصلات شعرك تحجب الرؤية عن وجهك فتلوحين بها إلى الوراء .. يعجبني فيك ذاك الوجه الطفولي المشاكس .. عيناك أيضا تنطقان بشقاوتك .. لم أعرف قط كلمة حب .. ولم يذكرها لساني لأنني بكل بساطة لا أعرفه .. أو على الأقل لا أعرف هذا المصطلح .. قد أكون متلهفا إليك كلما غبت أو حضرت .. وقد آخذ بيديك وأنا في قمة سعادتي لأذرع بك هذه الربى ..وحتى حين أقطف لك وردة ، فإني لا أفعل ذلك سوى لأنك تحبين الورود و تسعدين بإهدائي لها إياك .. ألا ترين أننا نتحكم في كل شيء يخصنا ؟ .. نعدو حين نريد .. نجلس لاهثين حين يجد في الجلوس متعة .. نلتقي متى شئنا .. نفترق متى رأينا أنه علينا أن نفترق .. نلتقي في الصباح لأجدك في انتظاري أو العكس .. حتى أحلامنا ، ربما كانت تغوص في الليل على سجيتها .. فألتقي بك وأعيد صخب النهار و عربدة الضحى و تأملات المساء ونحن على ضفة الغدير الساكن في تأملاته مثلنا . لا أحد يمنعنا من التحدث طويلا عبر شباك نافذتينا .. حقا ، هناك زجر لكي نخلد إلى الراحة و نستعد للذهاب إلى المدرسة في الصباح الباكر .. فنظل نهمس حذرين ، ونكتم بين الفينة و الأخرى ضحكاتنا حين نتذكر شيئا مر بنا أثناء النهار .. أذكرك بالعجل الذي وخزته بإبرة فانطلق يخور عبر الحقول و صاحبه يتوعد بالويل و الثبور من تسبب في ذلك ، و أنت منبهرة بما فعلته .. كنت أستلذ أن أبدو أمامك رجلا بكل معنى الكلمة .. ثم تذكرينني بالهرة التي وضعت في قوائمها حناء و بالدجاجة التي ألبستها قبعة صغيرة حتى غطت عينيها و حجبت عنها الرؤية فلم تعد ترى طريقها . ثم نتساءل متى سنخرج إلى المدرسة في ذلك اليوم الخريفي الزاهي .. وهل سنتمكن من الجلوس جنبا إلى جنب مثل العام الماضي .. لا أنسى يوم فرق بيننا المدرس لأننا سهونا عن الدرس و أخذنا نتحدث عن جني البلوط ..كم كان ذلك التفريق بيننا قاسيا علي حتى كدت أبكي لأنني لا استوعب درسا إلا و أنت بجانبي . أنتظر الصباح بكل شغف رغم أنني هنا من نافذتي أسمع همسك الضاحك و أفهم إشاراتك .. تلوحين لي مودعة فأعلم أنك تعبت .. الطريق إلى المدرسة ممتع .. نجري هنا و هناك .. نلتقط بعض الحصى دون أن نعرف ماذا نفعل بها .. أو نتسلق أغصان شجرة صغيرة ، ونشرب من منبع في الطريق وأرش عليك الماء بحفنة من يدي فتولولين وتاخذين أنت أيضا حفنة منه وتظلين تلاحقينني حتى تفرغ راحتك من الماء .. ثم نصل إلى الجسر لنعبر فوق النهر .. أحدثك عنه كما حدثتني جدتي التي تهديني كل ليلة حكاية دون أن أسمعها إلى النهاية .. لكني أتلذذ بالبداية المعتادة : - سالتك .. فأجيب بحماس .. " سال لا تخاف " .. فتبدأ الحكاية . مرة واحدة استطعت مغالبة النعاس حتى النهاية .. كانت الحكاية لأميرة اغتسلت عند المنبع ، وحين أتى أخوها الأمير ليشرب حصانه ، علقت شعرتها بأسنانه ، فأقسم على أن يتزوج الفتاة صاحبة الشعرة .. وحين علمت الأميرة بقرار أخيها هربت وجلست على صخرة وطلبت منها أن تعلو بينما أهلها يترجونها أن تعود ، فتجيب أباها أولا : في الأول كنت أبي و الآن ستصير حماي اعلي بي يا حجرة فتصير الحجرة صخرة ثم تلا ، إلى أن تتحول إلى جبل .. ويتقدم كل فرد من أفراد أسرتها يستعطفها كي تنزل فتعيد قولتها كل حسب قرابته لها .. وحين تقترب الحكاية من نهايتها أسمع جدتي تقول :" وفي الطريق .. اشتريت حلوى .. وهي تذوب .. وتذوب .. وتذوب .. حتى صار كل شيء كذوب .( كذب ). أذكر يوما أنك طلبت مني أن أروي لك هذه الحكاية لكثرة ما حدثتك عنها .. وحين وصلت إلى ذكر الحلوى .. كنت قد وضعت رأسك على كتفي و نمت وظفيرتك مدلاة على صدري.. كم كنت جميلة في ذلك اليوم و نحن جالسان قرب النهر .. ربما شعرت بشيء غريب نحوك دون أن أدري ما هو .. سأبقى طفلا مادمت تدلينني وتشبعين غروري .. وستبقى الطفولة سمتي ما دمت تصفحين عن زلاتي وتقابلين إساءتي بابتسامة و رحابة صدر .. سأكبر يوما ما .. لكني سأبقى طفلا .. فكوني أبدا طفلة ودعي طفولتك تسكنك مثلي .. |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(11) [align=justify] قضيت اليوم في تعهد عشي بما يلزمه من عناية ، ثم نزلت أتمشى قليلا شارد الفكر حتى وصلت الغدير .. جلست على ضفته .. كانت هناك ضفدعة تراقبني بعينين جامدتين .. كنت على وشك أن أبدأ برمي الحصى على سطح الماء الراكد كعادتي ، لكنني عدلت عن ذلك خشية إزعاج الضفدعة الجاثمة على حجر بجانب الغدير .. لم يكن في الجو ما يشي بالجديد .. سكون تام ورتيب لكنه يسري في النفس فيكسبها حبورا و متعة .. لبثت على تلك الحالة إلى أن شد انتباهي رفرفة أجنحة أتية من ناحية شجرتي الكبيرة .. هل يكون عصفوري عاد مع رفيقته ؟ .. خفق قلبي بعنف فرحا و لهفة لرؤيتهما قرب عشي ، ونهضت مسرعا لأتسلق الدوحة بخفة .. وهناك في أحضان العش المقابل كانت عصفورتي مستلقية في وهن .. حسبت أن إطلالتي عليها ستجعلها تطير .. لكنها ظلت هناك تنظر إلي .. في عينيها ألم أحس به .. مددت يدي نحوها بحذر فلم تتحرك . وضعتها في كفي ، فإذا بريشها يصبغ يدي بلون قاني .. هكذا إذن .. عصفورتي جريحة .. وعودتها لعشها كانت فقط لتبتعد فرارا ممن آذاها و التماسا لمكان آمن تتألم فيه بكل هدوء .. لكن .. ألا تكون هذه العودة من وحي غريزتها الحيوانية لتلتجئ إلي ؟ .. هل كان إطعامي لها بداية للاستئناس و الثقة بي .. إذا كان كذلك ، فما أسعدني به .. و علي أن أعتني بعصفورتي و اتعهدها بالرعاية و الاهتمام .. عصفورتي .. لا تبالي . أعرف أنك تألمت كثيرا من جرحك هذا .. آه لو أعرف فقط من فعل بك هذا .. لكن لا يهم . أنت الآن معي و في حمايتي .. لن تصل إليك يد آثمة بعد الآن .. سأعالج جرحك و ستعودين كما كنت .. دعيني أنظر أين موقع جرحك .. ياللقساة وغلاظ القلوب .. كم هو غائر جرحك تحت هذا الجناح الصغير .. الحمد لله أن هذا الجناح لم يصب وإلا لكنت الآن طريحة الأرض ولعبثت بك أيدي العابثين .. طيب انتظريني هنا يا عصفورتي ولا تخافي .. سأعود إليك بعد قليل .. ماذا ؟ ما معنى هذه النظرة المفعمة رجاء و توسلا .. لا تريدين تركك لوحدك ؟ .. حسنا ، سآخذك معي .. كنت أهمهم و أنا في طريقي إلى المنزل لجلب ما يلزم من دواء .. ولم أتمالك من تقبيل عصفورتي المرتجفة في راحتي .. أحسست بخوف كبير وتساءلت : هل تموت عصفورتي ؟ طردت عن ذهني تلك الأفكار السوداء وعدت إلى عشي بعد أن ضمدت جرح العصفورة .. وضعتها في عشها و نثرت بعض البر أمامها .. فلم تأكل في الحال .. حز في نفسي منظرها .. لم كل هذا الألم يا عصفورتي ؟ ألا يزال يوجعك جرحك ؟ أم أن ألما آخر يعصر قلبك كما يعصرني أنا أيضا ؟ .. ماالذي تريد قوله عيناك الصغيرتان ؟ أكاد أحس بما تعبران به عما يعتلج به قلبك الصغير .. أنا أعرف قلقك و خوفك من أن يكون مصير رفيقك مثل ما حصل لك أو اسوأ منه .. لا تقلقي عصفورتي .. سوف يعود إليك ليجدك قد شفيت وعادت إليك عافيتك لترفرفا عاليا .. فقط لا تياسي .. فيأسك يعديني ويجعلني فريسة للإحباط .. كوني قوية كما عهدتك دائما .. لا يوحشك منظر الغيوم الداكنة المعلنة عن حلول فصل الشتاء .. سأبني لك وكرا منيعا أضع فيه عشك حتى لا يكون في متناول العابثين و المتطفلين .. وسأظل ارعاك و أحميك حتى تتماثلي للشفاء ..أنا هنا معك ما حييت .. لأن عشي هو ملاذي وملجئي .. أنت تنتظرين عصفورك و أنا أيضا أنتظر عصفورتي .. لنحتفظ بالأمل حتى نتغلب على الألم .. فبعد الشتاء و صقيعه و مطره و برقه و رعده ، سيأتي الربيع زاهيا ليمحو ما علق بقلبينا من حزن و أسى .. وتتفتح ورودهما بكل الألوان .. هيا يا عصفورتي .. نامي الآن .. وسوف أظل هنا مادام الجو رائقا هذا المساء .. وسآخذك معي إذا بدا المطر لتؤنسي وحدتي و تشاطريني أحاسيسي .. هيا يا صغيري .. ها هو البر أمامك .. يا لفرحتي .. هكذا أريدك .. أن تأكلي وتنسي للحظة ألامك .. تصبحين على خير عصفورتي .[/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]عودة جميلة أخي رشيد الى عشك ، و أعلم أننا نتابع تمتعك بالطبيعة و زقزقة العصافير .. من حقك أخي أن تبكي في سكينة ، فما أحلى البكاء تحت أوراق الشجر و خرير المياه .
[/align] دمت جميلا و عشك أخي أجمل . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(12) [align=justify] عصفورتي الجريحة هناك قبالتي .. تضع راسها الصغير تحت جناحها لتحكه بمنقارها . تبدو عليها السكينة و الطمأنينة . تنظر إلي متفحصة كأنما تريد الإفصاح عن شيء يقض مضجعها ، أو تود أن تستفسر عن سبب توقفي عن الترنم بالقطعة الموسيقية الأثيرة لدي .. قد أكون صرت حقا ذكرى إنسان حين مر وقت طويل دون أن أحزن .. رغم أن حبها علمني أن أحزن كما كنت أردد دائما .. طال اشتياقي لتك المرأة التي تجعلني أحزن .. كنت في ما مضى أترنم ، وحين اصل إلى : لامرأة .. أبكي بين ذراعيها مثل العصفور .. أتوقف دون أن أدري لماذا .. كنت أحس بغصة و أستطيع الاستمرار .. هل يبكي العصفور ؟ .. كم وددت لو كانت لهذه الجريحة القدرة على النطق لنتبادل الحديث و أحكي لها كل ما يعتلج في نفسي من أحاسيس وما يتضارب في ذهني من أفكار . في كثير من الأحيان أجد نفسي محدثا إياها .. مشيرا بيدي .. محتدا و متوعدا بقبضة يدي .. وكأني عبرها أحادث عصفورتي الغائبة الحاضرة .. هي لم تفارق فكري ولا مخيلتي .. لكني لا ادري لماذا أتخيلها جريحة كهذه العصفورة الصغيرة .. ولا أعلم ايضا من الجريح منا ؟ هل هي التي اختارت البعد أم نفسي التي تتجرع مرارته وتذهب بعيدا في أحلامها و أمالها ، لكن سرعان ما تعود خالية الوفاض ، مهيضة الجناح ، مثخنة بالجراح .. أنت يا نفسي ربما لا تدركين كم آلم لألمك و أحزن لحزنك ، و كم هو موجع وخز الضمير الذي يقض مضجعي و يؤرقني فلا تعرف عيناي للنوم سبيلا .. حيرتي لا توصف .. فأنا اخترت أن أجد لغياب العصفورة أعذارا .. فتارة أبرره بكونها تريد أن يزيد حبنا قوة و صلابة ، و تارة أخرى ألتمس لها العذر لتعرضها المحتمل لما اصاب عصفورتي هذه .. لكني نسيت في خضم كل هذا أنك تئنين و تتالمين في صمت .. كم اعرضت عن ثورانك و احتجاجك على نسياني و إهمالي لك .. كم من مرة تردد صدى صوتك في أعماق قلبي وهو يصيح منبها إلى جراحك .. لكني لم أعمل إلا في نكإ هذه الجراح ، وصم أذني عن نحيبك .. وكأنك لست مني .. هو جحود ما بعده جحود .. أعلم أنك أحببتها كما أحببتها أنا .. و أنك تنتظرينها على أحر من الجمر مثلي .. لأننا منذ البداية ، كنا نسعد ونرتع و نلعب .. أنا كطفل مدلل غر لا يعرف من الحياة سوى اللهو و أنت بداخلي تسايرين شقاوتي و نزواتي ، وهي بكل فتنتها و عذوبتها تنسجم مع لهونا البريء وتعود إليها طفولتها .. أنت يا نفسي جديرة بالحب مثلها .. وتستحقين مني أن أتعهدك بالعناية و الاهتمام و أهدهدك كما أهدهد هذه العصفورة المسكينة التي طال عليها فراق أنيسها .. ما اغرب وضعنا نحن الثلاثة .. أنا و أنت و هذه العصفورة .. هي لا تقول شيئا يشفي غليلي ولا أعرف اين يسبح فكرها الصغير .. و أنت لا تكفين عن النواح و العربدة لتثيري اهتمامي .. و أنا هنا أنتظر الذي قد يأتي أو لا يأتي .. هل أنتظرا سرابا ؟ .. ربما هذه من علامات الجنون .. في بعض الأحيان أقهقه عاليا حتى تنتفض العصفورة المسكينة في عشها .. أضحك لأني تخيلت لحظة أنني و أنا أفحص جرحها ، أنظر إلى الأخرى .. وربما طاف بذهني اعتقاد بانها ربما تكون مسحورة و جاءت لتعيش معي وبالقرب مني .. أوهام و أوهام لا أدري هل ستغزوني يوما فلا أعود أميز بين الحقيقة و الخيال .. أو ربما يكون اعتقادي أمنية بأن تكون حقا مسحورة .. المهم أنها بجانبي .. و في انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي .. سأظل هنا أتعهد عشي بالعناية .. و أهتم بجرح العصفورة الصغير .. دون أن أغفل هذه المرة نداءات نفسي التواقة لشيء من الدلال ..[/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(13) [align=justify] اليوم قررت أن أغادر عشي بحثا عنك والعودة بك أنى كنت و حيثما وجدت .. كيف جال هذا بخاطري ؟ وكيف اتخذت هذا القرار و أنا اعتدت ملازمة عشي ليلا و نهارا تقريبا ؟ .. و ما الذي جعلني أطيق فراقه و تحمل البعد عن شجرتي و ما يحيط بها ، بل و هجر عصفورتي الجريحة و بومي العزيز الذي لم يكد يستأنس بي و يتعرف علي ؟ كان ذاك في سحر تلك الليلة .. بدأت الفكرة بذرة ثم امتدت جذورها في نفسي مع بزوغ ضياء الفجر .. كنت متكئا على الغصن المحتضن لعشي و أنا أرقب السماء تنزع عنها سواد الليل لترتدي أزهى الحلل .. أخذتني سنة وأغمضت عيني مستمتعا بهبة نسيم من جهة الشرق .. هناك الجبال المطلة من الناحية الأخرى على البحر .. حلمت أنني ألمح طيفك يبزغ في الأفق .. ناديتك فلم تردي و لم تلتفتي .. صرخت بكل ما أوتيت من قوة .. حاولت النهوض لكني بقيت مسمرا في مكاني .. انتحبت و أشرت إليك .. عندئذ رايتك تستديرين نحوي وتبتسمين .. نفس الابتسامة التي عهدتها من شفتيك .. ومن عينيك .. تكلمت عيناك وطيفك يبتعد و يتلاشى في الأفق .. تناهى إلي صوتك مع هبوب الريح .. أصخت السمع فلم أميز إلا كلمات قليلة تردد صداها حتى أفقت مرعوبا .. ّالحق بي إن شئت .. تعال حيث أنا إن كنت فعلا تحبني ..تتبع الغدران حتى تستقبلك النوارس ." صدى كلماتك لا يزال يرن في أذني و تردده الجبال من حولي .. فما كان مني إلا أن نهضت أجري هنا و هناك .. أتسلق أعلى الشجرة لأراقب الأفق لعلي أراك من جديد .. لكن لا شيء .. ما ذا أفعل الآن ؟ هل أنبذ عن ذهني كل هذا و أعتبره أضغاث أحلام ؟ .. أم أني بهذا أخفي ضعفي و أتوارى خلف حجج واهية كي لا أغادر عشي و شجرتي وكل ساكنيها ؟ هل أنا جبان إلى هذا الحد ؟ ولكن ..أين أذهب ؟ و إلى أين أتجه ؟ .. الغدران .. يعني أنه علي السير بمحاذاة النهر الكبير .. و النوارس .. نعم .. وا فرحتاه .. هذا النهر يسري حتى يصب في البحر من وراء هذه الجبال . هكذا قر عزمي على الرحيل .. رغم أن قلبي يتفطر على مغادرة عشي و هجران أحبتي قربه .. لكن ما العمل وحبك ينخر في الضلوع و يتغلغل في حتى النخاع ؟ قضيت اليوم كله وما تلاه في الاعتناء بعشي و تفحص عصفورتي الصغيرة .. فوجدت أن جرحها قد التأم و أنها صارت قادرة على الطيران من جديد .. صنعت لها وكرا خشبيا ثبته بإحكام فوق الغصن و أمددته بكل ما يلزم من بر و ماء .. ثم نزلت لأتفقد الزاد الذي سأحمله معي .. وقررت المبيت تلك الليلة الأخيرة في عشي حتى أهدئ من روع كل ما اعتدت عليه .. الشجرة .. العصفورة .. العش .. البوم .. حتى الجدول الذي ينساب بالقرب من شجرتي بدا لي حزينا فلم أشأ أتركه ليلة كاملة دون أن يراني ؟ وعند الفجر، نزلت بحذر حتى لا أوقظ جيراني فيصعب علي فراقهم و هم ينظرون إلي بعين كسيرة يعلوها الأسى . وانحدرت صوب النهر الكبير حاملا على كتفي زادي .. ها أنت ترين أنني استجبت لندائك .. وغامرت بالذهاب إلى مكان لا أعرف حتى وجهته .. وفارقت أحب الأمكنة إلى قلبي لعلي أجدك و أضع حدا لغيابك .. لتعلمي فقط أنني لا أدخر وسعا في إرضائك و إرضاء نزواتك .. ما كان ضرك لو أتيت عن طيب خاطر ؟ .. هل تريدين اختبار حبي لك ؟ .. كان يكفي أن تأتي فتزهر الربى و تتراقص مياه الجداول احتفاء بك وتعبيرا عن مشاعري المتأججة نحوك . هاأنذا عند الغدير والصبح قد تنفس .. خرير المياه يختلط بزقزقة العصافير المستيقظة لتوها من النوم ، الساعية للقوت و اللهو و الحب .. كم أغبطها على سذاجتها و فطرتها .. لم لا نكون مثلها ؟ .. لم لا نحب و نلهو و نقتات بكل تلقائية ؟ .. ألتفت حوالي فأجدني محاطا بالجبال الشاهقة و أنظر إلى النهر فيبهرني اتساعه و هدير مياهه . لكن هل يشعرني كل هذا بالضعف ؟ لا .. بل يزيني قوة و عنفوانا .. فأحث الخطى على الضفة المعشوشبة .. كم كنت أود لو أنك هنا معي نرتع و نلهو طول النهار ، ثم نعود عند الغروب إلى عشنا لنتسامر ونبوح ونتناجى .. بدل أن تتركيني أهيم على وجهي وحيدا تائها . أنا لبيت نداءك لأنني قبلت التحدي .. أريد أن ابرهن لك على أنني لن أضعف ولا أجبن مهما كانت الصعاب .. سأظل أحاذي هذا النهر و ألتف حول الجبال حين يستحيل السير على ضفته بسبب الصخور الملساء على جانبيه .. سأوغل بين الأشجار مقتفيا أثر حوافر قطيع مر من هنا حتى أعود إلى النهر .. ها أنت ترين أن كل شيء يوجهني .. حتى أغصان الأشجار أخالها تشير إلى ناحية النهر .. وسرب الطيور يتجه نحوه .. الريح تهب تجاهه .. كل شيء يحس بنبض حبي وتأجج مشاعري ، فيسرع لمساعدتي . عما قريب سأصل إلى مصب النهر .. لأني أحس بنسمات بدأت تبرد قليلا فتنعش جسدي الموهن .. وتطفئ لظى نفسي و لهيب شوقي إليك .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(14) [align=justify]عند المنحدر إلى النهر تراءى لي كوخ خشبي وسط الأشجار الكثيفة في تلك المنطقة من الجبل .. وكأني كنت محتاجا للحظات أستريح فيها من عناء المشي طول النهار ، خاصة و أن الشمس كانت تميل نحو المغيب و قد ران على المكان سكون شامل .. أحس بالجوع يقرص معدتي فأقترب من الكوخ لأجلس على عتبته .. و أبدأ في تناول بعض الزاد .. ثم يتناهى إلي وقع حوافر آتية من وراء الكوخ .. ألتفت فأجد قطيعا من المعز يتوجه نحوي و في مؤخرته أقبل راع وهو يمسك بعصا غليظة شدت إليها صرة كبيرة .. استطعت أن أستشف من هيئته فقرا مدقعا وبؤسا .. حياني بأدب جم ثم دعاني إلى الداخل لأقاسمه ما يحمله من طعام .. بينما كان القطيع يدخل الزريبة بجانب الكوخ . كان في أحد الأركان مصطبة على شكل سرير وضعت عليه أغطية و مخدة .. و في وسط الكوخ كانت حفرة مملتئة رمادا .. وبالقرب منه إبريق أزرق شابه سواد وكرسي خشبي مهترئ . تحدثنا باقتضاب في البداية ، وعرفت منه أنه يشتغل عند أحد أعيان القرية ، ويقضي أسابيع هنا لرعي المعز ثم سألني عن وجهتي .. حدثته أنني أيمم شطر البحر للبحث عن شخص عزيز لدي .. وكنت أحسب أن بداوته تعني سذاجة و غفلة عن أمور الحب و العشق .. لكن ابتسامته بدت لي ذات معنى .. وهز رأسه كمن يريد أن يبين لي أنه فهم كل شيء . ضحكت فضحك .. أحسست أن الكلفة زالت بسرعة بيننا ، ونظرت إلى عينيه الحزينتين وتساءلت هل يكون الفقر وحده سبب هذا الأسى المطل منهما أم أنه مثلي يعاني من لوعة الحب و مرارة الفراق . شكرت له ضيافته ونهضت أستعد للرحيل فقال : - إلى أين تذهب في هذا الوقت ؟ .. ألا ترى أن الظلام قد حل ، و انك لن تستطيع تمييز الطريق ؟ نظرت من خلال الباب إلى الخارج فتبين لي صواب قوله .. لكن أين أبيت ؟ .. و كأنه عرف ما يجول بخاطري ، فأشار إلى المصطبة ثم رأيته يأخذ غطاء من فوقها و يفرشه في ركن آخر .. حاولت منعه ، لكنه أصر على أن أنام على مصطبته .. جلسنا على عتبة الكوخ وقد ساد السكون التام .. يتناهى إلينا هدير النهر من بعيد لكن الليل بدا جميلا هادئا . لا أدري كيف بدأت أحدثه عن عصفورتي و خروجي للبحث عنها وتصميمي على العودة بها .. كنت متحمسا وأتحدث كأنني أراها قبالتي .. أما هو فكان يبتسم دون أن تفارق محياه تلك المسحة من الحزن .. وعلى حين غفلة سألته إن كان هو الآخر يحب .. تنهد طويلا و نظر بعيدا أمامه قائلا : - أنا لست مثلك .. أنا قريب جدا ممن أحب .. أراها كل يوم حين عودتي إلى البلدة .. لكن دون الوصول إليها الدنيا بطولها وعرضها .. لا أمل لي .. لأنها ببساطة بنت السيد الكبير.. هي لطيفة معي لكني لا أرى إمكانية أن تكون لي يوما ما . - وما الفرق ؟ .. أنت إنسان طيب و وشهم .. - لاشك أنك تقرأ القصص الغرامية كثيرا .. أنا اقرأها أيضا رغم توقفي عن الدراسة . لكني أضحك لتلك النهايات الغبية .. أميرة تتزوج راعيا ؟ أنا فقير و أعلم بحالي و أرضى بواقعي .. أحب فتاتي لكني لا أطمع فيها ولا أحلم بأن تكون من نصيبي .. هنا أعيش فترة من السنة و هذا يجعلني أتغلب على ما أحس به من لوعة لأنني هنا أعيش وحيدا مستمتعا بما حولي من جمال وبهاء خلقه الله .. في بعض الأحيان أشكو حبي لقطيعي .. لا تضحك .. فهذه البهائم تمنحني قوة و أنا انظر إليها في تصرفها حسب غريزتها .. هل تعلم أني سميت معزة باسم فتاتي ؟ .. هي الأجمل بين المعز .. سأريك إياها غدا صباحا .. هيه .. لا تنس أنك ستكون في ضيافتي حين نصل .. أليس كذلك ؟ رفيقي مجهد .. يتثاءب فأطلب منه الإخلاد إلى النوم لأنني أعلم أنه يقضي النهار كله في مرافقة القطيع من قمة الجبل إلى هنا .. أنا أيضا متعب ، لكن ذهني متيقظ .. أريد أن أعيش الليل كما يحلو لي .. أن اسهره و أناجيه .. الليل فرصة لي كي أطلق العنان لأفكاري و أحاسيسي .. وها أنذا وحيد أحضن ليلي و يحضنني . أحملق في سواده فتتراءى لي جذوع الأشجار كأشباح لكنها لا تخيفني ، بل إن أقربها إلي تتمثل لي قامة محبوبتي الممشوقة ، وتبدو لي أوراقها كجدائل شعرها .. حتى شكل هذه الأوراق يشبه عيون الحبيبة حين تبتسم فيخيل إلي أنها تغمضهما .. ثم أرفع بصري إلى السماء فيبهجني سوادها و قد رصعته النجوم المتراصة في بهاء قل نظيره .. أشعر بها قريبة من رأسي وألمح شهابا يمر فأسبح بحمد الخالق وألهج بذكره .. وأذكر عشي فأحس بالحنين يغزو قلبي .. كيف هو الآن و كيف هي شجرتي ؟ وهل لا يزال البوم ، الحارس الأمين مرابطا في أعلاها ؟ وماذا حل بالعصفورة المسكينة ؟ ترى هل عاد إليها رفيقها ؟ ليته يفعل .. صرت أربط مصيره بمصير محبوبتي .. البحر لم يعد بعيدا .. لم تبق إلى ثلاث منعرجات جبلية و أصل .. لهفتي كبيرة للوصول لكن رفيقي يلح علي بالمكوث عنده بمنزله ليلة أخرى ونحن ننحدر من وراء القطيع .. أنط من صخرة إلى أخرى ، و أقف على جرف أتملى بالوادي و قد تناثرت في أرجائه دورا و أكواخا .. أحس بحب جارف تجاه كل من يسكن تلك البيوت المستسلمة في حلم للربى وهي تكتنفها من كل جانب . أفتح ذراعي وأملأ رئتي الهواء فإذا بصدري ينتعش ببرودته .. حبور طاغ يعم جسدي فأطلق صيحة تردد صداها الجبال وأعود للعدو و النط هنا و هناك .. ثم حين أنتبه إلى أنني سبقت القطيع و راعيه بمسافة كبيرة أجلس لأنتظره ، أو أستلقي على ظهري و أغوص في الأعشاب الكثيفة تاركا إياها تدغدغ عنقي و أذني . كانت المعزة التي حدثني عنها تسير في المقدمة وقد علق جرس حول عنقها .. حقا هي معزة جميلة بيضاء الحوافر و بعض الأجزاء من وبرها وقد تدلت من عنقها قلادتان زادتاها بهاء .. ضحكت في سري من رفيقي الذي يرى حبيبته في معزته ، ثم انتبهت إلى أنني كنت أرى محبوبتي في العصفورة الجريحة .. متى أراك أيتها الحبيبة ؟ و هل ستكونين في انتظاري لتتكلل رحلتي بالنجاح أم أنك سوف تستسيغين هذه اللعبة .. لعبة المطاردة ، لتشبعي نزواتك وغرورك ؟ .. متى ستبددين هذا الخوف الذي يعتريك كلما صرت قريبا منك ؟ أنا آت .. و سأصل إلى البحر عما قريب .. أكاد أتخيل صخب موجه من هنا .. و يتمثل لي وجهك وأنت تذرعين الشاطئ المقفر بعيدا لألحق بك . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
(15) [align=justify]كثيرا ما نخطئ في حق شخص لا نعرفه حق المعرفة فلا نعطيه حقه من العناية أو التقدير اللذين يستحقهما .. ونحس بشيء من التعالي تجاهه فقط لأنه يزاول مهنة أو عملا مهينا في نظرنا .. رفيقي الراعي تشبث بي وكأنه كان على موعد معي في الغابة ، و أصر على أن أقضي معه بضعة أيام ليريني أشياء هامة حسب قوله .. خجلت أن أقابل حفاوته بالإعراض و الرفض رغم شوقي لمتابعة الرحلة و الوصول إلى حيث يسبقني قلبي محموما متلهفا للقاء عصفورتي والعودة بها سريعا إلى عشي الذي طال فراقي له . وصلنا القرية قبل المغرب بقليل .. اشتد نباح الكلاب من حولنا لكنها ما لبثت أن تراجعت عند سماعها لصفير تعودت عليه من رفيقي و أقبلت تتمسح بساقه .. وجدت نفسي محاطا بفتية و فتيات ينظرون إلي بفضول وقد علا سحنتهم سواد من أثر الغبار و بقايا حلوى مذابة التصقت حول شفاههم .. شعر أشقر منفوش و ثياب رثة .. لكن العيون كانت تنطق بالحسن و الجمال .. عيون كبيرة زرقاء بلون السماء .. أحببتهم سريعا و ابتسمت لهم .. جذبني رفيقي إلى واجهة أخرى من المنزل تطل على منحدر سحيق يبدو في نهايته مسرى النهر .. أشار لي إلى غرفته فولجتها لأجد لمسة تنم على ذوق رفيع .. كل شيء مرتب ومنظم بكل عناية .. قصص و مجلات أخبرني أنه يقتنيها من أخ محبوبته الذي يزورالمدينة أحيانا . كانت لوحة تزين صدر الغرفة الصغيرة عند رأس السرير تمثل صبايا و شبان يلعبون على العشب . أبديت إعجابي بكل ما رأيته ثم خرجت إلى الباحة المطلة على المنحدر لأجلس منهكا بينما انصرف هو لإعداد الأكل .. مرة أخرى أجد نفسي وسط سكون ينفث في كياني حبورا و طمأنينة .. نقيق الضفادع يتناهى إلي من المروج القريبة .. لا شك أن منبعا هناك .. أحسست بالحركة من حولي فوجدت رؤوسا صغيرة تطل من النوافذ ومن الباب ومن فوق السطح .. من كل مكان .. ابتسمت من جديد و أشرت إلى أحدهم بالاقتراب ففر بعيدا .. أخبرني رفيقي أنهم غير متعودين على غريب هنا .. حدثته عن رغبتي في أن يشاركونا طعامنا فنهض و نادى عليهم ..كنت متشوقا للتحديق في عيونهم دون أن ادري لماذا .. أثار انتباهي تعامل رفيقي مع إخوته السبعة .. يربت على رأس هذا و يقرص خد هذه و يحتضن هذه و يتفحص ذاك .. ثم يبدا الأكل فلا أراه يضع لقمة في فمه .. كل همه أن يطعم الصغار كأنهم عصافير .. آه .. العصفورة .. محبوبتي .. العينين .. الآن عرفت لماذا أحببت عيونهم .. رفيقي لا يأكل .. ينظر دائما إلى الأفق مفكرا .. حتى وهو في سهوه ، يمد بقطعة خبز إلى هرتين تموؤان بالقرب من المائدة الصغيرة المستديرة .. تقبل علينا الأم ببعض القناديل الغازية و بعض الشموع فأحييها و ألحظ كبر عينيها .. تتحدث إلى ابنها البكر بمودة ظاهرة وتحمل صبيا لها بدأ يتثاءب من النعاس فتسرع إحدى بناتها لإعانتها .. شملني شعور بالحنان و المودة تجاه هذه الأسرة .. كل ما حولها ينطق بالحب .. الحب في الوجوه .. في العيون .. في الكلام .. في الحركة .. نهضنا نتمشى .. تعمد أن نمر أمام منزل كبير تدل زخرفته و شرفاته عن ثراء فاحش .. نظرت إلى شرفة ينبعث الضوء منها وانتبهت إلى رفيقي يختلس النظر ثم يولي وجهه صوب الوادي .. كانت لهفتي كبيرة في معرفة هذه التي أخذت بلب مضيفي .. لكني تيقنت أنها ستكون قمة في الجمال لأن ذوقه لا يمكن إلا أن يوفق في اختياره .. أخبرته برغبتي في الذهاب إلى المنبع فغير الاتجاه نحو صف من أشجار العرعر المصطفة على تلة صغيرة .. السكون شامل .. خرير المياه يتعالى كلما اقتربنا من المنبع .. السواد يلف المكان فيصعب تمييز الطريق الذي نسلكه .. جلسنا على صخرة تشق الماء شقين فينساب من جانبيها . رفيقي لا يمل من الحديث عن آماله و مشاريعه .. وكلها تصب في الاعتناء بأسرته و رعايته لها . كم أود أن اسأله عن عواطفه و ما سيؤول إليه حبه المستحيل .. لكني أتراجع كي لا أثير همومه .. كنت أحس بنبضه و لهفته في أن يتحدث عن تلك التي لا يأمل بالفوز بها . نسيت للحظة لهفتي و شوقي لمن أحب و انشغلت بهذا القلب الكبير الذي ينبض حبا و ينفث حبا .. مسحة الحزن التي تعلو محياه انتقلت عدواها إلي فصرت أغالب دموعي في غفلة منه .. أشار إلى ربوة تطل على المنبع و أخبرني انه يحلم بإقامة بيت صغير خاص به .. كم أغبطه على اختياره و ذوقه .. أحس بتشابه في طبائعنا .. شرد فكري إلى عشي المطل على الوادي هناك أيضا .. كم تمنيت لو تحققت آماله في الفوز بمن يحب ، وعلى حين غرة وجدت نفسي أسأله : - ما المانع من أن تبني مستقبلك من الآن ؟ سكت ولم يجب .. هل أزيد في معاناته ؟ .. صمته يجيبني أنه لا يمكن أن يفكر في نفسه و ينسى إعالة أسرة تكتظ بالأفواه الجائعة .. كم يبدو لي كبيرا .. تعلو هامته أمامي حتى تطال الأشجار المحيطة بنا في صمت و جلال وكأنها تعيش مشاعرنا و تشاركنا معاناتنا . لم أدر كم لبثنا نتحاور في صمت .. لكني وجدت نفسي بعد ذلك مستلقيا على سريره الخشبي المحاذي لكوة تطل على الباحة .. استويت جالسا و صرت أطل من الكوة محدقا في الظلام .. شعور طاغ يدفعني للرحيل في هذه اللحظة .. الوقت مناسب لكي أنصرف .. لكن كيف أفعل هذا دون أن أعلم رفيقي ؟.. حسنا سأنتظره حتى يبزغ الفجر ثم أستأذنه .. شعرت براحة لاتخاذ هذا القرار و لبثت أنتظر .. قد يكون من الإطناب التحدث عن اللحظة التي استيقظ فيها رفيقي و ما تلا ذلك من جولة قصيرة عبر القرية .. لكني أجد نفسي الان منطلقا عبر الوادي حاثا الخطى نحو البحر .. ستبقى ذكراك أيها الراعي في قلبي .. وستبقى لي رمزا للحب و الوفاء والقلب الكبير .. تعلمت منك الكثير .. سوف أعود يوما ما لأجدك فزت بمن تحب .. الحب لا يعرف المستحيل .. لا يعرف الفوارق .. سوف تجني ثمار صبرك و شهامتك ايها الراعي الأمين .. كم أحبك .. كم أحبك .. أصعد مرتفعا دون أن أحس بأية صعوبة .. نفسي في سباق محموم مع الزمن .. قلبي يوجعني بلهفته في الوصول سريعا .. وما هي إلا خطوات عبر أشجار تعلو قمة الجبل حتى وجدت نفسي أشرف على البحر .. و أخيرا .. هاهو البحر .. صفحة ملساء يمتزج بالسماء هناك في الأفق البعيد .. الشاطئ يمتد بعيدا حتى يلفه الضباب . أخيرا وصلت .. فهل تكون هنا بداية النهاية .. ؟ [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
16 كم مر من الوقت و أنا أتأمل صفحة البحرالمنبسطة أمامي إلى ما لا نهاية .. وكم لبثت ألتفت تارة إلى اليمين و تارة أخرى إلى اليسار محاولا أن أميز شيئا على الشاطئ المترامي الأطراف .. ولا أدري لم انقلب حماسي و بهجتي بالوصول إلى شعور بالانقباض و القلق . هل لأن نهاية الرحلة توشك على الانتهاء و أنني على موعد قريب مع الفوز بمحبوبتي و العودة بها ؟ أم أني أتخوف لاشعوريا من الرجوع مرة أخرى خالي الوفاض .. هل يكون ما أعيشه الآن من أمل مجرد سراب وحلم لا ألبث أن استيقظ منه ؟ لماذا أنا مسمر القدمين هنا في أعلى الجبل ولا أسرع في الانحدار إلى الشاطئ ؟ ثمة شيء لا أدري كنهه يحثني على الرجوع و الاكتفاءبالانتظار هناك في عشي .. لكن هذا سيكون دليلا على عجزي وربما جبني و ضعفي أمام الشدائد . ربما كان لما وصلت إليه من اقتناع جعلني أمد الخطى نحو المنحدر .. صعب أن تجد الطريق بين كل هذه الأشجار و النباتات الكثيفة .. لكني ، مدفوعا بحدسي وحاسة مشاعري، أسير بخطى ثابتة نحو الأسفل .. يغيب عني البحر لحظة ثم يظهر لي قبل أن يختفي مرة أخرى . تغوص قدماي في الرمل الناعم وأنا أتجه نحو البحر .. و أقترب حتى أحاذي موضع انكسار الموج .. في صوت انكساره نغمة شجية تزيد النفس وحشة و حزنا .. لو كنت هنا في غير هذه الظروف لكنت أسعد حالا بما أرى و بما أسمع .. لماذا يتراءى لي كل شيء حزينا الآن ؟ .. أقترب من أحد قوارب الصيد وقد مال قليلا إلى اليمين .. المجذافان بداخله .. لمحت اسما أنثويا على جانبه فحرك أشجاني .. ترى لمن يكون هذا القارب ؟ وهل يكون صاحبه يكتوي مثلي بلظى الحب ؟ هل ينعم بالقرب ممن يحب أم أنه أطلق على قاربه اسم معشوقته كما فعل صديقي الراعي الذي سمى عنزته باسم محبوبته؟ نزعت حذائي وتقدمت أكثر وسط الموج المتداعي على الرمال المبللة .. أنعشتني برودته . نبهتني صيحات بعض النوارس إلى ما أنا بصدده الآن .. ومع تلك الصيحات و انكسار الموجوجدت نفسي أترنم : ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان وستسأل عنها موج البحر... وتسأل فيروز الشطآن ثم ، وبدون وعي ،انتقلت إلى مقطع آخر : وسترجع يوما يا ولدي مهزوما مكسورالوجدان وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطاردخيط دخان زاد انقباضي وشعرت بحاجة للبكاء .. أدرت ظهري للبحر ورنوت إلى أعلىالجبل ، هناك من حيث أتيت فبدت لي القمم موحشة بقتامتها . هل علي أن أعود كل تلك المسافة ؟ ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ وما الذي أنتظره سوى أوهام و سراب .. أخذت أتمشى على الشاطئ المبلل .. أجمع بعض الصدفات أو بعض الحصى و أرمي به بعيدا كأنني أفرغ ما بصدري من ضيق .. وجدت راحة في السير وصوت الموج لا يزال يمتزج بصيحات النوارس .. وهناك حيث بدأ الضباب يتلاشى قليلا لمحت شبح عجوز محدودب جالسا القرفصاء بالقرب من مركبه وهو يصلح شبكته .. أخيرا وجدت من يؤنس وحدتي . بادرني برفع يده قبل أن أبدأه بالسلام فأثر في ذلك وشعرت بعطف ومودة نحوه .. جلست إلى جانبه أراقبه في انكبابه على شبكته ولم أرد أن أشغله عما هو فيه . نحافته تثيرالشفقة و سمرته تكاد تصير سوادا .. لكن مظهره يدل على صلابة عوده .. تبادلنا بعض الكلمات وربما حدثته عن مأربي بطريقة ملتوية .. ابتسم و كأنه فهم تلميحي . ذكرتني ابتسامته بتلك التي ارتسمت على شفتي صديقي الراعي عند لقائنا في الكوخ . أحسست بالدم يكاد يفور من وجنتي و غضضت ببصري و أنا أتلاعب بقصبة على الرمل .. سألته عن بعض الدور المتناثرة على أطراف الشاطئ وساكنيها فابتسم من جديد وطفق يحدثني عن كل بيت و ساكنيه حتى دب الملل إلى نفسي .. لم يكن في حديثه ما يثير الفضول .. لكنه وقبل أن ينتهي من عمله و ينهض بخفة أثارت دهشتي ، قال لي وهو يشير إلى الشاطئ : - هذا من نعم الله .. كنز ولا كل الكنوز .. إن أحببت أن تفوز بالاستمتاع به أو بأي شيءآخر ، عليك بالقدوم فجرا وترقب طلوع الشمس .. لم يكن في كلامه شيئا جديدا ، لكن شيئااستوقفني وتساءلت عما يعنيه بقوله "أي شيء آخر ؟".. نظرت إليه فوجدته يجمع الشبكة ويلقيها في المركب .. ثم قال : - اليوم أنت ضيف عندي.. غدا سآخذك في جولة عبر البحرلترى صنع الخالق .. لا تبتئس .. كل شيء يهون .. هيا بنا . كم أغبط هذا العجوز على تلقائيته و خلو ذهنه من كل مشاكل الدنيا .. لكن مهلا .. علمتني التجارب و إن كانت قليلة ، ألا أثق بالمظاهر .. من يؤكد لي أن هذا الشيخ لا ينوء بعبء ثقيل ؟ .. ألا يكون يضاهي صديقي الراعي فقرا و بؤسا رغم نشاطه و تفاؤله البادي على وجهه الذي غزته التجاعيد ؟ علي أن أعترف أن مبيتي عند الشيخ العجوز و خروجي صحبته بعدالفجر بقليل خفف عني وطأة ما كنت أحس به .. سهرنا أمام الموقد . كان الرجل يعيش وحيدا . لم اسأله عن أهله . كنت أستمع إلى حكايته وأجد في طريقة سرده متعة أنستني ما أنا فيه من غم .. صوت الموج يسمع جليا بالقرب من البيت . لكن لا شيء يرى في هذاالظلام الدامس .. كانت على المائدة الصغيرة شمعة تتوهج و على ضوئها كنت ألمحالتجاعيد على وجع العجوز وقد زادت عمقا .. نسيت نفسي و نحن نمخر عباب الموج الهادرفي هذا الصباح الندي .. البحر صار هائجا لكنه ليس لحد الخطورة .. الرجل يجذف بحيوية منقطعة النظير و أنا في مقدمة المركب أجيل النظر في الأفق متفحصا ما يحيط حولنا منصخور تبدو كجزر صغيرة .. كدت أسأله عن وجهتنا لكن ترنيمته الجبلية ألزمتني الصمت .. خلت نفسي أمام عشي و البدويات يترنمن من بعيد .. كانبكي ونبكي ونطيح فدموعي أيلي يا للا ايلي يالعيلا قوللي علاش كتبكي قوللي علاش كتبكي حبيبك دابا يولي صرت أغالب دموعي و اخفي تأثري عن مضيفي .. لكنه لم ينتبه إلى ما كنت أعانيه .. واستمر المركب يشق الماء شقا و النهار يطلع رويدا رويدا .. حقا .. لقد كان على صواب حين تحدث عن الكنز .. لم أشعر قط بما أشعر به الآن من رهبة ممزوجة بالإعجاب لصنعة الخالق الباري .. كل شيء ينطق بالعظمة و الجمال .. البحر .. السماء .. الجبال التي تتراءى من بعيد .. الصخور الناتئة .. النوارس .. وأخيرا الشمس التيتشرق الآن .. بنفسجية اللون كبيرة القرص .. كل شيء يسبح .. كل شيء يبتهل .. يصلي .. يحب .. الآن .. أرى المركب يدور على نفسه ليستقبل الشاطئ البعيد هناك .. الغارق في ضباب الصباح .. أنتبه من جديد إلى ترنيمة الشيخ و أنا أحدق في المدى البعيد .. أحس بالأشياء تتنفس مع تنفس الصبح .. شهيتي تتفتح .. لكن العجوز كان قد أعد لكل شيءعدته .. توقف عن التجذيف ليناولني رغيفا بالعسل و بيضا مسلوقا .. التهمته بلذة وبصري لا يحيد عن الشاطئ ، كأنني على موعد مع حدث قريب .. والحدث القريب كان رؤية .. وفي هذه المرة كانت حقيقة .. أو هذا ما خيل لي ونحن نقترب من الشاطئ .. لأنني لمحت عند أقصى الجهة اليمنى ، حيث ينتهي سفح الجبل على شكل جرفسحيق ، شيئا يتحرك ، تحيط به هالة من البياض . دققت النظر فبانت لي هيئة غادة مستقبلة البحر وقد عبثت الريح بجدائل شعرها. قلبي يخفق بعنف .. وصرت أحث العجوز في نفسي على الإسراع بالتجذيف ، وتمنيت لو كان لي مجذافا آخر لأزيد من سرعة القارب .. كدت القي نفسي في اليم لأسبح .. لكني تمالكت نفسي .. من تكون ؟.. هل هي .. ؟ ماأسعدني إذا تحقق حلمي أخيرا ؟ .. وما أشقاني إذا كان كل هذا حلما .. أو كانت الغادة ليست من أبحث عنها . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(17) لم أنتظر حتى يقترب القارب من الشاطئ ..فألقيت بنفسي في اليم و سبحت بضعة أمتار غير مبال بالبلل الذي أصاب ملابسي و تسرب الماء إلى جسمي .. وما أن وطئت قدماي الرمل حتى عدوت في اتجاه غادتي وقد زادت الهالة التي تحيط بها بياضا .. وفي لحظة توقفت لاهثا .. ماذا لو كان ما أرى مجرد سراب أو أضغاث أحلام ؟ .. لكن غادتي هناك ولم تختف .. بل زادت ملامحها وضوحا و أنا أخطو ببطء نحوها .. تتثاقل خطواتي و أنا أقترب منها .. ما هذا الشعور بالخوف الذي اعتراني فجأة ؟ أليس هذا الذي كنت أحلم به ليلا و نهارا ؟ أليس هذا سبب فراقي لعشي ومغادرتي لشجرتي و ساكنيها؟ ماذا سأقول لها و كيف سيكون وقع مقدمي على نفسها ؟ .. لكن لم كل هذا التساؤل ما دامت هي التي أوحت لي بالقدوم إلى هنا ؟ جلست على صخرة بجانبها ولزمت الصمت بينما جسدي يقطر ماء .. ثم ، بعد لحظات من التردد سألتها : - تأخرت ؟ لم أتلق ردا .. خطفت نظرة إلى وجهها الساهم نحو البحر .. يا إلهي كم زادت فتنة .. حتى في حلمي لم تكن هكذا .. ماذا ننتظر ؟ .. ولم أتيت ؟ لم هي صامتة ؟ .. - ها أنذا جئت لآخذك معي .. أمامنا طريق طويل ووعر .. أخذ وجهها يتحرك نحوي فاستبشرت خيرا .. تأملتني طويلا قبل أن تعود لتنظر إلى البحر .. مددت ببصري إلى حيث ترنو فلم أجدإلا موجا متلاطما و قوارب متفرقة هنا و هناك .. - لم ستأخذني معك ؟ ما هذاالسؤال ؟ هل تريد اختبار عواطفي نحوها أم أنها متلهفة لسماعي أردد كلمات الحب والغزل ؟ - لأنك طلبت مني ذلك .. و .. لأني .. أريدك معي . - وما الذي يجعلك واثقا من أني سآتي معك ؟ - ألا تريدين أنت ذلك ؟ .. لقد رسمت لي الطريق إليك ،وهاأنذا أصل إليك كما كنت أرجو .. يعود الصمت من جديد بينما يعلو حفيف الرياح حتى يقوى فيصير هديرا .. تأخذني سنة و أنا أتملى بجدائل شعرها المتطاير حاجبا جانبا من وجهها .. فتتركه حتى ينزاح لوحده . - اسمعي .. لقد تحملت الكثير كي أصل إلى هنا و أجدك .. أريد فقط أن أعرف هل ما فعلته كاف لكي تثقي في مشاعري أم أنك تفكرين في شيء آخر تجربين به هذه المشاعر .. يكفيك أن تسمعي إلى هذه الرياح و هي تهدر .. وإلى تمايل الأشجار هناك على إيقاعها .. انظري إلى تلاطم الموج و صخبه .. حتى الرمال تحولت نقعا يخفي الأفق ويحجب الرؤية .. ألا يعني لك هذا شيئا ؟ .. تذكري فقط أنككنت تستلذين حكاياتي وهي تروي عن الرياح و الأمطار وتصف لك الوديان وقد اندفعت عبرها السيول .. هل نسيت الليل وما كان يحمله من أمطار و عواصف تزيده بهاء و روعة؟.. كنت تلتصقين بي وقصف الرعد يكاد يهد الأرض ويدك الصخور فأحس بارتعاشك و أعمل جاهدا لكي تطمئني .. كنت أحدثك عن ثورة الطبيعة التي ما هي في الحقيقة سوى تناغم بين عناصرها و تعبير عن الحب و الألفة بينها .. وكنت أؤكد لك أن هذه الطبيعة ما هي إلا انعكاس لما يعتلج في نفسي تجاهك .. إذا كنت قد نسيت هذا فأنا أذكرك به .. انظري إلى ذاك الطريق المنحدر من الجبل .. من ورائه تركت قلوبا يعصرها الألم والحزن ، لكنها تحب .. و نفوسا هدها الفقر و الفاقة لكنها تحب .. وغلفها اليأس ولم يعد لها أمل في الحب نفسه ، لكنها مع ذلك تحب و تتشبث بالحب .. سأنهض الآن لأرتب شؤوني وأعود من حيث أتيت .. سوف ألازم الشيخ بعض الوقت ريثما أستعد .. وسأنتظرك .. لك الخيار في أن تلتحقي بي .. أو تبقين هنا حيث تشائين .. لكن لتعلمي أنني إذاغادرتك فلن أعود .. ولن أستجيب لأية دعوة للحاق بك سواء كان ذلك حلما أو يقظة .. لقد عملت ما كان يتوجب علي عمله .. سأقضي الليلة هنا وسأنصرف عند الفجر .. الشيخ العجوز منكب على شبكته عند مدخل البيت .. أو على الأصح بالقرب من الكوخ .. انتبه إلى وقوفي أمامه صامتا فلم ينبس ببنت شفة .. تأملته قليلا ثم نظرت إلى البحر متحاشيا الجهة اليمنى حيث تركت غادتي في تأملها .. لهفتي كبيرة لمعرفة هل لازالت هناك لكني كبحت جماح نفسي وعدت لأحدق في البحر ثم في الشبكة الملقاة عند قدمي .. - هناك شاي لا زال ساخنا .. وخبز و سمن . كل و استرح .. جسدك في حاجة إلى الراحة .. ونفسك أيضا . أثار قوله شجوني و دلفت إلى الداخل .. كنت جائعا لكني اكتفيت ببعض اللقيمات أسد بها رمقي ثم استلقيت على غطاء صوفي في ركن البيت و نمت .. لا أدري هل كان هدير البحر يدوي كالمعتاد حين أفقت مرعوبا و قد أسدل الليل ستاره ، أم أنني تخيلت أن أركان البيت ستنهار علي .. كنت أحس كأن الموج لن يلبث أن يجرفني لشدة هديره وقربه الشديد مني . الشيخ متكئ على جنبه اليمن يحدق في الشمعة المتوهجة و هي تتوسط المائدة الصغيرة .. انتبه إلى حركتي و أنا أستوي جالسا فابتسم قائلا : - نمت كثيرا يا بني .. لكن لا تقلق .. النوم راحة .. لا زال الليل طويلا .. فركت عيني محاولا تذكر ما مر بي خلال النهار ، فشعرت بانقباض وبحاجة للبكاء .. غالبت دموعي كي لا يلحظها الشيخ .. لكنه ظل يبتسم .. وقال وهو لا يزال ينظر إلى الشمعة كأنه يستوحي منها أفكاره : - لا تجعل الهم يسيطر عليك و لا تسمح لنفسك بالاستسلام للكدر و الغم .. ماذا تساوي هذه الدنيا كي نحملها في قلوبنا ؟ .. لا شيء .. كل لحظة نقضيها مهمومين تنقص من عمرنا .. لا شيء يستحق الحزن .. صوته رخيم هادئ .. يتغلغل في أعماقي و يشعرني بالأنس .. سألته : - ألم تحزن قط في حياتك ؟ .. لا شك أنك كنت دوما سعيدا ولم يحدث لك ما يعكر صفوك .. سكت طويلا حتى خلتأنني جرحت مشاعره بتذكيره بأشياء يحاول نسيانها .. وكأنما قرأ أفكاري فقال وهويبتسم دائما : - أنا ككل إنسان .. سعدت و حزنت .. أحببت و كرهت وعانيت الكثير .. نظرت إليه و كلي تساؤل ولهفة لمعرفة ماضيه .. وسأعلم فيما بعد أن هذه الليلة كانت منعطفا حاسما في ما يلي من الأيام بل في حياتي كلها .. فأصخت السمع ووهج الشمعة يزيد من رهبة الموقف . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
(18) أي إنسان هذا الذي يحدثني ؟ و أي قلب هذا الذي يحمل كل هذه الأحاسيس ؟ وأية نفس هذه التي تحملت كل هذا الذي اسمعه ولا زالت تعرك الأيام ؟ على وهج الشمعة الآيلة للذوبان ، أرنو إلى وجه الشيخ وقد زاد نور الشمعة تجاعيده غورا وعمقا .. بدت لي عيناه ساهمتين وهو يروي ماضيه وكأنه يعيشه .. بل أحسست أنه في لحظة من اللحظات قد انتقل إلى هناك ولم يعد أمامي سوى جسد نحيل تكاد عظامه تنفر من تحت جلده .. -" أنا يا بني عشت كما يعيش كل إنسان .. تمتعت بكل شيء .. بالحب و بالألفة و المودة مع من جعلهم الله سندي في هذه الدنيا .. لن أحدثك عمن أحببت وقد صارت فيما بعد زوجتي .. ولن أحدثك عن صغاري الذين لم يسلم جزء من هذه الرمال من موطئ أقدامهم الصغيرة .. أحسست في يوم من الأيام أنني بلغت كل المنى و أني قد حزت كل الدنيا .. كم تغنيت بذاك الحب الذي حمل الكثير من الغزل .. حتى صرت شاعر المنطقة .. وتهافت علي الكثيرون يرومون سماع مقاطع مما أنظمه .. يا إلهي كم كانت رائعة .. سنوات قليلة عشناها كانت بمثابة دهر .. ثم .. " نظرت إليه مستفهما و قد تأججت لهفتي ، فاستطرد قائلا : " في أحد الأماسي ، جاءني الخبر المروع ..احتضن البحر أجسادهم .. كلهم .. فلم يترك لي ولا واحدا منهم يسليني في وحدتي و ينسيني فاجعتي .. انقلب المركب الذي امتطوه صحبة عمهم بعد أن ثارت الريح فجأة وعلا الموج فصار كالجبال .. " صمت ولم أسأله عن الباقي .. كنت أحس بالألم الذي يعصر قلبه و تمنيت لو أعتذر له عن إثارتي لهذا الموضوع ذي شجون .. لكني اكتفيت بالنظر إلى الشمعة ، بينما ظل هو متكئا على مرفقه وهو يعبث بملعقة صغيرة ينقر بها على المائدة الصغيرة .. هدير الموج يشعرني بوحشية البحر ويتمثل لي كغول يريد أن يبتلعني .. التفت صوب الباب .. فابتسم قائلا: -" أنا مثلك صرت أهابه بعد الحادث ، بل صرت أمقته و أخرج كل صباح أتوعده بقبضة يدي .. وربما فاض بي الكيل و صرت أنظر إلى السماء وقلبي يتأجج غضبا و حنقا .. فلا أجد في نفسي سوى ضعفا أمام جبروت الطبيعة و عجزا أمام قوتها .. فاستسلمت يوما للبكاء وأنا جالس على الشاطئ أنظر إلى الأمواج العاتية و كأنني أنتظر أن تحمل لي جسد واحدا ممن ابتلعتهم .. ثم عاودت البكاء في الليلة الموالية .. وشيئا فشيئا بدأت الطمأنينة تدب إلى نفسي .. صرت أرى الأمور بعين أخرى .. وقضيت أياما أذرع الشاطئ ذهابا و إيابا .. وأصعد الجبل حتى القمة فأنظر إلى حيث كنت فأجد كل شيء صغيرا تافها .. هناك علمت أنني أحمل نفسي ما لا طاقة لها به .. وأنني أقترف إثما عظيما بحزني و ثورتي .. وانتهيت إلى قناعة أن الله أعطاني فشكرت و نزع مني فعلي أن أحمد .. وبدلا من أن أنصب العداء للبحر الذي ابتلع أحبتي و للريح التي أهاجت تلك الأمواج ، صرت أكن لهما من الحب ما لم أشعر به من قبل قط .. و بدأت علاقة جديدة تربطني بالبحر و بموجه .. و أخذت الرياح تبعث في قوة و تصميما .. تتساءل كيف أعيش و لماذا كل هذا الضنى ؟ أعيش من البحر .. كل ما أقتات به يأتيني منه أو بسببه .. راودتني أفكار سوداء في البداية لكني نجحت في إبعادها عن ذهني .. وها أنذا الآن أعيش لكن ليس من أجل نفسي فقط ، بل لأجل كل وحد و كل شيء .. البحر صار رفيقي و الرمال مقعدي .. الأسماك و الطحالب و الصدف أنسي .. هناك فتيان و رجال يقدمون بين الفينة و الأخرى لأعلمهم مهارة الصيد .. الصيد يعلم الصبر يا بني .." كنت أستمع إليه ساهما كأنني تحت تأثير سحر أو منوم .. ولم أشعر إلا وهو يسألني فجأة : - ترى لماذا – برأيك – حكيت لك كل هذا .. وقد آليت على نفسي ألا أسر به لأحد ؟ ولما لم أحر جوابا ، تابع حديثه : - كنت سأتصرف بأنانية لو تركتك تتخبط في معاناتك و يأسك .. وخفت أن يستبد بك اليأس إلى ما لا تحمد عقباه فتخسر كل شيء .. هكذا تعلمت من محنتي .. أنت في مقتبل العمر يا بني ولا يجب أن تستسلم للقنوط عند أول عقبة أو تجربة .. نفسك صافية وقلبك طيب ما دمت تحب .. لا تحصر حبك في زاوية مغلقة .. اتركه يعشش و يفرخ و يطير .. اجعل حبك يحضن كل شيء .. انظر حواليك يبد لك كل شيء جميلا ينطق بجمال خالقه .. أنت قطعت المسافات و جبت الجبال و الوديان وأتيت هنا مشبعا بالآمال .. لكني أراك محبطا وحزينا .. وهذا ظلم لنفسك ولقلبك .. عد من حيث أتيت أو ابق معي إن شئت .. لكن أطلق العنان لمشاعرك تسبح في ملكوت الله .. واجعل حبك بعيدا عن كل نزوة طارئة ..وإذا كان شيء مقدرا في الغيب ، فسوف يكون حتما رغما عنا .." أستطيع القول أنني – و أنا الآن في طريق عودتي – أشعر كأنني أفيق من حلم أو أنني لا زلت أحلم .. لكن القوة التي أحس بها و الهدوء الذي تسلل إلى نفسي تجعلني أخطو بتؤدة بعد أن كنت أتلهف لطي المسافات كي اصل إلى عشي بأسرع وقت ممكن .. الآن ، صار كل ما حولي عشي ، بل أعشاشا متناثرة هنا و هناك تنتظر مني لمسة حنان أو نظرة ود .. حقا ، لا أنكر أنني ألتفت أحيانا ، رغما عني ، إلى الوراء متوقعا أن يتبعني طيف تحفه هالة بيضاء .. وقد أحسب حفيف الريح هفهفة أو جدائل شعر .. أصعد الجبل المطل على البحر وصدري يزيد انشراحا .. الأشجار تقف أمامي مصطفة كأنما تحييني و تعبر عن امتنانها لنظرتي الودودة إليها .. حتى العصافير التي انطلقت في ذلك الصباح الندي كانت تحوم حولي منتشية بما علا محياي من بشر و إشراق .. حاولت تمييز عصفورتي الجريحة بينها أو رفيقها الغائب فلم أفلح .. يا إلهي كم أنا مشتاق لعشي و شجرتي و عصفورتي التي هناك .. كم هي لهفتي كبيرة لمعانقة الربى من جديد و مجالسة الجداول والشرب من المنبع الصافي .. و الركض بين الوديان المكسوة بالغابات الكثيفة . على قمة الجبل أنظر .. إلى هناك .. حيث الكوخ الصغير و المركب المائل على الرمال .. يبدو لي شيء يتحرك ، فيتحرك قلبي معه .. ويطغى حبي له فتدمع عيني رغما عني .. وداعا أيه الشيخ الجليل .. قد يكون وداعي لك أبديا ، وقد تسعفني الأقدار في لقياك و التملي بمحياك .. وداعا أيها الشاطئ الطيب .. سوف أعود يوما لأستلقي على رمالك و أنعم بمياه بحرك .. الآن .. كل شيء اختفى عن بصري .. فلم أعد أرى إلا الجبال تحف بي من كل جانب .. هناك طريق يمتد إلى اليمين .. هل أسلكه و أعرج على منزل صديقي الراعي لأطمئن عليه أم أن لهفتي لمعانقة عشي ستدفعني لأحث الخطى كي اصل سريعا ؟ [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
نهنئ أنفسنا بعودتك أخي رشيد لنور الأدب، كنا واثقين من أنك لن تغادرنا بالمرة و أن اطلالتك المفاجئة ستكون حتما يوما ما، ها أنت عدت و الحمد لله وعشك الدافئ الذي ألفنا المرور به كل يوم لنقرأ لك الجديد. لك مودتي |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
19 [align=justify] هل حقا كان حديث الشيخ كافيا لكي يجعلني أنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة و أصرف النظر عن كل شيء أم أنني فقط كنت أغالط نفسي وأتجاهل مشاعري الدفينة التي استطعت كبتها لفترة ؟ ..تساؤلي هذا ظل يلح علي و أنا أوغل في الغابة التي تغطي الجبل بكثافة فلا تسمح برؤية أي شيء .. إلا إذا اعتليت صخرة من الصخور الناتئة هنا وهناك ..غير أني مع تجاهلي لأحاسيسي المكبوتة ، كنت لا أمنع نفسي من الالتفات بين الفينة و الأخرى متوقعا أن أرى غادتي تسرع الخطى لتلحق بي .. فينتعش صدري و تتأجج أحلامي .. بل إني كثيرا ما تمنيت أن أكون حالما لأستيقظ و أجد نفسي متجها نحو البحر لألتقي بها هناك على الشاطئ و أعود بها .. وربما نسيت أو تناسيت أنها لم تغب عن ذهني قط .. فكان كل جذع شجرة يذكرني بقوامها فأهرع إليها ألقي بنفسي عليه و أحضنه بكل ما أوتيت من قوة ، وكانت كل حركة من أوراق العرعر و الصنوبر تحيل ذاكرتي غلى شعرها المتموج مع الرياح .. بل كثيرا ما استلقيت على ظهري وسط حقل من حقول الذرة التي تتوسط الغابة و أوراقها تداعب وجهي .. وكل حفيف لهذه الأوراق كان يجعلني أنتشي كأنما كنت استمع إلى أنفاسها وهي تهمس في أذني .. الآن تأكدت أنني لن أنساها و لن أتخلى عنها .. فهل أعود أدراجي و أنحدر من جديد إلى الشاطئ ؟ .. حائر أنا وسط هذه الغابة .. لا يجيبني سوى رقرقة مياه جدول صغير ينساب بين الأعشاب .. يتناهي إلي نباح كلب فيخفق قلبي طربا .. معنى هذا أن أحد الرعاة قريب مني .. وربما يكون رفيقي .. يا إلهي كم اشتقت إليه و لنظرته الحزينة .. في نفسي شوق كبير لمعانقته و مبادلته الحديث .. أحس بلهفة لمعرفة كل شيء عنه و عن محبوبته ، أو ربما كنت أنا في حاجة لأنفس عن صدري ما يعتلج فيه من مشاعر القنوط و الأمل .. وعلى غير وعي مني ، سلكت طريقا يؤدي إلى الكوخ .. ممنيا النفس بلقاء الراعي الطيب .. وشعرت في لحظة أن مجرد اللقاء به و محادثته سيعيد إلي البسمة التي افتقدتها منذ مدة .. أقفز بين الصخور و أمد يدي لألمس بعض الأغصان المتدلية نحوي كأنها تحييني .. وأنزع حذائي و مسكه بيدي ثم أشمر عن ساقي و أعدو وسط الجدول فأثير رذاذا حتى يبلل ركبتي .. منذ متى لم أحس بكل هذه السعادة دون أن أدري مبعثها ؟.. هناك إحساس دفين يتردد صداه في قلبي ممنيا نفسي بشيء تشتهيه و تتلهف إليه ، و إلا فما هذا الحبور المفاجئ الذي غمرني وأنا الذي كنت لساعات فقط فريسة القنوط و اليأس ؟ انقلب كل شيء رأسا على عقب .. وصرت أتخيل ما أتمناه و أحلم به قاب قوسين أو أدنى مني .. عرفت الآن أن حبي لغادتي لم يتغير قيد أنملة .. بل زاد تأججا .. و إنما كانت مغادرتي لها وهي على الشاطئ مجرد انفعال ليس إلا .. بل كان لا وعيي يتوقع أن أجدها من ورائي تقتفي أثري .. هل كان ذلك غرورا مني ؟ .. ربما .. ولكني متيقن الآن أنني متلهف إليها و غير مبال بصدها أو وجومها .. قد أكون أخطأت في عدم الإنصات إليها إلى آخر المطاف .. وكان علي الصبر و الأناة لمعرفة كل شيء .. تسرعي أفسد كل شيء وفوت علي فرصة الاطلاع على حقيقة تصرفها معي .. هي ولا شك قلة تجربة لي في مجال العواطف .. وانعدام خبرة في عالم المرأة .. كم كان الشيخ العجوز يتكلم عمن أحب بثقة رغم أنه لم يحدثني طويلا عنها .. ترى كيف كان حبه وطريقة تعامله معها قبل و بعد الزواج بها ؟ الأسئلة تتضارب في ذهني و أنا أشرف على الكوخ .. لا أحد هنا .. لكن قشور البرتقال عند الباب و تناثر بعض قنينات العصير تنم عن تواجد رفيقي منذ لحظات قليلة هنا .. سأحث الخطى لأدركه قبل أن يصل إلى بيته .. حتى يتسنى لي التحدث إليه بكل حرية .. - فعلت حسنا بعودتك .. التفت إلى مصدر الصوت لأجده واقفا غير بعيد واضعا عصاه فوق كتفه وقد وضع كلتا يديه عليها .. قهقهت عاليا و أسرعت إليه أضمه قائلا : - ألا يمكن أن تتركوا أحدا يرتاح من خلقتكم أيها الرعاة ؟ قهقه بدوره وهو يربت بشدة على ظهري وقال : - ألا يمكن أن تريحوا الغابة و أهلها من إزعاجكم أيها المتطفلون ؟ ..هيه.. قل لي أيها العاشق الولهان .. ماذا تم من أمرك ؟ وأين الأمانة التي ذهبت لتأتي بها ؟ - بل أنت حدثني عن الأميرة ابنة ولي نعمتك . - هي هناك تنتظر عودتي على أحر من الجمر .. و أنا أتدلل لأصل متأخرا .. ضحكنا معا و انحدرنا حيث كان القطيع يتجمع ليأخذ وجهة البلدة الصغيرة وقد أخذ المساء يتلون بصفرة بهيجة .. صفرة كانت ستبعث في نفسي انقباضا لو كنت في موقف غير هذا .. صديقي الراعي يعيش الحلم كما أعيشه .. بل إن حلمه أقرب للغرابة .. كدت لا أصدق ما رواه لي عن أن فتاته متعلقة به لولا معرفتي بصدقه و سلامة طويته .. كيف ؟ .. هذا ما حدث .. صار يجدها لدى عودته من المرعى خارج البلدة متذرعة تارة بالتنزه ، وتارة بالبحث عن عنزتها المدللة ، و أحيانا بانتظار عودة أبيها من السوق الأسبوعي فيحييها و يلحظ حمرة وجنتيها .. ثم صارت تبحث عنه لتشكو إليه مرض عنزتها أو هروب جدي من الحظيرة حتى صار يشك في أنها هي التي أطلقت سراحه .. صديقي لا يبدو عليه أنه سعيد بهذا التحول لدى محبوبته .. بدا لي رزينا وهو يحدثني بتلقائية عما حدث .. - ها قد نلت المبتغى .. ماذا تريد أكثر من هذا ؟ - أي مبتغي يا أخي ؟ .. هل أنساق مع عواطف فتاة لا تعرف من الحياة شيئا ؟ .. حسنا هي تحبني و لا يمر يوم دون أن تأتي لتراني .. وبعد ؟ .. هل تظن أن كل شيء انتهى ؟ .ز ألا ترى وضعي ووضع أسرتي المتأزم ؟.. لا وقت لي للحب .. رغم أني أعيش هذا الحب .. لكني لا أتركه يبدو للعيان .. ولن يرى النور حتما .. فمثلي لم يخلقوا إلا للشقاء و الضنك .. لكن الحمد لله على كل حال و أنا راض بما قسمه الله لي . - لا تيأس .. الله قادر على تغيير الأحوال .. و أنت شاب طيب وشهم .. حديثنا لم ينته ونحن نلج من جديد البيت ليستقبلنا الإخوة وقد انتفى عنهم الشعور بالرهبة التي انتابتهم في المرة السابقة .. بل و أقبل أصغرهم مادا يده إلي بتفاحة لم يبق منها سوى القليل .. من جديد أجد نفسي أمام مشهد يزخر بالحب رغم البؤس .. لا شكوى و لا زجر و لا تذمر .. وكأن الكل عرف ما له و ما عليه .. حتى الصغار تصرفوا و كأنما حفظوا دورا أملي عليهم .. والأب الذي لم يتسن لي لقاءه سابقا بدا لي أهدأ من الجميع .. كثير التأمل .. لا تفارق البشاشة وجهه .. كان يأمر دون أن يتكلم و ينهى بدون إشارة .. بينما زوجته تصول و تجول بين الحجرات ومن خارج البيت إلى داخلة في حركة لا تعرف الكلل ولا الملل .. تبدو كخادمة ، لكنها محور كل شيء .. تشبه زوجها في أمره و نهيه دون أن يصدر عنها صوت .. أتى دوري لأشبع فضول صديقي .. و أحدثه عن غادتي وعن الشيخ و ما جرى على الشاطئ .. لم يقاطعني و إنما اكتفى بهز رأسه و الابتسام كعادته .. ولم أجد حرجا في الحديث بعفوية .. وشعرت بحماسي يزداد مع ازدياد أملي في أن يتغير كل شيء دون أن أعرف كيف و متى .. كل ما أدريه هو أن عودتي هذه لا بد و أن تتكلل بما يسر .. وأن مفاجأة تنتظرني في عشي .. فهل كان تلكئي في الوصول بعد أن كنت أتحرق شوقا لمعانقة أشيائي العزيزة هناك ، مبعثه الخوف من خيبة الأمل ، أم لتمديد فترة الاستمتاع بهذه الطمأنينة التي تشملني أطول وقت ممكن ؟ .. في بعض الأحيان يعتريني شعور أنني سأجد هذه المفاجأة في عشي أو في طريق عودتي ، بل أحس أنها قريبة مني وتحوم حولي كلما خرجت مبتعدا عن بيت صديقي .. اليوم نحن على موعد مع باقي الرعاة لنتغذى في قمة الجبل .. أسر لي صديقي أننا حين نعود سوف أرى محبوبته في انتظاره .. وهذا ما أجج فضولي .. سأرى أخيرا تلك التي سلبت قلب الراعي الطيب .. وصرت منذ الآن أقارن بينها و بين غادتي رغم أني لم أر الأخرى قط .. لكن خيالي دائما ما يسرح بعيدا .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify] 20 في هذه اللحظة و أنا وسط الرعاة نتحلق حول قصعة حوت أرنبا بريا ومرقا و بطاطس ، نسيت كل شيء واندمجت في حديث تقطعه بين الفينة و الأخرى قهقهة أو ترنيمة .. جو ممتع و بعيد عن كل كلفة و كأننا أصدقاء من عهد بعيد .. وأجمل ما انتبهت إليه هو خلو الحديث من أي تعريض بأحد أو الشماتة به حتى وهو يبتعد عنا بحثا عن الماء أو حطب لتبقى النار مشتعلة .. الكل يترنم بأغنيته ، بل يكمل ما بدأه صاحبه وكأنهم يتناوبون في نظم قصيدة غزل .. وأتساءل في صمت : هل يعيش كل واحد من هؤلاء البسطاء الطيبين حكاية حب مثلي ومثل رفيقي ، أم أن ترنيمتهم عفوية تنطق بها سجيتهم البدوية الميالة للحب العشق العذري البريء ؟ بيد أني ما لبثت أن عدت إلى واقعي وهاجت في لحظة أشجاني فأبديت لصاحبي رغبتي في العودة إلى البيت متعللا بالتعب .. نظرته إلي توحي بأنه فهم ما أحس به فنهض ينفض يده و ينتزع ما علق بين أسنانه من لحم بواسطة أعواد رقيقة كان يشذبها بعناية و نحن جالسون قبل الغذاء .. ألقينا التحية على الباقي من الرعاة ثم انحدرنا نحو البلدة التي كانت تبدو لنا من بعيد بدورها القليلة المتناثرة . الأصيل يزيد من هيبة الطبيعة وهي تستعد لمفارقة الشمس الجانحة نحو المغيب .. لم نقل أية كلمة .. وقع خطواتنا يبدو رتيبا وسط هذا السكون الشامل .. ما الذي يفكر به صديقي ؟ هل يشاركني ما أحس به من لوعة أم أنه غارق في معاناته التي لا يرجو من ورائها شيئا ؟ تمر بنا مجموعة من الغيد وهن يحملن جرارا ملأنها بالماء عند المنبع .. يطرقن وقد اضطربت خطواتهن ، حتى إذا ابتعدن تناهت إلينا ضحكاتهن .. كنت متلهفا للتحديق في أية واحدة منهن لعلي أجد من يحبها رفيقي، لكن إعراضه و اكتفاءه بالرد باقتضاب على تحيتهن أوحى لي أنها ليست بينهن . بصره شاخص نحو المنعرج المؤدي إلى المنبع وقد بدا الطريق كدرب وسط صفين من أشجار السنديان .. - هل نستريح قليلا ؟ أجبت بحركة من رأسي .. فصعدنا على تلة بجانب الطريق وهي تشرف من جهة على المكان الذي مرت به الفتيات منذ قليل و من الجهة الأخرى على البلدة .. و أمامنا امتدت المروج بعيدا حتى سفح الجبل الجاثم على شكل هرم و قد غطته الغابات كليا .. مرور القطعان لا ينتهي عند أسفل التلة ، وفي كل مرة أجد نفسي أرد بالتحية على صاحب القطيع وقد بدا التعب على وجهه .. بينما كان صديقي يرد على استفسار البعض عن ولادة عجل أو مرض بقرة .. ومع أفول آخر شعاع من الشمس ، لمست حركة لا إرادية من رفيقي ، فوجدته يلتفت نحو المنبع .. هناك انبرت فتاة متوسطة الطول .. تمشي الهوينى وهي تترنم ببعض الأهازيج المعروفة في المنطقة .. ابتسمت في سري و أنا أحدق في صديقي وهمست له :"شمس تغيب و شمس تشرق.." .. ابتسم رغم شروده ، وحول بصره نحو الجبل بينما تتبعت أنا خطوات الغادة المقبلة نحونا وملامحها تزداد وضوحا .. شرد ذهني وزادت دقات قلبي .. يا إلهي .. لولا أني تركت غادتي هناك على الشاطئ لخلت أنها هي بلحمها ودمها .. نفس العينين .. نفس الشفتين .. نفس القوام الذي أبرزه تمنطقها بمنديل مخطط بالبيض و الأحمر.. حتى الشعر المطل من تحت شاشيتها العريضة ينم عن غجريته .. حتى مشيتها كانت تحاكي مشية غادتي و تضاهيها رشاقة .. هل يمكن أن يكون التشابه إلى هذا الحد ؟ أيقظني صوتها وهي تحيي رفيقي وقد بدت على محياها علامات الانزعاج ، ربما من تواجدي .. هل كانت تمني نفسها بلقائه وحيدا لتعترف له بشيء ما ، فجئت أنا وأفسدت كل شيء ؟ .. حز في نفسي أن أكون سببا في إفلات مثل هذه الفرصة وتفويتها على محبين .. لكن صديقي هو الذي أتى بي إلى هنا لأراها .. فلا مجال للوم النفس . رد التحية عليها باقتضاب ، ثم قال : - ألا تحيين ضيفنا ؟ .. - مرحبا بالضيف الكريم .. على الرحب و الساعة .. هل هو باق هنا مدة أطول ؟ نظر إلي صديقي فارتج علي ولم أدر ما أجيب لشدة وقع أثر صوتها علي، لكني استطعت بعد جهد جهيد أن أقول : - سوف أغادر البلدة غدا إن شاء الله .. - هل أعجبتك منطقتنا ؟ .. - بلدتكم جنة .. ضحكت فزاد اضطرابي ، ثم توجهت بالحديث إلى الآخر : - هل التقيتم بأبي ؟ .. لن يتركه يرحل قبل ثلاثة أيام من الضيافة .. و أنت تعرف هذا .. لن يسامحك .. أجاب صديقي بالنفي وقد علت الحمرة وجنتيه .. أضحكني موقفنا و اضطرابنا أمام غادة في مقتبل العمر.. وعذرت لصاحبي ذلك .. لكن ماذا علي أنا ؟ .. وما سبب ارتباكي ؟ .. غادرتنا الفتاة و نحن نحدق تارة فيها .. نتابع خطواتها كالبلهاء .. وتارة نحدق في بعضنا البعض .. كنا واقعين تحت ما يشبه السحر .. وفي لحظة انفجرنا ضاحكين ونحن نشد على يدي بعضنا بشدة .. وقلت : - معذور و الله يا صديقي .. كنت أعرف أنها رائعة لكني لم أكن أتوقع مثل هذه الروعة .. - حقا ؟ .. ولكن .. كما ترى .. لا أمل .. أعيش على الوهم و أعرف أنه وهم .. أردت أن أذهب عنه ما اعتراه من غم فقلت ضاحكا : - حسنا .. مادمت تعرف أنه وهم و بما أني فشلت في أقناع غادتي بمرافقتي .. فأنا الأولى بها الآن .. التفت إلي شاردا وهو يبتسم قائلا : - حقا .. لقد لاحظت سهومك و أنت تنظر إليها .. ما الذي جذب اهتمامك ؟ أربكني سؤاله و خشيت أن اذهب أفكاره بعيدا فقلت : - غادتك رائعة يا صديقي .. وقد وجدت تشابها بينها و بين غادتي .. وأنا أرى في هذا فألا حسنا في ما ينتظرني هناك في عشي .. هل أصارحك بشيء ؟ - قل .. - لدي إحساس بأنك ستفوز بها .. كل الشروط متوفرة .. و أهمها حب الفتاة لك .. المهم أن تعرف كيف تتصرف لتحقق أمنيتك و تذهب عنك هذا الإحساس باليأس الملازم لك .. قم و انفض عنك غبار القنوط وافتح ذراعيك للدنيا .. و أطلق عصافير حبك تصدح شدوا .. واترك الأمل و التفاؤل يغزوان قلبك .. تفاءل بكل شيء واعلم أن ما قدره الله سيكون شئت أم أبيت .. هل كنت أحدث نفسي عبر صديقي .. هذا ما بدا لي وأنا أسترجع ما قلته حين أطفئت الشموع وأخلد الجميع إلى النوم .. بقيت جالسا على حافة السرير الخشبي أتطلع إلى الكوة وقد ساد الظلام و ازداد حلكة مع اقتراب السحر .. كنت أتخيل البدوية مارة قرب البيت وهي تتطلع إلي بعينيها النجلاوين .. فتصيبني رعشة و أهم بسؤالها .. عماذا أسألها ؟ .. هل تعرفين فتاة تشبهك و تقيم على الساحل ؟ .. يا له من سؤال غبي ؟ .. ستكتشف أنني أسألها فقط لمجرد السؤال أو لغاية ما بنفسي ..ما الذي حدث لي ؟ ..هل أكون وقعت بشركها ؟ هذا محال .. لأني لا زلت أهفو إلى الشاطئ و من تلازم الشاطئ .. هل يكون لتشابهمها سببا في تعلقي بغادة رفيقي ؟ .. هذا محتمل .. لكنه تعلق بالأخرى عبر هذه .. صرت أتفلسف وقت السحر .. هل ينتهي بي كل هذا إلى الجنون ؟ الفجر يبزغ و أنا أنظر عبر الكوة إلى الخارج الذي بدأ يتنفس على وقع نور الصباح .. تبدأ حركة العصافير و زقزقتها إيذانا بعودة الحياة إلى إيقاعها المعتاد .. و تصدح الديكة في تناد متواصل .. ليسمع وقع حوافر القطعان و هي تخرج للمرعى .. تدب الحركة في البيت وتملأ خياشيمي رائحة القهوة و البيض المقلي .. أجلس مع الأسرة وأجيل النظر عبر أنحاء البيت ثم أتطلع إلى ما يحيط به كأني ألقي نظرة وداع أخيرة .. إلحاح الأسرة كبيرها و صغيرها على البقاء لمدة أطول يحرجني وأنا المتلهف للوصول سريعا إلى عشي. الجو أصبح غائما وغطت السحب قمم الجبال .. حدثني صديقي عن أخبار تناقلها الوافدون من ناحية عشي أن العاصفة كانت قوية في بعض المناطق و أن السيول جرفت معها الكثير من الأشجار .. فتمثلت لي دوحتي شامخة لا يؤثر فيها إعصار ولا سيل .. لكن بالي لبث مشوشا على عشي و عش العصفورين .. وقلقت لمصير البوم .. فكان هذا حافزا لي على مغادرة البلدة بأسرع وقت ممكن حتى أقف على حجم الدمار الذي خلفته العاصفة .. العناق و البكاء و التواعد على تبادل الزيارات كان آخر ما ميز فراقي عن صديقي العزيز .. شددت على يديه و أنا أنظر بقوة إلى عينيه محاولا أن أنفث فيهما قوة .. لكني كنت أيضا أحوج ما أكون إلى من يزرع في آمالا بقرب تحقيق مناي .. مع وصولي إلى آخر قمة تشرف على عشي كانت السحب قد بدأت بالانقشاع .. فصرت أحدق نحو الأسفل حيث انتصبت الدوحة في إباء .. لكني لم أستطع تمييز ما يحيط بها .. فأسرعت بالانحدار وقد عاد إلي الشعور بالابتهاج .. أخيرا عدت إلى عشي الذي طالت غيبتي عنه .. سأتعهده من جديد و أهتم بشأنه أكثر من أي وقت مضى .. وها أنذا أسير على ضفة النهر الصغير الذي يمتد هناك حتى يحاذي الدوحة ليميل نحو اليمين و ينزل شلالا ..وجدت في طريقي أكوام من الحجارة التي جرفتها المياه و أكوام من الطين الذي لم يجف بعد ، لكن الذي لفت نظري هو انتفاء أي أثر للدمار بالقرب من شجرتي .. بل أحسست كأنما يد خفية امتدت لتزيل كل أثر لذاك الدمار .. حتى شجرتي وجدت عليها لمسة رقيقة تتمثل في طلاء جذعها بالجير الأبيض وكذلك بعض الأحجار التي صفت عن اليمين و الشمال لتشكل ممرا أنيقا نحو المنبع و آخر إلى البيت . عجبا .. من كان يظن أنني سوف أجد كل هذه الأناقة التي تحف بعشي بعد العاصفة التي تحدث عن قوتها الكثيرون ؟ .. أسرعت بتسلق شجرتي لأجد عشي بأبهى ما يكون من حلة .. بينما احتضن الغصن المقابل له عشا خشبيا طلي بالبياض أيضا .. ومن داخله بدت لي كومة صغيرة من التبن وبعض العيدان وقد توسطتها ثلاث بيضات صغيرة .. كدت أطير فرحا .. و أسرعت بالنزول لأتابع الاستكشاف .. كأنني أعيش حلما .. لكن داخلي كان يهتف و يصيح : لا .. ليس هذا بحلم .. بل حقيقة .. اجر و اركض واستمتع .. وجريت و ركضت و استمتعت بمعانقة كل ما تركته .. الربى .. الجداول .. المنبع .. حتى وصلت إلى حافة الشلال لأجلس لاهثا أنظر إلى الوادي وقد غمرني فرح لم أشعر به قط من قبل .. السكون يبعث في نفسي طمأنينة .. وهدير السيل هناك في الأسفل يشعرني بقوة .. - هل أعجبك منظر عشك ؟ لم ألتفت .. فقد هبت نسمة محملة بأريج مألوف عندي لتملأ خياشيمي .. وتلقى مسمعي صوتا ليس غريبا عني .. فأحدث هذا خدرا في جسدي ولبثت مطرقا أعبث ببعض الحصى .. بينما كانت بداخلي قوة هائلة تدفعني للنهوض والانقضاض على صاحب الصوت .. أو على الأصح .. صاحبة الصوت . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
21 في كثير من الأحيان ، تتبدى لنا الطبيعة بألوان نميزها دون عناء ولا يشكل لنا ذلك أية صعوبة .. فالأخضر اليانع أخضر ، و الأصفر الفاقع أصفر ، و الأحمر القاني احمر . ونفس الشيء ينطبق على ما يحيط بنا من جبال شاهقة تكللها الثلوج وروابي تتعانق في ما بينها ومروج تهتز وتربو محتضنة جداول و غدران تصطبغ بلون السماء .. حتى الأصوات تكاد تكون مألوفة من هبوب رياح وحفيف أوراق وخرير مياه و زقزقة عصافير و هدير نهر ونقيق ضفادع .. لكن كل هذا اختفى في لحظة و أحسست أنني أعيش في عالم تنتفي الأصوات فيه و الألوان .. بل إن جميع الأصوات اجتمعت و امتزجت لتشكل ترنيمة غريبة .. و تداخلت كل الألوان لتحيك خيوطا متشابكة .. هل هو الأصيل أم هي ساعات الصباح الأولى ؟ .. هل أعيش السحر أم بداية المساء ؟ .. ترن في أذني عبارة "هل أعجبك منظر عشك ؟ّ" .. فلا أدري هل أستدير و احتضن من نطقت بها أم ألزم مكاني لأنتظر .. أنتظر ماذا ؟ .. هل هو الخوف من أن تتكرر التجربة الأولى من جديد فلا أمسك إلا بسراب ، لتبدأ معاناتي من جديد و أتيه في دوامة من الوهم ؟ .. يطول الصمت و أحس بالحرج .. هي ولا شك تنتظر مني جوابا و إلا فسرت صمتي بجفاء و نفور فأكون بذلك قد أهنتها ، وربما تختفي إلى الأبد .. ولكني في قرارة نفسي و مع خوفي من أن أستدير و لا أجدها كنت تحت تأثير قوة لا قبل لي بها ، تدفعني لكي أمارس لعبة التشفي و .. لم لا .. الانتقام ؟ هكذا إذن طفت أحاسيس طالما تجاهلتها و داريت حدتها .. أحاسيس تتقد غضبا و ثورة لم يطفئها إلا حديث العجوز بهدوئه و حلاوة سرده .. لكن ذلك كان مؤقتا فقط .. والآن لم يعد هناك ما يمنع من أن تطفو من جديد وأرد الكيل كيلين و الصاع صاعين .. لكن .. هل من شيمة المحب الانتقام و التشفي ؟ .. وهل كنت أنتظر هذه اللحظة بلهفة و شغف لكي أصفي الحساب مع من ملكت القلب و الروح ؟ وهجرت من أجلها عشي و جبت القفار و الغابات و سلكت الوديان كي أصل إليها وأعود بها ؟ .. ماذا أنتظر ؟ .. أن تركع أمامي متوسلة منتحبة ؟ لا لشيء إلا لأرضي غروري و نزعة التسلط الكامنة في قرارة نفسي ؟ .. هل يهون علي رؤيتها بذلك الانكسار و التذلل و أنا لا أعرف من الحب إلا الأنفة و الشموخ و العزة ؟ .. ثم من يضمن لي إن هي استعطفت و اعتذرت ألا ينقلب حبي لها و عشقي إلى شفقة ؟ .. و الشفقة كما يقال دخان الحب .. فإذا انجلى الدخان ، لم يتبق من ورائه إلا رمادا دافئا يبرد مع مرور الوقت .. علي إذن أن أتصرف سريعا و أتخذ موقفا واضحا .. فإما أن أدخل متاهة اللوم و العتاب وأستسلم لشيطان التحدي و العناد ، و إما أن أسامح و أعفو لتصفو الحياة و نعيش في وئام .. - لقد زاد بهاء وكان محتاجا لذلك منذ زمان .. رغم ما حرصت عليه من نبذ اللوم فإني وجدت نفسي أحشو الكلام به دون أن أعي ما أقول .. الصمت يزيدني عذابا .. لحد الآن لم ألتفت إليها .. ترى هل لا زالت بجانبي أم أنها رحلت ؟.. إن كانت فعلت ذلك فعلي و على الدنيا السلام .. سأهجر كل شيء و أعتكف في ذلك الكهف و أعزف عن كل مباهج الدنيا .. لا حب ولا عشق ولا أي شيء من هذه التفاهات .. يمر لقلاق متجها نحو عشه فوق برج عتيق فتسنح الفرصة و أنا أتابعه لأحيد ببصري إلي يميني وقلبي يزيد خفقانا .. لا أحد بجانبي .. هذا ما كنت أخشاه و أتوقعه .. ضاع كل شيء .. فقط بسبب أنانيتي وغروري .. هذه نهاية حتمية للغرور و الاعتداد بالنفس .. يا إلهي ما أشقاني .. ما العمل الآن ؟ التفت بعنف نحو عشي القابع هناك فوق الشجرة فاستبدت بي رغبة جامحة في تدمير كل شيء .. وبدا لي الممر المجير بالأبيض وكأنه أفعى تهم بلدغي .. اسودت الدنيا في عيني و نهضت وقد تبددت كل الألوان و اختفت كل الأصوات فلم أعد أرى إلا السواد ولم يعد يطرق أذني سوى طنين خلته آتيا من عالم آخر .. أصوات هي شبيهة بنعي .. هي النهاية كما أظن .. لأرحل من هنا فورا .. لكن قبل ذلك لألقي نظرة وداع أخيرة على شجرتي و عشي .. إذ رغم ما طاف بذهني من فكرة التدمير فإني أحسست بالشفقة عليهما .. العش ينظر إلي بحسرة و كأنما علم مآله .. و عش العصفورين الخشبي استكان في حزن فلم يبد منه ذاك البياض الناصع .. تأملته في صمت واقتربت منه كي أنظر إلى داخله ففوجئت بالعصفورة جالسة تحتضن بيضاتها .. لم تهرب ولو يبد عليها أنها انزعجت من حضوري .. فقط بدرت منها حركة فهمت منها أنها تستجمع البيض كلها تحتها لتحس بها و تنفث فيها دفئها .. ظلت ترمقني تارة بعينها اليمنى و تارة بالأخرى فابتسمت لها .. لكنها ابتسامة لا معنى لها ، إذ كان ذهني شاردا و أفكاري مشتتة . مددت بأصبعي أداعب منقارها فنقرته بخفة كأنها تستجيب لمداعبتي .. بل أطبقت عليه وهي تلويه يمينا و شمالا . استلقيت على الغصن المقابل و أنا أنظر إلى الأسفل .. شعرت برغبة ملحة في التمشي نحو المنبع فنزلت واتجهت نحو المنبع .. لم أسلك الممر ، لكني حاذيته وأنا أتحاشى النظر إليه .. المكان يترقرق ماء و قد علا خريره حتى لا يكاد يسمع صوت آخر .. ينساب الماء بين الصخور فأختار إحداها و أجلس .. تأخذني سنة ويتابع بصري حركة الماء دون أن أعي ذلك .. - يبدو أن العش لم يرقك بمنظره الجديد .. في هذه المرة التفت يمينا و شمالا .. ثم نظرت إلى الخلف لأجدها على صخرة قريبة .. كانت تبتسم وكأنها تعلم ما يعتلج بداخلي .. - حقا .. شيء رائع .. لم أكن أتصوره بهذا البهاء .. - و المسلك الذي طليته بالأبيض .. لم تحاشيت المرور منه ؟ ارتج علي لحظة ، ووجدت نفسي أجيب دون تردد : - خفت أن أفسده .. ربما كنت أنتظر أن نسلكه معا .. يبدو أن جوابي أعجبها ، فمالت برأسها لتخفي ابتسامة ارتسمت على شفتيها .. - هل أنت غاضب مني ؟ - غاضب ؟ .. معاذ الله .. من قال لك هذا ؟ - تلكؤك في الرد علي حين سألتك في المرة الأولى عن العش . - كنت فقط تحت وقع المفاجأة .. لكن قولي .. كيف ومتى أتيت إلى هنا ؟ ضحكت ضحكة أخذت بمجامع قلبي ومادت بي الأرض حتى خشيت أن يغلبني الدوار و أسقط وسط الماء .. - لذلك حكاية طويلة سأرويها لك عندما تحكي لي ما جرى لك منذ رحيلك عن الشاطئ .. تعود الألوان لتشرق من جديد .. وتعود الأصوات كما كانت ، ونحن نغادر المنبع نحو عشي .. عفوا عشنا، وقد لزمنا الصمت و تركنا ما حولنا ينوب عنا في انتقاء الكلمات .. كانت تسير بجانبي دون أن أحيد النظر عنها وكأني أخشى أن تختفي فجأة ، أو أستيقظ من حلم فأجد نفسي عند صديقي الراعي أو في بيتي .. لكنها ظلت معي .. لم تختف .. وكانت تختلس النظر حين ألتفت إلى جهة لأريها شيئا .. و أفاجئها وهي تحدق في فتحمر وجنتاها و أخال الشفق قد اصطبغ بحمرتهما .. كنا نسير على غير هدى .. نذرع الحقول ونصعد تلة تشرف على الوادي فيثير فينا منظره أحاسيس أعجز عن وصفها .. أشعر أني ممسك بزمام حبي بقوة حتى لا يفلت مني .. - هل أنت سعيدة معي ؟ لم تجب و إنما كان كل شيء يصيح بداخلها ما يغني عن الجواب . كنت متلهفا لسماع صوتها ، لكن من حولي كان يرن صدى كلامها الصامت .. ووجدت نفسي أسال من جديد : - ألا زلت خائفة مني ؟ - بصراحة .. أخاف من هذا الحب ومآله .. كنت أخشى أن يأتي يوم أتساءل فيه .. وماذا بعد ؟ .. أحسست أن الانتظار و الأمل في اللقاء مع ما يحمله من معاناة خير من اللقاء و التوجس من الأتي المجهول .. أحاول ما بوسعي أن أبعد عني هذا الشعور بالخوف .. سكتت قليلا وعضت شفتيها كأنها تتردد في قول شيء يحيرها ثم سألت : - ألم يساورك نفس الشعور ؟ لم لا تبوح لي بكل شيء .. لم أرد .. كنا على مشارف العش ونحن عائدين من جولتنا .. وهناك في أعلى الشجرة وقفت عصفورتي وبجانبها رفيقها وهما لا يتوقفان حركة و زقزقة .. بينما كان آخر سرب من الطيور يجوب السماء في رحلة عودته المسائية .. تفاءلت بعودة العصفور وزاد انشراح صدري . - طبعا سأبوح لك بكل شيء مادمت ستفعلين مثلي .. لكن .. لتعلمي فقط أني رغم غيابك ورغم خيبة الأمل التي عدت بها من الشاطئ .. ورغم إحساسي بالقهر و القنوط .. ران الصمت و أحسست بها متلهفة لسماع بقية الكلام .. كنت منشغلا بالنظر إلى العصفورين وقد تشابك منقاراهما .. وعلت زقزقتهما .. فابتسمت و نظرت إليها لأجدها تبتسم مثلي وقد دمعت عيناها وعادت الحمرة تصبغ وجنتها وجدائل الشعرالغجري يغطي جزءا منها. وهناك في الأفق كان الشفق يتخذ لونا أرجوانيا ساحرا . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
22 . . . . . قل لي . . من أنت ؟!!! اليوم أنا على موعد مع غادتي عند الغدير .. موعد هو الأول من نوعه منذ عرفتها .. افترقنا بعد لقائنا الأخير ، فذهبت هي حيث تقيم .. وعدت أنا إلى عشي بعد أن ودعتها وشيعتها بنظري حتى غابت بين الحقول وقد شملها ضباب كثيف أضفى على الليل سحرا و غموضا .. اختفت و قد تضوع الجو بعبيرها المألوف لدي .. غادتي تسكن في كل مكان و في تظهر في كل زمان .. كان وداعها لي أرق من النسيم العليل و أدفأ من خيوط شمس الخريف .. انسلت كما ينسل الصبح عن دجى الليل .. و لبثت أحدق في الظلام لعلي أميز شيئا من وراء الضباب الكثيف الذي غطى الحقول ..حين اتذكرك . . تذوب الكلمات ... في فمي . . ويرغد في الحياة . . قلبي . . . . قل لي من أنت !؟ . . . . . . بل . . . دعني ابكي . . دعني ابكي .. وألجم نفسي لئلا يغيب في حضورك .. عقلي لئلا استجدي من اوقاتك . . اللحظات ومن حروفك . . الكلمات فقد اودعت بين الجوارح . . لتبدع في معزوفة عشق .. تدق بألم بين الضلوع وعدت لا تسعني الدنيا سعادة و حبورا .. أكاد أطير من الفرحة .. وبدت الأشياء من حولي تنتفض لفرحتي و تتمايل لسعادتي . فطغا حبي لكل شيء ، وشعرت بأني أرغب بمعانقة الشجر والحجر والطير وازددت أنسا بالليل رغم لهفتي لانتهائه كي ألتقي بغادتي من جديد .. بدا لي الليل حنونا فلم تهب ريح ولم تغط سحابة سماءه المتلألئة .. وتعالت أصوات كأنها ترانيم تشدو بما أشعر به من ابتهاج .. فهذه الصراصير تعالت أصواتها في تواصل بدد الصمت الذي كان سيبدو لي موحشا في غير هذا الموقف ، وهذه الضفادع يتردد نقيقها عبر المروج .. وهذا الجدول يسمح لمائه بخرير ممتع .. كل يشدو و يترنم فيشعرني بالأنس و يملأ نفسي بالأمان و الأمل .. سألت غادتي متى نلتقي ؟ .. فلم تجب و إنما نطقت عيناها بما كنت أهفو إليه . عينا غادتي تنطق دونما حاجة إلى الكلام . قالت لي العينان : انتظر عند السحر حتى بزوغ الفجر .. وقالت لي ابتسامتها اصبر حتى يطلع أول شعاع للشمس .. وانتظرت إلى السحر و أنا في عشي .. لم أطق فراقه لأجد نفسي من جديد حبيسا بين الجدران .. كم غفوت و استسلمت لسنة طافت بي أصقاع المعمور .. وفي كل مرة أنتفض خشية أن أكون استسلمت للنوم فتفلت مني فرصة اللقاء المرتقب .. وجاء السحر و تيقظت حواسي مترقبة متوثبة .. الآن توقفت الأصوات كلها وكأنها تشاطرني ترقبي و انتظاري .. وهفا كل شيء مثلي إلى ذاك المنعرج الذي يختفي بين الحقول الهامدة حركتها ..ربما همدت لتسمعني خطوات غادتي إذا أقبلت . وكعادتي حين تستبد الأشواق بي ، صرت أترنم : سكن الليل سكن الليل و في ثوب السكون تختبي الأحلام وسع البدر و للبدرعيون ترصد الأيام فتعالي يا إبنة الحقل نزور كرمة العشاق علنا نطفي بذياك العصير حرقة الأشواق أسمع البلبل ما بين الحقول يسكب الألحا في فضاء نفخت فيه التلول نسمة الريحان لا تخافي يا فتاتي فالنجوم تكتم الأخبار و ضباب الليل في تلك الكروم يحجب الأسرار لا تخافي فعروس الجن في كهفها المسحور هجعت سكرى و كادت تختفي عن عيون الحور و مليك الجن إن مر يروح و الهوى يثنيه فهو مثلي عاشق كيف يبوح بالذي يضنيه الآن .. حان وقت نزولي من أعلى شجرتي .. علي أن أهيئ استقبالا يليق بمقدمها .. أعلم أنها مفتونة بورق الزيتون ، فأسرعت بنسج إكليل تخيلتها مثل آلهة الإغريق و أنا ألبسها إياه .. كم ستبدو رائعة ، بل فاتنة و قد عقصت شعرها الغجري إلى الوراء و انزاحت خصلات منها بعض وضع إكليلي على رأسها الجميل . أقف عند الغدير وفي يدي إكليل من ورق الزيتون .. فرشت الضفة ببعض الأوراق الذابلة التي أطاح بها الخريف ووقفت أتأمل الأفق منتظرا أول خيط أبيض من الفجر .. وبحركة لا إرادية صوبت بصري نحو المنعرج و كأن هاتفا يهتف بي أن انظر إلى هناك فعن قريب سوف ينجلي الضباب عن غادتك .. ومن هناك سمعت وقع خطوات خفيفة تقترب .. وترنيمة شجية تعلو فتكسب المكان و الزمان رونقا و سحرا .. يتلون الأفق ببياض باهت بينما تزداد الخطوات اقترابا .. أحس برعشة تسري في كياني فأضم الإكليل إلى صدري وأحدق في المنعرج .. هناك تبدت الهالة التي رأيها عند الشاطئ فعادت بي الذكريات إلى تلك اللحظات التي تجرعت فيها مرارة اليأس و القنوط .. لكن اليوم ليس كالأمس .. اليوم احتفال .. وانتصارعلى اليأس .. مرحبا بك أيتها الغادة الفاتنة .. ومرحبا بك من جديد في عشي الذي طالما هفا إلى مقدمك و حن إلى معانقتك .. تعالي إليه ، فهو رغم هروبك و اختفائك لا زال يصبو إلى طلعتك و يأمل في وصالك .. لا أكون مغاليا إذا قلت أني لا أتذكر كيف كان لقاؤنا من جديد في ذالك الصباح الندي ، و متى جلسنا على حافة الغدير ، ومن بدأ منا الكلام ، أو على الأصح هل تحدثنا حقا .. لكني وجدت نفسي في لحظة أستمع بشغف إليها وهي تعود بذاكرتي إلى الشاطئ ولقائنا المثير هناك .. "كان قلبي يتمزق ألما و أنا أراك تنصرف غير عابئ بنظراتي وهي ترجوك البقاء .. كنت أراك مندفعا تحت تأثير ثورة خفت أن تؤدي بك إلى ما لا تحمد عقباه .. لكني أيضا كنت لا أملك من أمري شيئا .. كنت فقط أتضرع سرا أن تبقى حتى تمنيت في لحظة من اللحظات أن تمرض أو تصاب بالتواء خفيف ليحول ذلك بينك و بين رحيلك .. لكنك انصرفت لتفضي بأحاسيسك إلى العجوز بينما أنا لم أجد أحدا يسمعني إلا بعد رحيلك .. ولو انتبهت لوجدتني قريبة منكما تلك الليلة وهو يحدثك عن حكايته الحزينة .. خفت أن ينعكس نور الشمعة على وجهي و أنا أقرب إليك مما تتصوره .. خشيت أن تفضحني دموعي و شهيقي فآثرت الابتعاد وأوغلت في الليل الذي لم يتبق لي غيره لأشكوه همي و حسرتي .. رأيتك تصعد الجبل فاقتفيت أثرك ، وحمت حولك و أنت تتوقف لتستريح وقد بدت عليك آثار الطمأنينة .. فرحت لأنك لم تعد حزينا لكني حزنت لأنك لم تعد تفكر بحالتي و أحاسيسي .. وكنت عازمة على تتبع خطواتك إلى ما شاء الله ، لكني رأيتك تعرج على كوخ صاحبك وتلتقي به .. فعدت أدراجي منتحبة وقد استبد بي القنوط .. لكني لم أستطع الابتعاد عنك ، فسلكت الطريق المؤدي إلى بلدة رفيقك الراعي لإحساسي بأنك ربما تقضي عنده بعض الوقت .. وكان ما توقعت .. وصرت أحوم من جديد حولك ، إلى أن رأيتك منبهرا بمحبوبة صديقك .. حقا أبهجني انها تشبهني و أن افتتانك إنما هو دليل على أنيي اسكن ذاكرتك .. لكن إحساسي تحول إلى غيرة فلم أعد أطيق المقام هناك وقفلت راجعة إلى الشاطئ وحيدة لا أنيس لي .. ولم أجد إلا العجوز أبوح له بآلامي و معاناتي .. ما أعظمه من رجل .. الآن علمت كيف استطعت محو آثار لقائنا الحزين و اندفعت نحو الجبل بروح مرحة .. قضيت معه النهار كله وأخذني معه كما فعل معك ، في رحلة بحرية قصيرة و هو لا يفتأ يذكرني بضرورة التحلي بالصبر و التفاؤل .. ولم تنته جولتنا حتى كنت أتأجج شوقا للحاق بك رغم أن ذاك الخوف من المجهول لم يفارقني .. - عجبا لهذا الخوف الذي لا تريدين إزاحته عن صدرك .. - آه لو أستطيع .. ليس بيدي .. قد تعجب لو قلت لك أنني وفي صعودي للجبل من جديد كان الخوف يزداد مع ازدياد شوقي للقاء بك .. وبقدر ما كان هديل اليمام ينعش فؤادي ، بقدر ما كان نعيق الغراب يشعرني بالرعب .. فأعود أدراجي ، لكني سرعان ما أنفض عني هذا الإحساس بالتشاؤم و أستمر في السير مهتدية بما يمليه علي حدسي .. وقر رأيي أخيرا على التوجه إلى عشك لأنتظرك هناك بعد أن أكون أعددته و أزلت ما خلفته العاصفة من دمار و خراب .. وجدت العصفورين فتفاءلت باجتماعهما و منيت نفسي بلحظات هناء نقضيها سويا.. حتى إذا قدر لنا الفراق من جديد ، كان لنا في ذكرياتنا خير العزاء .. - أولا زلت تذكرين الفراق ؟ - رغما عني .. الحياة لا أمان فيها .. اليوم لقاء .. وغدا فراق .. - ما أشد ما يحزنني ذكر الفراق .. ألا يمكن أن ننسى ذلك و نعيش لحظتنا ؟ - لا تسئ الظن بي ولا تحسبن أني أهوى النكد .. لكني أضع في الحسبان ما يمكن أن يحدث .. فإذا وقع ما لم يخطر ببالنا لن يشكل ذلك صدمة لنا .. أنا لا اقل عنك لهفة في الوصال و العيش معا طول عمرنا .. لكني أخشى المجهول .. ربما كان مللا .. لا أستطيع تحمل حياة تطبعها الرتابة و الضجر .. - ولكن حبنا سيبعد كل هذا .. - ربما .. لكني تعودت أن أعيش طليقة .. نفترق لتكون لهفتنا إلى اللقاء كبيرة .. استمتاعنا بهذه اللهفة و الانتظار لا تقل عن متعتنا باللقاء .. صدقني .. وكلما بعدت المسافات بيننا كلما ازداد حجم الشوق وتأججت نار الحب في قلبينا .. كم هو عذب حديث غادتي رغم ما حواه من نذير بفراق جديد .. تضاربت أحاسيسي بين السعادة بقربها وبوحها ، وبين الأسى لاحتمال الفراق من جديد .. - على الأقل .. اخبريني حين تزمعين الرحيل .. ضحكت فتألق الكون من حولنا وافتر ثغرها عن أروع ابتسامة ارتسمت على شفتين .. وقالت : - لا تستدن الرحيل من الآن .. ولنعش حاضرنا بعيدا عن كل ما ينغص صفونا .. امتدت يدي في حركة غير إرادية إلى الإكليل الذي نسجته من ورق الزيتون ووضعته على رأسها .. كانت حركة مفاجئة لها .. لكن عينيها نطقتا ببهجة لم أعهدها فيها من قبل .. امتنان وعرفان و بريق غريب جعلني ارتعش .. كان بريقا يغني عن كل قول .. وصمتنا .. لم ننبس ببنت شفة .. لكن كل شيء فينا كان يتحدث .. يصيح .. يتوهج .. الوقت يمر سريعا .. و الشمس تميل من جديد إلى المغيب .. لا أدري كم مر من الزمن ونحن جالسان علي حافة الغدير .. ربما ساعات أو أيام .. لكن غادتي لا تفارقني وأزداد تشبثا بها محاولا بكل ما أوتيت من قوة طرد شبح الخوف عنها و إرجاء الرحيل إلى أجل لا أدري متى يحين .. قالت لي إنها قد ترحل مع هجرة الطيور نحو الجنوب أو مع بداية العواصف عند انتهاء الخريف .. بل وحددت السحر موعدا لرحيلها .. فصرت أستفيق دائما عند السحر وأنتظر متوجسا أن تأتيني الرياح بخبر هذا الرحيل .. ثم أنظر إلى السماء عند المساء لأرقب مرور أسراب الطيور المهاجرة و أحدق في الأفق كي أميز عارضا ممطرا ينبئ بقدوم العاصفة . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
23 قل لي . . من أنت ؟!!!حين أتذكرك . . تذوب الكلمات ... في فمي . . ويرغد في الحياة . . قلبي . . . . قل لي من أنت !؟ . . . . . . بل . . . دعني ابكي . . دعني ابكي.. وألجم نفسي لئلا يغيب في حضورك .. عقلي لئلا استجدي من أوقاتك . . اللحظات ومن حروفك . . الكلمات فقد أودعت بين الجوارح . . لتبدع فيمعزوفة عشق .. تدق بألم بين الضلوع كان هذا آخر ما همست به غادتي و نحن نودع معا آخر شعاع الشمس قبل أن تختفيا معا .. الشمس تهوي من وراء الجبل الذي استحال لونه إلى سواد .. و غادتي توغل بين أشجار الصنوبر التي اصطفت في خضوع لتحيي مرورها .. تأملت الكلمات و أنا أردد كل حرف منها ..هل أطلب منها أكثر من هذا ؟ طبعا لأني أعلم أن روح العاشق طماعة و تهفو دائما للمزيد .. في الحقيقة لم أكن في وعيي حين كانت تردد كلماتها .. كنت واقعا تحت تأثير قوة لا مناص لي منها .. كان كل شيء في كياني في حالة خدر واسترخاء .. حتى الأصيل الذي غالبا ما كنت أهفو لتأمل شمسه وهي تزداد اصفرارا ، سهوت عنه وتعطل تفكيري .. وشلت حركة دماغي .. حتى الزمن توقف للحظة .. كان الأصيل .. وصار أصيلا وخلته سيبقى أصيلا سرمديا . كل حركة توقفت من حولي .. فلا الريح عادت لتسمعني حفيف الأوراق .. ولا الجدول استمرت مياهه الرقراقة في شدوها .. ولا العصافير كما عهدتها ملأت الجو بزقزقتها .. ألتفت إليها فأجد حقا دمعة تسري في هدوء على خدها الأسيل .. وأتساءل : لماذا تبكي ؟ .. هل هو إيذان باقتراب الرحيل ؟ أم أنه الوجد بلغ بها إلى هذا الحد ؟ .. إن كان هذا صحيحا ، فما أسعدني .. و إن كان الرحيل آن أوانه ، فما أشقاني . ابكي يا غادتي ولا تتساءلي من أنا .. أنا قدرك الذي لا مفر لك منه .. أنا العاشق السرمدي .. أزلي أنا في حبي و أبدي في عشقي .. أنا ظلك الذي يلازمك في الحل و الترحال .. أنا الريح العاتية التي تثور حيت يستبد الشوق بالنفس و أنا النسيم العليل حين تهدأ ثورة الحب .. ابكي ودعي دموعك تروي نفسك المتعطشة كما نفسي للحب .. دعي أنفاسك تسري عير مسامي كمعزوفة عشق و ترنيمة حب .. اتركي نفسك تنساب مع هبات النسيم العليل لتتغلغل في أعماقي و تلتحم مع كياني .. اتركيها تنصهر في مهجتي و تسري في دمي .. حتى إذا آن أوان الرحيل ، رحلت و رحلت أنا معك .. بكل ما في من نبض .. ليكن الوداع ، فلم أعد أخشاه ، لكني أريده وداعا يليق بحبنا .. أريد أن يشهده كل من شهد ولادة حبنا بين الأحراش و الوديان .. لن أفزع للوداع ولن أجزع للفراق ، لأنك ستبقين بداخلي و أنا سأرحل معك .. فاجعليه وداعا لا ننساه أبدا .. وداعا تتحدث عنه كل الطبيعة بما فيها و بمن فيها .. أعرف أنك سترحلين قريبا .. فهاهي أسراب الطيور مقبلة تتجه نحو الغرب وفي زقزقتها ما يشي بدنو لحظة الفراق.. وها هو الأفق يتلبد بالغيوم فتسود الدنيا و يهتز كل شيء على وقع الريح و الرعد .. لم يبق إلا أن أنتظر السحر .. لم يعد الغروب يؤجج الوحشة في نفسي .. فقد اعتدته ، بل صرت أستدنيه كل يوم منذ جلسنا على الصخرة نتأمل الوادي و رأسك مستند على كتفي .. كنت أشير إلى أسفل الوادي حيث يتهادى زوج من الحمام في ود و انسجام .. ثم نتابعه ببصرنا حتى يقتربا و يحطا على غصن قريب منا .. كم كانا رائعين و هما ينظران إلينا بفضول .. وحين لا تبدر منا حركة يبدآن في طقوس العشق الخاصة بهما فأرنو إليك لأجد عينيك الحالمتين تسرحان إلى الأفق البعيد .. و أسرح بدوري فأخالنا تحولنا إلى هذا الزوج من الحمام ، نفرد جناحينا لنحلق بعيدا بين الأودية و الخوانق ثم نعود إلى عشنا لنحط على الغصن المقابل له لنبدأ بدورنا في طقوس العشق غير مبالين بمن حولنا .. لأن ما حولنا كان يعيش طقوسه أيضا .. هذه الليلة ليست ككل الليالي .. لا أعرف إن كانت قد طالت أكثر من اللازم أم أن ساعاتها انصرمت بسرعة لم أشعر بمرورها .. وقت السحر مألوف عندي .. حين يأزف ، أشعر بأن شيئا ما بداخلي يتأجج و أنني على موعد مع شيء ما .. كل شيء يستيقظ الآن .. ربما لأن العش و العصفورين و الشجرة و الجدول و المنبع و المرج و التلة كانوا يعلمون بموعد رحيلك الجديد .. حركة دائبة هنا وهناك .. الأوراق يشتد حفيفها مع اقتراب العاصفة .. وأولى قطرات المطر تنقر على أنفي و جبهتي كأنها تنبهني من غفوتي .. حسنا .. أنا انتظرك الآن يا غادتي لنقوم بطقوس وداع لم يشهد الماضي لها مثيل .. بالأمس أعددت لك باقة من كل ما وقعت عليه يدي عند المرج الأخضر و فوق التلال القريبة .. زهور وورود و رياحين .. حتى العشب أبى إلا أن يلتحق بالباقة و يجد له مكانا بها .. أوراق الصنوبر و السنديان و العرعر تتوسل أن أضيفها إلى الباقة .. ماء الجدول يصيح ، فلا أملك إلى أن أغمس الباقة فيه ليبللها .. وفي غفلة من الجميع وقبل أن تظهري ، وضعت قبلة طويلة دافئة على باقتي لأني أعلم انك ستحملينها معك دوما وتحتفظين بها حتى إذا قدر لنا اللقاء مرة أخرى ، كانت لنا ذكرى نستحضر بها أيامنا و ليالينا . في هذه اللحظة ، يطبق الصمت .. أعلم أن غادتي ستظهر بعد قليل .. كل ما حولي يغض الطرف احتراما لمشاعرنا المتأججة في هذه اللحظة الحرجة .. تقبل علي متهادية كعادتها في خطوها لتجدني وقد غادرت عشي ووقفت بجانب الشجرة .. لا نأبه للمطر المتزايدة حدته و لا للريح العاتية و هي تميل الشجر و تكاد تقتلعه .. تنظر إلى أعلى حيث العش و ألمح شبه ابتسامة حزينة على شفتيها المبللتين بماء المطر وقد ألصق شعرها الغجري على جبهتها .. مددت يدي بالباقة .. تفحصتها بحنو ولم أدر إن كان المطر المنساب على وجنتها مختلطا بدمعها ، لأني لمحت في عينيها بريقا و احمرارا .. هل تبكي غادتي ؟ آخذها من يديها و أسير بها نحو الغدير .. لا أدري لماذا أحب أن يكون اللقاء أو الوداع عند هذا الغدير الغارق في صمته وكأنما يصلي .. تستسلم ليدي وهي سارحة النظر مشتتة الفكر .. ربما ندمت على قرارها بالرحيل ولا تريد التخلي عن كبريائها .. أو لأنها لم تكن تريد أن تعيش هذه اللحظات .. وفي لحظة .. ترفع الباقة إلى شفتيها وتقبلها في خشوع .. بل و تمرغ وجهها في زهورها و رياحينها و عشبها وأوراقها .. ثم تلتفت إلي و قد توهج عيناها وجدا .. كانت لحظة التحام .. أحسست أن روحينا تمتزجان و تنصهران في بوتقة واحدة .. بينما كان كل شيء من حولنا يهدر و يصيح بل ويغلي على إيقاع غليان روحينا و جسدينا .. حتى لم أعد أرى شيئا إلا ما يظهر لي من خلال وميض البرق ، لأجد نفسي في لحظة من اللحظات وحيدا قرب الغدير مستسلما للمطر يغزو جسدي .. واضعا يدي على شفتي و كأن المطر لم يكن كافيا لإطفاء لهيبهما .. ماذا علي فعله الآن ؟ .. هل انتهى كل شيء ؟ .. هذا ما يبدو لي .. لكني في قرارة نفسي لم أستسلم لفكرة النهاية .. كنت لا أزال تحت تأثير لحظة الوداع .. وقد تضوع الجو بشذا غادتي .. حتى قطرات المطر الغزيرة خلتها تلونت بكل ألوان الطيف .. الآن علي التفكير في عشي .. لقد أقبل الشتاء .. ومحال أن يصمد أمام عتو رياحه و زخات مطره .. أين ألجأ الآن ؟ .. حانت مني التفاتة إلى الجبل وتذكرت كوخ صديقي الراعي .. هناك أيضا بالقرب مني أكواخ منتشرة بالجبل .. فلم لا ألجأ إلى أحدها لقضاء فترة من الشتاء الذي يبدو أنه سيكون عاتيا هذه السنة .. حدثتني جدتي يوما أن منازل الشتاء تكون قاسية خصوصا "الليالي" وأيامها الأربعين .. وحين تنتصف و تأزف ليلة "حاكوزة" يولد الربيع ويكون كحشرة ، ثم ينمو مع مرور الأيام حتى يصير فصلا كاملا .. وروت لي أيضا أن أصعب المنازل هي "سعد ذابح" .. فلا "وجه صبيح و لا كلب نابح" ، من شدة البرد .. آه يا جدتي كم أحن إلى حكاياتك و أنا في وحدتي هذه .. كم اشتاق إلى خبزك المرصع زبيبا و فستقا و لوزا في ليلة "حاكوزة " . سآخذ كل لوازمي من أعلى الشجرة و سأصحب معي وكر العصفورين الخشبي ليكونا في مأمن من العاصفة هناك في الكوخ .. سيشعرانني بالأنس و يبددان وحشتي ووحدتي بعد رحيل غادتي في انتظار أن تجود الأقدار بلقاء آخر . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
لم اكن اعلم انني سأتيه في عالمك بين الحقول والجبال وفي الطبيعه الساحره من جديد !! وفي الحقيقة انتبهت انني اتيه في داخلك ومشاعرك اكثر ( عذرا ) وما ألمني حقا ما عانيته ولا زلت تعانيه بسبب تلك المخلوقه الغائبه .. اسعدني رجوعك استاذ رشيد وكم اشعر انني لا اريد ان تنتهي فصول قصتك .. ولكن غياب عصفورتك ومعاناتك اتعبتني ( انا ) جدا جدا .. لانني اتابعك بالحرف والكلمه استاذي رشيد .. اما أن الاوان لتفرح وتبتسم نريد ان نشعر بذلك .. لنبتسم ونفرح جميعا معك !!؟ تحياتي الخالصه |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
::
مررت ألقي التحية عليك أستاذ رشيد لي عودة إن شاء الله دمت بخير :nic93: |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اقتباس:
محبتي . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اقتباس:
و أنا بدوري أهنئ نفسي على ما حباني الله من قلوب مثل قلوبكم تلتف من حولي تشجعني و تحفزني على الكتابة .. شكرا لك من كل قلبي . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اقتباس:
لو كان كل واحد منا يتحكم في ما يكتب لجعل كل دنياه ربيعا أخضر و شمسا و ابتساما .. يسعدني تتبعك لما أكتب وهذه شهادة أعتز بها و أتمنى أن تبقى كلماتي في مستوى ذائقتك الرفيعة .. محبتي . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اقتباس:
مرحبا بك أختي ناهد في كل وقت و شكرا لمرورك البهي .. أبادلك التحية و أنتظر طلتك من جديد ، فالعش كما قلت من قبل فاتح ذراعيه لكل زائر . شكرا لك ودامت لك المودة و التقدير . |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify] 24 والآن ماذا تبقى لي سوى عشي وعصفوري الإثنين وما يحيط حوالي من هضاب و جبال غارقة في صمت قاتل ؟ و كأنما استوحشت وجومي واستثقلت شرودي و أنا أهيم على وجهي تارة عبر المروج المثقلة ماء بعد العاصفة الأخيرة ، وتارة بين الوديان الموغلة في الغابات الكثيفة ، أو على صخرة تعتلي قمة الجبل الجاثم في جبروت على الوادي الهادر .. تلازم صورتها البهية مخيلتي في حلي و ترحالي و أقضي وقتا في تأملها مغمض العينين فتتراءى لي كحورية تزهو بحسنها الأخاذ وبهائها المنقطع النظير .. انتهى كل شيء .. على الأقل في المستقبل المنظور .. وصار علي أن أنتظر شهورا أو سنين ، و ربما دهرا قبل أن تجود علي الأقدار ببلسم يشفي جراح نفسي المكلومة .. بلقاء صار يبدو لي الآن أقرب منه للخيال أو بنسيان ينقذني من أتون هذا الذي يسمونه حبا .. ما الذي جعلني أقحم نفسي فيه كغريق لا يعرف من السباحة شيئا ؟.. ماذا جنيت على نفسي غير الوهم و الجري وراء السراب ؟ .. لماذا تركت غادتي ترحل ولم أتشبث بها رغم إلحاحها ؟.. ربما كانت فقط تجربني ، وحين رأت انسياقي مع رغبتها ، لم تجرؤ على تغيير قرارها ؟.. لكن كم كان علي أن أحلل و أفسر أدق تفاصيل تصرفاتها ؟.. ألا يكفي ما عانيته من فراق كاد يعصف بكل آمالي ؟ هذا إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل .. ثم ، لم أحمل نفسي دائما تبعات هذا الذي يحدث و أنا الذي أهفو دائما إلى اللقاء و أعزف عن الفراق ، بينما هي تكون دائما من وراء كل هذا الذي نعانيه .. أو على الأصح أعانيه أنا لوحدي ؟ .. أنى لي السلوان الآن وقد غدوت كالمجنون ، أعتلي القمم لأنظر إلى الأفق ؟ أنصت لعقلي فأجد نداء بالتعقل و نبذ الأوهام .. و أصغي لقلبي فأسمع نحيبا و توسلا فأترنم : أنت قلبي فلا تخف و أجب : هل تحبها ؟ و إلى الآن لم يزل نابضا فيك حبها ؟ لست قلبي أنا إذن إنما أنت قلبها .. وأستعيد ذكرياتي فلا أجد غير الآلام و الأحزان رغم فترات من السعادة العابرة و الخاطفة مع غادتي .. هل تتلذذ بعذابي أم أنها تتعذب مثلي ؟ لم كل هذا ؟ .. لا افهم .. يقولون إن المرأة صعبة الفهم و نزواتها أكبر من أن تحصى .. ورغم ذلك استكنت إلى غادتي و سلمتها قلبي دون شروط .. و نسيت كل ما بدر منها من تصرفات كان يمكن لأحد غيري أن يقابلها بالمثل . لكني سلكت طريقا رمت به المودة و المسامحة .. وأصر هذا القلب المتمرد على التشبث بها و هذا الخيال بصورتها حتى لا أجد سبيلا للنسيان .. كيف يا قلب ترتجي طعنة الغدر في خشوع وتداري جحودها برداء من الدموع لست قلبي و إنما خنجر أنت في الضلوع .. ترى أين تكون الآن ؟ وهل تعاني كما أعاني أنا من وطأة الفراق و الوحدة ؟ أم أنها وجدت ما تسلو به و أنا آخر من يشغل بالها في هذه اللحظة ؟ .. ألتفت من حولي فأجد كل شيء يرنو إلي بوجوم .. وكأن ابتسامتي الغائبة عن شفتي منذ الرحيل الأخير قد ألقت بظلالها على عشي و عصفوري و أيضا على الكوخ الذي صار مأواي الجديد .. نسيت أن أذكر أنني لزمت هذا الكوخ ثلاث ليال متتالية .. لأن العاصفة لم تفتر ولم يتوقف هديرها .. و لأنني كنت أشعر بالخجل و أنا أفكر في الخروج كعادتي تحت المطر .. كنت أخجل من نظرة الجدول و الشجر و المرج المليئة شماتة على خيبتي .. فلم أغادر الكوخ ولبثت أطل من نافذة صغيرة ، ملتفا بغطاء صوفي ، مسترقا النظر إلى الخارج و العاصفة في أوجها .. سرحت بنظري إلى أسفل الوادي و تأملته و هو يرغي و يزبد وكأنه يتوعد بالويل و الثبور كل ما اعترض سبيل مياهه الهادرة .. لم لا أكون مثله ؟ ماذا ينقصني كي أتحلى بهذه القوة بدل أن أظل هنا خانعا مستكينا أنتظر في عجز مقيت ؟ .. لم أشعر إلا و انا أنتفض من فراشي الخشبي و ألقي عني الغطاء الصوفي ، ثم أرتدي ملابسي الشتوية المعلقة على نصف عمود ناتئ في أحد أركان الكوخ .. إلى أين ؟ وجدت بداخلي نداء خفيا يجذبني إلى حيث رحلت غادتي .. لكني طردت عن ذهني هذه الأفكار و وقفت بباب الكوخ أنظر إلى العاصفة .. سرني أنني مثل الوادي ..أغلي ثورة و وبداخلي هيجان لا يعرف الحدود .. اقتحمت ستار المطر الذي حجب عني الرؤية واندفعت تحت السيل العارم أغرس حذائي المطاطي في الوحل فأحس بالمتعة .. تركت كل شيء وسهوت حتى عن وكر العصفورين .. لكني حين تذكرت ذلك كنت مطمئنا إلى أن من خلقهما لن يتخلى عنهما .. و أنهما سوف لن يحتاجا إلي بعد أن ضمنا مقرا آمنا من العواصف . إلى أين ؟ .. لا يهم .. لأسر فقط و لأتمش دون توقف . ولأندفع مع السيول المنهمرة من كل جانب . أحس بنشوة الانطلاق وبلذة الانعتاق من ذاك الوضع النشاز الذي لا يلائم طبيعتي التواقة للتحرر من أغلال الجمود و السلبية . فقط ، أنا محتاج في هذه اللحظة لمن أحدثه و ألقي على مسامعه ما يقض مضجعي ويقلق نفسي . صديقي الراعي. ياللفرحة.. كيف غاب عني ذكره ؟ ولماذا لم أفكر في اللجوء إليه بدل أن أستكين لوحدتي ؟ وفي غمرة هذه الفرحة العارمة توقفت فجأة .. ماذا لو كان تفكيري في صديقي له وجهة أخرى غيره ؟ ألا يكون لا وعيي قد سلك طريقا ملتويا ليتملى بطلعة غادته و يستأنس بقربها ؟ .. فتر حماسي لحظة ووقفت أفكر غير مبال بالماء المنهمر من فوقي .. علي أن أحدد سبب وجهتي الجديدة .. إذا كانت مشاعري كما تخيلت فعلي أن أعود أدراجي ..لأن أعيش وحيدا أهون علي من أنس صديقي بينما نفسي تهفو لغيره .. بل تغتصب منه حقا من حقوقه و تقضي على أمله و إن كان هذا الأمل مفقودا .. اضطررت للتوقف مرات و سلوك طريق آخر معاكس كي أعطي لنفسي الفرصة و الوقت الكافي كي تحدد ما تصبو إليه حقيقة .. فما شعرت إلا بحاجة ملحة لصديقي مع أمنيتي أن أجده في الكوخ بدل منزله ، فكان هذا دليلا على أن ذهني منشغل فقط بصديقي و بما سوف ألاقيه منه من مؤازرة و دعم بفضل ما جبل عليه من رزانة و حكمة و تأن في إصدار أي حكم أو قرار .. صديقي بخلافي، و أنا أعترف بذلك ، رجل نضج قبل الأوان .. يرى الأمور ببصيرته ويحللها بكل هدوء بعيدا عن كل انفعال .. يعيش تجربته بألم .. لكنه ألم بلغ شأوا كبيرا في النبل و الشهامة .. ما أحوجني اليوم ، بل الآن ، لشخص مثله يدثرني برداء من الكلمات تسبغ على نفسي طمأنينة و سكينة و تبعد عن نفسي شعورها بالوحشة و القنوط .. كنت أسير .. وجسمي يشتعل حرارة لا أدري إن كانت حمى أو دفئا يتنامى مع كل خطوة أخطوها نحو المنعرج الأخير المطل على الكوخ .. بيد أني انتبهت و أنا أضع يدي على جبهتي لأوقف تساقط قطرات المطر على عيني ، أنها ملتهبة أيضا .. بينما كانت أطرافي ومفاصلي تؤلمني .. الطريق أمامي يمتد طويلا بين أشجار البلوط و تملؤه بعض الحفر و أكوام التراب المبلل ، وهذا يعني أن خنزيرا بريا مر من هنا .. لا شيء يخيفني منه إلا إذا كان مجروحا ، أما في ما عدا ذلك فيكفي أن أتنحى جانبا و أترك له الطريق .. المشكلة في الأنثى وخاصة إذا كانت مصطحبة صغارها ، فهي تثور وتهجم .غريزتها تدفعها لحمايتهم . ها أنذا أصل ، وهاهو الكوخ الوديع يتوسط الغابة على سفح الجبل .. لا أحد هنا .. أشعر بالانقباض بينما آلامي تزداد حدة و جسمي التهابا و ارتعاشا .. هل هي النهاية ؟ .. هل قضي علي أن أعيش آخر أيامي هنا منبوذا ؟ أشعر برغبتي في الرقاد و البلل يسري إلى كافة جسدي . تزداد الظلمة حلكة و تميد الأرض بي فأحس بالغثيان .. الألوان تختلط في ذهني و أسمع أصواتا لا أميز مصدرها ولا ماهيتها .. نداء و صياح ثم نباح أشبه بالعواء .. هي ولا شك ذئاب ستجد في جسدي النحيل فريستها في هذا الفصل القاسي .. الجوع سيجعلها تمزقني إربا إربا و تهرب بأشلائي في كل اتجاه .. كم رأيت من الذئاب بفروها الرمادي المهيب وأنا أعبر هذه الغابة ، فتفر لرؤيتنا و رؤية الكلاب معنا .. كانت عيونها تقدح شررا .. و آذانها منتصبة في قسوة بينما كانت تكشر عن أنيابها .. لكنها كانت تدبر لا تلوي على شيء . الآن لن تجد من يمنعها مني . لكني أراها في مخيلتي وديعة . ربما لأنها ستريحني من العذاب و تطفئ لهيب جسدي المتأجج حين تغرس أنيابها لتنهشه وتنهي فصلا هزليا من حياة عشتها متعلقا بخيوط واهية من السراب و الوهم .. لوقع أنيابها في لحمي أخف وطأ من هذا الإحساس بالمرارة و الإحباط .. النباح أو العواء يقترب .. تتصلب ضلوعي في انتظار أول عضة من أنياب الذئاب الجائعة .. بينما يغوص وعيي في متاهة لا نهاية لها . [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
25 صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة .. كانت إغفاءة أشبه بسبات عميق ..أو ربما كانت كذلك .. رأيت نفسي في مواضع و أماكن غريبة .. ولاقيت أناسا لم يخطر ببالي قط أني سوف ألتقي بهم يوما ما .. لكن ما أرعبني حقا هو زيارة عصفورتي وحيدة دون رفيق ووقوفها على حافز الكوة الصغيرة .. كانت مضرجة بالدماء كما رأيتها يوم وجدتها جريحة .. كان الدم يقطر منها فيخصب ريشها و جانبا من حوصلتها . تناهي إلي أنينها و لم يكن زقزقة كعهدي بالطيور، لكنه كان نحيبا . كانت تترنح والريح تعبث بها .. حاولت النهوض لكني لم أستطع .. وفي لحظة تحولت العصفورة إلى غادتي .. فزاد رعبي و أنا أرى الدم لا يزال ينز منها .. صحت مرتعبا لكن الصوت انحبس في حلقي .. وتجمدت أطرافي .. بينما كان العواء يبتعد .. هل خافت الذئاب من حضور غادتي ؟ أم أنها انقضت عليها و حملت أشلاءها بعيدا في الغابة .. لم أعد أراها . اختفت فزاد ألمي و رعبي .. كنت أحس بجسمي ملتهبا .. لكن جبهتي بدأت تنتعش .. لمسات باردة تمسح العرق المتصبب عنها فتنتعش و ينتعش معها جسدي .. وشيئا فشيئا أخذت عيني المغمضتين تتفتحان لتلفي ضبابا يحجب الرؤية عما حولي ، بينما كانت جبهتي تزيد انتعاشا .. تتراءى لي يد ممسكة بقطعة قطن وهي تمسح عن جبهتي العرق .. يتلاشى الضباب قليلا فأميز جدرانا غير جدران الكوخ .. ويبدو لي وجه باسم من فوقي فأكاد أنتفض فرحة . غادتي معي .. وتسعفني بالماء البارد على جبهتي .. يا ليتها كانت يقظة و ليس حلما . تململت في مكاني محاولا القعود ، لكن صوتا رخيما أتاني من فوقي يدعوني لمتابعة الرقاد .. صوت مألوف عندي .. لكنه ليس صوت غادتي .. أصابني إحباط ، لكني أحسست بالنشاط يدب في أوصالي وحمدت الله أن الذئاب لم تنهش جسدي .. كنت أتمنى ذلك من قبل ، لكني الآن متلهف للحياة .. أريد أن أعرف ماذا حصل و أين أنا .. ولمن هذا الوجه الجميل الذي يشبه وجه غادتي .. أستطيع القول أني رغم حالة اللاوعي التي كنت أستفيق منها فإن حواسي كانت تنشط بشكل سريع ، وامتلأت خياشيمي برائحة أعرفها حق المعرفة .. هي خليط من رائحة الحليب و روث الماشية .. ثم شد انتباهي منظر المنديل المخطط بالأحمر و الأبيض فاستكانت نفسي وشملني شعور بالطمأنينة بأني بين أيدي أمينة .. الآن عرفت أن تلك الفتاة ما هي إلا غادة صديقي و أن هذه الحجرة هي حجرتها .. إذ رغم طابع البداوة التي يغلب عليها فإنها حملت لمسة أنثوية واضحة .. لكن كيف وصلت إلى هنا ومن جاء بي من الكوخ حيث كنت أمر بما يشبه الاحتضار ؟ لم يطل بي الانتظار .. إذ سرعان ما عاد الوجه الباسم يتأملني بحنو و يسألني : - كيف تجد نفسك اليوم ؟ - بخير و الحمد لله .. لكن كيف وصلت إلى هنا ؟ - استرح الآن .. يبدو أن منزلنا لم يعجبك .. - حاشا لله .. لكني استغرب .. - سيأتي أبي بعد قليل و يخبرك .. أنا سأذهب إلى الحقل الآن . كدت أسألها عن صديقي لكني أحجمت تجنبا للإحراج . لكن من هيئتها و لمعان عينيها و أيضا من استعجالها للخروج دون أن تخبرني بما حدث أوحى إلي أنها ستلقاه هناك .. دعوت لهما في سري و اطمأنت نفسي إلى أن الفتاة لا تزال ولهة بصديقي العزيز .. ما اشد شوقي للقياه و معانقته .. الحجرة شبه مظلمة ولا أدري له هو المساء بدأ يجثم على البلدة أم أنه الصباح الباكر .. أشعر بالجوع يقرص معدتي بينما رائحة الشاي المنبعثة من خارج الحجرة تستفز خياشيمي .هي ولا شك وجبة المساء "لامرييندا". لكن صياحا و نداء أميز من خلاله دعوة للغذاء .. ما هذا ؟ هل تأخروا بالأكل إلى هذا الوقت أم ماذا ؟ يدخل الأب بقامته الفارعة و هو يبتسم .. ما أشبه ابنته به . وما أشبههما بغادتي ؟ أحس بالألفة نحوه ، لكن إحساسا بالانقباض يتملكني كلما رنوت إلى عينيه النجلاوين .. هل لأنهما تذكرانني بغادتي ؟ أأصبحت أمقت ذكرها إلى هذا الحد ؟ أم أنه فقط شعور بالاستياء النابع عن الفراق الذي ظلت تتمسك به حتى ونحن في أوج ألفتنا و انسجامنا ؟ تناولنا الغذاء .. الدنيا مظلمة في الخارج . سحب و أمطار .. كان الله في عون من يعمل في الحقل . ما أشد ما يقاسيه صديقي الآن وهو مع قطيعه وحيدا في الغابة .. بينما أنا هنا قرب غادته أتنعم بالفراش الوثير و الغطاء الصوفي . الأب رجل لطيف رغم خشونة صوته و أوامره التي لا تنتهي .. لا أحد يجرؤِ على مناقشته سوى حليمة .. عرفت أن اسمها حليمة حين ناداها والدها فأقبلت وقد ابتل منديلها المخطط . تبدو مدللة لديه .. ونظراته لا تخفي إعجابه بدرايتها بأشغال البيت ، فهي الآمرة الناهية بعد أمها .. حدثني الرجل كيف اكتشف صديقي الراعي وجودي بالكوخ و أنا مغمى علي .. وكيف حملني على ظهره إلى البلدة .. وكيف التقى به في الطريق و اقترح عليه إيوائي بمنزله .. صديقي قبل مرغما ولم يجرؤ على معارضة سيده .. كان يريد أن يحتفظ بي في حجرته .. غادته أقنعته أيضا أنني سوف ألاقي العناية اللازمة عندها .. ما أشد ما تثير في حالة صديقي من شجن .. تمنيت لو كان هنا بجانبي أستمتع بحديثه و يستمتع هو بالقرب من غادته و التملي بطلعتها بدل الضنك و الكدح في هذا الفصل القاسي . - هل لي أن أرى صديقي ؟ البغتة تعلو محيا الإثنين .. هو ينظر إلي باستغراب لكون حالتي لا تسمح لي بالخروج في هذا الجو البارد و أنا على هذه الحالة من الوهن .. وهي تتشاغل بالنظر إلى إبريق الشاي وقد احمرت وجنتاها من جديد .. - ما الذي تقوله يا ابني .. نحن لم نصدق بعد أنك عدت إلى الحياة . أطلق ضحكته الهادرة وهو يفتل شاربيه الضخمين ، ناظرا إلى النافذة بالقرب منه .. - عما قليل سوف يسقط الثلج .. أنا أعرف هذا الجو .. لم نعشه منذ سنوات طويلة .. سوف يكون علينا تخزين المؤن .. كل الطرق ستقطع وسنعيش منعزلين عن العالم .. لكن لا تخف .. لن نموت جوعا .. الحمد لله .. الخير وفير .. وهناك .. حيث الصغار ذوي الشعر الأشقر و العيون النجلاء ؟ كيف يعيشون .. وكيف سيتحملون هذا الشتاء الذي لم يعهدوه منذ زمن .. أتخيل أجسادهم المقرورة و هي تتعرض لسياط البرد القارس ، وليالي الزمهرير الطويلة .. وتتمثل لي سحنة صديقي و قد علاها الهم و الألم .. تغلبني دموعي فأخفيها عن مضيفي .. لكن نظرة من حليمة جعلتني أتأكد من اطلاعها على حالتي .. هي أيضا تبدو حزينة رغم اصطناعها للمرح .. - علي أن أقابل صاحب الشاحنة التي ستزودنا بالمؤونة قبل أن تقطع الطريق .. استرح و لا تخرج .. أنت في ضيافتنا حتى تمل منا .. أما صديقك ، فسوف يأتيك قريبا .. اطمئن . وأطلق ضحكته الرنانة التي تردد صداها عبر المنزل الشاسع ثم خرج .. تزحزحت من مكاني أروم الاقتراب من النافذة .. منظر جميل و حزين في نفس الوقت .. شبه هالة بيضاء تلف المكان رغم اكفهرار الجو .. هو الثلج . بدأت نذفه تتساقط بهدوء فتكسو الأرض حلة بيضاء .. وسرعان ما يختفي شكل الجبال و تتداخل مع السماء فلا أعرف مداها ولا أميز موضع قممها . حليمة ترفل كالفراشة من مكان إلى آخر .. تهيئ كل شيء .. في حركتها ما يشي بالحبور .. وكأني أستمع إلى صدى فرحتها بداخلها .. لم تكن تتخيل أن يلج صديقي عتبة بيتها .. كان يأتي ويلتقي بسيده قريبا من المنزل ليتحادثا في شأن الماشية ، أو ليأخذ أجرته .. اليوم سيكون بإمكانه الجلوس معي في هذه الحجرة الأنيقة .. أشعر بالسعادة .. هناك حركة غير عادية في المنزل .. الكل يعدو .. ماذا يحدث ؟ .. أتطاول بعنقي نحو النافذة دون أن أرى شيئا .. فتأتي حليمة مسرعة و تجدني نصف مغطى .. وتضحك .. - عنزتنا ولدت توأمين .. هذا فأل حسن .. - هل هي العنزة ذات القلادتين ؟ سألت دون أن أعي ما أقول .. نظرت إلي باستغراب وقد تورد خداها .. هل تعلم بما أسره إلي صديقي عن العنزة ؟ .. جاء دوري ليصعد الدم إلى وجنتي .. طأطأت راسي و نظرت إلى النافذة .. - مبارك عليكم هذه النعمة .. و أفاض الله الخير عليكم .. - شكرا لك .. لو كنت معافى لرأيت العنزة و التوأمين .. لكن لا تهتم .. سوف أجيء إليك بهما حالما يشتد عودهما .. اشرب الشاي مادام ساخنا .. وما بين انتظاري للقاء صديقي و قبوعي في هذه الغرفة الأنيقة أجد نفسي ساهيا عن سبب وجودي هنا و مغادرتي لعشي .. هل هي بداية النسيان ؟ .. هل أستطيع نسيان كل شيء ؟ .. إذا كان هذا صحيحا فمعناه أن الحب زائل لا محالة من قلبي .. و أنه – أي هذا القلب – سيكون عليه أن يعيش ،على غير عادته ، خاليا من عاطفة الحب التي لم أكن أتخيل نفسي يوما ما مجردا منها .. وحين أقول الحب .. لا أعني أنني صرت ذا قلب جامد . فمجرد النظر إلى هؤلاء الناس وهو يحيطونني بحفاوتهم دون مقابل ، ثم سعيهم و كدهم و تآلفهم الرائع يشعرني بدفء الحب و عذوبة الحب .. هل أنا على موعد مع فترة فراغ عاطفي ؟ .. وهل ستكون لي تجربة أخرى غير تلك التي لم أجن منها سوى المعاناة و الإحباط ؟ [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
أنت قلبي فلا تخف و أجب : هل تحبها ؟ و إلى الآن لم يزل نابضا فيك حبها ؟ لست قلبي أنا إذن إنما أنت قلبها كيف يا قلب ترتجي طعنة الغدر في خشوع وتداري جحودها برداء من الدموع لست قلبي و إنما خنجر أنت في الضلوع صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة .. رائع أستاذ رشيد وكأني أقرؤك لأول مرة لا أدري ما هو السبب ؟ هل هو غيابك جاء بإبداع أسطرك تزيد البوح جمالاً سطر من الحزن من شهوة البوح رائع ما تسطره وأنتظر المزيد متمنية انت تكون الأحداث القادمة مغلفة بالأمل والأخبار السعيدة دمت بخير |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
أختي الغالية ناهد ..
يسعدني أنك متتبعة لما أكتب وفي هذا تشجيع لي و تحفيز لليراع كي يستأنف ما خطه من قبل .. كوني دوما بالجوار .. لكل المودة .. |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
26 [align=justify]كان اليوم مشهودا .. لا أدري هل كنت أكاد أطير فرحا لرؤية صديقي الراعي وهو يهل علي من باب الغرفة الضيق ، أم أني صدمت للهزال الذي اعتراه .. عانقته وكل كياني ينتحب .. أطلت العناق حتى لا يلحظ دمعي .. ثم نظرت إليه مليا .. عينان غائرتان ، وجفنان حفتهما هالتان سوداوان .. رباه .. كم تغير . جلسنا على حافة السرير ونحن صامتان .. ثم سألته متصنعا المرح : - أين كنت كل هذه المدة أيها – ثم همست – العاشق الولهان ؟ .. ألم تأكل صدرك الغيرة و أنا هنا ؟ ابتسم ابتسامة باهتة و هو يرنو عبر النافذة إلى الخارج وقال : - البركة فيك .. على الأقل أنا مطمئن إلى أنها بيد أمينة .. - هيا حدثني عن كل شيء .. إيه .. نسيت أن أشكرك على ما تحملته من أجلي .. لولاك لكنت مت هناك .. - الفضل لله تعالى و ما أنا إلا سبب .. تحدثنا طويلا بينما كانت حليمة تدخل علينا بين الفينة و الأخرى لتحمل إلينا إبريق شاي أو لتأخذ شيئا من الغرفة .. وفي كل مرة ألاحظ أن صديقي يطأطئ رأسه و يغض بصره .. بدت واضحة حالة اليأس و القنوط التي وصل إليها وتمنيت في قرارة نفسي أن أفعل شيئا من أجله .. تخيلت أنني أنهض مسرعا و امسك بتلابيب الأب متوسلا إليه أن يبارك الحب الذي يجمع الاثنين .. و أتيه في حلمي الوردي فأراها متأبطة ذراعه و هما يبتسمان في سعادة . لكني أعود إلى واقعي فأجدني عاجزا عن فعل شيء .. همست في أذنه : - ألم يحن الوقت لكي تفوز بعنزتك المدللة ؟ بدا سؤالي غريبا وذا صدى غير مألوف .. لم يبتسم كعادته .. بل سرح من جديد ناظرا إلى الأفق ، ثم التفت إلي فجأة قائلا : - دعك من هذا الآن .. واحك لي عما جد من جديد لديك .. - ماذا تنتظر من واحد يلازمه النحس وسوء الطالع ؟ فشل وإحباط و .. لاشيء . - لماذا لا تتغلب على حالتك هذه بالكتابة في انتظار أن تلتقي بها ؟ كنت تحدثني عما كنت تكتب لها من أشعار .. وكأنما أيقظتني فكرته من سبات عميق . انتفضت وقلت على الفور : - عندك حق .. لكن أصارحك أنني لم أعد آمل في لقاء جديد .. ثم .. ماذا سأكتب الآن لها و قد غادرتني عن طواعية ؟ - المهم أن تكتب .. لتخفف عما بك .. - بشرط .. نظر إلي مستفهما فقلت : - أن تأتي كل يوم إلى هنا لكي نقرأ سويا ما كتبت .. ما رأيك .. كنت أحاول أن أجد طريقة ما لأجعله بالقرب ممن يحب .. لكنه نظر غلي نظرة لن أنساها ما حييت .. نظرة امتزج فيها الألم و اليأس .. وقال : - ومن أدراك أننا يمكن أن نلتقي يوميا هنا .. - أنا أعرف أن هذا سيسبب لك حرجا و أن لك أشغالا ستمنعك ..لكن .. ممكن أن نحدد أوقاتا بالقرب من المنزل .. من جديد ينظر إلي تلك النظرة الرهيبة وقال بوهن : - ربما هناك أشياء خارجة عن إرادتنا .. المهم أنني مطمئن على حالتك .. سأودعك الآن .. رنت كلمة الوداع في أذني حتى خلتها طنينا يسبب لي دوارا .. ما ذا يعني ؟ .. هل سيرحل من هنا ؟ - بل قل إلى اللقاء .. سنلتقي عما قريب .. أليس كذلك ؟ - كل بمشيئة الله .. - ونعم بالله .. تعانقنا من جديد و لا أدري لم أحسست أنني أودعه فعلا و أن هذه اللحظات هي آخر عهدي به .. قلت له دون أن أحاول إخفاء دموعي هذه المرة : - أنا لن أنساك ابدا ، فلا تنسني .. وانصرف تتبعه نظراتي ويرتمي قلبي من ورائه .. وحين تدخل حليمة بالشاي يبدو لي شحوبها و سهوم عينيها .. نظرت إلي مليا وأنا أمسح دمعي بكم قميصي .. تشجعت و قلت : - مسكين .. كأنه لم يخلق إلا للمعاناة .. لم تجب ولكني أحسست أن داخلها كان يصرخ مؤيدا قولي .. ولتبدد أجواء الحزن الذي ران على الغرفة قالت و في نبرتها ما يشبه الإجهاش بالبكاء : - هل تحب أن ترى العنزة و صغيريها ؟ - أجل .. - لكن عليك بالتدثر جيدا لئلا تصيبك نزلة برد .. عند عتبة الباب .. كانت العنزة تقف في وداعة و بقربها صغيراها .. انحنيت و لامست جبهتي خطمها فجعلت تتشمم وجهي وأنا أداعب الصغيرين اللذين التصقا بها .. تارة يتمسحان بها وتارة يقبلان على ضرعها بكل قوة .. نظرت إلى عينيها الوديعتين و خلتني أرى فيهما حليمة . كان الجو قد بدأ يصفو في الوقت الذي ابيضت فيه جوانب البيت بالثلج .. ووجدت نفسي أخاطبها في همس : - ما أشقاك أيتها الجميلة ، و ما أتعس من يحبك .. كتب عليكما الشقاء مثلي .. لكني لست مثلكما .. على الأقل أنتما تستطيعان رؤية بعضكما البعض .. أما أنا فقد اختارت هي الفراق .. قد تعود وقد لا تعود .. صرت أخشى عودتها لأنها تكون نذيرا بالفراق من جديد .. لم أعد أثق بوعودها ولا بمبررات غيابها .. هي تحاول الهروب في كل مرة و أنا اعتدت على ذلك ..أحاول أن أنسى رغم أن هذا صعب ، بل أقرب للمستحيل . أرجوك .. كوني لطيفة معه كما أنت دائما .. هو يحبك فأحبيه . لن تجدي قلبا يضاهي قلبه طيبة و حنانا . لن تكوني سعيدة إلا معه .. " العنزة مستمرة في تشمم جبهتي لكني أنتبه فجأة إلى قدمين مسمرتين إلى جانبي .. حليمة تنظر إلي بفضول .. ترى هل سمعت ما كنت أهمس به للعنزة ؟ .. لا شك في ذلك .. فعيناها ترمشان دامعتين و قد تورد خداها وجدا و تأثرا .. [/align] |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
ما أروع ما خطته يدك الكريمة أستاذي الفاضل رشيد الميموني
وما أروع الوصف الكامن بين أسطر الربيع والوصف الذي أرغمتنا على الدخول فيه والتمعن بمعانية الخلابه وما أجمل الكوخ الذي استوحيته من نسج خيالك الخصب أنا سعيده لدخولي ومعرفة عشك الدافئ. دام قلمك العاطي للروح النديه في داخلك أستاذي الكريم ودمت برعاية الله وحفظه |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
رائع جداً هذا البوح رغم مايغلفه من الحزن والألم والفراق , أشعر
وكأن بُعدك عن المنتدى أفرز هذا البوح الجميل , في عشك الدافئ . بانتظار المزيد أستاذ رشيد , تقبل محبتي وتقديري . :nic54: |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
اقتباس:
أسعدني جدا انضمامك إلى زوار عشي الدافئ لتزيدي في دفئه و حميميته .. فمرحبا بك و لك أن تزوريه متى شئت فهذا يشرفني و يبهجني .. أتمنى أن يبقى بوحي هنا في مستوى ذائقتك الأدبية .. تقبلي مني كل المودة و التقدير .. |
رد: عش رشيد الميموني الدافئ
لا زلت متتبعة لما يخطه قلمك أخي رشيد و مستمتعة بحروفك التي تتبث لنا ثقافتك الواسعة و تميزك الرائع في السرد ما أحر ساعة الفراق أخي رشيد خصوصا عندما تودع أعز الناس و أقربهم لقلبك. دمت متألقا أستاذي الغالي |
الساعة الآن 43 : 11 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية