منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   (( أنا والليل )) (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=30087)

رأفت العزي 15 / 04 / 2016 32 : 01 AM

(( أنا والليل ))
 





عندما سألته، لماذا هذا العنوان: " أنا والليل " ؛
والليل هو ليل كل الناس، يمر على كل إنسان منذ أن خلق الله النور والظُلمة
فبماذا يختلف ليلك عن ليالي مليارات البشر ؟؟
قال لا؛ هو لا يختلف، ولكن .. لكل ٍ قصته مع الليل آلامٍ ودموع ، لكل أسراره، وجده، مناجاته، وحدته
أساه والهموم التي لا يعرفها سواه، ولكل ٍ ليله الذي يشكو منه إليه؛ فليلنا يعرفنا وأكثر:
متى نضعف، متى نُغرى؛ متى نجنح إلى صمتنا وسكونه، متى يخطر لنا التأمل في عتمته
وحشته ، ومتى نكون إلى الله أقرب!

الليل يا صديقي يأتينا أحيانا بالشيطان حينما تهجرنا الشجاعة، يلبسنا برضانا ! فنمارس موبقاتنا باسمه
وهو لا يأتي متخفيا أو مموها، بل يأتي سافرا لا يتمهل كما الغاسقين، ولا يتأخر " كزوار الفجر "
لكنه مع الشجعان يمارس الغدر مستفيدا من ضياع قدرتهم على الرؤية في عتمته !
فالليل يا صديقي يعرفنا وأكثر.
في ليلنا قد نشكو حبيبا قد هجر، نبكي قسوة غربتنا ووحشة السفر، نبتهل ، ندعو السماء لشفاء مريض يحتضر
أسماعنا تصبح أكثر استشعارا ،نسمع في هدوءه دقات قلوبنا ، نستحضر خلاله ضمائرنا !
نرى كم عميق هذا الكون حين نتطلع نحو السماء فنرى عظمة ما صنع الخالق.
فأنا يا صديقي والليل على موعد دائم ، في كل الظروف ، في مختلف الفصول ولا يعوقني اللقاء به
رعود ولا عواصف ولا أقسى المطر. في عتمة الليل لي أحداثا وقصصا كثيرة مثيرة، ابتدأت منذ لحظات مولدي
حكايات تُشكل معظم الأحداث الهامة في كل عمري؛ ساهمت في صنع شخصيتي البسيطة
اختبرتُ فيه صدقي مع نفسي رغم صعوبة هذا الصدق وقسوته ، ألا انه سهّل عليّ طريق الصدق مع الآخرين .
تعلمت معظم دروس الحياة في ظلماته فكشف لي الكثير من الأسرار، إن سمح لي، سأرويها ،
فهذا يا صديقي ليلي ! فاكتبني كما أريد : أنا وليلي " أنا والليل " ودعني أبدأ .

رأفت العزي 15 / 04 / 2016 33 : 01 AM

رد: (( أنا والليل )) - 1 -
 




شَقّ الجدار وارتسم

أفاق من نومه باكياً والدموع تُبلّل وسادته على اثر حلم غريب انتهى بموت أمه - مع أنها متوفاة منذ زمن بعيد -
فنهض من فراشه متثاقلا وجلس على حافة سريره مطأطئ الرأس مغمض العينين ثابتا مكانه لا يتحرك،
فالظلام دامس، وصوت المطر يطغى على كل صوت باستثناء صوت الريح التي تشتد مع كل ثانية،
تتقاذف المياه باتجاهات مختلفة ،وتجعلها أقوى من حصى تقذفها مقلاع فيزداد صوت المطر الذي أصبح
أقوى مما كانت عليها الحال في الأيام الخمسة الماضية بما لا يقاس ؛ مع ذلك، بقي جالسا على حافة سريره
يفكر بالحلم الذي كان. تمر المشاهد أمامه كأنها انطبعت على شريط مصور في مكان خيالي وانتقل بها الزمن
إلى لحظة الواقع فألح عليه سؤال ثقيل أجاب عنه في الحال، حدّث نفسه وقال :
" من منا يملك مقياس الزمن الواقع ما بين " موتنا سريريا " وقيامتنا من جديد ؟ "
من منا يعرف طول الزمن وعمقه ذلك الفاصل ما بين الحلم واليقظة :
هل هو لحظة ؟ طرفة عين؟ دهر ربما ؟ زمن نقول فيه : " كنا نياما وصحونا " !
زمن تتحول فيه الأحداث وتنتقل من الحلم ، إلى حقيقة واقعة لا يتوقف أمامها الكثيرون ولكنه فعل؛
فأحداث حلمه التي صنعها عقله الباطن، صارت أمام عينية ذكرى تُلح على عقله الواعي تكرار عرضها،
ليرسّخها ربما ، ويحفر صورها عبر أمر يأتيه ولا يعرف من أين يطالب بتكرار عرض الأحداث ذاتيا !
ولكن لماذا لم يحدث ذلك من قبل وبهذا الإلحاح كهذه المرة مع انه يحلم كثيرا ؟!

كان جالسا وما زال يراها وهو مغمض العينين كأنها مسلسل يعرض قصصا مختلفة لم تكن كلها
في ذلك الحلم ، ولكن على ما بدا كأنه كان الحاوية الحاضنة لتلك القصص المختلفة .. كل قصة لها
عنوان مستقل ، وان أحداث كل قصة كانت تتداخل مع الأخرى تتدافع أمام عينيه المغمضتين بقوة شتت ذهنه.
أحس بعطش شديد ،حاول القيام فعجز، كأنه في سبات ، يسمع ما يدور حوله وغير قادر على النهوض
فالظلام دامس، بتثاقل مدّ يده لمفتاح الضوء فتأكد من انقطاع الكهرباء ! كان يتمنى لو قبض على طرف
سلك كهربائي ليجبره على القيام فقام في اللحظة التي هدر فيها صوت رعد شديد !

.ومْضّ البرق كان يتوالى كما لم تومض من قبل ، تماسك، رفع كلتا يديه ووضعهما على اذنيه تحسبا لصوت
الرعد الذي أتى على غير ما كان يتوقع! برودة الهواء في الغرفة تكاد تخنقه كأنه قد وُضع في ثلاجة،
وأحس بأطرافه تتجلد فاستدار وتحسس غطاءه الدافئ فرفعه على رأسه وظل في مكانه لا يتحرك ،
ملبد الذهن حائرا لا يدري لماذا قام، ولا يعرف ماذا سيفعل في مثل هذا الطقس، جال نظره في الظلام
الدامس قبل أن يخطو خطوته الأولى ففاجأه رسم على أحد الجدران ظهر للمحة ثم اختفى!
كان الخوف لا يعرف الطريق إلى نفسه منذ أن صار في الحادي عشر من عمره ؛ لكنه في تلك اللحظة
شعر بالخوف بعد تكرار ظهور هذا الشيء واختفاءه فجأة .. ما هذا ؟!
هو لا يؤمن بظهور الأشباح وتراقص الأرواح ولكن .. ما هذا ؟!
بدا أن تفكيره قد شُلّ ؛ لا بد وأنه نائم و يحلم !
ربما كان الحلم كابوسا من يدري ! تحسس وجهه ، فرك عينيه ، جحظتا باتجاه ذلك الجدار والبسملة لا تفارق شفتيه؛
ما الذي أصابه؟
تذكر في تلك اللحظة شخصا كان قد روى له حكاية اعتقد حينها انه كان يبالغ في روايتها قال :
" حينما همّمت كعادتي إلى فتح باب المسجد قبل أذان الفجر، وما أن اقتربت لفتحه وفعلت ، حتى تسمرت
في أرضي بعد أن رأيت شبحا كبير الحجم طويل القامة فشعرت في تلك اللحظات بخوف شديد وبقشعريرة
في جسدي لم يوقفها حتى ذكر الله والبسملة إلى أن تبين أن ضوء سيارة قادمة من بعيد، أظهرت خيالي
على الجدار وفوق المنبر تماما ثم اختفى .. !"

صار يضحك وهو يتذكر تلك الرواية وإذا بالرسم قد ظهر من جديد وكانت أنوار السماء تعكس ظلّه
فسخر من نفسه ثم اقترب من الجدار وأخذ يلوح بالغطاء ويحرك جسده
كلما ومض البرق ؛ كان الضوء يرسمه بأشكال مختلفة .. مرة كأنه شبح قادم من بطون حكايات القصور
المهجورة ، أو الأديرة النائية ، هرما قد بدا في لحظة، براس وبلا راس ، مصلوبا مرة ، طائرا مرة ،
وعلى شكل خفاش كان يعلو ويهبط .. وكلما اشتعل البرق ازدادت حركته وعلت ضحكته وأخيرا خطر له
أن يتقمص شكل ذلك الراهب الأرثوذكسي العتيق، فشعر بنفسه في إحدى ردهات قصر مسكون يجري
بخوف ولا يطارده أحد بعدما فشل في طرد الأرواح الشريرة من غرفة امرأة القيصر وظل يجري حتى
ضرب رأسه بشيء صلب وبقوة!
نهض ولملم أطراف غطاءه ، قبض عليها بإحدى يديه وضمها إلى صدره ثم فتح بيده الثانية باب غرفته
وخرج مسرعا بعدما شعر بوجود الأشباح فعليا فيها!

رأفت العزي 16 / 04 / 2016 26 : 12 AM

رد: (( أنا والليل ))
 

وحلمي الغريب وأمي

أخبرك بأن الحوار الذي دار بيني وبين نفسي كان أغرب من ذلك الذي
دار بيني وبين أمي عند الولادة !

- " غريب امرك .. تقول " عند الولادة ، حوار ؟!
أنظر ، انا هنا لا اعترض ؛ قل ما تود قوله ولن اتردد في كتابة ما تمليه عليّ جنابك .
ولكن أذكرك بأن لدينا " طفل مغارة " واحد !! "

- قلت لك يا عزيزي انه حلم ؛ وقلت لك منذ البداية اكتبني كما اريد .
ألم نتفق على ذلك ؟ نحن ما زلنا في أول الطريق وإلا صمت وأبقيت قصصي معي،
وسأحرمك من لذة الكتابة والشهرة على حسابي وأنك – أنا أعرف - سوف
ترجوني لتمارس هوايتك .. شيء غريب ..! قلت لك انه حلم !
أيصل الأمر يوما ويتدخل إنسان في تحديد حلم إنسان آخر ويوجهه كما هو يريد ؟!"


- " اعتذر منك وسامحني يا عزيزي ، كنت فقط استفسر ولا أتهكم ، تفضل .

- كانت تصرخ وهي تلدني فخفت كثيرا ، لم أكن أعرف بالضبط معنى الكلام الذي كان
يقال لها قبل ولادتي بأشهر قليلة ؛ ولكن جل ما كنت أسمع هو تمنيات جميع من قابلنها بأن
يكون المولود " صبي" ..! سمعت كلاما كثيرا ، من جملة ما كنت أسمع : " إن شاء الله
يكون خلاصك بالسلامة و" يجيك " صبي" .. امممممم وجهك استدار هذه علامة الصبي .
أردافك تكوزت قدر انتفاخ بطنك يعني صبي ، صبي أكيد . عيونك كذا ، لونك كذا .
وغيرها من اشارات تشير إلى أنها ستلد "صبي " ! وحتى شكواها من آلام الظهر في
عُرفهم هو إشارة واضحة على ان حضرت جنابي هو " صبي " وكلما كنت أسمع كلمة
صبي كنت أرفس بطن أمي احتجاجا على سكوتها لأني كنت ارى أن هذا الاسم يتكرر
كثيرا واستغرب لماذا جميع من يحدثنها عني يطلقون عليّ اسم " صبي " !

كنت أتمنى أن يكون اسمي من الأسماء التي لا يكررها الناس كثيرا ! كنت أتمنى أن يكون اسمي مختلف
عن أسماء معظم أبناء الحي ، كرهت هذا الاسم من كثرة ترداده في جمل كثيرة مختلفة ، كلمات
تتكرر معظم الوقت : تعال يا صبي . اذهب يا صبي. اخرس يا صبي . حسابك عسير يا صبي .
كول هوا يا صبي أو شيء أوزن من ذلك ! فلماذا إذن لم تحتج أمي كلما قالوا لها " صبي ، صبي "
بل المصيبة أني كنت أشعر بسعادتها عندما يذكرون لها اسمي المفترض وكنت أرفسها بشدة !
لكن صوت واحد كنت أسمعه يقول لأمي : " المهم يمي انك تقومي بالسلامة ومش مهم صبي أو بنت "
ولم أكن أعرف لماذا إن قال لها شخص " من المحتمل أن يكون وضعك " بنت "
فيتم رفض الفكرة مباشرة حتى من قِبل أمي " وانشاء الله ،لا . إن شاء الله صبي " !

كل ذلك قد مضى ، وكان هينا إلا الصراخ ؛ صراخ أمي ساعة ولادتي .. فبقدر ما كنت أتوق إلى الحرية
صرت خائفا مترددا بالخروج .. فهي تصرخ وتشد، وحينها صرت أبكي ولا أريد الخروج ! ولكن شيئا
كان أكبر من قوتي يدفعني فنزلت؛ ويا للمفارقة، تبدل بكائي الصامت إلى صراخ فاجر، وفي عرض
متواصل. لكن أمي عكست القصة ، كانت تصرخ بصوت عال وبعد ولادتي صارت تبكي بصمت ،
شدتني إلى صدرها برفق، قبلني بعتب ودموعها بللت وجهي . في تلك اللحظة اكتشفت أن لي أسماء عدة :
يا أزعر ، يا أسمر يا حلو وغير ذلك .. الأغرب أن والدي - وقد عرفته من صوته -
اطلق علي الاسم الذي أحمله الآن، وكنت مسرورا لأنه كما بدا لم يوافق على التسمية
التي أطلقها معظم الناس عليّ : " صبي " !

- لا يا عزيزي إن الحلم لم ينتهي بعد ولكن دعني استجمع عواطفي فكلما ذكرت أمي
ينفرط عقد الماء إلى فمي وأعطش اليها .

محمد الصالح الجزائري 16 / 04 / 2016 12 : 02 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
[align=justify]هل تحتاج إلى عصاي (مازالت شغّالة) ــ ابتسامة ــ ؟؟؟ شيّق هو سردك..أتابع باهتمام ولي عودة إن شاء الله...شكرا لك أخي رأفت على هذه العودة إلى الكتابة التي أحبّها..[/align]

رأفت العزي 17 / 04 / 2016 07 : 01 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد الصالح الجزائري (المشاركة 214066)
[align=justify]هل تحتاج إلى عصاي (مازالت شغّالة) ــ ابتسامة ــ ؟؟؟ شيّق هو سردك..أتابع باهتمام ولي عودة إن شاء الله...شكرا لك أخي رأفت على هذه العودة إلى الكتابة التي أحبّها..[/align]


من أسعد أيامي عندما كنت اكتب مخيلا العصا " الحنونة " تدور فوق رأسي في سماء الغرفة ههههه
ما زلت بحاجة إلى عصاك السحرية فهي تجعلني اكتب للصبحية

الشكر لك أستاذي الحبيب وتقبل مني لك الدعاء بطول العمر ووافر الصحة والسعادة

رأفت العزي 19 / 04 / 2016 11 : 12 AM

رد: (( أنا والليل ))
 

قالت : ما بك لماذا ما زلت تبكي ؟!
صحتك ممتازة وكل شيء فيك كامل، وقبضت على حلمات ثديي كأنك بلغت من العمر أشهر ستة ؟!
بطنك ليس منتفخا ولم تعركك يد وهي تحملك بغير استقامة ؛ أمن قلة النوم ؟ إذن نام .

- وتسألين يا أمي وقد قطعوا الحبل السري الذي كان يربطنا فكيف أعيش بعيدا عنك
بعدما أصبحت عنك مخلوع .. كيف سأواجه خوفي من المجهول يا أمي فهو يرعبني
ثم إني ما ما زلت أيضا متأثرا بصراخك لماذا كنت ... هل أنا السبب في ذلك ؟


- ربما . لكنها كانت أوقات صعبة يا ولدي !
قد تمر علينا نحن النساء بضع دقائق أو بضع ساعات قليلة هي قيمة الزمن
الذي نكون فيه في مخاض الولادة ،زمن قد يراه منتظرون الحدث السعيد ثقيلا
ويشعرون بمضي الزمن ببطيء شديد ولكن النسوة تحسبه عمرا بطوله ، قد تكون دقائق
ولكننا نكون فيها ما بين الحياة والموت .. ما بين اليأس والأمل ، دقائق، تختلط فيها المشاعر .
أتعرف أني كرهتك فيها للحظات . تمنيتك ان لم تكون !
وفي معظم الوقت كنت أتمنى أن تكون حياتي ثمنا لخروجك سالما معافى لو حدث عُسر في ولادتك !
والآن اطمأنت عليك وقد أصبحت رجلا انتبه لنفسك . "
قالت كلمتها الأخير وماتت ؛ صارت الدنيا من حولي كلها سواد وسمعت من يقول إن ولادتي كان فأل شؤم على من ولدتني
فأفقت من نومي مرعوبا من هذا الحلم الغريب وكانت الدموع تملأ عيوني وحدث ما حدث.
وحينما خرجت من غرفتي ملتحفا بالغطاء ذهبت لأرى ما كان يجري في الخارج فشعرت أن قيامة المدينة قد قامت !



Arouba Shankan 19 / 04 / 2016 06 : 01 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
حل ليلنا، سأقرأ ولي عودة
تحيتي

رأفت العزي 21 / 04 / 2016 22 : 12 AM

رد: (( أنا والليل ))
 

من حلم مزعج لكابوس مرعب !



أطلّ من احدى الأبواب الزجاجية على الشرفة وبدت المدينة كلها غارقة في الظلام
ولا حتى ضوء شمعة واحدة لا في الشوارع ولا البيوت ولا حتى الميناء البحري الذي لا يبعد
عن بيته سوى عشرات الأمتار .. كل شيء بدا عتما باستثناء ضوء المنارة القديمة ولمعان البرق المخيف
وفي مثل هذا الجو العاصف اعتادت السفن الراسية في ذلك الميناء الصغير الهرب إلى عرض
البحر خوفا من الغرق ، وأما مراكب الصيادين الصغيرة فالموت كان مصيرها بعدما آلت إلى
حطام متناثر سينبئ بأخبارها طلوع النهار وسوف تتصدر أخبارها شاشات التلفزة
وصورها صحف اليوم التالي !

استدار ليبحث عن علبة سجائره التي يلقيها بعيدا عن متناول يده، وتُلحُ عليه نفسه
بإشعال واحدة وتدفعه إليها دفعا كأنه سجين محروم ، كان قد نوى قبل أيام الإقلاع عن
التدخين وصار لأجل ذلك يرمي علبتها في أماكن مختلفة ؛ إذ كان عليه أولا الإقلاع عن
عادة تناول السيجارة ، فهي برأيه أخطر من التدخين نفسه ! ولكن ، ها هو الآن يقبلها
بشغف بعدما تحققت غايته ووجد ضالته .

خرج إلى الشرفة وبصعوبة أقفل الباب خلفه معاندا قوة الريح واتجه نحو إحدى زواياها
التي اعتادت على انفاسه. من تلك الشرفة اعتاد على رؤية الجهات الأربع تمتد على مدى النظر؛
فمنزله هو الأعلى من جميع المنازل في البلدة القديمة ، ويتمتع بسكن يُحسد عليه لكنه كان
وعائلته يدفعون ثمن ذلك 131 درجة يصعدونها يوميا أكثر من مرتين !

فإلى الشرق كان يمتد النظر من جنوبه إلى شماله سلسلة الجبال الشاهقة التي تبدأ من الجنوب الشرقي
بجبل عامل حتى جبال الباروك شمالا .. وإن أجمل ما في هذا المدى شروق الشمس من أفق الجبال
البعيدة وتسلل القمر في الليالي الساكنة تزداد روعته عندما يكون بدرا ينير الدنيا ويتوارى خلف الغيوم
البيضاء المُهابة حينما يخشى الحسد .
وفي الغرب يرى البحر على اتساع الشعاع والأفق البعيد ، السفن العابرة والراسية وأشرعة
مراكب الفقراء الذين يبحرون ليلا ويأتون بصيدهم مع نسائم الصباح يعرضون أسماكهم في مزاد
علني يتحكم فيه بعض السماسرة ؛فميناء المدينة في متناول يده، وصرخة " الدّللاّل " كانت
تُسمع باكرا فينزل بسرعة قدميه من أجل مشاهدة الأسماك الطازجة المختلفة وإن تيسر له يشتري
من تلك التي لا يقترب إليها الأغنياء ففي معظم دول العالم السمك للفقراء إلا في هذا البلد العجيب !

اما لجهة الشمال فكان يرى رأس بيروت الناتئ في وضح النهار بأبراجها الأنيقة فهي لا تبعد
عن مدينته أكثر من 45 كلم يربطها طريق ساحلي جميل لا تملّ وعينيك لا تفارق النظر منها
إلى زرقة الماء ؛ وإلى الجنوب، كان يرى رأس بلدة " عدلون أوسع رقعة جغرافية في كل الساحل اللبناني
مغطاة ببساتين الحمضيات التي كانت تغزو أسواق أوروبا قبل أن يغزوها مال النفط ويجعلها خراب
ويتوجه الأوروبيون إلى استيراد حمضيات فلسطين المحتلة أي الحمضيات الإسرائيلية !

خرج في هذا الجو العاصف إلى تلك الشرفة وكان من المفترض أن تحميه ستارتها القديمة قليلا ،
لكنها في تلك اللحظة بدت شللا متطايرة بفعل العواصف وسرعة رياحها فلاذْ في تلك الزاوية ما
استطاع حاجبا رذاذ المطر عن سيجارته واضعا يده تحت الغطاء حتى لا تبددها الريح قبل رئتاه ؛
فهذا الشتاء لم ير مثله في حياته كلها ، ولم يحدث ذلك المطر منذ ثمانية عقود " كما قال علماء
الأرصاد وتلك الليلة ؛ كانت قمة ذلك الفصل ، فالعاصفة الهوجاء متواصلة ، و الأمطار لم تتوقف
منذ خمسة أيام كان يتخللها تساقط حبّات البرّد بشكل مخيف ويوم البارحة من تلك الليلة ، كان
سكان المدينة يبحثون عن اسم جديد " لحبات البرد " المتساقطة !
لم يروا - حتى المسنين منهم - مثلا لها من قبل على الاطلاق ، فحبات البرد كما تعرفها الناس
كروية الشكل أما ما شاهدوه فكان شيئا مذهلا ؛ لا أحد يصدق أنها نزلت من السماء!!
بدت وكأن حجرا ضخما قد سقط على وجه بحيرة سطحها من الجليد السميك فحطمه وجعله
قطعا متكسرة بأشكال مختلفة مثيرة ،تخيل الناس أن وجه البحيرة انقلب وصار فوق المدينة
ثم القت بسطحها تلك القطع على دفعات كأنها ترمي الواح الزجاج الشفاف السميك ما أن
تصل إلى الأرض حتى تتهشم وتتناثر وتبدو بحجم كف اليد أو لوح الصبار ؛ فالمدينة
قد نُكبت بسيارتها وبعض واجهات محلاتها ، وتكسرت الأشجار في بساتينها واقتلعت
أعمدة الكهرباء من اماكنها وأعادنا ذلك المشهد إلى حطام الحروب المختلفة التي حدثت
في حروب الأخوة وعدوان العدو الإسرائيلي .. لقد كانت كارثة حقيقية !


سيدتي عروبة أهلا بك في أي وقت وشكرا لك

شفيقة لوصيف 23 / 04 / 2016 21 : 11 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
الأستاذ الفاضل : رأفت العزي

جميل جدا ما قرأته لك هنا.
كنت راويا بإمتياز .
سرد ووصف وحوار
إذ نجحت فصولك في استمالة خيالي إلى حيث الليل
الغاضب و الرعد المزمجر والبرق الساطع ..
في انتظار المزيد لك مني سيدي
أسمى معاني الاحترام والتقدير .

رأفت العزي 24 / 04 / 2016 23 : 11 PM

رد: (( أنا والليل ))
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شفيقة لوصيف (المشاركة 214245)
الأستاذ الفاضل : رأفت العزي

جميل جدا ما قرأته لك هنا.
كنت راويا بإمتياز .
سرد ووصف وحوار
إذ نجحت فصولك في استمالة خيالي إلى حيث الليل
الغاضب و الرعد المزمجر والبرق الساطع ..
في انتظار المزيد لك مني سيدي
أسمى معاني الاحترام والتقدير .



سيدتي الفاضلة الشكر لك والفضل لك !
صدقيني إن قراءتك هي الناجحة وميولك الأدبية هي التي تُجسد رقي خيالك فهنيئا لنا بك قارئة قارئة .
تحيتي احترامي وتقدير وشكرا

رأفت العزي 24 / 04 / 2016 25 : 11 PM

رد: (( أنا والليل ))
 
كانت الغيوم مستمرة بالتصادم في صراع مكونات الطبيعة في الاحتكاك والتجاذب ، وبرقها المتوالي
وأصوات الرعود كانت تختلط مع أصوات أمواج البحر الجبّارة المتلاطمة في صراعها الذاتي
الذي لا ينتهي ، كلما اصطدمت موجة " بالسنسول " البحري وتكسرت تتراجع بارتداد
هائل لتعود إلى الوراء فتتلاطم مع موجة جديدة قادمة تأخذ زخمها وتضربها من الأسفل
فتعلو لسبعة عشرة أمتار ثم تهبط مزلزلة ذلك السنسول الذي قام ببنائه قوم جُهّال فوق
اثار تاريخية تعود إلى أزمنة فينيقيا وروما ، هي عبارة عن أعمدة من الجرانيت والصخور
البركانية المتداخلة مع صخور رملية قوية التماسك ؛كان المشرفون على البناء قد اخفوها
تماما أو أخفوا سرقتهم لها لا ندري !.. فالأمواج على ما بدا قد أتت لتنتقم بعد أقل من عشر سنوات
من بناءه فاقتلعت الإسمنت المُسلح وقذفت بكُتَلِه بعيدا وسط الطريق البحري في فوضى عجيبة
فتحت أعين الناس على فساد المجلس البلدي للمدينة !

في هذا الجو الدرامي شعر بالخوف عندما أخذت الرياح تُقتلع أيضا بعض ألواح الصفيح من بعض
الأسطح وتتطاير في الفضاء كما الأوراق مندفعة في كل اتجاه وتتساقط بعنف محدثة ضجيج على ضجيج ،
فالكثير من البيوت العلوية في هذه المدينة البسيطة تصنع على أسطحها خِيَماً أسقفها من ألواح الصفيح
وتقوم بطلائه لتبدو كألواح القرميد ، وها هو الآن يتطاير ويحمل معه حتى أعمدتها الخشبية وجسورها العرضية !

ربما ما كان يجري ، قد أراح صاحبنا قليلا من ثقل حلمه الضاغط حتى جاء صوت مؤذن الصبح
بصوته الخاف المتقطع بالرغم من قرب مأذنة الجامع إلى بيته الذي يرتفع فوق مستواها ببضع
امتار قليلة ، فالمخالفات العمرانية نشُطت في زمن الحرب وأضيفت طبقتين أو ثلاثة فوق المباني
القديمة فصارت مآذن المساجد أدنى من مستوى العمائر !
آثر الدخول إلى غرفته وهو يلملم أذيال غطاءه الفضفاض والذي ابتلت اطرافه ؛ ومن خلف زجاج
إحدى النوافذ واصل مشاهدة تلك المعزوفة الصاخبة والتأمل في هياج الطبيعة .

قال : " عادة ما يشعر بسعادة غامرة عندما تمطر ،ويفعل أحيانا كما الأطفال فيسلّم وجهه
لوجه الريح يداعبه برشقات من رذاذ الماء حتى يغطي كل وجهه ؛ كان ذلك يُشعره بسعادة غامرة
لكنه في تلك اللحظة تذكر تاريخ المرة الأولى التي أحس فيها برذاذ المطر يلسع وجهه ،
وكيف اجبره ذلك على إقفال عينيه ، كان يريد مسحهما ولا يستطيع، فيديه كانتا مجزورتين إلى
جنبيه بقوة . تذكر كيف كان يمد لسنه ويلعق تلك القطرات التي تتجمع حول شفتيه ليبلل ريقه
بعد الذي حدث ليلتها !
منذ ذاك اليوم وهو يُحب طعم مياه المطر ؛ تذكر هذا جيدا ولا يمكن للزمن محوه من ذاكرته
برغم عشرات السنين على تلك الليلة فأدمعت عينيه بقوة ، فرذاذ الماء الذي كان يغطي وجهه
و يُشعره بالسعادة ، صار الليلة سببا جعلت عينية تسكبان على وجنتيه جداول صارت شلالا يجري
أسفل ذقنه ؛عاد به الزمن إلى تلك الليلة الشتوية ، كان الثلج يغطي أسطح مدينته - مسقط رأسه - في حدث نادر.

- وتسألني ؟ !!
فمن هو الذي لا يعرف مدينتي من العالمين أيها الصديق ؛ إنها حيفا.
فأنا أعجز عن وصفها لافتتاني بها ، ولكن سأروي لك قصة تلك الليلة "

اشعل سيجارته الرابعة ، أو الخامسة ، ودخانها كان يتلاعب في فضاء غرفة المطبخ فتبدو اشكاله
ساحرة كلما لمع البرق واخترق الضوء جدار الليل فكسر عتمته بضوء شمعة ، صنع لنفسه القهوة ،
جلس يلملم بعضه ثم تناول ورقة وقلم بعدما جلس إلى طاولة الطعام وسأل نفسه:
من أين أبدأ ؟!

Arouba Shankan 26 / 04 / 2016 43 : 05 PM

رد: (( أنا والليل ))
 
فعلاً سرد مُمتع مازلت أُتابع
تحيتي

رأفت العزي 28 / 04 / 2016 50 : 12 AM

رد: (( أنا والليل ))
 

ليلة العروج إلى المنافي


- لا ، ليس حلما يا صديقي، انها حقيقة ولن انسى تلك الليلة ما حييت .
فمن باستطاعته ان يمحو مأساة مستمرة ما يربو على الثمانين عاما ؟!
من باستطاعته نسيان أن بشرا اقتلعوا بشرا ثم يتنكرون ولا يعترفون أنهم قاموا باقتلاعي،
أهلي عشيرتي وكل شعبي من الجذور، ثم صدقهم العالم بأنهم كانوا هم الضحية هل تتصور ذلك ؟!

- اسمع أيها العزيز واعذرني إن قلت لك بأن الناس قد سأمت من هذه المعزوفة ،
البعض صار حينما يسمع اسم فلسطين يُقفل أذناه والبعض يستمع اليك بملل ، حدثنا عن شيء آخر إن استطعت .. !
ثم ، ولم الحزن يا أخي الطيب وعينيك تريان أن نفس الشعب الواحد يقوم بقتل النصف الثاني منه
و يُهجّر نصفه الآخر؛ وانت ترى أيضا أن عدد اللاجئين من بعض الدول العربية وغير العربية
أصبح أضعافا مضاعفة عن عدد الفلسطينيين الذين هجرهم الصهاينة !"

- وأنت أيضا اعذرني يا سيدي الكريم !
فالمسألة ليست بهذا التبسيط وتحتاج إلى عقل لا يسكن فيه الغباء !
إن هذا هو تسطيح للأمور ويراد به الباطل ؛ المسألة أعمق من مسألة أعداد ؛ إن الأرض
هنا يا سيدي قد سُلبت ، والهوية على وشك الضياع ! اللبناني تهجر ثم عاد إلى أرضه ،
والعراقي والسوري واليمني سيعودون إلى أرضهم وبيوتهم عندما يتوقف الصراع مهما
عظُم ومهما طال؛ أما أنا ! أنا في الانتظار منذ سبعين عاما، حقي قد أُكل سيدي ، أرضي ما
عادت أرضي سيدي ، بل إن العودة إلى مسقط رأسي صار حلما، وجثتي لن يُصرح لها لتدفن
في أرض الأجداد كما أتمنى .إن الذين يقمون بعمل مقارنات هنا أو هناك، إنما هم يُفرحون العدو
الذي عمل جاهدا وما زال حتى يُلغى " حقي في العودة " فسبع وستون عاما في حياة الانسان،
هي كل سنوات عمره تقريبا ، وما زلت اذكر تلك الليلة منذ ذلك التاريخ ولم أتوقف عن التفكير فيها كل يوم وكل ليلة!


- " إذن ، من الجيد استفزازك هنا ، فأنا لا أحتمل رتابة السرد بلا معان، تفضل حدثنا بما جرى في تلك الليلة ."


- رغم الخوف الذي كنت أشعر به يا صديقي ، ورغم الحيرة التي كنت اراها في عيون أمي
ورغم أصوات الرصاص والقنابل التي كانت تُسمع من بعيد، ألا أن النعاس غالبني ونمت .ولكن
لم أعرف ما الذي جرى في ساعات نومي ، لم أعرف أن خالتي أخت أمي وهي في نفس الوقت امرأة
عمي قد مات زوجها في خلال تلك الساعات . لم أعرف أن رصاصة قاتلة اخترقت جبهته وهو يقاتل
دفاعا عن مدينته ووطنه . لم أعرف أن خالتي حينما عرفت بالخبر أصرت على الخروج ومعها والدتي
وذهبتا معا تحت رمي الرصاص والقذائف لرؤية جثة " محمود " . لم أعرف ليلتها أن خالتي وأمي
كانتا تهرولان بعكس اتجاه معظم الناس ؛ هنّ يتجهن شرقا والناس تتجه غربا !
شاهدّن جثة محمود ملقاة على الأرض مع اثنان من رفاقه .. ولكن.. كانت الناس أقوى في دفعهن
نحو الغرب لئلا يصل اليهود إلى بيتنا ويقومون بقتل من فيه فاليهود يعرفون عناد جدي وتاريخه !
لم أعرف إلا أن أمي كانت تشهق برجاء لأصحو من نومي . لم أعرف ما الذي جرى إلا أن معصم يدي
كان في قبضة ملزمة، هي يد أمي. وفي يدها الثانية تحمل أختي الأصغر رغم حملها في سابع شهر .

كنا من بين المئات من الأطفال والنساء والعُجّز في حال من الذعر والفوضى . الجميع ودونما إخبار،
ودونما تخطيط ، يتجهون نحو ميناء المدينة ، فالطريق إليها كما هو " مُدبّر " كانت سالكة .
ويبدو أن المراكب كانت أيضا بالانتظار !
اصوات صراخ تلاحقنا عبر مكبرات الصوت بالعبرية والعربية وتختلط بأزيز الرصاص وأصوات الانفجارات :
" ستموتون جميعا إن لم يستسلم المخربون ...!!"
كلمات رددها جنود العدو عبر مكبرات الصوت وهم يقتحمون الأحياء الغربية القديمة لحيفا فأين المفر ..؟!
اطبقوا على المدينة من كل جانب ما عدا البحر والسماسرة ! بعض الناس قامت بالرحيل
قبل يوم عبر الطرق البرية ، لكن اليهود احتلوا كل المنافذ ما عدا البحر !
في تلك الليلة من نيسان كنت قد تجاوزت من العمر عشرة أيام بعد أربع من السنوات من العام 1948
فكيف أنسى تلك الليلة .. كنا والأطفال في مثل عمري نصرخ ونصرخ ليس خوفا من اصوات الرصاص
او القذائف .. ولا خوفا من تلك الآتية عبر المكبرات ولا من عتمة الأزقة والطرقات .. انما كان خوفنا
ما عكسته علينا تصرفات الأهل وخوف الكبار من الرجال والنساء على الأطفال الذين لا يحسبون
مخاطر الحروب ولا يهمهم إن وقفوا امام مجنزرة او دبابة
ولكنهم يموتون رعبا عندما يشاهدون الكبار من اهلهم في حالة رعب فيخافوا !"

- اعذرني ايها العزيز إن استوقفتك قليلا .. لماذا كان الهروب - عذرا – بهذا الشكل الجماعي والفجائي ؟! "

- كان يجب عليك أن تسأل ، الحق معك في السؤال ، باختصار أقول لك وبلا فلسفة إن مجزرة " دير ياسين"
وقعت قبل ايام معدودة من تلك الليلة. وان صدى صوت تلك المذبحة التي انتقلت اخبارها بين الناس
كالنار في الهشيم قد فعلت فعلها ، و اليهود قد هددوا بتكرار "المجزرة " التي كانت اخبارها قد بثت
الرعب بين ابناء المدينة وجعلتهم في سباق مع الزمن ليهربوا منها ، والأدهى يا عزيزي، إنا وعن غير
قصد قد ساهمنا بتضخيم الجريمة في بعض وسائل الإعلام وصورت الأجنة على رؤوس الحراب فخاف
أهل حيفا المطوقين أصلا، والمجردين من السلاح أصلا ، إلا قلّة من الأبطال الذين حازوا على بنادق
وبعض الطلقات قاوموا واستشهد معظمهم .

في تلك الليلة كانت جميع الأزقة مكتظة تعبرها قوافل الهاربين باتجاه خط ، خط الذهاب ..
أما الإياب فهو مقفل منذ ذلك التاريخ وما زال!
يروي القصة كثيرون ، لكنهم لم يشاهدوها ، لم يعيشوا تفاصيلها كما رأيتها ، لم يرويها لي راوي ..
لقد كانت ذاكرتي هي كتاب التسجيل ، وكان يضاف إليه في كل يوم صفحات جديدة نعيش مآسيها حية
يوما بعد يوم وتكبر معها حكاياتنا كل يوم ، لم اعرف فيها أي معنى للطفولة في أي يوم ،
حيث يصبح الطفل راويا للأحداث ويرويها قبل الرواة .
ما تبقى من تلك الليلة وضعتنا على ظهر مركب صغير ووجدت نفسي مستلقيا في حضن رجل عجوز غريب
ووجهي كان باتجاه السماء فشاهدت النجوم لأول مرة ترقص ،وحسبت ان الرجل يمرجحني ولم اكن اعلم
ان المركب كان يتمايل وهو يمخر عباب البحر ببطيء فوق الأمواج ، فشعرت بالسلام ، ولكن ..
لم أكن أدري لماذا كلما ابتعدنا عن حيفا يزداد أنين الناس ونواح خالتي في حضن أمي فقلت للرجل : هل انتهت الحرب ؟
قال :انتهت بالنسبة لي . لكنها بدأت حربك الآن يا ولدي نم . أغمضت عيوني ونمت في عتمة ذلك الليل البهيم .


https://www.youtube.com/watch?v=eLcif6OzXtk مدينة حيفا

رأفت العزي 28 / 04 / 2016 03 : 01 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة arouba shankan (المشاركة 214337)
فعلاً سرد مُمتع مازلت أُتابع
تحيتي


سيدتي الأديبة المتميزة عروبة .. أنا هنا سعيد وأعتز بشهادتك شكرا لك سيدتي الف شكر وتحية
وما قمت به أيضا هو شيء رائع وسأتابع فأنا يا سيدتي اقرأ ببطئ ليس غباء هههه بل للتمعن :)
شكرا لك والف تحية

رأفت العزي 30 / 04 / 2016 10 : 01 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
عتمة أفضل من نور !

خطواتهم كانت بطيئة ، لكنهم كانوا يمشون بثبات
وبشيء من الصمت، و الليلة كانت، ليلة قمرية . اثار اقدامهم كانت تُشاهد بوضوح
كل قدم تترك أثارها فوق بساط الثلج الذي كان قد غطى المدينة كلها
في نهار ذلك اليوم، والليل قد دفع الذين يحبون السهر فيه خارج منازلهم
رغم كل شيء ( قال ) أكثر ما لفتني هو اثار اقدام الرجل الذي كان يحمل فوق
وزنه وزنا اضافيا بحجم طفل صغير. كانت أقدامه تأخذ مساحة أكبر من باقي
الأقدام وتغوص بعمق أكبر في الثلج ؛ وحذائه، كان يختلف عن باقي الأحذية
المعتادة وكان يبدو كأحذية " العسكر" كبير وثقيل ! مع ذلك، اخترت النظر
إليها دون غيرها من الأقدام ، ثم استهواني عدها ؛ كلما أخطأت ونسيت رقما
أعود إلى البدء من جديد، حينها كان يهمس في أذني بل ويأمرني بالعدّ ثانية
ورغم ذلك، لم أفلح في العد لأكثر من خمسة أرقام صحيحة .. ولما كان يطلب
مني العدّ ثانية، كنت أخبره بأن أقدامه صارت بعيدة !

كنت فرحا أن شخصا حملني بعدما " مثلت " دور النائم قبل دقائق قليلة
.. وأنا الذي - كما كانت تقول والدتي - قد مشيت بعد تسعة أشهر من ولادتي .
كنت ألقي برأسي على كتفه، ثم أرفعه باستقامة فتتكئ ذقني عليها خطوة تبتعد،
وأخرى تقترب منها، صرت كالراكب على جمل اهتز على وقع خطاه الباردة ،
خدي يلامس رقبته الدافئة ، اقترب منها لتلامس احدى وجنتاي الباردتين رغم ذلك،
كان لا يأفف بالرغم من عدم استقراري او هدوئي للحظة.. كان يحضنني برفق
وحنان دون تذمر فبدا الأمر وكانه كان يستدفئ بي هو الآخر . عيوني بقيت على
وقع خطاه ، ومستمر بالخطأ في تكرار العد .
:
والدتي والسيدة" ام يسين " قريبتها، كانتا تحملن على اذرع كل واحدة منهن بنتا صغيرة .
وجرْيا على العادة ، كانتا تمشيان خلف ذلك الرجل على الطرف الأيمن من الطريق ،
وفجأة ، لم اعد ارى مزيدا الخطوات وللحظة بدت لي أوضح وأعمق فالأضواء الأتية
من بعد أمتار جعلتني استدير بوجهي بالاتجاه الآخر ، نحو ذلك الضوء ،
استوقفنا صوت آت من بعد أمتار ، كانت صيغته صيغة أمر بلهجة حادّة: قف.
كله قف. ارفع إياديك لفوق ، ولا حركة . خليك مكانك .
حدّق الجميع باتجاه الضوء بعد امتثالهم للأوامر ولم يروا سوى خيالات رجل كان
يلوح بيده ثم اقترب ؛ واحد اثنان ثلاثة من الجنود !
وبدأ التحقيق :
اين كنتم ؟ وإلى اين ذاهبون ؟
ماذا .. ولماذا؟
من حسن حظ نساء فلسطين ( وحسن تنظيم اليهود) أن نصف الدورية الصهيونية
التي كانت تجوب شوارع عكا كانت من النساء، وكانوا يراعون في مسألة تفتيش النساء ..
وكان الهدوء قد خيّم بعد مرور سنة على خروجنا من حيفا إلى عكا التي سقطت
بعدها بمدة قصير !

شعرت ببرد شديد حين انتزعوا مني أبا يسين، وصرت ارتجف وأسمع صرير
اسناني حاولت بعدها الاستدفاء بثوب امي ثم تواريت خلفه تماما .. فأكثر ما أزعجني
في تلك اللحظات ذلك الضوء الساطع الذي منعنا من رؤية من هناك وماذا كان يجري
وماذا حلّ بأبي يسين وكم كان عدد الجنود مع ان ذلك لم يكن مهما !

مضى الوقت ببطيء شديد قبل ان يُسمح لنا بالمضيّ فمشينا دون الرجل ..!
قالت دونما نواح ولا بكاء :
(( - بتفكري يا أسماء انهم راح يصُدقوا معنا ولاد ... ! قال بعد ساعة بيكون بالبيت ..؟!
- " يا مشحرة .. بتصدقي اليهود يا حزينة ..؟ ! "
- بس يختي ابن ابو خليل تركوه قبل ايام وصدقو ! "
- " الله عليك شو هبلة.. لو كان مش " متعاون " بيتركوه ..؟! امشي يا هبلة .. امشي .
- ييييه عليك شو ظناني .. يعني كل واحد بيطلع من سجن اليهود نشكك فيه !
طب هاي جوزك ! لو كان موجود شو راح تقولي ..؟"
- قلتلك خلينا بالبيت يا منيْلي ، ما سمعتِ كلامي .. كان ضروري نطلع الليلة
نمشي على الثلج روحي نامي الليلة لحالك وابردي! "

- لا والله .. الليلة بروح عند ام " لحنانو " وبلكي بيروح بيطلعوه بكره الصبح إذا مش الليلة !

- ولك بعدك بتأمني ..؟! مش لما كان شريك هو وجوزك بالمصبنة
وطلع من ورا ضهرو مخبي كوم سلاح ! ؟!

- ولك اللي عايز الكلب بيقولو يا سيدي .. بعدين ، والله قالتلي امه، انه كان
مضغوط عليه من الهجانا وبيحبه كثير لأبو يا سين ! .. ولك يا اسما ! إذا جوزك
ميت بلكي مندبرك ل لحنانو؟ شفتو حط عينه عليك "
- طب تأصير يهودية بالأول ؛ عزريين ياخذك امشي امشي " ))

ضحكت والدتي وأم يسين ضحكات ساخرة قبل الوصول إلى بيت الأخيرة واكملتا
الطريق المضاء بواسطة سيارات العدو، وكنا كلما ابتعدنا عن العسكر تخف أضواءهم
وصرت كلما توارى القمر أيضا خلف غيمة ، أشعر بالاطمئنان اكثر ثم اكثر
وبغياب نوره تماما أحببت العتمة ! منذ تلك الليلة صار الليل صديقي .

رأفت العزي 26 / 05 / 2016 21 : 04 PM

صرت شجاعا !!
 


- ابتعد أكثر .. ابتعد قليلا بعد..! ها أنا واقفة هنا ، لا تخف !
- لا أستطيع فعل هذا هنا ، أنا خائف تماما ، هناك شيء يمشي بين العشب ، أقسم أنني رأيته ..
لا ، لا، تعالي وقفي إلى جانبي !
- يجب أن تتعود ، صرت كبيرا بما فيه الكفاية لتفعل ذلك وحدك، ولتفعله ها هنا أتفهم ؟!
- لا ،أنا لا أفهم ..!فلماذا إذن لم تأتي اختي معي ولتفعل ذلك إلى جانبي، نفعله سويا فقد كبرت هي الأخرى !
- ولأنها كبرت، فهي تفعل ذلك هناك، وحدها .. فلو رآك أحد ما ، لا يهم كثيرا كما لو انه رأى أختك
فمن العيب أن يراها أحد في مثل هذا الوضع !!
- سأحاول ، ولكنني لا أستطيع ، أو وو.. ربما لست بحاجة لئن أفعل أي شيء ، كان عندي إحساس بأنني أريد!
فتبين بأن بطني منفوخة فقط ، خلاص ، انتهيت .. لم افعل شيئا !!
قال : لا تضحك عليّ إن قلت لك من أين أتت ،وكيف بدأت أشعر بشجاعتي أو لأقل بدأت الانتصار على خوفي !

كان الظلام دامسا في تلك الليلة ، و" الباص " الذي كان يقلنا قد توقف ليريحنا ويستريح في مكان لا يبعد عن الحدود
اللبنانية سوى مئات الأمتار . الباص كان مكتظا بالبشر معظمهم من الأطفال والنساء ، حتى السائق كان شخصا هرم .
ما أن توقف حتى حاولوا الفرار كما تفر الطيور من أقفاصها ،لم يبتعدوا عن قفصهم الكبير ذو اللون الأصفر سوى
امتار قليلة لأن وجهتهم مجهولة ، والمكان أيضا بالنسبة لهم مجهول . ما أن ترجلوا حتى افترشوا الأرض وشكلوا
بأجسادهم دائرة ضيقة ، كضيق صدورهم ووجوههم التي بدت منهكة وخائفة.

التعب قد جعلهم لا يأبهون لرطوبة الأعشاب التي تغلغل فيها الندى ولا لبلل الأرض الذي جعلها موحلة ولا لتلك البراري الموحشة .
صاروا يتحدثون همسا. بعضهم كان يصدّق كلام السائق وبعضهم الآخر صار يشكك بمعرفته في الطريق .. !
- " ولكن لماذا الخوف " قال أحدهم . ثم أضاف " طالما أن سيارة اليهود العسكرية تراقبنا من بعيد ولا تتدخل ،
فنحن على الطريق الصحيح ، هم حريصون على التأكد من سلامتنا بالنزوح إلى لبنان وترك فلسطين ..
فاطمأنوا نحن في مسار سليم " !!
الأولاد كانوا في غاية الهدوء، أكبرهم سبع سنوات ، بعضهم قد نام في أحضان أهله ، بعضهم أراد أن يأكل ،
وأنا ( حدثني صاحبي بهزؤ ) أردت قضاء حاجتي فسألتني : نمرة واحد أو أثنان ؟! ثم أخذتني أمي وابتعدت
قليلا بعدما علمت بأن النمرة ليست واحد كما كانت قد علمني قول ذلك ! أجلستني في مكان ثم ابتعدت خطوتين
ما لبثتُ حتى اقتربت منها بسرعة .. فقالت ابتعد قليلا .. وكان ما كان !
كانت تلك هي المرة الأولى التي اعرف أن يمكنك قضاء حاجتك في البرية ، لم أعرف ذلك أو أسمع عنه من قبل ،
فحيفا كانت مؤهلة – تقول الدراسات – بأعظم شبكة للصرف الصحي في الشرق الأدنى كله، وكانت النظافة
فيها شيئا مميزا، أما من تلك الليلة وصاعد، عليّ التعود على نمط جديد ، مع مرور الأيام أعتدت عليه ..
وما عدت ألح في أن يكون معي رفيق ولا مرافق ، وما عدت أتخيل أشياء تمشي في العشب ، وأشياء
كنت اتوهمها ستبلعني، وأشياء ستدخل بي وتأكلني من الداخل . صرت شجاعا! لم أعد أخاف عتمة
الليل مهما اشتد سواده، ومهما سمعت من أصوات كانوا يقولون لي انها أصوات ضباع وأصوات خنازير .

لم نلبث إلا قليلا حتى صار السائق الهرم يلملمنا ويتحدث بهمس : " يلا .. بسرعة، العساكر صاروا
يقذفون بقنابل مضيئة حتى يرونا " ما أن صعدنا الباص ومشى عدة أمتار حتى صرخت بأمي :
" اوقفي الباص .. أوقفي الباص " ثم اندفعت صوب الباب الخلفي وحاولت النزول..
فأمسكت امرأة بكتفي كانت قريبة مني وصرخت " الحقي ابنك سوف يفلت من يدي "
توقف السائق وصرخ بدوره : " من وقع ، من وقع ؟!" الجميع ردوا : لا أحد لا أحد ،
الولد يحاول النزول من الباص لأنه يقول فقد شيئا غاليا!"
همست بوجه صديقي الراوي وقلت بماذا شردت .. لماذا توقفت عن الكلام . لم يجبني ولكنني
رأيت الدموع في عينية حينما نظر إلي وقال : " عندما وقف الباص قفزت نحو لا مكان ،
وحينما اصعدوني إليه شعرت بأقدامي تلتصق بالأرض .. تلك اللحظة يا عزيزي، كانت اخر
مرة تطأ فيها قدماي الصغيرتان أرض فلسطين .. كانت تلك آخر مرة التصق فيها تراب
ابائي واجداي بجزء من جسدي . توقف عن الكتابة أرجوك .


ميساء البشيتي 28 / 05 / 2016 31 : 06 PM

رد: (( أنا والليل ))
 
كعادتي لم أنتبه إلى هذا الإبداع من قبل فأرجو المعذرة
السؤال الذي ينتابني كلما أقرأ لك أين كنت أنت ؟
قاص وأديب وشاعر وسياسي وساخر من الدرجة الأولى
أين كنت طِوال هذه السنين
ومع ذلك أنا أريد العنب والعنب هنا طازجاً وشهياً ويسر الناظرين
تابع أستاذي رأفت فأنا أنتظر بشوق شديد فالقراءة لك متعة لا تضاهيها متعة
تابع وأنا على شرفات الانتظار

رأفت العزي 30 / 05 / 2016 40 : 01 AM

رد: (( أنا والليل ))
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ميساء البشيتي (المشاركة 215017)
كعادتي لم أنتبه إلى هذا الإبداع من قبل فأرجو المعذرة
السؤال الذي ينتابني كلما أقرأ لك أين كنت أنت ؟
قاص وأديب وشاعر وسياسي وساخر من الدرجة الأولى
أين كنت طِوال هذه السنين
ومع ذلك أنا أريد العنب والعنب هنا طازجاً وشهياً ويسر الناظرين
تابع أستاذي رأفت فأنا أنتظر بشوق شديد فالقراءة لك متعة لا تضاهيها متعة
تابع وأنا على شرفات الانتظار


هل أقول أني لا أتوقع أن يشرفني توقيعك دائما ؟! أكون من الكاذبين !
فأنت سيدتي كالنجم الساطع رغم كثافة الغيوم ،
ثم أني نلت بعد الصبر رضاك على ما أكتب بل أجزلت العطاء بكرم حاتمي
فوق ما لا استطيع احتماله .. سُعدت جدا واكثر مما تتوقعي لأن شهادتك عندي
لها قيمة مضاعفة قارئة من الطراز الأول واستاذة في فن رسم الحرف كأيقونات
تحتاج حراسة وذواقة تُسكر الحرف حينما تنطقها شفاه عصفورة شجن جعل
ربي كل الفرح يسكن في قلبك ودارك .

شكرا لك سيدتي ميساء ألف شكر وتحية


الساعة الآن 48 : 05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية