![]() |
الألم: أنطون تشيخوف
تُعدُّ «الألم» القصة القصيرة للكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف: أنطون بافلوفيتش تشيخوف من روائع ما كتبه. وتشيخوف مات بالسل سنة (1904 م)، وهو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف؛ يعتبر من أعظم كتاب الأدب الواقعي، ومن كبار الأدباء الروس، ومن أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ؛ بل اعتُبرت الكثير من أعماله إبداعات فنية كلاسيكية؛ وكان لمسرحياته تأثير عظيم على دراما القرن العشرين، بالرغم من أنها لم تكن تحظى، خلال حياته، بنجاح خاص، فمن جديد تمَّ إخراجها على أرقى وأشهر خشبات المسارح في العالم، في مختلف اللغات؛ إذ وَجَد المخرجون فيها جوانب لم تُكتشف من قبل. وتشيخوف استمرَّ في مهنة الطب، ولم يترك الكتابة، وكان يقول: «إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي». وقال: «بعيداً عن شهرتي في الكتابة، تجدون حياة مملة، لا طعم لها ولا لون، حياتي حزينة في يومياتي، لكني عرفت كيف أجد السعادة في أمكنة محايدة، منها الكتابة». وقد كتب الكثيرون عنه أنه لم يكن مؤمناً، بينما أعماله ـ كلها بلا استثناء ـ تشهد على عكس ذلك: فالمعاني الرئيسة لمجمل إبداعاته تدور حول البحث عن الحقيقة، وعن معنى الحياة، وعن الله، وعن الكشف عن الخواء الروحي، وعن فضح الزيف والخسة، إلى جانب محبة الناس والعطف عليهم. فطبْعُه كان على الدوام هو الليِّن والرّقة لدرجة الإدهاش، على الضدّ من الأسلوب العنيف للتربية التي تلقاها في طفولته؛ فوالده كان مستبداً، يلجأ كثيراً إلى العقاب الجسدي، فيضرب أولاده لكسرة خبز أعطوها لكلب البيت؛ لذلك كان هو وإخوته لا يأكلون حتى الشبع إلاَّ عندما يكونون ضيوفاً عند الآخرين. كما كان والده في غاية التزمت بتطبيق حرفية قوانين الكنيسة دون روحها؛ فيقوم بإيقاظهم ليلاً للصلاة، أو يضربهم على أي خطأ يرتكب عند قراءة نص من الكتاب المقدس.. ومن رسالة له يقول: بالغ الأطفال في صلواتهم؛ ولم يكن في إيمان الوالد لا حب ولا رحمة ولا طيبة. كان الرب يبدو مرعباً ومخيفاً. فالاستبداد والكذب نهشا طفولتنا لدرجة أن تذكّر ذلك يبعث على الغثيان والقرف. أنا تلقيت في طفولتي تعاليم ديني، ومثله من التربية، مع غناء كنسي: كقراءة أعمال الرسل؛ والقيام بالصلاة الصباحية في الكنيسة بشكل منتظم؛ والمساعدة في الطقوس على المذبح؛ وقرع الجرس.. وماذا ؟! أنا حين أتذكر اليوم طفولتي فإنها تبدو لي مظلمة بما في الكفاية، وأنه ليس عندي من الدين شيء. ويجب القول، إنه حين كنا، أنا وإخوتي نرتل وسط الكنيسة trio صلاة "التوبة" أو" لحن آرخانكلسك"، فقد كان الجميع ينظرون إلينا بحنان وهم يغبطون والدي على حُسن تربيته لنا، بينما نحن كنا نحس وكأنه محكوم علينا بالأعمال الشاقة. إذن، فمن أين جاءت في أعماله تلك الطيبة، والعاطفة، والوداعة؛ الذي لا يزال نورُها يُدفئ جليد نفوسنا إلى الآن؛ إذ لا مكان للانقباض والكآبة في قصصه؟ وحتى سخريته كانت ناعمة لا تجرح أحداً؟! إنَّ السبب الرئيس في ذلك يعود إلى دقة هَدْي عادات الحياة في الكنيسة، وطباع الرهبان، التي أحبها في أعماقه، فصاغها بتؤدة وحرفية في أعماله، لأنه امتتح منها الكثير في طفولته، ورافق ذلك تلك المسحة القاتمة من العنف الأبوي التي عاشتها روحه الفتية. ** ** ** وقصة «الألم» تفيض إنسانية وواقعية، وتكاد بمراميها وحياكتها تلتقي مع رائعته (MISERY التعاسة) من حيث البناء الدرامي وأسلوب المحاكاة الذاتية، والعزف على وتر عمق مأساة الإنسان في اختلال علاقاته بمحيطه البشري. فكان تشيخوف بارعاً في تصوير وتشريح النفس الإنسانية، مع ملازمته الإبداع الفني في الكتابة على صعيد العالم. ** ** ** الألم عُرف «غريغوري بتروف» ويسمونه اختصاراً «غريشكا» لسنوات طويلة ببراعته الفائقة في حرفة النجارة، وبأنه الأكثر حمقاً وسذاجة في إقليم (غالتشينيسكوي). واليوم عندما أراد نقل زوجته المريضة إلى المستشفى، كان عليه أن يقود الزلاجة المربوطة بحصان بائس، لمسافة عشرين ميلاً في جو شتائي عاصف، عبر طريق شديد الوعورة. كانت الرياح القارصة تضرب وجه «غريشكا»، وسحب الثلج تلتف في دوامات حوله في كل اتجاه، حتى أن المرء لا يدري إن كان هذا الثلج يتساقط من السماء أم يتصاعد من الأرض؛ بينما كانت الرؤية البصرية معدومة تماماً لكثافة الضباب الثلجي، فلم يكن يرى شيئاً من الحقول والغابات وأعمدة التلغراف. وعندما كانت تضربه ريحٌ قويةٌ مفاجئة، كاد يصاب بالعمى التام، فلا يعود يبصر حتى لجام الحصان، ذلك البائس الذي كان يزحف ببطء وهو يجر قدميه في الثلج بوهن شديد. وكان «غريشكا» قلقاً، متوتراً، ومتعجلاً، لا يكاد يستقر في مقعده وهو يُلهب بسوطه ظهر الحصان، وطوال الوقت كان يغمغم متحدثاً إلى زوجته: – لا تبكي يا «ماتريونا». قليل من الصبر يا عزيزتي. سنصل إلى المستشفى عمَّا قريب، وعندها كل شيء سوف يكون على ما يرام.. سيعطيك «بافل إيفانيتش» بضع قطرات من دوائه الشافي، أو سأطلب منه أن يعمل لك الحجامة، أو ربما يتكرم ويرضى أن يدلك جسدك بالكحول. ودون شك هو سيبذل كل ما في وسعه. نعم، هو في البدء سيصرخ وينفعل؛ لكنه في النهاية سيبذل جهده. إنه رجل مهذب ولطيف. فليعطه الله الصحة. إنه حالما نصل إلى هناك ويرانا سيندفع من غرفته كالسهم، وسيبدأ بإطلاق السباب والشتائم. سوف يصرخ: «كيف؟ لماذا هكذا؟ لماذا لم تأتيا في الوقت المناسب؟ أنا لست كلباً كي أبقى عالقاً هنا في انتظار حضراتكم طوال اليوم. لماذا لم تأتيا إليَّ في الصباح؟ هيا اخرجوا، لا لن أستقبلكم. تعالوا غداً». فسأرد عليه قائلاً: «يا حضرة الطبيب المبجل «بافل إيفانيتش»، نعم يمكنك أن تسب وتلعن وتشتم»، ثم سأتمتم دون أن ينتبه: «ليأخذك الطاعون.. أيها الشيطان». وساط «غريشكا» ظهر الحصان، دون أن ينظر إلى امرأته العجوز الراقدة في العربة خلفه، وواصل حديثه مع نفسه: «يا حضرة الطبيب المبجل، أقسم بالله، ولن أقول إلاَّ الصدق، وها هو الصليب أرسمه على صدري أمامك بأنني انطلقت قبل طلوع الفجر، لكن كيف كان يمكنني أن أكون عندك في الوقت المناسب وقد أرسل الرب هذه العاصفة الثلجية؟ تلطف بي وانظر بنفسك.. إن أفضل الجياد لن تتمكن من السير في هكذا جو، وحصاني هذا الكائن البائس التعيس كما ترى بنفسك ليس حصاناً على الإطلاق». وعندها سيقطب «بافل إيفانيتش» حاجبيه ويصرخ: «نحن نعرفكم، أنتم دائماً بارعون في اختلاق الأعذار، وعلى الأخص أنت يا «غريشكا». فأنا أعرفك حق المعرفة، وأقسم بأنك توقفت عند نصف دزينة من الحانات قبل أن تأتي لعندي». فسأقول له: «أيها المحترم، هل أنا كافر أم مجرم حتى أتنقل بين الحانات بينما زوجتي المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ لعنة الله على الحانات وأصحابها وليأخذهم الطاعون جميعاً». وعندها سيأمر «بافل إيفانيتش» بنقلك إلى داخل المستشفى، فاركع عند قدميه، وأنا أقول له: «بافل إيفانيتش، أيها المحترم، نشكرك من صميم قلوبنا، وأرجو أن تسامحنا على حماقاتنا وسلوكنا الأرعن، وألاَّ تكون قاسياً معنا نحن الكَسَبَة. نعم نحن نستحق منك لا الشتيمة فحسب بل حتى الرفس، وقد كنا سبباً في خروجك وتلويث قدميك في الثلج». فينظر «بافل إيفانيتش» نحوي كأنه يريد أن يضربني، وسيقول: «ألا يجدر بك أيها الأحمق أن تشفق على هذه المسكينة وترعاها بدلاً من أن تسكر وتأتي لتركع عند قدمي؟ والله أنت تستحق الجلد». فسأقول له: «نعم، نعم.. أنت على حق في ذلك. أنا أستحق الجلد يا «بافل إيفانيتش»، فلتصب السماء لعناتها على رأسي ! لكن ما الضير لو ركعت عند قدميك، فأنت أبونا وولي نعمتنا، ويحق لك يا سيدي أن تبصق في وجهي لو بدر مني ما يضايقك، وأقسم بالله على ذلك. أنا سأفعل كل ما تريده وتأمرني به.. إذا استرجعت زوجتي العزيزة «ماتريونا» صحتها. وإذا أحببت صنعتُ لك علبة سجاير فاخرة من أفضل أنواع الخشب، أو كرتان للعبة الكروكيت، أو أروع قناني خشبية للعبة البولنج.. ولن آخذ منك قرشاً واحداً. ففي موسكو تكلف علبة السجاير أربع روبلات، لكنني سأصنعها لك دون مقابل». وعندها سيضحك «بافل إيفانيتش» ملء فمه ويقول لي: «حسناً، حسناً.. يبدو أنك سكران حتى الثمالة». «وكما ترين يا عزيزتي فأنا أعرف كيف أتعامل مع أبناء الطبقة العليا. ليس هنالك سيداً يستعصي عليَّ. فقط أدعو من الله ألاَّ أفقد الطريق. انظري كم هي تعصف بشدة. أنا لا أكاد أستطيع فتح عيني من شدة اندفاع الثلج». ولم يتوقف عن حديثه المتواصل مع نفسه، في محاولة منه على ما يبدو للتخفيف من ضغط المشاعر الحادة عليه. كانت الكلمات كثيرة على لسانه، وكذلك الأفكار والأسئلة في رأسه. وقد جاءه الحزن مفاجئاً، دون توقع أو انتظار، وعليه الآن أن يتخلص منه. لقد عاش حياته في سكينة وسلام دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى، وفجأة، دون سابق إنذار، جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبه، فوجد نفسه ـ وهو السكير المتسكع ـ أنه في موقع المسؤول، مثقلاً بالهموم، ويصارع الطبيعة. وأخذ يتذكر كيف ابتدأت مشكلته ليلة أمس، عندما عاد إلى البيت سكران بعض الشيء، فانطلق يشتم زوجته ويهددها بقبضتيه، لكنها نظرت إليه هذه المرة كما لم تنظر إليه من قبل. فعادة تشف نظرات عينيها عن الذل والاستكانة الشبيهة بنظرات كلب أشبع ضرباً. لكنها في هذه المرة نظرت إليه بتجهم وثبات، كما ينظر القديسون في الصور المقدسة أو كما ينظر الموتى. ومن نظرة الشر الغريبة تلك بدأت المشكلة. وفي حالة من الذهول والاستغراب استعار حصاناً من أحد الجيران كي ينقل زوجته العجوز إلى المستشفى لعله باستخدام المساحيق والمراهم، يستطيع الطبيب «بافل إيفانيتش» أن يعيد التعبير الطبيعي لنظرة عينيها. واستمر في حديثه مع نفسه: «حسناً، اسمعيني يا «ماتريونا»، لو سألك «بافل إيفانيتش» فيما إذا كنت قد ضربتك، فيجب أن تنفي ذلك، وأقسم لك إنني لن أضربك بعد اليوم، أقسم على ذلك. وهل ضربتك يوما لأني أكرهك؟ لا، إطلاقاً. إنما كنت دوماً أضربك وأنا فاقد لوعيي. وأنا الآن حقاً أشعر بالأسف من أجلك. ولا أظن أن الآخرين سيبالون مثلي، فها أنت ترين، إنني أفعل المستحيل في هذا الجو الثلجي العاصف كي أصل بك إلى المستشفى. فلتتحقق مشيئتك أيها الرب، وإن شاء الله لن نخرج عن الطريق. هل يؤلمك جنبك عزيزتي؟ ألهذا أنت لا تتكلمين؟ إني أسألك، هل يؤلمك جنبك»؟ وبنظرة خاطفة إلى العجوز لاحظ أن الثلج المتجمع على وجهها لا يذوب. والغريب أن الوجه نفسه بدا شاحباً، شديد الشحوب، شمعياً، جهماً، ورصيناً غاية الرصانة. فصرخ قائلاً: «أنت حمقاء، حمقاء..، أقول لك ما في ضميري أمام الله، لكنك مع ذلك تصرين على.. حسناً، أنت حمقاء، وأنا قد أركب رأسي.. ولا آخذك إلى بافل إيفانيتش». وأرخى اللجام من بين يديه وبدأ يفكر. لم يكن في مقدوره أن يستدير تماماً لينظر إلى زوجته. كان خائفاً. وكان يخشى أيضاً أن يكرر أسئلته عليها دون أن يحصل على جواب. وأخيراً، ليحسم الأمر، ومن دون أن يلتفت إليها، رفع يده وتحسسها. كانت باردة تماماً، وعندما تركها سقطت كأنها قطعة خشب. فندت منه صرخة. «إذن هي ميتة، يا للمصيبة». لم يكن آسفاً بقدر انزعاجه. وفكر كيف أن الأشياء تمر سريعة في هذا العالم. لم تكن المشكلة قد ابتدأت وإذ بها تنتهي بكارثة. لم يسنح له الوقت كي يعيش معها ويكشف لها عن أسفه قبل موتها. عاش معها أربعين عاماً لكنها مرت في ضباب وعتمة مطبقة. لم يكن هنالك مجال للأحاسيس الجميلة وسط السكر والعربدة والشجار المتواصل والفقر المدقع. ولكي تغيظه أكثر فقد ماتت في اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالأسف عليها، وبأنه لا يستطيع العيش من دونها وأنه كان قاسياً معها وقد أساء لها كثيراً. فقال لنفسه متذكراً: «كنت أبعثها كي تدور في القرية تستجدي الخبز. كان يمكن أن يطول العمر بها لعشر سنوات أخرى. المصيبة أنها ماتت وهي تعتقد بأني ذلك الإنسان.. يا أمنا المقدسة. ولكن بحق الشيطان أين أنا ذاهب الآن؟ ما عاد بي حاجة إلى الطبيب، ما أحتاجه الآن قبراً كي أدفنها فيه». واستدار بالزلاجة وهو يلهب ظهر الحصان بسوطه، وقد ازداد الجو سوءاً حتى انعدمت الرؤية تماماً. ومن حين لآخر كانت تضرب وجهه ويديه أغصان الأشجار، وتتخاطف من أمام عينيه أجسام سوداء. «لو أعيش معها مرة أخرى». وتذكر بأن «ماتريونا» قبل أربعين عاماً كانت مليحة الوجه مرحة الروح، وهي من عائلة ميسورة الحال، وقد رضي أهلها أن يزوجوها له بعدما شاهدوا وعرفوا مدى براعته في مهنة النجارة. كانت كل الأسباب لحياة سعيدة متوفرة لهما، لكن المشكلة أنه في ليلة عرسه شرب حتى الثمالة، ومن يومها وهو سكران طول الوقت ولم يستيقظ أبداً. نعم، هو يتذكر جيداً يوم عرسه، لكنه لا يتذكر شيئاً مما حدث بعد ذلك طوال حياته، باستثناء أنه كان يسكر ويضطجع عند الموقد ويتشاجر مع زوجته. وهكذا ضاعت منه أربعون سنة. ولمَّا بدأت الغيوم الثلجية البيضاء تتحول تدريجياً إلى اللون الرمادي، مما ينبئ عن قرب الغسق، عاد يسائل نفسه: «إلى أين أنا ذاهب؟ مطلوب مني أن أفكر بدفن الجثة.. بينما أنا الآن في طريقي إلى المستشفى.. كأنني فقدت عقلي». فاستدار بزلاجته منعطفاً نحو طريق بيته. كان الحصان يُهمهم، وراح يتعثر في خببه، فعاد «غريشكا» يجلده من جديد، وهو يسمع صوت ارتطام خلفه، ومن دون أن يلتفت كان يعرف بأنه صادر عن رأس العجوز وهو يضرب بحافة المقعد. ثم ازداد الثلج عتمة، واشتدت برودة الريح. «لو أعيش معها مرة أخرى، سأشتري مخرطة جديدة، وأشتغل.. وأجلب لها الكثير من النقود». وأفلتت يداه العنان. فبحث عنه. حاول أن يلتقطه، فلم يستطع. فقال لنفسه: «لا يهم. يستطيع الحصان أن يتولى الأمر بنفسه، فهو يعرف الطريق. ويمكنني أثناء ذلك أن أنام قليلاً قبل أن أتهيأ للجنازة وصلاة الميت». وأغلق عينيه، وغاص في إغفاءة. وبعد فترة قصيرة شعر بأن الحصان قد توقف عن السير. ففتح عينيه المتعبتين فرأى أمامه شيئاً معتماً يشبه كوخاً أو كومة من القش. فأراد أن ينهض ليكتشف ذلك الشيء، لكنه أحس بأنه عاجز تماماً عن الحركة، ووجد نفسه دون ضجة أو مقاومة يستسلم ثانية لنوم هادئ عميق. وعندما استيقظ، وجد نفسه في غرفة فسيحة، مطلية الجدران، وضوء الشمس يتوهج عند الشبابيك. ورأى ناساً حوله، فكان شعوره الأول أن يُعطي انطباعاً لمن حوله بأنه سيد محترم، يعرف كيف يلتزم السلوك السليم الذي يفرضه مثل هذا الموقف. فقال مخاطباً الجمْع من حوله: – الصلاة على روح زوجتي أيها الأخوة. لابد من إعلام القس بذلك. فقاطعه أحدهم بصوت حازم: – حسناً، حسناً، لكن لا تتحرك. فصرخ مندهشاً وهو يرى الطبيب أمامه: – «بافل إيفانيتش» ؟! ولي نعمتنا المبجل. وأراد أن يقفز ليركع على ركبتيه أمام الطبيب، لكنه شعر بأن ساقيه وذراعيه لا تستجيبان له. فصاح برعب: – أين ساقيَّ ؟ وأين ذراعيَّ يا سيدي ؟ : – قل لهما وداعاً. كانتا متجمدتين تماماً فاضطررنا إلى بترهما. هيا.. هيا.. علام تبكي ؟ لقد عشت حياتك بالطول والعرض، فاشكر ربك على ذلك. أنت الآن في الستين على ما أعتقد، وأظن أن هذا يكفي بالنسبة لك. : – أنا حزين، حزين جداً.. وأرجو أن تسامحني يا سيدي. كم أتمنى لو أعيش خمس أو ست سنوات أخرى. : – لماذا؟ : – الحصان ليس لي، ويجب أن أعيده لأصحابه.. ويجب أن أدفن زوجتي.. أواه يا إلهي.. كيف تنتهي الأشياء بسرعة مذهلة في هذا العالم. سيدي.. «بافل إيفانيتش»، سأصنع لك علبة سجاير من أجود أنواع الخشب، وكذلك كرات للكروكيت. وغادر الطبيب الجناح وهو يلوح بيده. وكان كل شيء قد انتهى بالنسبة لـ «غريغوري بتروف». ** ** ** وإلى هنا تتوقف قصة الألم، التي كتبها تشيخوف ليتركنا نحن مثل النجار العجوز «غريغوري بتروف» الذي كان يناجي نفسه لكن بعد فوات الأوان.. فالكلمات لا تعد مجدية بعد فواتها.. لأنها تفقد مغزاها. ونحن لا نعرف قيمة بعضنا إلاَّ في النهايات. ولا جدوى من أشياء تأتي متأخّرة عن وقتها مثل قُبلة اعتذار على جبين ميّت.. نعم، لا نؤجل الأشياء الجميلة، لأنها قد لا تتكرر مرة أخرى. |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
أخي الدكتور الفاضل ألأستاذ منذر..ماذا أقول؟! أنت أخذتني إلى الزمن الجميل ...حين كنا نلتهم كل شيء من الأدب العالمي !! شكرا لك على هذه الدعوة الرائعة حقا..أذقتني من القصص زلالا فما أروعك !! شكرا شكرا لك وتقبّل تحيتي وتقديري وإعجابي بمقالاتك القيّمة الهادفة... |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
أخي الأديب محمد الصالح الجزائري شاعر بلد المليون شهيد: لكم تمنيت أن أجيد قرض الشعر للبوح عمَّا يعتمل في نفسي بأوجز عبارة، فما في مكنتي إلاَّ استعارة أبيات من إيليا بن أبي ماضي (ت: 1957م): يا من قربت من الفؤاد وأنت عن عيني بعيد شوقي إليك أشدّ من شوق السليم إلى الهجود أهوى لقاءك مثلما يهوى أخو الظمأ الورود وتصدّني عنك النوى وأصدّ عن هذا الصدود جمعت من الدرّ النضيد فكأنّ لفظك لؤلؤ وكأنّما القرطاس جيد |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
هو غاص في غفوته ، وأنا غصت في صحوته ، حيث الوصول الحتمي لكل نهاية ، غرقنا كثيرا في لهو الحياة ، وبعض اللحظات وقفات في ردهة الصحو والانتباه مع النفس المثقلة بسباتها وسهوها وغفلة ما تطمح ، وما تجمح جوارحنا العقور إليه ، . أنا سعيدة بالقصة وبمغزاها ، وبحضرتك حيث لمست بمعانيها شيء ما كانت نفسي تود دعمه في دهاليز أغوارها ، نعم سنرحل ، وسيرحل كل منا بحقيبة عدته ، إما أن يحسن إعدادها ويرتب لنفسه أجمل الهدايا ، وإما ما بقي سوى الرزايا ، أعاذنا وأعاذكم الله ..
شكرا لك أ/ منذر أبو شعر .. مع خالص التقدير والمودة . |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
الأستاذة الأديبة عزة عامر: أحياناً مرورُ من يقرأ لك، يُضفي على عملك (نكهة) و(لوناً) و(مشرباً) شديد الخصوصية والفرادة.. فتحار وأنت مستمتع بضوع المرور، هل تتابع النص أم تتابع عبق المرور ؟ وللحق، فأنك بذكاء وحرفية أتممتِ ما أردتُ قوله. فالشكر كل الشكر لك، ومستمر اللقاء إن شاء الله. |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
اقتباس:
|
رد: الألم: أنطون تشيخوف
يكتمل جمال الدرب وقتما نجد روحاً ثاقبة تفهم عليك دون كلام.
والشكر كل الشكر لك، والمسير لا يزال ممتعاً مع نور الأدب. |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
اقتباس:
|
رد: الألم: أنطون تشيخوف
الأستاذة الأديبة عزة عامر: طيّبٌ مرورك، يتضوع على الدوام نبلاً وثاقبَ ذكاء وحماس متابعة. فالشكر كل الشكر لك، ومستمرٌ المسير إن شاء الله. |
رد: الألم: أنطون تشيخوف
تعريفك بالمؤلف سيدي وطريقة تناولك الحديث عنه كانت مشوقة فعلا لقراءة ذلك الملخص الجميل رغم أساه لقصة "الألم"
|
رد: الألم: أنطون تشيخوف
نعم، لا نؤجل الأشياء الجميلة، لأنها قد لا تتكرر مرة أخرى.
|
رد: الألم: أنطون تشيخوف
نعم، لا نؤجل الأشياء الجميلة، لأنها قد لا تتكرر مرة أخرى.
مات المرْضي ولم أسأل عنه....مات المرضي ولم أسال عنه. عذرا لم أعرفكم بالمرضي. إنه ليس اسمه بل لقبه... القليل منا من عرف اسمه الحقيقي، الكل عرفه بالمرضي، سمي كذلك لأنه كان مرضيا. كان مرضي والدته، صبر معها كثيرا عند مرضها، ونال رضاها حتى ماتت...هل كان مرضي أمه فقط، طبعا لا، من يعرف المرضي يعرف أنه كان مرضي الجميع، لم يقل أبدا لا، إذا ناديته، أو طلبت منه شيئا، يتقدم بجسده النحيل، وتعبيره الصادق، ونبرته الجادة، ويقول نفس العبارات: "ها أنا طوع الأمر... أنا هنا للمساعدة... اطلبوا ما شئتم، المرضي حاضر معكم...". كان دائم الابتسام، لم نر عضبه أبدا. كان المرضي حارسا...حارسا ليليا وحارسا نهاريا، عندما يحكي حكاياته لا تعرفه أيها خيالي وأيها حقيقي، كان حارس هذا المكان المسكون، لقد رآهم أكثر من مرة، وتحدث معكم أكثر من مرة، كان لديه مغامرات معهم، أخبروني أنه ربما كان يحلم، أو ربما كان يتعاطى شيئا، لكنني كنت أصدق كل حكاياته، تحدث مع الضفدع، وحضر عرس... لا أذكر عرس... عرس... لا أذكر عرس من، ولكن "الدفوع" كان مهيبا، وكان من بين الحضور ولو يكن مدعوا، وعاش ليلة لا تنسى، ليلة لم يرها ولم يعشها أحد قبله. حرس كل المدرجات، ونام في كل المدرجات، لم ينم كان يحاورهم، ويطلب من الله السلامة... كان يعرف أنه من دخل هذا الوِلاج... من عبر هذه الأبواب الكبيرة فإنه سيدخل إلى العالم الآخر الذي لا يعرفه إلا القليل... عاش المرضي في هذا العالم لسنوات طويلة يطلب السلامة، وكاد يموت أكثر من مرة، لكنه كان المرضي! تعرف ... المرضي أي نوع من الناس هو؟ إنه الذي لا ينسى... ليس لأنه ليس عاديا، ولكنه لأنه كان مختلفا، لابد أن يلامس تعامله قلبه، من المعاملة الأولى، يطبع في قلبك طابع القبول من اللحظة الأولى، هذا هو المرضي. أنا عرفته من سنين طويلة، تعامل وحيد، تعامل في قمة التعاطف، تعامل بسيط، كان كطابع من ذهب، لا يمّحي أبدا. الكل خزين لموته، مات البارحة، ودفن البارحة ليلا... نعم ليلا ... لا أحد يصدق... دفن ليلا، لكنه كان يجب الحياة، أنا أعرفه جيدا، كان يحب الحياة، كان ينتظر أن يزوج ابنتيه اللتان خطبتا مؤخرا، كان فخورا بهما، كان ينتظر فرحتهما، كان ينتظر أن يتبعهما بعد تقاعده إلى بلاد الغربة. مرض منذ أسبوعين...شهرين... ثلاثة أشهر... ربما أكثر من ذلك قليلا، مرض منذ فترة غير طويلة، هي مكالمة واحدة بيننا... أخبرني أن المرض مميت، وربما يموت قريبا ...أخبرني أن المرض قديم صامت... كان ينخر في جسده لسنوات طويلة، ولم يكن يعلم، كان يحس بالألم بين حين وآخر، فيقول لعله "الفتق" الذي كان يعاني منه، ويبلغ فص أو فصي ثوم وينتهي الأمر، كان يمشي- دائما-مسافات طويلة. يمشي ،يوميا، طريقا طويلا من العمل إلى منزله، لأنه لم يكن يملك في الغالب ثمن الحافلة، وكان يقول: - ذلك أفضل... ذلك من أجل صحته. سأفتقد جملته الشهيرة التي يقولها دائما، وهو يجلس متهالكا أمامي على الكرسي: - والله إنك عزيز... جملة لم أكن أسمعها من أي أحد حتى ولو كذبا، وكان صادقا، لأنها كلمات نابعة من القلب، وتصل إلى القلب، كان عزيزا وغاليا. مات المرضي... مات المرضي ... لا صدق... كنت أريد أن تحدث معه قبل أن يموت، كنت أريد أن أسال عن حاله... عندما علمت بموته صدمت، كان علي أن أسال عنه، كان علي أن أهاتفه، لم أستطع زيارته في المستشفى، لكنني كنت أستطيع أن أسأل عنه، لم أكن لأغير شيئا بزيارتي و لا بسؤالي ، ولكنه كان يستحق أن أهاتفه وأسال عنه، لأنه المرضي! |
الساعة الآن 26 : 12 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية