منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   مكتبة نور الأدب (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=220)
-   -   " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=5440)

طلعت سقيرق 02 / 07 / 2008 53 : 06 PM

’’ القارئ ناقدا ’’ للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
[align=CENTER][table1="width:70%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/10.gif');"][cell="filter:;"][align=justify]
صدر كتاب "القارئ ناقدا" لمؤلفه الأديب محمد توفيق الصواف في العام 2005 عن دار " المسبار للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق " وقد أثار الكتاب الكثير مما نسميه النقد على النقد .. يسرنا في " نور الأدب أن نقدم هذا الكتاب للقارئ الكريم ..
[/align][/cell][/table1][/align]

طلعت سقيرق 02 / 07 / 2008 55 : 06 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:85%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/15.gif');border:4px groove green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
هذا الكتاب
محاولة لإخراج القارئ العادي من دائرة المتلقي السلبي لما يُسمى اليوم أعمالاً إبداعية، رغم أن معظمها لا صلة له بالإبداع من قريب أو بعيد، وتشجيع هذا القارئ على رفع صوته مطالباً بحقه في نقدِ ما يقرأ، عساه بهذا يُحرر مارد النقد الحقيقي من قمقم الأنانية الضيق الذي حبسه فيه نقاد المصلحة ومؤلفو اللاإبداع، ليبدأ هذا المارد تحطيمَ الأصنام التي رفعها هؤلاء لأنفسهم وأعمالهم التي وضعوها فوق أي نقد، إلا إذا كان مديحاً وتمسيح جوخ.
بتعبير آخر، يُعدُّ هذا الكتاب، محاولة اختراق لسور القداسة الزائف الذي أحاط به نقاد المديح والشتائم نقدهم الذي لم يخرج، في أغلب الأحيان، عن كونه صياغات مضحكة، الموضوعية منها براء... عسى أن تُسهِم هذه المحاولة في استيلاد حركة نقدية جديدة، يمكنها إعادة الحياة إلى العلاقة بين المبدع العربي ومتلقيه، لتبدأ الحياة بالعودة إلى سوق الكتاب الإبداعي الذي كَسَدَ، بعدما أفقده البائسون من المبدعين الأقزام والنقاد المشوَّهَين، بهجته وإغراءه، مما زَهَّدَ القراء حتى بالجيد الممتع من الأعمال الإبداعية التي تزامن صدورها مع صدور ذلك الزَبَدِ من الأعمال الهابطة التي رغم كثرة التطبيل الإعلامي لها، انتهى المطاف بها، عند بائعي الفلافل لاستخدامها في لفِّ سندويتشات زبائنهم.
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]

طلعت سقيرق 02 / 07 / 2008 56 : 06 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
[align=justify]
"القيد والكلمة"
يومياً تُكتب آلاف الكلمات وتنشـر، ثم يغيب معظمهـا، في غَيَابَة الإهمال والنسيان، حتى قبل أن يقرأها أحد أحياناً.. تغيب في تلك الغيابة الرهيبة، دون أن تصل إلى من يُفترَض أنها كُتبت لهم.... وهكذا تزول، كما تزول ذرات الغبارِ عن سطح أملس، تَعرَّض لعاصفة شديدة مفاجئة. تُهمَل، فتُنسى، فتزول دون أن تترك أثراً في أحد، أي أحد!
لهذا، لا يبقى من طوفان الكلمات التي تُنشر يومياً، سوى القليل القليل الذي يصمد لعواصف الإهمال والنسيان، ليبقى في الوجدان، في الذاكرة، وأقلُّ هذا القليل، ينجح في التحول، إلى محرِّض على الإحساس حيناً، أو محرض على التأمل والتفكير حيناً آخر، ونادراً ما نعثر على كلمات اجتـازت عتبات سطورها إلى أرض الواقع لتصير محرِّضاً على الفعل، ثم لتتمظهر فعلاً إنسانياً محسوساً، يستمر طويلاً، ولا نقول يخلد...
من المؤكد أن تلك القلة من الكلمات القادرة على البقاء والتأثير، لم تكتسب قدرتها هذه لأنها من حروف غريبة أو خاصة، فهي، ولاشك، صيغتْ من ذات الحروف الموجودة في كل الأبجديات، ومن ذات الحروف التي تصاغ بها حتى التفاهات..!!
وإذن، فما السر في بقاء هذه الكلمات وقدرتها على التأثير والفعل؟ هل هو جمال صياغتهـا، أم روعة المضمون الذي تحكيه هذه الصياغة، أم صدق مؤلفها وشفافيته، أم معناها الفذ العميق، أم كل ذلك مجتمعاً في آنٍ معاً، وفي كلٍّ واحد؟ وهل ثمة أي دور، في خلود أي كتابة، لرفعة قدر مؤلفها وسلطانه، أو لقوته، أو ماله؟
لن أحاول الإجابة عن أيٍّ من هذه الأسئلة، لأنني ما طرحتها لأجيب عنها، بل لأجعلها مدخلا إلى الإجابة عن سؤال آخر، أتوهم أن الإجابة عنه تتضمن الإجابة عما سبقه، وهو: كيف تصير الكلمة خالدة ساحرة وفاعلة بتأثيرها الدائم في النفس البشرية، جيلاً بعد جيل؟..
في البدء، كان الكلام حاجة للتواصل بين بني البشر، قبل أن يصير لغواً أو وسيلة تَكَسُّبٍ رخيصة... كانت الكلمة أداة لمعرفة الذات والعالم، ولتغييرهما نحو الأفضل بالنسبة للإنسان.. كانت الكلمة ترجمة للأنا وللآخر، وجسراً بينهما يعبره كلٌّ منهما إلى صاحبه، ليسكن فيه ويهدأ في رحابه..
ولم يبدأ ابتذال الكلمة ودورها العظيم ذاك، إلا بعد أن اخترع الإنسان أول قيد، وقرر أن يصنع ألوهيته السرابية بحديد ذلك القيد ومنه..... عند ذلك دخلت الكلمة تجربة انكفائها الأولى، وصارت مجرد صوت أجوف لا يعبر عن صاحبه، بل عن خوفه من قيود الساعين إلى الألوهية الظالمة، عبر جَلْدِ الناس لمدحهم، وحبسهم أو قتلهم إن خاطبوهم بما لا يرغبون سـماعَه عن أنفسـهم، أو نبهوهم إلى ما يُخجلهم ذكره من أخطائهم..
لكن الفنان الحق، في كل العصور، كان ومايزال، أول عدو للقيد، في التاريخ البشري، وفي الوقت نفسه، أول ضحية من ضحاياه...... ولأنه كذلك، كان يبحث دائماً عن الوسيلة التي يتواصل بها مع الناس ويصل بها إليهم.. ودائماً كان يعثر على وسيلته هذه في الكلمة الصادقة الخارجة من القلب..
لكنْ......
ولأن إنتاج القيود كان أسرع من إنتاج الكلمات، في التاريخ البشري، وأكثر تأثيراً في حياة الناس، على مر العصور، بدأت الكلمة تفقد سحرها وتأثيرها، وتتحول إلى مجرد صوت أو شكل لا قيمة له ولا تأثيرَ أو فعل. ومع ذلك ظل، في كل العصور، فنانون قلائل لا يعبأون بحديد القيود وآلامها، ولا بمن يمتلكون مشيئة وضعها في معاصم الناس وعلى ألسنتهم، وربما على عقولهم أيضاً..
ظل هناك فنانون يصرون على ممارسة الصراخ، من أجل حماية وردة ومهجة وفكرة صحيحة..
وظل هؤلاء القليل من الفنانين، في كل عصر، يبتكرون وسائل إيصال جديدة للكلمة الفاعلة المؤثرة، لإيمانهم بأن ابتكارها هو الجزء الأهم من رسـالتهم في الحياة، وبأن إيصالها هو كل تلك الرسالة..
وبهذا... بهذا فقط... نجحت كلماتهم في أن تصير خالدة وفاعلة ومؤثرة في النفس، جيلاً بعد جيل....

[/align]

طلعت سقيرق 02 / 07 / 2008 05 : 07 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
مقدمة

[align=justify]هل النقد وَقْفٌ على الناقد المحترف فقط؟ وإذا لم يكن كذلك، فهل يحق للقارئ العادي، مثلي مثلاً، أن يشارك الناقدَ التصدي للأعمال الإبداعية، وما الذي يمكن أن يمنحه مثل هذا الحق؟ أَهوَ المال الذي دفعه ثمناً للكتاب الذي اشتراه، مقتطعاً ثمنه من لقمة عياله أحياناً، أو من حرمان ولده الصغير اللعبةَ التي اشتهاها؟ أم أن الذي منحه حق النقد هو الوقت الذي أنفقه في قراءة ما اشتراه من كتب أو مجلات وصحف؟ أم أن هناك مصدراً آخرَ يُضاف إلى ما سبق، وربما يعدُّ الأهم، هو الذي منح القارئ هذا الحق، وإذا كان لمثل هذا المصدر من وجود، فما عساه يكون؟
أظن، بل أراني متأكداً، أن هذا المصدر هو كون القارئ الهدفَ الأهم لأي مبدع، والمحطة التي يتمنى أن يصلَها عملُه..
ألا يحلم كل مبدع بجمهور عريض يستقبل أفرادُه ما أبدع، فيؤثر فيهم، أو يحركهم، أو يمتعهم على الأقل؟ ثم أليس أي مبدع، في أي مكان وزمان، يأمل بينه وبين نفسه، أن يعرف آراءَ القراء في عمله، حتى وإن كانت سلبية، لاقتناعه بأن عدم إبداء أيِّ رأي، من أيٍّ كان، يعني أن مصير إبداعه هو الإهمال الذي يُعدُّ، في نظر أي عاقل، أسوأ من أقسى الآراء سلبيةً، وأشد إيلاماً من أيِّ نقد جارح؟
بلى. ولكن هل يُشتَرَط أن يكون إبداء الرأي في الأعمال الإبداعية وقفاً على النقاد أصحاب الحرفة، أم يجوز للقارئ العادي أيضاً أن يشارك النقاد المتخصصين إبداء الرأي، في ما تَلَّقى من إبداع؟
على افتراض صحة التوهُّم، بأن من حق متلقي العمل الفني عموماً، أن يمارس النقد، بوصفه هدف المبدع وغايته، كما يدعي أي مبدع، فهل على هذا المتلقي ألا يُبديَ رأيه إلا وفق أسسٍ ومناهجَ نقدية معينة ومُعتَرَفٍ بها؟
بتعبير آخر: هل من الضروري أن يكون نقد القارئ مدرسياً مقيداَ بمناهج النقد القديم أو الحديث أو بكليهما، وأن يكون زاخراً بالاقتباسات، مزيناً بالإحالات المرجعية وبفيض من المصطلحات التي تُصدِّع الرأس وتغمُّ القلب، أم يحق له أن يقول رأيه ببساطة، هكذا، وبتلقائية، (يعني على قدِّ ثقافته وفهمه)، وكفاه الله شرَّ مدارس النقد ومصطلحاته؟
لنتوهم، أن لا بأس في أخذ القارئ العادي على (قدِّ ثقافته)، وأن لا ضير في السماح له بإبداء رأيه، في ما يُقدَم إليه من أعمال إبداعية، بحرِّية، دون قيود مدرسية من أي نوع، أي أن يمارس ما يمكن أن يُسمى بالنقد الانطباعي، فهل هذه المنحة تكفي؟
بالتأكيد لا...... و(لا) هذه تعني أن لدينا ـ نحن القراء ـ مزيداً من المطالب. فهل تجاوزنا حدودنا، أم ليس بعد؟
في رأي كثيرين (نعم)، وفي رأي المنصفين: لا، لم نتجاوز..
حجة المنصفين تقول: إن إجماع كل نقاد الدنيا على وصف عمل إبداعي بالجيد، قد لا يُقنِع قارئاً واحداً بجودته والإعجاب به، فيسـقط هذا العمل على الرغم من إجماعهم، والعكس صحيح تماماً. ثم، مادام المبدع يُبدع للمتلقي وكذلك الناقد، كما يزعمان، فلماذا لا نسمع رأي هذا المتلقي نفسه في ما يُبدَعُ له، فربما اكتشفنا منه سببَ عزوف الجمهور عن عمل ما، على الرغم من استيفائه كل الشروط الفنية، في رأي النقاد، وعرفنا سببَ نجاح عمل إبداعي آخر، على الرغم من حكم النقاد عليه بأنه خارج على كل القواعد المدرسية للإبداع.
أما الذين ضايقهم تَدَخُلَنا، فقد هبُّوا غاضبين يصرخون: إن القارئ غير المختص بالنقد، لا ينبغي أن يُعطَى وجهاً ولا قفا أيضاً، بل الأفضل له وللنقد والإبداع معاً، أن تُرفع (لا) كبيرة، أمام رغبته الوقحة في حشر أنفه الفضولي فيما يُوجَّه إليه من إبداع، وكأن الأمر يعنيه! بل لا بأس أن يُصفَع بعبارة (بلا حكي فاضي، بلا قلة حياء)، إذا لم يرتدع ويذوق على دمه، من تلقاء نفسه...
ولإثبات صحة رأيهم هذا، يؤكد هؤلاء: ما إن يسمح النقاد للقارئ العادي بفتح فمه، حتى يتوَهَّم أنه صار ناقداً، وقبل أن يشمَّ رائحة إبطه النقدية، تراه يبدأ، والعياذ بالله، إطلاقَ الأحكام يميناً وشمالاً، يُصيب بها فلاناً وعلاناً، دون مراعاة لشهرة هذا الشهير، أو حرمة ذلك الكبير الذي جَعَلَتْه أقلامنا، نحن النقاد، أميرَ شعر أو سلطان طرب أو عميد أدب أو ملك قصة، إلى ما هنالك من درجات ومقامات ابتدعناها، ويجهل هذا القارئ قدرَها وقدر أصحابها..
ثم من غير المُستبعَد، بعد هذا كله، أن يسمح هذا القارئ لنفسه بالتمادي أكثر، فإذا به يُطالبنا، نحن النقاد، ويطالب المبدعين أيضاً، من كل فن ولون، أن نستمع لما يقول ويستمعوا، وأن نأخذ برأيه ويأخذوا، قائلاً، وبوقاحة: ما دمتم سمحتم لي بالتعبير عن رأيي في ما يُبدعه أعداؤكم أو أصدقاؤكم وصديقاتكم أو أرباب نعمتكم أو أسيادكم، لا فرق، فقد صار من حقي أيضاً أن أجد أذناً صاغية تسمعُ لرأيي في ما قرأتُ وشاهدت وسمعت، إن لم تكن أذن سيادتكم الصماء، فعلى الأقل أذُن المبدع الذي أنزلتموه لي من السماء، على أنه لا قبله ولا بعده. وحجتي في مشروعية هذا الطلب ومعقوليته، أن سماع رأي المتكلم، في أي مجال، واحترام هذا الرأي، أهم من الإذن له بالكلام والتعبير، لأن (تطنيش) ما يقولُه يُحيل منحَه حريةَ التعبير عن رأيه إلى ما يشبه الضحك على ذقنه، ونحن، معشـرَ القراء، نكره أن يضحك أحد على ذقوننا، حتى وإن كان مبدعاً ـ لا مؤاخذة ـ أو حتى ناقداً، قدَّسَ الغرور سره!
أترونَ إلى هذه الوقاحة؟ فحذارِ حذارِ، أيها النقاد والمبدعون، أن تمنحوا القارئ العادي حقَّ النقد، لأنكم إن فعلتم فسيأخذ راحته، وإذا أخذ راحته، فسيحرمكم، نقاداً ومبدعين، الراحة وربما المنام أيضاً...... فحذارِ أن تسمحوا له بارتكاب مثل هذه (الكبيرة) بحقكم، وإلا ندمتم حين لا ينفع ندم، ولا تفيد حسرة، ولا ألف كلمة آه...
ولكن، أحقاً يمكن أن يُعدَّ إعطاء القارئ حقه في التعبير عن رأيه (كبيرة)، كما ينصُّ شرع نقادنا ومبدعينا؟ إذن، فالويل لي والثبور، لأن كتابي هذا سيُعدُّ، من وجهة نظرهم، أكبر الكبائر التي لا غفران لها ولا توبة تمحوها.. ليس فقط لما حواه من تجرؤ على المقامات العلية لبعض السادة النقاد والمبدعين، بل لأنني، وهو الأهم، لستُ من أهل النقد، ولا حتى من خدمه، بدليل أنني لا أحمل شهادة ناقد من أي جامعة أو مدرسة، ولم يخلع عليَّ ناقد مرموقٌ جبته أو جلبابه ولا حتى قميصه الداخلي، كما لم يُتوِّج رأسي عظيمٌ بتاجِ النقد أو يقلدني صولجانه..
دَعُونا لا نُعَقِّد الأمور ونُكبِّر الحكايا، (فنجعل من الحبة قبة ومن الزبيبة خمارة)، كما يقول مثلنا الشـعبي، بل لنعترف، وببساطة، أن للقارئ العادي حقاً في إبداء رأيه في ما يقرأ وفي من يقرأ لهم.. ومادام مؤلف هذا الكتاب قارئاً عادياً، فدعونا لا نُحمِّل كتابه أكثر مما يحتمل، ولنكتفِ بالنظر إليه، ولو من عَلٍ، كوننـا نقـاداً ومبدعين، على أنه مجرد استجابة لِوَهْمٍ راود هذا المؤلف المغرور باحتمال وجودِ ما يمكن تسميته (نقد القارئ العادي)، فكتب في كتابه ما كتب، غفر الله له، وأَلْهَمَ النقاد والمبدعين الذين سلقهم بلسانه الذي يستأهل القص، أن يسامحوه.
وللحقيقة، يعترف هذا المؤلف الغرّ، بأنه لم يبادر إلى تأليف هذا الكتاب دون تفكير بالعواقب التي أكد له عقلُه الصغير أنها ستكون وخيمة. لكن توهُّمه إمكانيةَ ممارسة النقد، وهو مجرد قارئ عادي، عاد يُداهِمُ عقله الصغير، المرة تلو المرة، مغرياً إياه بفكرة إبداء رأيٍ فيما يقرأ.... ومرة تلو المرة، ظلَّ عقله، على صغره، يرفض هذه الفكرة مستغرباً ومستنكراً، إلى أن جرَّدَ الوهمُ شيطانَ إقناعه من غمده، وهجم به على ذلك العقل المضطرب، ليصيبَ به سويداء اضطرابه..... وما إن سكنَ اضطرابُه، حتى زالَ عنه خوفه.... عندها راح شيطان الإقناع يحدثه بهدوء قائلاً:
ربما كان هذا اللون النقدي موجوداً، في سالف الزمان، ثم حرمَّه من نصَّبوا أنفسهم آلهة في عالم النقد كي يُجنبوا أنفسهم سماع ما يكرهون، ممن يحبون ولا يحبون، فلماذا يستمر هذا الطقس الحرماني الجائر؟ ثم، حتى وإن لم يكن مثل هذا النقد موجوداً من قبل، أما آن له أن يُوجد، وقد صار وجودُه ضرورةً لإغناء العمل الإبداعي وإثرائه، شكلاً ومضموناً، من خلال حوار حرٍّ مفتوح، بين مبدعه ومتلقيه؟
عندها اقتنعَ ذلك المؤلف، فكتبَ، وشاء الله، فنشرَ معظم ما كتب، في عدد من الصحف والمجلات العربية، فكانت مكافأته فيضاً من الشتائم التي كان من المفترَض أن تُقنع أي (عاقل) غيره بالكفِّ عن المضي في هذه السبيل، لكنه بدلاً من أن يكفَّ، قرر جمع ما نشره متفرقاً، بين دفتي هذا الكتاب، آملاً أن يكون نموذجاً لما اعتقدَ (واهماً) أنه اللون الأهم من النقد، وأقصد (نقد القارئ العادي).
ألهذا الهدف فقط تُراني وضعتُ هذا الكتاب؟ لا..... فثمة أهداف أخرى، قد يرى غيري مبالغةً في تطلعي لتحقيقهـا، وأراني مصرّاً على التوهم بأن تحقيقها احتمالٌ غير مُعجِز، وأهم هذه الأهداف:
أولاً، محاولة إخراج القارئ العادي من دائرة المتلقي السـلبي للكثير مما يُسمى اليوم أعمالاً إبداعية، رغم أن معظمها لا صلة له بالإبداع من قريب أو بعيد.. بتعبير آخر: يهدف تأليف هذا الكتاب، في جملة ما يهدف، إلى محاولة التحرر من الإعجاب أو الرفض بالإكراه، تبعاً لرأي هذا الناقد أو ذاك، من الذين يطلعون علينا، كل يوم، متجلببين بالموضوعية حيناً، وبالأيديولوجية حيناً، أو بكلتيهما معاً، متخذين منهما عكازين لتسويغ مدائحهم التي يُدبِّجونها بهذا العمل، أو شتائمهم التي يكيلونها لذاك، بعيداً عن أي موضوعية أو أيديولوجية..
ثانياً، محاولة اختراق سور القداسة الزائف الذي أحاط به نقاد المديح والشتائم نقدهم الذي، على الرغم من وصفهم له بالموضوعيـة، لم يخرج عن صياغـات مضحكة، الموضوعية منها براء، وذلك من مثل:
(صدرت الرواية الأهم والأروع للروائي الكبير فلان)، مهما كانت هذه الرواية تافهة، شرط أن يكون مؤلِفُهـا صاحباً للناقد أو شخصية مرموقة يخافها الناقد أو يرجو ثوابها...؛
و(امتلأت المكتبات بنسـخ المجموعة القصصية المتهافتـة شـكلاً ومضموناً لمؤلفها فلان)، ثم نُفاجأ بأن هذه التي وُصفتْ بالتافهة والمملة عملٌ ممتع ورائع، لكن وَصْفَها جاء نقيضَ حقيقتها، فقط لأن هذا الفلان الذي ألَّفها لا حول له ولا مال، أو لأنه عدوٌ للناقد..؛
و(ديوان الشعر الذي بزَّ كل ما قيل، قبله وبعده، جودة وإتقاناً وإثارة للخيال والمشاعر والعواطف.. إلخ، للشاعر الفذ بن الفذ فلان)، مهما كانت القصائد التي احتواها هذا الديوان تافهة، ومهما كان بناؤها الفني ركيكاً وسقيماً.
وثمة الكثير من العبارات الأخرى المشابهة لهذه، تحولت جميعها إلى كليشهات مكررة، تُسوَّد بها صفحات صحفنا ومجلاتنا الأدبية والنقدية، لِتُسـوَّد بها أذواقنا وثقافتنا أيضاً. ولا عجب، فهي عبارات جوفاء، فضلاً عن كونها خالية من الصدق والصنعة معاً، وعاجزة عن إضاءة مضمون أو تحليل بناء فني. عبارات دفع استقرارها، في الصحف والمجلات وبعض كتب النقد، إلى عزوف القراء، في النهاية، عن قراءة الكتب، إبداعية كانت أو نقدية، والبحث عن المتعة والفائدة، في مجالات أخرى..
ثالثاً، أردت من كتابي هذا أن يكون مغامرة تُشجع غيري من القراء، وأرجو أن يكونوا أكثر قدرة مني، على رفع أصواتهم مطالبين بحقهم في ممارسة العملية النقدية، مؤكدين للنقاد الذي يتوهمون أنهم وحدهم أصحاب الرأي الجلي والقدر العلي، وجود من يستطيع النقد مثلهم، وأفضل منهم، على الرغم من أنه لم يُكرَّس ناقداً، ولم يَدَّعِ أنه كذلك، بل كان الصدق والحس السليم كلَّ أدواته النقدية..
بتعبير آخر: أردت الشروع في محاولة تحرير مارد النقد العظيم والجبار من قمقم المصلحة الأنانية الضيق الذي حبسه فيه نقاد المصلحة ومؤلفو اللاإبداع، عسى أن يعود هذا المارد إلى ممارسة دوره الصحيح الذي افتقدناه طويلاً. أي عساه يبدأ تحطيمَ أصنام اللانقد واللاإبداع الذين رفعوا أنفسهم مكاناً لا يُطال، ووضعوا أعمالهم فوق أي نوع من أنواع النقد، إلا إذا كان مديحاً ومسحَ جوخ.... ثم وقفوا حاجزاً بين المبدعين الحقيقيين والقراء العاديين، فكانوا بذلك أسوأ من نظرائهم الذين نصَّبوا أنفسهم أصنامَ مال أو جاه أو سلطان.. فهل تُراه يعود مارد النقد الصريح المعافى إلى ساحتنا الإبداعية التي صارت موبوءة بالرياء والكذب، ومتى يعود وكيف؟
لا أدري.. ولكن كان بين أهداف تأليفي لهذا الكتاب تشجيع من لديه الرغبة والقدرة على الصيرورة ناقداً حقيقياً أن يُسارع في ممارسة دوره الذي اشتقنا إليه، فيقول رأيه فيما يُسـمى إبداعاً، لوجه الله والفن والحق، ومن أجل خاطر القراء المساكين من أمثالي الذين أعمى قلوبهم النقد المرائي.. نعم، فلكم نبدو، نحن القراءَ العاديين، متشوقين لناقد حر صريح يقول ما ينبغي أن يُقال، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا تمنعه مهابة قيد أو مال أو جاه.
رابعاً، ومن الأهداف التي شجعتني أيضاً على تأليف مواد هذا الكتاب، رغبتي في المساهمة، ولو بقدر ضئيل جداً، في استيلاد حركة نقدية جديدة، يمكن أن يتمخض نشاطُها عن إعادة الحياة إلى العلاقة بين المبدع العربي والمتلقي العربي، لتبدأ الحياة بالعودة أيضاً إلى سوق الكتاب الإبداعي الذي كَسَدَ، بعدما أفقده البائسون من المبدعين الأقزام والنقاد المشوَّهَين، بهجته وإغراءه، مما زَهَّدَ القراء حتى بالجيد الممتع من الأعمال الإبداعية التي ـ لسوء حظها ـ تزامن صدورها مع صدور ذلك الزَبَدِ من الأعمال الهابطة التي على الرغم من كثرة التطبيل لها والتزمير، في مختلف وسائل الإعلام، نرى المطـاف ينتهي بهـا دائماً، عند بائعي الفلافل لاستخدامها في لفِّ السندويتشات لزبائنهم..
وهذا، كما أتصور، أحد أقسى ألوان العقوبة التي أنزلها القارئُ العادي بأدعياء الإبداع والنقد معاً.. لقد أعرض عما نشروه في الكتب والصحف والمجلات، لأنهم صموا آذانهم عن سماع رأيه، وهم يزعمون أنهم يكتبونه له، ولأن صدورهم ضاقت بملاحظاته، حتى حين تكون صائبة.... لقد أداروا له ظهر اهتمامهم، فأدار ظهره لإنتاجهم كله جملة وتفصيلاً، وقَرَّ في وعيه ووجدانه أنهم مخادعون، لم يكتبوا من أجله، كما يدعون، بل من أجل سماع ثنائه ومديحه فقط، فتركهم وما يكتبون نهباً للإهمال والضيـاع، غير عابئ بغيظهم منه الذي طفح ففـاض اتهاماً له، بالجهل وضحالة الثقافة..
والآن، دعونا نطرح السؤال التالي: أما كان من الأفضل لهم لو توجهوا إليه، حقاً لا ادعاء، وتصرفوا معه، كما يتصرف التاجر الحاذق في مجـال التسـويق. فدرسوا ذوقه، وراعوا رغباته في إنتاجهم، ثم أغروه بالارتفاع إلى مستواهم، بالرفق لا بالشتيمة، وبروح المعلم المحب لا بسوط الجلاد الظالم؟ لو أنهم فعلوا ذلك لكانوا ربحوه قارئاً محباً ومشجعاً، طوعاً لا كرهاً، ولكان رَبِحَهم مبدعين صادقين مؤثرين يقودون خطاه على الطريق الوعرة التي عليه أن يقطعها وإياهم اليوم، بوصفه عربياً في معركة اضطرارية، وصاحب وطن مهدد بالسرقة.
لا يعني هذا، أنني أدعو أهل الإبداع إلى تملق القارئ ومراءاته، أو أنني أطالب، بتحول المبدعين والنقاد إلى تجار يتاجرون بالأدب أو الفن..... معاذ الله، فما ينتجه هؤلاء وأولئك أجلُّ وأسمى من أن يكون سلعة للتجارة، وإن كان لا شيء يمنع من تجميل الإبداع بالفن، كما تُجمَّلُ السلعة بالفن أيضاً، لتسهيل وصوله إلى القراء وانتشاره بينهم وتأثيره فيهم، بالذوق لا بالزور.
بتعبير آخر: لا أنا ولا أي قارئ عادي مثلي، يقول لكم، معاشـرَ المبدعين والنقاد ـ دسـتور من خاطركم – تزحزحوا قليلاً عمَّا تصرون عليه من مواقف، كرمى لخاطرنا أو من أجل ذقوننا، فنحن واثقون أنكم مُصرُّون على التمسك بمواقفكم حتى وإن ثبُتَ لكم أنها خاطئة.. بل إن فيكم من يرى أن التنازل عنَّا ـ نحن قراءكم ـ جملة وتفصيلاً، أهون من التنازل عن رأي واحد، ولو كان فاسداً، من الآراء الكثيرة التي تؤمنون بها، رعاها الله لكم وكَثََّرها تكثيراً كثيراً، لتُعَقِّدونا بها أكثر وأكثر..... وبالتالي، فجلّ ما نرجوه منكم، أن تقدموا لنا تلك الآراء تقديماً جيداً وجذاباً من الناحية الفنية، على الأقل، أم أن المتعة صارت حراماً على العربي، حتى ولو كانت فنية؟
أعتقد أن هذا من حقنا كقراء، بل أبسط حقوقنا وأهمها، كي يصبح ما تبدعونه لنا ممتعاً إن لم ينفع، وكفاكم خطابات ومواعظ فجة جامدة كانت سبباً في ذهاب جزء من وطننا وكرامتنا، وقد تذهب بما تبقى منهما ومن أعراضنا وثرواتنا، عما قريب.
وبعد، فإذا كان ما سبق قابلاً للاستجابة من قبلكم، مبدعين ونقاداً، فأرجو أن تتسع صدوركم العامرة بالخير، لما حواه هذا الكتاب من دراسات نُشرت سابقاً في مجلات وصحف ودوريات عربية، من أبرزها (الآداب) و(المحرر) اللبنانيتين، والموقف الأدبي والأسبوع الأدبي السوريتين، وغير هذه من المطبوعات العربية..
وعذراً، ثم عذراً فعذراً...... إذا وجدتم في هذه الدراسات ما لا يرقى إلى مستواكم الإبداعي أو مكانتكم النقدية، فأنا، واسمحوا لي أن أؤكد لكم وأكرر، مرة بعد مرة، أنني لم أكتب سطراً مما ستقرأونه تالياً، كناقد..... فحاشا ثم حاشا أن أجرؤ على رفع شأني إلى مرتبة النقد السامقة التي لا يقدر على ادعاء بلوغها إلا الراسخون في الفن والعلم والنزاهة والموضوعية، من أمثال جلالاتكم الموقرة.... ولكنني كتبتُ ما كتبت، كقارئ عادي، راوده شيطان الحرية السـاحر ـ عليه لعنة المسـتبدين والنقاد وأولي القمع الأدبي إلى يوم الدين ـ على رفع صوتـه قليلاً، فرفعه مبدياً رأياً متواضعاً، في بعض ما قرأَ من كُتب، معلناً سلفاً، أن رأيه هذا قابلٌ للطعن والنقض والردِّ إن كان خاطئاً..
أخيراً، أرجو لَفْتَ انتباه قارئي الطيب إلى أنني، وإن قرأ في معظم الدراسات التي تضمنها هذا الكتاب، كلاماً قاسياً في مؤلِّف أو في مؤلَّف، فهذا لا يعني أنني لا أريد إلا القدحَ والتجريح وبيان السلبيات والمثالب فقط، بدليل أنني كتبتُ مستحسناً، لكن دون مبالغة، ما توهمتُ فيه الجودة من أعمال، وكان محرِّضي ودافعي، في الحالين، الرغبة في قول ما اعتقدتُ أنه الحقيقة.... نعم، فالحقيقة، كما تَوَهَّمتُها، هي التي أَملَتْ عليَّ أسلوب هذا الكتاب، استحساناً واستهجاناً.. وقد أكون مخطئاً فيما رأيت، لكنني لم أتملق أحداً ممن استحسنتُ كتابتهم، ولم أتجَنَ على أحد، ممن جَهِدتُ في بيان عيوبهم، جادّاً وساخراً، لأنني لسـتُ عبداً لأحد غير الله، ولا عدواً لأحد، أو طالب ثأر من أيٍّ ممن ورد ذكرهم في هذا الكتاب، على نحو لا يعجبه... كما أنني لست مفترياً أو قاسياً قسوةً لا مُسوِّغ لها، حتى وإن بدا كلامي، في بعض الدراسات، أشبه بالاستغاثة من (إبداع) عدمُه أفضل منه، أو من نقدٍ، ولا تؤاخذوني، الهراء أعلى منه مقاماً وأعظم…
دمشق في غرَّة رمضان 1425/15 تشرين الأول 2004
محمد توفيق الصواف

[/align]

طلعت سقيرق 05 / 07 / 2008 58 : 06 PM

رد: ’’ القارئ ناقدا ’’ للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
من هموم قارئ عادي!!

(للنقد أهله المختصون)...
[align=justify]
ولذلك، فمن الأفضل للقراء العرب المغلوبين على أمرهم، حتى أدبياً، أن يظلوا ملتزمين بالمثل القائل: (أعطِ الخباز خبزه ولو أكل نصفه)..!! لكن أليس من حق هؤلاء المساكين، ما داموا هم الذين سيأكلون هذا الخبز في النهاية، أن يقولوا رأيهم فيه، على الأقل، وخصوصاً إذا لم يعجبهم؟ أم أن مصادرة حرية الرأي التي يتقلبون في نعيمها مُكرهين، توجب عليهم أن يزدردوا خبز النقاد والمبدعين، مهما كان رديئاً، بل أن يثنوا عليهم ويصفقوا لهم أيضاً؟!!
ليعذرني السادة المبدعون والنقاد العرب إذا تجاوزت قدري، وطلبت من جلالاتهم، باسمي وباسم جميع قرائهم العاديين من أمثالي، السماح لنا، ولو لمرة واحدة على الأقل، بأن (نَفُشَّ) قلوبنا، ونقول رأينا في ما يُقدَّمونه لنا من نتاجات عبقرياتهم العظيمة؛ لأننا ـ والله ـ لطول ما صمتنا، قد صدئت ألسنتنا في أفواهنا، وسوَّست أسناننا البلاغية والمعرفية، وباتت حُلَمُ ذوقنا الفني والأدبي في حالة احتضار.
لا أظن سادتنا المبدعين والنقاد العرب يبخلون علينا، بفسحة، ولو صغيرة، من حرية التعبير عن رأينا. وما يرفع ظني هذا إلى درجة اليقين، زعمهم جميعاً ـ حماهم الله ـ أنهم لا يعيشون ويعملون إلا من أجل إمتاعنا وتغذية عقولنا العزيزة على قلوبهم. فمن أجلنا سهروا الليالي وراء طاولاتهم، وأعموا عيونهم بالقراءة، واستهانوا بصحتهم العزيزة، فكرعوا ما لا يحصى من كؤوس الويسكي والشاي وفناجين القهوة الحلوة والمرة، ودخنوا مالا يعدُّ من السجائر، غير عابئين بكل تحذيرات الأطباء حول أخطار التدخين والمنبهات والمسكرات على الصحة.. ومن أجلنا أيضاً، ذلُّوا أنفسهم، وقبَّلوا أيدي الناشرين العرب وغير العرب، لينشروا لهم ما أبدعوه لنا، ولو بـ (بلاش)، حتى يثقفونا به ويمتعونا، جزاهم الله عنا كل خير..
لنتوهَّم، إذن، أن صدور مبدعينا الأفاضل، ونقادهم المعظَّمين، قد اتسعت قليلاً، وسمحوا لنا ـ نحن القراء العاديين ـ أن نقول رأينا في ما يقدمونه لنا، من أدب ونقد، رغم اعترافنا، سلفاً، بأننا من الجاهلين بأصول النقد الموضوعي وغير الموضوعي، وبأساليب الحداثة، ومتاهات البنيوية والتفكيكية، بل إن جهلنا يمتد إلى الكلاسية، حتى، وإلى الرومانتية والتكعيبية والتربيعية والتثليثية، وما لا أعلم من مصطلحات أخرى، شرقية وغربية، لا أحفظها كلها، لحسن الحظ، فما عساه يكون رد فعلهم على رأيي، ورأي أمثالي من جهَّال النقد والأدب، بما يكتبون؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال التكهني، دعونا نلقِ نظرة سريعة على ما يكتبه معظم نقادنا العرب الذين حملوا راية النقد العربي من بعد مندور والعقاد والمازني وطه حسين، ومن لفَّ لفهم، ونهج نهجهم، أو قريباً منه، فماذا نجد؟
قد لا يكون من الافتراء في شيء أن نقول: إن الكتابات النقدية لمعظم نقاد اليوم، تُعد، في غالبيتها، تقريظاً ـ أي مديحاً وثناء ـ لما (أبدعه) معاصروهم من الأدباء العرب، وخصوصاً المشاهير منهم..
فمثلاً إذا عطس شاعر مثل محمود درويش، لن يعدم ناقداً يرفع عطاسه فوق شعر المتنبي ودانتي، وإذا تنحنح روائي مثل نجيب محفوظ وجد من يكتب مجلداً أو أكثر في جماليات نحنحته وأبعادها الإبداعية وما تتفرد به من حكمة تفوق حكمة (كونفوشيوس)، وإذا خربش قاصٌّ مثل زكريا تامر، في لحظة ملل، على ورقة أمامه في مقهى، انبرى ناقد، أو أكثر، ليسوِّد لنا الصفحات الطوال في تحليل خربشته واقعياً وبنيوياً.. مع أن هؤلاء المشاهير وغيرهم يقرون، هم أنفسهم، بأن ما يصدر عنهم ليس في مستوى واحد من الجودة، ولا يتطور نحو الأفضل باستمرار، بل لهم سقطاتهم، لأنهم يعترفون ككل المبدعين القدامى والمعاصرين، بأن المبدع مثل البحر يلقي لؤلؤة مرة، وجيفة مرة. وعلى الناقد أن يمتدح الجيد في إنتاج هذا المشهور أو ذاك، وأن يشير إلى الرديء ويبينه.. هكذا فعل نقادنا القدامى، حين لم يغضوا طرفاً عن سقطات عمالقة مثل المتنبي وأبي تمام، وقبلهما حسان بن ثابت الذي لم تمنع مكانته، كصحابي، النقاد من التعرض للضعيف من شعره بالنقد اللاذع. وليس العرب بدعاً بين أمم الأرض في التزام قدامى نقادهم بالموضوعية، فمن يَعُدْ إلى ما كتبه النقاد الإنكليز عن نجم مثل شكسبير، فسوف يجد كثيرين تحدثوا عن سلبيات إبداعه بنفس الحماس الذي تحدثوا به عن الجيد من هذا الإبداع..
أما نقاد العرب اليوم فلا حديث لهم إلا عن الجيد من إبداع معاصريهم حتى ولو كان رديئاً، ما دام مبدعوه من المشاهير، وكأن الشهرة صارت في عرفهم أماناً من بيان السلبيات، وحصناً من الهجوم على الرديء! وإذا أردنا أمثلة، فسأكتفي بمثالين يدلان أبلغ الدلالة على هذا النهج الموروب في نقدنا العربي المعاصر. فمثلاً، ورغم كل ألمعية روائي مثل عبد الرحمن منيف وقدرته الرفيعة في الإبداع الروائي، تعد روايته (حين تركنا الجسر) من أكثر الروايات العربية تفككاً وإملالاً، حتى أننا لو وضعنا عليها اسم أي روائي غيره، لنتف نقادنا المحترمون ريشه نتفاً، ولأوسعوه غمزاً ولمزاً وتقريعاً. ولكن اسم عبد الرحمن منيف وشهرته الواسعة حمت هذه الرواية من نقدها نقداً موضوعياً، وحرمتها بالتالي من التقييم الصحيح.
ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال في قصيدة محمود درويش (محمد) التي نظمها، ولا أقول أبدعها، في رثاء الشهيد (محمد الدرة)، فهي إذا قيست بمستواه الشعري المعروف بدت قصيدة من الدرجة العاشرة وربما أقل، ومع ذلك، وجدت هذه القصيدة عشرات الأقلام التي مجدتها ومدحتها، لا لشيء إلا لأن ناظمها هو الشاعر المشهور محمود درويش.
هذا بالنسبة لفعل نقادنا الأشاوس ـ حماهم الله ـ حين يكون (المنقود) أحد مشاهير المبدعين، أما إذا كان (المنقود) صديقاً حميماً، أو دبلوماسياً، أو مسؤولاً ترتعد لذكر اسمه الفرائص، أو فتاة على وجهها ضوء، فإنك ترى، عند ذاك، النقد يتوهج بالتقريظ أكثر، حتى يصيب وهجُه الناقدَ بالعمى، فلا يعود يرى في عمل هذا الصديق أو ذلك المسؤول أو تلك الصبية، مما يسميه (إبداعاً)، أي عيب فني أو مضموني واحد، ولا يستشعر في غثه طعماً غير لذيذ، ولا يشم منه أي رائحة غير زكية، ولا يجد بين سطوره، الأكثر ثقلاً من طين الشتاء وهَمِّ القلب، إلا ذلك الكم من الفوائد التي لا تعد ولا تحصى، وذلك التحليق الدائم الذي لا ينتهي في فضاءات الجمال الآسر والإبداع المعجز!..
وكأمثلة على هذا النمط من النقد التقريظي، أكتفي بإيراد المثال التالي، بقصد الدلالة، لا الاستقصاء:
في عام 1998، أصدر السفير (أمين إسبر) مجموعة من النثعيرات (قصائد النثر) أطلق عليها اسم (بياض اليقين)، وما كادت هذه المجموعة تصل إلى أيدي النقاد، حتى انبرى كثيرون منهم يدبجون مدائحهم النقدية في هذه المجموعة وصاحبها، فإذا بها تغدو درَّة الشعر العربي المعاصر، وواسطة عقده، ويغدو مؤلفها فوق قمة إبداعية لم يبلغها قبله إنسٌ ولا جان.. وشارك في المهرجان المدائحي لهذه المجموعة النثرية عدد من نقادنا اللامعين أمثال الدكتور عبد العزيز المقالح الذي قدم لهذه (التحفة الإبداعية) بفيض من العبارات التقريظية من مثل قوله: (وفي هذا الديوان المتمرد الأنيق للصديق السفير الشاعر الدكتور أمين إسبر إضمامة من النصوص واللوحات الشعرية المتفجرة بآخر الأحاسيس والمشاعر المشتعلة في ساحة الوطن الكبير). هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل، فيقول المقالح مقرظاً: (وإذا كان ولابد من تنسيب هذا العمل الإبداعي إلى نوع أدبي متعارف عليه فهو من صميم الشعر الحر).
أما الدكتور عبد الإله الصائغ، فقد ذهب به الإعجاب ببياض اليقين وإبداع صاحبه فيه إلى حد تسويد أكثر من مئة صفحة جعلها في كتاب وَقَفَه للحديث عن فرائد هذه المجموعة النثرية، وخصوصاً البعد المكاني في نصوصها( )، وأفاض على هذه المجموعة من ألوان المديح ما لم يبلغ شأوه كبار مداحي الخلفاء والأمراء، حتى في العصر الذي نسميه، ظلماً، بعصر الانحطاط!! وقد شارك في سمفونية المديح لهذه المجموعة النثرية بعض المبدعين من أمثال الشاعر الكبير سليمان العيسى!.
ونحن لو دققنا النظر في نصوص مجموعة إسبر، بعيداً عن التعصب لما يسمى بقصيدة النثر، وبعيداً عن كون مؤلفها دبلوماسياً، لما وجدنا فيها سوى مجموعة نصوص نثرية عادية جداً، أقرب ما تكون إلى الخواطر الأدبية، موشَّاة ببعض الشطحات الخيالية أحياناً، ولكن أغلبها لا يرقى إلى مستوى أن يُعدَّ شعراً بحال، كما سأسعى إلى إثبات ذلك في دراسة لاحقة.
وهكذا يظل بعض نقادنا، من المدَّاحين ـ أطال الله أعمارهم وألسنتهم وأقلامهم ـ ينفحوننا بمدائحهم النقدية التي لا تأتيها الموضوعية، من بين يديها ولا من خلفها، آملين انتقال عدوى العمى إلى بصائرنا وأذواقنا، عسانا نصير مثلهم، لا نرى عيباً، في أي نص شعري معاصر، حتى ولو كان منثوراً، ولا سقطة في أي رواية، حتى ولو كان أسلوبها أو مضمونها يجلب لقرائها الغثيان..
وبعد أن تصير (إبداعات) أدبائنا المعاصرين، في أعيننا التي أعماها النقد التقريظي، جميلة كلها ورائعة، مثل شتاءاتنا التي لم نعد نشعر فيها بالبرد أو نبتل بالمطر، يأتي دور إعجابنا القسري بما كتبه نقاد التقريظ عنها وعن مؤلفيها. والويل كل الويل لنا ـ نحن القراء ـ إن لم نؤِّمن على ما كتبوه عنها، وإن لم نصدِّق بأنها، جميعاً، قد سدَّت ثغرة في مكتبتنا العربية، وفتحت، في عالم أدبنا العربي، فتحاً مبيناً، دونه فتح القسطنطينية وبيت المقدس، وفتح عقولنا بكل تلك الجروح التقريظية الرهيبة..
وقد ظل الحال على هذا المنوال، حتى انكشف لنا ـ نحن القراء ـ الطابق المستور، فأقلعنا عن شراء الكتب الإبداعية والنقدية، على السواء، وفضَّلنا الجهل الإرادي على تسطيح عقولنا، بالإكراه؛ الأمر الذي أدى، في النهاية، إلى وَقْفِ حال الكتَّاب والنقاد، ومن ثمَّ، إلى صيرورة سعر الكِتَاب الأدبي أرخص من الفجل.. ومن لا يُصدِّق هذا الكلام، ليسأل أصحاب دور النشر وحوانيت بيع الكتب، كي يتأكد من أن نتاجات معظم المبدعين العرب المعاصرين ونقادهم التقريظيين هي الأكثر كسادا، في سوق الكتاب العربي.
وأعتقد، أنا وأمثالي، من رواد هذه السوق، أن كساد تلك الكتب هو نتيجة طبيعية لافتقار معظم الإبداعات الأدبية إلى ملامسة أوجاعنا وهمومنا، ولافتقارها إلى القدرة على الإمتاع والفائدة، ثم لافتقار معظم الكتابات النقدية التي تناولت تلك الإبداعات، إلى الصدق والموضوعية. وإليكم كيف حصل ما حصل..
في البداية كان القارئ العربي/طيب القلب يُصدِّق ما يقوله نقاد أدبه المعاصرون، فيذهب إلى المكتبات أو المعارض المذهلة الزاخرة بالإبداعات، ليشتري الكتب التي نقدوها مادحين مهللين لعظمة مضمونها وروعة فنها ومهارة مؤلفيها.
وكنت ترى الواحد من أولئك القراء، ما إن يشتري الكتاب الذي قرأ عنه، في هذه المجلة أو تلك الصحيفة، حتى يهرول إلى بيته هرولة، وأحيانا يركض ركضاً، غير عابئ بتعريض حياته للخطر دهساً، في شوارع الوطن العربي التي لم تتمرد إلا على قوانين السير؛ وكل ذلك ليصل إلى البيت سريعاً، ويفتح الكنز المعرفي أو الفني أو الأدبي الثمين الذي دفع ثمنه من لقمة عياله، وليُمتِّع نفسه بمطالعة درره، ويغذي روحه (الهزيلة) بمعانيه (الدسمة)، وينهل من ينابيع فنه (العذبة)؛
لكن.........،
ها هو، المرة تلو المرة، ما يكاد يتجاوز غلاف الكتاب الذي اشتراه، حتى ترتسم الخيبة على وجهه، ويعتصر الألم قلبه وجيبه معاً، حسرة على ثمن ذلك الكتاب.
لأنه، إن كان من هواة الشعر وقرائه المغرمين به، لا يجد في ما ينشره معظم شعراء العربية، اليوم، ما يتناسب مع قدرته على الفهم، ومع قابليته على الهضم، ومع ذوقه المتخلف.. ولماذا؟ لأن ركب الشعر الحديث، كما يتوهم بعض شعرائه الفطاحل، قد سبق قراءهم، في عوالم التعبيرات الغامضة التي يصفونهـا بـ (الرمزية)، والرمزية منها براء، ذلك أن أحداً لا يستطيع فكَّ طلاسمها إلا كاتبها نفسه، أو ناقد من أصدقائه المقربين، أخذ على عاتقه دور راوية شعره ومفسره ومسوقه الدعائي، على صفحات الجرائد والمجلات التي عقد أوثق الصلات مع المسؤولين عن التحرير فيها، قبل أن يمتهن النقد.
أما إن كان الكتاب الذي اشتراه ذلك القارئ المسكين رواية، فالأمر أدهى وأمرّ.. ذلك أنه قبل أن يشتريها، قرأ عنها في بعض المجلات المختصة، أنها رائعةُ مؤلفها، وفريدة عصرها وأوانها، بما فيها من موضوعية المضمون والطرح، والالتزام بقضايا الجماهير العربية من الماء إلى الماء، ومن النفط إلى النفض، وبقضايا الشعوب المقهورة من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي؛ وأنها خلاصة التجريبية، والأولى بين الروايات العالمية التي استطاع مؤلفها الفذ أن يستخدم حتى التكعيبية في سرده الروائي، وأن يستفيد من آخر مكتشفات علم النفس الحديث والقديم، ومن أحدث النظريات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والكونية، بما في ذلك غزو الفضاء وحرب النجوم والكواكب والمجرات...
وهاهو المسكين، بعد أن صدَّق هذا الهراء كله، يهرع إلى بيته، ليفتح هذا السِفر العظيم، فإذا به لا يجد لتلك الرواية العجيبة بداية ولا نهاية، ولا يفهم مضموناً، ولا يستمتع بفن.. ولهذا يعيد القراءة ثانية، ثم يعيدها ثالثة ورابعة، لكن دون جدوى، وحين يبلغ به اليأس من الفهم منتهاه، يتجرأ ويفتح فمه ليسأل، على استحياء، محاولاً العثور على تفسير، بعد أن يتهم نفسه بالغباء الثقافي والعمى الفكري، وفقدان الذوق الفني/ الكلاسي والحداثوي، معاً.... وما إن يصل سؤاله إلى السادة النقاد، حتى يهبوا لنجدته، فيسارع بدوره إلى التهام تحليلاتهم وتفسيراتهم، عساه يجلو، بقراءتها، ما استغلق على فهمه، وما هي إلا مقالة أو مقالتين، من كعب دست قرائحهم، حتى يجد القارئ نفسه غارقاً في دوامة أكبر وأعقد من المصطلحات والعبارات النقدية، التي يصبونها في أذنه. وتكون النتيجة، بالتالي، أن القارئ، وعلى الرغم من كل ما يتحفه به سادتنا النقاد، من مصطلحات ومفردات غريبة ينثرونها في كتاباتهم النقدية، ليثبتوا له اتساع ثقافتهم المعرفية، وليكرهوه على الاقتناع بعمق رؤيتهم النقدية، يظل المسكين يشكو، فنياً ومضمونياً، من سوء هضم الرواية المنقودة ومن سوء هضم نقدها...
أخيراً، وبعد أن ييأس تماماً، من فهم الرواية ونقدها، يرميها جانباً، ثم ما إن يخلو لنفسه، ساعة من نهار أو ليل، حتى تراه ينظر يمنة ويسرة، مستطلعاً، إن كان ثمة من يراقبه، وحين يطمئن إلى أن أحداً لا يراه إلا الله، يسارع إلى الروايات القديمة الموصوفة بـ (المتخلفة والرجعية وغير الحداثوية)، ليعيد قراءتها بنهم، شاعراً بمتعة لا تعدلها متعة، متعجباً، في أثناء ذلك كله، من عدم تطوره وارتقائه إلى مستوى الرواية المعاصرة في الفهم والتذوق، ثم قانعاً بتخلفه، وهو يعزي نفسه قائلا: (بلا حداثة، بلا وجع قلب)..
وإذا انتقلنا من الرواية إلى القصة القصيرة، فهنا الطامة أعظم والمشكلة أعقد.. ذلك أن كل من أسعفه حظه السعيد بمعرفة مسؤول إعلامي، في هذه الجريدة أو تلك المجلة، ووجد في نفسه، وقلمه الفاخر، القدرة على أن يخربش سطرين لا معنى لهما، إلا في قلبه وتأويل نقاده، يسارع إلى قذف القارئ العربي بهذين السطرين، معلناً له أنهما قصة قصيرة، عليه أن يعجب بها، شاء أم أبى...
والويل كل الويل، لهذا القارئ، إن أبدى، ولو ملحوظة صغيرة، قائلاً، على استحياء، إنني لم أفهم ما أردته يا سيدي من هذين السطرين الناصعين.. عندها ستقوم جحافل النقاد، من أصدقاء القاص ومعارفه ومتملقيه، بشنِّ هجوم، لا أول له ولا آخر، على ذلك القارئ المتخلف، متهمين إياه بالرجعية ومعاداة الحداثة والفن والنظرية النسبية والمدرسة الشكلانية والرؤية الماورائية والماتحتية والمافوقية والماجيبية، وبالرغبة في عدم لحاق العرب، ولو في مجال الأدب، على الأقل، بركب الدول المتقدمة.
وهنا، ينكفئ القارئ المسكين على نفسه، ويعضُّ على لسانه، خوفاً من حراب النقاد وسكاكين ألسنتهم المسنونة، ثم يصفق بيديه، متصنعاً البله، لنصٍّ لم يفهم منه حرفاً واحداً، وفي داخله صوت يقول: (الهريبة من ألسنة النقاد ثلثا المراجل).
ولعل كل ما سبق يبدو سهلاً إذا ما قُورن بفعلة من غضب الله عليه، من القراء، فجرؤ ورفع رأسه، أو فتح فمه قائلاً، ولو همساً: إنني لا أفهم ما يكتبه السادة النقاد المعاصرون من نقد، سواء ما يكتبونه نقداً لأعمال قديمة أو لأخرى معاصرة.. عندها يكون، مثل هذا القارئ، قد ارتكب الجريمة التي لا تغتفر، وأتى الكبيرة التي تتجاوز في إثمها الإشراك بالله وعقوق الوالدين، واقترف خطيئة دونها خيانة الوطن وقتل الإنسان البريء والكلاب المدللة..
لم تفهم النقد الحديث؟ أتعرف لماذا؟
لأنك جاهل أولاً، ما في ذلك شك. ثم لأنك متخلف تضيِّع وقتك في الجري وراء لقمة العيش، ومتابعة الانتصارات العربية في الخليل وغزة، ووحشية إسرائيل في جنوب لبنان وشماله وشرقه وغربه، وعربدة مسؤوليها في معظم أنحاء الوطن العربي، دون أن يقول لها أحد (ما أحلى الكحل بعيونك)، ثم لأنك تتابع أيضاً مأساة الشعب العراقي، وبعض المآسي العالمية التي لا تخصك، مثل مذابح الشيشان في روسيا، وقبلها مذابح الصرب في البوسنة، ومجاعات المتخلفين في الدول الإفريقية، وأحداث أفغانستان، وغير ذلك من الهموم التي تحملها لك نشرات الأخبار، كل دقيقة....
ولو أنك اكتفيت بكل هذه البلايا التي تملأ بها وقتك ورأسك، لظلَّ لديك وقت للقراءة والفهم، لكنك، وبسبب تخلفك، هاأنت ذا تُضيِّع المزيد من وقتك الثمين في مشاهدة المسلسلات الأجنبية الهابطة بدلاً من الدراما العربية الصاعدة، وفي سماع الأغاني العربية البالية، مثل أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، بدلاً من تشنيف أذنيك بأغاني مطربي الموجة الحديثة الذين استطاعوا الوصول إلى مستوى النثاعير (شعراء النثر)، في تقديم أغانٍ لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.... وقد كان يكفيك أن تسمع هذا اللون الجديد من الغناء العربي المعاصر، لعدة أشهر فحسب، حتى تكتسب بعض الثقافة الحداثوية، لكنك، لجهلك، لم تفعل، ولهذا، أيها الجاهل، لا تفهم ما نكتبه لك من نقد!!!
وإذ يبلغ الحماس بسادتنا النقاد أقصاه، تراهم يرفعون أصواتهم أكثر، وهم يُقَرِّعُون القارئ العربي ويُؤنبونه، قائلين: وقد زاد في قلة فهمك، عزوفك التخلفاوي هذا عن التعرف على المصطلحات النقدية المستجدة، وفهمها، وحفظها عن ظهر قلب، ثم تطبيقها على النصوص الأدبية المعاصرة بشكل موضوعي رصين، كما نفعل نحن.. نعم، لو أنك فعلت كل هذا، لفهمت كتاباتنا النقدية، ولأفدت منها، في زيادة معرفتك وفي (ترفيع) ذوقك، ولكنت ارتقيت بها إلى مستوى النثاعير، ومبدعي اللاقصة، وخالقي اللارواية، ومطربي الموجة الحديثة الذين تهز كلمات أغانيهم وألحانها، مشاعرك ومشاعر الذي خلفك، رغماً عن أنفك وأنفه..
ويبتلع القارئ العربي كل هذا الهذيان بهدوء، ويُطاطئ رأسه حياء، ولكن، مع ذلك، يأبى عقله السقيم أن يفهم إلا نقد ابن قتيبة والجرجاني وابن سلام من الرعيل الأول، وما كتبه العقاد والرافعي والمازني وطه حسين وغيرهم من رعيل المحدثين..
وبعد، هل أسأت الأدب؟ أقصد الأدب بالمعنى الأخلاقي لا بالمعنى الإبداعي؟ أرجو أن أكون فعلت، لأن قلبي ملآن غيظاً وحنقاً، من أكثر سادتنا، المبدعين منهم والمبدعات، شعراء كانوا أو شاعرات، وروائيين أو روائيات، وقاصين أو قاصات، ومتمسرحين أو متمسرحات، ولأنني أكاد أُجَنُّ طرباً، وأطقُّ فرحاً وسروراً، وأنا أشنف أذني، رغماً عن أنفي وأنف الذين خلفوني، بما تجبرني الإذاعات العربية التي صارت كلها تَدَّعي الأولية، على سماعه، من أصوات المطربين الشبان والمطربات.. كما أرجو من الله، صادقاً، أن يجعل كلامي هذا أكثر ثقلاً وإزعاجاً، للسادة النقاد العرب المعاصرين والسيدات الناقدات، على أمل أن يرحمونا قليلاً من نقدهم التقريظي الذي صار يسبب لنا الغثيان، وأن ينظروا إلى جهلنا بما بلغته عبقرياتهم الفذة، من رفيع المستوى الذي لا ترقى إليه أفهامنا، نظرة الأم الرؤوم إلى ابنها الغبي..
وخلاصة ما أريد قوله هو أنني أرجو من مبدعينا أن يتكرموا علينا بأدب نفهمه، وأرجو من نقادنا خصوصاً، أن يكتبوا لنا نقداً نهضمه.. أي نريد أدباً على قدِّ عقولنا، ونقداً على قدِّ معارفنا..
بتعبير آخر: نريد نقداً ليس فيه مصطلحات (شكلانوية وتعبيروية وتركيزوية وتحليلوية وحداثوية ومتخلفاتوية ومطبلاتوية ومزمراتوية) وما شابه من مصطلحات أخرى (بهلوانوية)..؛ لأننا ـ يا سادتي الفطاحل ـ قراء ذوو مواهب (قزماوية)، أمام عبقرياتكم (العملاقوية).. وقد يكون من سوء حظكم، أو من سوء حظنا، لا فرق، أننا لسنا على مستوى تلك العبقريات، لكن مأساتكم تكمن في أنكم بحاجة إلينا، لنقرأ ما تكتبون ونصفق له، أكثر من حاجتنا لكم، لتثقفونا وتمتعونا.. ذلك أننا بدون قراءتنا لكتبكم الفظيعوية، لن نموت جهلاً، أما أنتم، فستموتون إهمالاً وكمداً، إذا لم نقرأ ما تكتبون، ولا أظنني أبالغ إذا زعمت أنكم قد تموتون فقراً وجوعاً أيضاً إذا لم نشترِ ما تنشرون؛ فساعدونا لنساعدكم، وسامحونا إذا تجرأنا على مقامكم الرفيع...

[/align]

طلعت سقيرق 11 / 07 / 2008 03 : 10 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
(قراءة في الشعر العربي المعاصر)
عنوان برَّاق لكتاب باهت
[align=justify]
من الظواهر التي باتت مألوفة في عصرنا الراهن الذي تطورت فيه أساليب الطباعة والنشر إلى حد يُعَدُّ خيالياً، قياساً بما كانت عليه هذه الأساليب، في العصور السابقة، ظاهرة التدفق الكمي، شبه اليومي، لكتب جديدة، معظمها غث، وجيِّدها قليل... وقد صاحَبَ هذه الظاهرة أخرى لا تقل عنها شأناً، هي عناية مؤلفي الغث بالبحث عن عناوين براقة، أو ذات دلالات طنانة رنانة، يزيِّنون بها أغلفة كتبهم جذباً للقارئ الذي ما إن يقلب غلاف أحدها، ويقرأ فهرس محتوياته، أو بعضاً من مقدمة مؤلفه، حتى يزول بريق العنوان الذي جذبه، ليجد نفسه أمام كتاب يهزُّ البدن..
أرجو، صادقاً، أن لا أكون مفترياً ولا متجنياً، إذا وصفت كتاب (قراءة في الشعر العربي المعاصر) لمؤلفه (محمد الزينو السلوم)، بأنه نموذج لذلك النمط من الكتب التي تأكل الحسرةُ قلبَك على ثمنها، والوقت الذي أضعته في قراءتها..
فهذا الكتاب الذي يقع في ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، والصادر عام 1999، عن دار الثريا، في حلب، نجح عنوانه، للوهلة الأولى، في إيهامي بأنني سأجد، بين دفتيه، وهو الصادر في أواخر عقد التسعينات، آراء جديدة ومعطيات، وصل إليها المؤلف، وتفيدني قراءتها في معرفة أهم المحاور التي دارت حولها مضامين الشعر العربي المعاصر، والمستوى الذي بلغه في تطوره الفني، خلال القرن العشرين، لدى شعراء سورية وفلسطين، تحديداً، كما ذكر المؤلف في العنوان التوضيحي الذي أدرجه تحت العنوان الرئيس لكتابه.. فهل وجدت فيه هذا كلَّه أو بعضَه؟
في البداية، سارعت إلى فهرسه أستطلعه، كعادتي كلما اقتنيت كتاباً جديداً، لأن الكتاب عندي يُعرف من فهرسه، وليس من عنوانه فقط، فوجدته مقسوماً إلى قسمين، أو بابين ـ كما أسماهما مؤلفه ـ يشتمل أولهما على مادة نظرية، أو تنظيرية، كما توحي عناوين الفصول الثمانية التي يتألف منها هذا الباب، فاستعذت بالله من التنظير النقدي ومنظِّريه الذين لا يأتي أغلبهم إلا بالسمج من الآراء، والمعقد من القواعد، والغريب الغامض من المصطلحات، والجامد من القوالـب التي يطـالبون المبدعين بصبِّ إبداعاتهم فيها لتصبح نصوصاً بلا روح. ولهذا، وجدتني أسارع بالهرب من هذا الباب التنظيري إلى الذي يليه، عساي أجد في محتوياته ما يلائم كلمة (قراءة) التي ابتدأ بها المؤلف عنوان كتابه.
وللوهلة الأولى أيضاً، اعتقدت أنني وجدت ضـالتي في ما حواه الفصلان الأولان من الباب الثاني، لأنهما، كما ينبئ فهرسهما، يتضمنان نقداً تطبيقياً لنتاج الشعراء الذين أُدرجت أسماؤهم تحت عنوان كلٍّ منهما. لكنني ما كدت أجاوز اسم الشاعر الأخير في الفصل الثاني، وتقع عيني على اسم الشاعر الوحيد في الفصل الثالث، حتى وقف ما بقي من شعر رأسي، وهو قليل، ووجدتني أضرب كفاً بكف، وأنا أردد، بين الدهشة والتحسر، المثل الشعبي المعروف: (جاءت الحزينة تفرح، فما لقيت لها مطرح). والسبب في هذه الدهشة المفاجئة التي اعترتني، على حين غرة، إفراد فصل خاص، في كتاب عن الشعر العربي المعاصر، للحديث عن (عنترة العبسي) الذي أعلم علم اليقين بأنه شاعر جاهلي وليس معاصراً!.
ووسط تساؤلات استنكارية كثيرة طفت على سطح دهشتي، وجدتني أحاول البحث عن عذر للمؤلف، يسوغ له هذا الخلط بين شعراء المعاصرة وأحد فحول شعراء الجاهلية، فحدثت نفسي، ناسباً إليها الجهل، ومعللاً: ربما قصد المؤلف شاعراً معاصراً لقَّب نفسه باسم هذا الشاعر الجاهلي المشهور، كما فعل الشاعر الكبير (بشارة الخوري) الذي لقَّب نفسه بـ (الأخطل الصغير)، نسبة إلى الشاعر الأموي (الأخطل التغلبي) الذي كان أحد شعراء النقائض إلى جانب جرير والفرزدق.
وعلى هذا، سارعتُ عائداً، بحسن نية، إلى فتح الكتاب على الفصل الخاص بعنترة، لأجد أن المؤلف قد خصَّص هذا الفصل للحديث عن شاعرنا الجاهلي إياه، عنترة العبسي/صاحب عبلة، وليس عن أحدٍ غيره، من شعراء العصر الحديث، تلقب بلقبه، كما فعل (بشارة الخوري)!!! فرحْتُ أسائل نفسي، مستغرباً: كيف ذلك؟ وعلى أي أساس أقحم المؤلف شاعراً جاهلياً كـ (عنترة) بين أولئك المعاصرين الذين أخبرنا في عنوان كتابه بأنه قصر كتابه الفذ للحديث عنهم؟ أتراها غفلة عارضة، أم أن جرأة شاعرنا الفارس عنترة وصلت إلى حد اقتحام حواجز الزمن، والانتقال من الجاهلية إلى المعاصرة، في بعض كتب النقد العربي الحديث، دون أي عوائق، كما كان يتنقل بين ساحات الوغى في معاركه الشهيرة؟
هذه الأسئلة، ومثيلاتها، ظلت تتدافع في رأسي وتتعارك، باحثة عن إجابة معلِّلَة، حتى وجدتها، في الصفحة التاسعة والثلاثين من الكتاب، ضمن العبارة التي ختم بها مؤلفُه تعدادَه لأسماء الشعراء الذين درسهم، والتي قال فيها، موضحاً: (بالإضافة إلى الشاعر الفارس عنترة العبسي الذي أحببت شعره، برغم أنه ليس من المعاصرين).. عندها، لم أملك نفسي من شدة الفرح، فقفزت من مكاني سروراً، وأنا أصيح حبوراً، صيحة أرخميدس الشهيرة: (وجدتها.. وجدتها)..
وبعد ظَفَرَي بهذا الاكتشاف العظيم، بعد طول بحث وتنقيب، في جنبات الكتاب وأرجائه، تنهدت مرتاحاً، وتنفست الصعداء، ثم استرخيت، وأنا أحمد الله على أن المؤلف لا يجهل أن عنترة شاعرٌ جاهلي وليس معاصراً، وعلى أنه ما حشر الحديث عنه، في كتاب مخصص للحديث عن شعراء معاصرين، إلا جرَّاء حبه العظيم القاهر لهذا الشاعر الكبير. ولأنني ممن يعذرون المحبين، مهما فعلوا وقالوا، في مجال التعبير عن حبهم لمن يحبون، عذرت الأستاذ السلوم، ورحتُ أقول لنفسي، معزياً: حسناً، فلنقرأ ما جاء به هذا المحبُّ المغرَم، من جديد عن شعر محبوبه القديم.. فقرأتُ، وليتني لم أفعل، ذلك أنني لم أجده، في كل ما ذكره عن حياة عنترة وشعره، قد أتى إلا بتكرار مشوَّه لما قاله الأقدمون.. فطويت الكتاب أَسِفاً، ثم رحت أضرب كفاً بكف، وأنا أردد: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، بيأسِ واستسلامِ من عاد من سفره الطويل بخفيِّ حنين..
      
على إثر صدمة اليأس هذه من الظفر بجديد في جولتي الأولى مع كتاب الأستاذ السلوم، راودتني الرغبة في العزوف عن متابعة قراءته، لكن شغفي اللعين بالكتب، وتشوقي الفضولي إلى معرفة ما في بطونها، جعلاني أتراجع عن قراري، فضغطت على أعصابي، ورحت أحتال على نفسي، ممنياً إياها بالثمرة اليانعة الشهية التي ستجنيها في ختام قراءتها لهذا الكتاب، مخاطباً إياها بلهجة هي بين الإغراء والتشجيع والتقريع: وما يدريك، يا نفس ـ رحمك الله ـ أن تجدي المعرفة، حتى لدى (ناقد) حشر عنترة بين دفتي كتاب خصَّصَه للشعر المعاصر؟ ألا تعلمين أيتها النفس المغرورة، أن المعرفة ليست وقفاً على ناقد بعينه، وأن الله قد يجري الحكمة ويأتي بالفائدة، حتى على لسان ناقد يظن الجهل في قرائه، إلى درجة التَوَهُّم بأنهم لا يميزون الألف من العصا، ولا الخمسة من الطمسة، في عالم النقد والأدب؟
وهكذا، مازلت بنفسي أغريها بمتابعة قراءة ما حواه كتاب الأستاذ السلوم من غريب النقد ومدهشه، حتى استجابت، فأخذتُ بيدها رقيقاً، وسرت بها رفيقاً، نتفيأ معاً بعضاً من طرائف السلوم النقدية غير المسبوقة، ونتنسم فوحَ آرائه واستنتاجاته التي راح يُتحفنا بها ـ رعاه الله ـ بتلك اللهجة الأستاذية المرموقة، فإذا بنا ننتهي من مطالعة الفصول الثمانية، التي حواها الباب الأول، في كتابه، إلى فرائد من الفوائد، وبدائع من الأحكام والقواعد، أتوهم أنها صارت من البدهيات، وربما من المنسيات، حتى بالنسبة لأقل قراء كتابه معرفة، في الأدب والنقد. وهاكم، ياسادتي، بعضا من هذه الدرر التي لم أعثر على مثلها حتى في نقد العرب والعجم والبربر:
 على خلفية توهمه أن بين قرائه من لا يزال غير قادر على التمييز بين النقد والإبداع الأدبي، مثلاً، أجهد الأستاذ السلوم نفسه، ليأخذ بيد أولئك القراء الجهلاء، ويساعدهم على التمييز بين الأدب والنقد، بتلك العبارة الجامعة المانعة التي يقول فيها ـ جزاه الله عنا ما يستحق ـ معرفاً وموضحاً، مع أنه لم يستخدم من علامات الترقيم سوى المائلة فقط، للفصل بين أجزاء عبارته الرائعة: (والنقد برأيي يختلف عن الإبداع الأدبي/ كالشعر والقصة والرواية.. إلخ/ ولكنه إبداع من نوع آخر)( )..
 ولخشيته علينا ـ نحن قراءه ـ من الانزلاق وراء التوهم بأن نقد الأدب يعتمد على التذوق فقط، سارع ـ أعلى الله مراتبه ـ إلى تبصيرنا قائلاً: (النقد الأدبي يجب أن لا يقتصر على النقد التذوقي)( ).. ومع ذلك نراه يعود، بعد قليل ليصف لنا ما كتبه في الباب الثاني من كتابه بقوله: (هذه الدراسات تحليلية أكثر ما تكون نقدية وهي مجرد قراءات وانطباعات ذوقية باعتباري شاعراً قبل أن أكون دارساً)( )!! أليس هذا هو التناقض بعينه، يرحمك الله؟!!
 وخوفاً من أن يشكك أحدنا بوجود علاقة بين المُنْتَج الأدبي والنقد، سارعَ ـ أحسن الله نقدَه ـ إلى إزالة الشك من نفوسنا في هذا المجال، حين أكد لنا أن (للمنتَج الإبداعي وحجمه علاقة بالنقد الأدبي)( )..
 أما فتح الفتوح المعرفية في طبقات السلوم الشعرية، وتحفة اكتشافاته النقدية التي تفضَّل وأهداها للجاهلين من قراء العربية، في مقدمته النظرية/ التنظيرية، فقد ضمَّنه في قوله، بتلك اللهجة الأستاذية: (ولابد من التنويه إلى ما هو مهم ومهم جداً وهو تعلق بعض الأدباء بالحداثة المفرغة عن محتواها ومضمونها..)( ). ولا يقل عن هذا الفتح أهمية قوله بعد عدة صفحات، مميزاً بين النقد والبلاغة: (إن النقد فن أما البلاغة فهي علم)( )، ولماذا كان النقد فناً يا أستاذنا؟ يجيبنا الأستاذ سلوم، في الصفحة نفسها، بأسلوب (وفسرَ الماء، بعد الجهد، بالماء) قائلاً: (ودُعي فناً لأنه يعالج معالجة فنية..)( )، الله أكبر، ما هذا؟ ألا إن هذا هو النقد ـ والله ـ وإلا، فلا لا لا!!!
وليعذرني الناقد إذا لم أمضِ في استعراض كل ما حشده من فوائد، في هذا الفصل التنظيري، وما يليه من فصول الباب الأول من كتابه، ذلك أن استعراضها جميعاً، مع ما تحتاج إليه من شروحات وإضاءات، يحتاج إلى كتاب أكبر من الذي أوردها فيه أستاذنا، موجزةً مكثفة..
إلا أني، مع رغبتي في الاختصار، أجدني غير قادر على إغفال تلك الدرة الثمينة التي سلكها الأستاذ السلوم في الصفحة /32/ وما يليها، فجاءت واسطةَ عقد اكتشافاته وفريدَته .. فعلى خلفية افتراضه ـ سامحه الله ـ أن الجهل قد وصل بقراء كتابه، إلى حدٍّ يحتاجون معه إلى من يُعرِّف لهم ما تعنيه كلمة (مثقف)، وليقينه بأنهم لن يستطيعوا استيعاب تعريفه للمثقف، إذا لم يمهد الطريق أمامهم بتعريفهم ما تعنيه كلمة (ثقافة)، فقد خصص لهم ـ أحسن الله إليه ـ فصلاً خاصاً هو الفصل السابع، من الباب الأول، ليُعرِّف لهم هاتين الكلمتين الهامتين اللتين لا غنى لأي دارس أو متذوق للشعر العربي المعاصر، عن معرفتهما.... وحرصاً منه على تثقيفهم بما تعنيه كلمتا (مثقف وثقافة)، ولخشيته عدمَ انتباههم إلى أهمية ما كتبه لهم حول هاتين الكلمتين، في هذا الفصل، عمد إلى صياغة عنوانه على شكل سؤال تنبيهي يقول: (من هو المثقف)؟!!!
وبعد، فليسمح لي الأستاذ السلوم، أن أشكر له جهده المبذول، في تعريفي، كقارئ، بمبادئ النقد والأدب والثقافة، وإن كنت أعترف بعجزي عن فهم بعض ما كتبه من جمل مفككة وعبارات مشتتة، أوردَها في هذا الفصل، لا علاقة بين دلالاتها، أحياناً، لأن بعضها يأتي من الباب والآخر من الشباك، جراء صياغته لتلك الجمل والعبارات بأسلوب (تيار الوعي) الذي أسجل له أسبقية استخدامه في كتابة النقد، رغم أنه أسلوب روائي لا نقدي، في حدود ما أعلم..
كما أرجو من الأستاذ السلوم أن يعذرني، أيضاً، إذا كنتُ أخالفَه بعضَ ما جاء في فصول بابه الأول، من تعريفات للنقد والأدب ودورهما. فأنا، مثلاً، لست معه في تقزيم دور النقد بقصره على (إضاءة النص الإبداعي وتفكيكه وتقريبه من فهم القارئ أو المتلقي)( )، بل أعتقد أن للنقد مهمات أخرى كثيرة لا تقل شأناً عما ذكر، ولكن لا تتسع هذه القراءة لذكرها جميعاً، والحديث عن أهميتها.
      
هذه إطلالة سريعة على جانب مما جادت به قريحة الأستاذ السلوم، في الباب الأول، من كتابه الذي أرى أن يغير عنوانه من (قراءة في الشعر المعاصر) إلى (غريب النقد العربي المعاصر).. ذلك أن ما حواه هذا الباب من الغرابة، لا يفوقه غرابة وقدرة على إثارة الدهشة والاستياء معاً، إلا ما حواه الباب الذي يليه، من آراء وشروحات وتحليلات لنتاجِ من اختارَ دراستهم، من (شعراء سورية وفلسطين)، في القرن العشرين..
وهنا، أودُّ، بداية، أن ألفت الانتباه إلى أن الشعراء الذين اختار الأستاذ السلوم وضع نتاجاتهم تحت مجهره النقدي المتميز، لا يتجاوز عددهم الواحد والعشرين شاعراً فقط.. ولكم حاولت الاهتداء إلى العوامل التي جعلته يختار هؤلاء الشعراء فقط دون غيرهم، ليختصهم بنقده، فلم أظفر بطائل، وبالتالي لم أظفر بإجابة مقبولة أو مقنعة عن تلك التساؤلات التي ظلت تلحُّ على تفكيري، حول عدم الشمولية في كتاب السلوم، ومن أبرز هذه التساؤلات:
هل يجوز منهجياً، في كتاب خصصه مؤلفه للحديث عن الشعر العربي المعاصر، في سورية وفلسطين، الاقتصار على تلك القلة من شعراء الصف الثاني والثالث، في هذين القطرين الشقيقين، باستثناء اثنين أو ثلاثة ممن ذكرهم، في كتابه، وفي مقدمتهم شاعرنا الكبير (نزار قباني)؟ فباستثناء نزار، السوري الأصل، هل ترك أيٌّ ممن ذكرهم الأستاذ السلوم، في كتابه، بصمةً مميزة في تطور الشعر العربي المعاصر، في سورية وفلسطين، حتى وقع عليهم اختياره، ليقدمهم إلى قرائه بوصفهم العلامات البارزة في مسيرة هذا الشعر، خلال القرن العشرين؟ وإذا كان يظن أن من اختار دراستهم، في كتابه، هم كذلك فعلاً، فبماذا يصفُ، إذن، بعض من أغفل ذكرهم من عمالقة الشعر، أمثال الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة، والفلسطيني حسن البحيري؟ هل كان هذان أقل فناً وتأثيراً وشهرة ممن ذكرهم؟ وغير هذين، ثمة كثيرون جداً من الشعراء المجيدين الذين لم يجدهم الأستاذ السلوم أهلاً للحظوة بشرف نقده لإبداعاتهم، كما يبدو..... منهم، في سورية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: (محمد عمران وعلي الجندي ومحمد الماغوط ومحي الدين البرادعي وشوقي بغدادي وفايز أبو خضور وسهيل ابراهيم وعبد المعين الملوحي وعبد الكريم عبد الرحيم ومصطفى عكرمة) وغيرهم وغيرهم من الشعراء السوريين.. وبين الشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا في سورية، ربما لم يسمع الأستاذ السلوم بشاعر يدعى يوسف الخطيب، مثلا، ولا بآخر يدعى خالد أبو خالد!! ويظل السؤال يدور في الذهن ويدور باحثا عن إجابة: أين ذهب كل هؤلاء وأولئك، ولماذا لم يتعرض الناقد لنتاجاتهم الشعرية، في كتابه، من قريب أو بعيد؟
أترك للأستاذ السلوم مهمة الإجابة عن هذا السؤال وما سبقه، لأنتقل إلى تسجيل احتجاجي، منهجياً، على وضع أربعة من الشعراء الذين اختار دراستهم في فصل مستقل، هو الفصل الأول من الباب الثاني، ليحشر الشعراء السبعة عشرة الباقين، في الفصل الثاني، دون أي مسوغ منهجي أو سبب معقول.. فلو كان الهدف من فصل هؤلاء عن أولئك، تمييز المجيد منهم عن نقيضه، والمشهور عن المغمور، أو السوري عن الفلسطيني، لكان للمؤلف عذره.. لكنه حشر، في الفصل الثاني، القليل من المشهورين الذين درسهم، وفي مقدمتهم نزار قباني، مع تلك الجمهرة من الشعراء الذين لم يسمع بأكثرهم أحد، كما حشر السوري محمود علي السعيد، مع الفلسطيني طلعت سقيرق، وبذلك سقط، منهجياً، مسوغ توزيع شعرائه على فصلين.. وبسقوط هذا المسوغ، يصل الدارس إلى قناعة أكيدة تقول: إن المعيار الوحيد الذي اعتمده الناقد في توزيع شعراء دراسته على فصلين مستقلين، كان معياراً مزاجياً لا أكثر، وإذا لم يكن كذلك، فلا تفسير لهذا التوزيع سوى أنه كان اعتباطياً.
وبالإضافة إلى التوزيع الاعتباطي للشعراء الذين درسهم السلوم، على فصلي الباب الثاني من كتابه، ثمة عيب/منهجي ومعرفي آخر يتمثل في إيجاز الحديث إلى حد الابتسار، لدى تناوله شاعراً كبيراً مثل نزار قباني، والإسهاب والإطناب، إلى حد الإطالة المملة والمخلة، منهجياً، في الحديث عن شاعر ليست له شهرة نزار ولا فنه ولا حضوره، في حركة الشعر العربي المعاصر. وإلا كيف نفسر إيجاز السلوم لحديثه عن نزار، في خمس صفحات فقط، /216 ـ 220/، مقابل أربع وثلاثين صفحة /139 ـ 172/، أفردها للحديث عن الشاعر محمود علي السعيد، رغم احترامي لشخص السعيد الذي لم أسمع به، ولا قرأتُ شعره؟
وإذا كان يمكن للباحث أن يضغط على نفسه وأعصابه، ويتعامى عن مجمل الأخطاء المنهجية، آنفة الذكر وغيرها، مما لا يتسع المجال لذكره، مقابل متعة حصَّلها، أثناء قراءة كتاب السلوم، أو فائدة قنصها، فإن مما يبدو التغاضي عنه صعباً إلى حد الاستحالة، هو ذلك التحليل المتهافت للقصائد التي اختارها السلوم كنماذج من شعر الشعراء الذين اختار دراستهم، في كتابه.. وهنا، أود التوقف قليلاً، لإلقاء بعض الضوء على أسلوب المؤلف في النقد التطبيقي الذي مارسه في كتابه، وما يميز هذا الأسلوب من سمات، لعل أبرزها:
1 ـ ابتعاده عن الموضوعية، واعتماده (موضة) النقد التقريظي التي شاعت، في كتابات الكثير من النقاد العرب المعاصرين، في الآونة الأخيرة، وأقصد بها تلك الكتابات المدحية الثقيلة الظل التي تجلدنا بها الصحف والمجلات الأدبية، كل يوم، والتي يدبجها مؤلفوها، في كتابات لا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يطلقوا صفة (الإبداعية) عليها..
لقد اختار الأستاذ السلوم أن يكون، في نقده التطبيقي، كمؤلفي ذلك النمط من النقد التقريظي، في حديثهم عن كل ديوانِ (شعر) جديد يصدر، لشاعر قد لا يعرف للشعر وزناً، ولا للصورة الشعرية شكلاً، ولا حتى للكلمة الحلوة الموحية سبيلاً.. ومع ذلك، نراهم، فيما يكتبونه عن مثل هذا الشاعر الضعيف، لا يملكون أنفسهم من شدة الإعجاب بما جاء به، ولا مشاعرهم من شدة التأثر بشعره وصوره التي لم يسبقه إليها شاعر قبله من القدامى والمحدثين، بينما شعره، في الواقع، لا يهزُّ سواه وناقدَه الذي غالباً ما يكون من أصدقائه، وقد كتب ما كتب مجاملاً أو بهدف الإشهار.
نعم، لقد اختار الأستاذ السلوم أسلوب النقد التقريظي للكتابة عن شعر من اختارهم في كتابه، ولهذا لم نجد مسيئاً واحداً بينهم، ولا ضعفاً في أسلوب أيٍّ منهم، فكلهم مجيد، وفنان متفرد في شعره وفريد. كلهم مؤثِّر، صادق الحس، صادق التعبير جزلُه، وصوره معبرة و(تأخذ العقل). وغير ذلك من العبارات المدحية التي راجت في سوق النقد التقريظي المعاصر، والتي باتت لتكرارها في كتابة نقاد التقريظ مملة ومثيرة للغثيان أيضاً..
وقد يسامح المرء ناقداً تقريظياً أخذ راحته في مدح بعض الشعراء من أصدقائه، لكنه لم يتفلسف ويتحدث ناعياً على النقد التقريظي ونقاده، كما فعل الأستاذ السلوم، الذي يقول في الصفحة الحادية عشرة من كتابه: (النقد ليس مجرد إرضاء للخواطر أو تجريحاً وليس مجرد إضاءات أو تطييب أو تربيت على الأكتاف.....)، وفي الصفحة الثالثة عشرة نقرأ: (...النقد كما ذكرت من قبل ليس المدح والقدح فقط...)، وفي الصفحة التاسعة والثلاثين: (وقد حاولت أن أكون موضوعياً في دراساتي ولم أترك لعاطفتي التحكم فيما أقول). لكنه، وبعد هذه العظات جميعاً لم يأتِ إلا بالتقريظ، فمدح هذا وذاك، دون اعتماد أي معايير، موضوعية أو غير موضوعية.. ألا صدق الله العظيم في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)..
2 ـ وإذا تجاوزنا المدح والتقريظ، بحثاً عن التحليل الذي وَعَدَنا به في الصفحة التاسعة والثلاثين من كتابه، حين وصف قراءاته لأشعار من اختارهم بأنها تحليلية، لما وجدنا للتحليل أثراً، بل كان جلّ ما تضمنته فصول بابه الثاني، شروحاً وتعليقات على بعض القصائد التي اختارها، تشبه، إلى حد كبير، ذلك الذي نقرأه في الواجب المدرسي لطالب في المرحلة الإعدادية أو الثانوية، طلبَ منه أستاذه أن يشرح قصيدةً لشاعر من الشعراء الموجودين في كتابه المدرسي.. وإذا كان السلوم يتفوق على هذا الطالب في شيء، فبالمدائح التي ينظمها نثراً في شعر جميع من كتب عنهم..
وبعد، أخلص من كل ما سبق إلى النتيجة التالية:
أرجو من الأستاذ السلوم ألا ينظر إلى ما كتبته عنه وعن كتابه، على أنه تحامل، فأنا لا أعرفه، كما أرجوه أن لا ينظر إلى رأيي في كتابته إلا على أنه رأي قارئ عادي، وأنا متنازل له سلفاً عن كل الألقاب، فلست أستاذاً في الأدب أو النقد، ولا مختصاً، ولا توجد قبل اسمي (د.) تدل على علوِّ كعبي في أي فن أو مجال، ولست موسوعياً، ولا غير ذلك، بل أنا مجرد قارئ، يا سيدي، وأظن أن لي احترامي، كقارئ فقط، لدى جميع الأدباء والنقاد، إذا كانوا صادقين فعلاً، فيما يدعونه، في مقدمات منشوراتهم، من أنهم من أجلي ـ أنا القارئ ـ يُتعبون أنفسهم، ويجلدون قرائحهم، لكي يقدموا لي ما يثقفني ويفيدني ويطربني، وغير ذلك من الأهداف النبيلة التي أشكرهم عليها من كل قلبي.....
لكن اعترافي بفضل جميع المبدعين والنقاد عليَّ، كقارئ، لا يعني، في رأيي، أن أتحول إلى متلقٍّ سلبي لكتاباتهم، ولا إلى مستقبل لفيض قرائحهم، دون أي تعليق، ولا إلى معجب، بالإكراه، بما يأتون، سواء كان جميلاً أو قبيحاً، ولا إلى مُطبِّل لعبقرياتهم ومُزَمِّر، عن اقتناع وعن غير اقتناع؛ بل لي الحق، كقارئ، أن أحاكم ما يكتبون، وأن أحاول فرز ثمين كتاباتهم من غثها، والتمييز بين جميلها وقبيحها، ثم تقييمها، بقدر المتعة والفائدة اللتين حصلتهما من قراءتي لتلك الكتابات.. وأعتقد أن جميع الأدباء والنقاد، بمن فيهم الأستاذ السلوم، لا يمانعون في أن أمارس دوري النقدي الفطري هذا، أما إذا كانوا يرفضون، فأرجوهم أن يكفوا عن الادعاء بأنهم يكتبون من أجلي، وأن يحتفظوا بما يكتبونه لأنفسهم..

[/align]

طلعت سقيرق 11 / 07 / 2008 06 : 10 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
قراءة في رواية
(جسر الموت)


[align=justify]شأن العديد من الروائيين العرب المعاصرين، بدأ (باسم عبدو) كاتباً للقصة القصيرة، فأصدر عام 1991، مجموعة قصصية بعنوان (الأخمص الخشبي)، وبعد صدور مجموعته الثانية (وجه وقمر)، عام 1992، تحوَّل إلى كتابة الرواية، فأصدر عام 1994، روايته الأولى (ألوان قزحية)، وفي عام 1997، أصدر له اتحاد الكتاب العرب روايته الثانية (جسر الموت) التي ستكون مناقشتها موضوع هذه الدراسة.
إطلالة على مضمون الرواية
بداية، قد لا يكون خطأ القول: إن أبرز ما يميز رواية (جسر الموت) هو أنها رواية تسجيلية/ذاتية.. وإطلاق هذا التوصيف عليها هو وليد القراءة المتأنية لمضمونها الذي يقود تحليل مادته إلى الاستنتاج بأن ما يزخر به هذا المضمون من أحداث هو خلاصة تجربة شخصية خاضها مؤلف الرواية، في إحدى مراحل عمره، بوصفه عنصراً في القوات السورية التي أُرسلت إلى لبنان، في بداية الحرب الأهلية التي نشبت بين أبنائه، لنجدتهم والحيلولة دون استمرار الاقتتال بينهم..
وإذا كان ثمة ما يمكن اتخاذه مؤشراً على صحة الاستنتاج بأن الرواية تحكي تجربة شخصية لمؤلفها، فقد يكون ذلك المؤشر وصفه الدقيق للأماكن التي دارت فوقها أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، ثم ذلك الوصف الدقيق أيضاً للمعارك. ذلك أن مادة الوصف، في الحالين، توحي بأن الذي صاغها قد رأى تلك الأمكنة بأم عينه، على أرض الواقع، وعاش الأحداث التي يكتب عنها، بل شارك في صنع بعضها أيضاً.. وثمة مؤشر آخر، يتحسسه قارئ الرواية، وهو ينصت لحديث بطلها مع نفسه، أو، وهو يتابع خواطر هذا البطل المصاغة بلغة شعرية دافئة، إذ يشعر القارئ أن المتحدث، في الحالين، هو المؤلف متماهياً في شخص بطل روايته (محمود)، أو كأنه يستعير لسان هذا البطل ليقول للقارئ بعض ما لم تسمح سردية الحدث الروائي وسيرورته بقوله، لأن قوله، ومن الناحية الفنية تحديداً، يثقل حركية الحدث وتتابعه.. ولهذا، قد لا يكون تجنياً على الرواية القول: إن رغبة المؤلف في مخاطبة القارئ عبر بطل روايته (محمود)، أو عبر غيره من شخصياتها الأخرى، بدا، في بعض المواضع، مباشرةً غيرَ مرغوبٍ فيها، من الناحية الفنية، كما في الصفحات /82/، /83/، /90/، مثلاً.
إذاً، موضوع الرواية هو الحرب الأهلية اللبنانية، في مراحلها الأولى، ودور القوات السورية في محاولة وقف رحى هذه الحرب المروعة والقذرة، في آن..... وهي قذرة ـ كما يؤكد الواقع، وكما حاولت الرواية أن تؤكد أيضاً ـ ليس فقط لأنها كانت حرباً بين الأخوة، بل لأن الخاسر الأكبر فيها كان الشعب اللبناني، بفئاته وطوائفه وشرائحه كافة؛ ولأن إسرائيل، العدو المشترك لأولئك الأخوة الأعداء جميعاً، كانت المستفيد الوحيد والأكبر من اقتتالهم الذي ساهمت، ولاشك، في إشعاله واستمراره لسنوات طويلة... وقد أشار المؤلف إلى هذه الحقيقة، إشارات متعددة ومباشرة، في ثنايا روايته، كما في الصفحات /61، 62، 87/ مثلاً.
على هذه الخلفية الحدثية، رسم المؤلف مشاهد مروعة لآثار الحرب الأهلية اللبنانية التي طالت بأذاها المكان والإنسان معاً. فرسم صوراً رهيبة للدمار الذي كان يصيب الأبنية والمنشآت، إثر كل معركة كانت تنشب بين الأخوة اللبنانيين، كما رسم صوراً مؤلمة ومفزعة معاً، لجثث ضحايا تلك المعارك وهي ملقاة في الشوارع دون دفن، لتؤكد بأوصالها المقطعة ودمائها المسفوحة والروائح المنتنة التي تنبعث منها بعد تفسخها، نوعية الحصاد الوحيد الذي جناه اللبنانيون من الاقتتال فيما بينهم..
لكن، وعلى الرغم من قتامة هذه الصور المأساوية، ومن بين سحب الدخان الأسود المنبعث من الحرائق التي لا تكاد تنطفئ، يظل قارئ الرواية متابعاً لذبالة الأمل الذي ظل متقداً في النفوس، واعداً بإشراق شمس يوم لا حربَ فيه.. بل مما يُحسب للرواية، مضمونياً، أن مؤلفها لم يستغرقه وصفُ مشاهد الدمار والخراب والقتل والخوف، فيُنسيه وصف لحظات الفرح والمتعة في نفوس المتقلبين، طوعاً أو كرهاً، داخل أتون الحرب، بل نقل لنا بعضاً من تلك المشاهد المفرحة الآملة، بشكل مباشر أو غير مباشر، تارةً عبر منظار (حيان) صديق بطل الرواية، وهو يرصد لقاءات المحبين في هدأة المعارك، وتارة عبر الأحاديث التي كانت تدور بين المقاتلين في فترات استراحتهم، أو حين يخلو كل منهم لنفسه..
ومن خلال متابعة تلك المشاهد والأحاديث، خارج ساحات المعارك، نتعرف، في الرواية، على شخصيات عديدة تظهر مع بطلها (محمود)، وتشاركه صناعة الأحداث ومعاناتها. ولعل من أبرز هذه الشخصيات شخصيتا صديقه الحميم (حيان)، والبطلة اللبنانية لهذه الرواية (عائشة). وهناك شخصيات أخرى كثيرة نجح المؤلف في رسمها بواقعية، واستطاع إقناع قارئه بأنها شخصيات حقيقية من لحم ودم، وليست شخصيات نمطية مصنوعة، بدليل ما يبدو في سلوكها وتصرفاتها ومواقفها من تناقض مألوف عند الإنسان، في حياته العادية، وبحسب الظروف التي يمر بها.. فمثلاً، لم يصور لنا المقاتل السوري كائناً أسطورياً لا يعرف الخوف، بل بشراً يخاف حين يشعر بالخطر يحدق به، دون أن يتحول خوفـه إلى خَوَرٍ أو جبن، كما نقرأ في الصفحتين /64/ و/65/ مثلاً.
وتقنعنا شخصيات الرواية بواقعيتها أيضاً من خلال سلوكياتها المختلفة التي قد تكون متناقضة أحياناً، أو تنوس بين الخير والشر أحياناً أخرى. فلا وجود للإنسان المنزه عن الخطأ في الرواية، ولا للإنسان الملاك، بل هناك دائماً الإنسان الذي يصيب تارة فيفرح ويفتخر، ويخطئ تارة أخرى فيأسف ويشعر بالخزي.. وهذا النَوَسَان الإنساني، بين الأسود والأبيض، الذي يبدو في سلوكيات العديد من شخصيات الرواية، ينفي عنها وصمة النمطية..
لكن، هل بالواقعية، وحدها، في رسم الشخصيات، استطاع (باسم عبدو)، في روايته (جسر الموت)، تحقيق ذلك القدر الكبير من التواصل مع قرائه؟ بالتأكيد لا، فهناك عوامل أخرى ساعدته على تحقيق هذا التواصل الشعوري معهم، لعل من أبرزها:
1 ـ حرارة وصفه لأحداث الحرب اللبنانية التي يكتب عنها، وذلك الصدق، على المستويين الواقعي والفني، في وصفه لمشاعر المقاتلين والناس الذين كانوا يكتوون بلظى تلك الحرب. ولاشك أن معايشة المؤلف للأحداث التي يكتب عنها، ومشاركته فيها، كمقاتل، كما سبقت الإشارة آنفاً، قد ساهمت، وإلى حد بعيد، في إيصال الشحنات الشعورية للمؤلف، أثناء معايشته للحدث، وهي ماتزال محتفظة بالكثير من حرارتها، إلى القارئ، الأمر الذي ساهم، بدوره، في رفع معدل التواصل الشعوري بين الطرفين.
2 ـ أما العامل الثاني الذي ساعد الروائي على خلق هذا التواصل الشعوري مع قارئه، فهو اللغة الشعرية الشفيفة التي استخدمها كثيراً في وصف مشاهد الحرب وأحداثها وويلاتها، من جهة، وفي وصف المشاعر المتولدة عن تلك الأحداث، قبل وقوعها وأثنائه وبعده، من جهة أخرى. فقلما كان يترك حدثاً يمر على أرض الواقع، دون أن يحملنا على أجنحة لغته الشعرية إلى العوالم الداخلية لشخصيات روايته، كي يطلعنا على النتائج النفسية والشعورية لذلك الحدث في نفسية هذه الشخصية أو تلك، بهدف دفعنا إلى مشاركتها انفعالها الخاص، بما تعانيه، سلبياً كان أم إيجابياً.
3 ـ وثمة عامل ثالث وفَّر لهذه الرواية قدراً آخر من إمكانيات التواصل مع قارئها، وهذا العامل هو صدق مؤلفها في سرده لوقائع الأحداث التي عايشها وصاغها في روايته. وأقصد بالصدق هنا، صدق المعلومة أو الواقعة المروية، تحديداً، وصدق الملابسات التي أحاطت بها. وأفضل مثال على هذا الصدق، واقعة الاعتداء الجنسي الذي قام به (أبو شاهين)، أحد أفراد القوات السورية، في لبنان، على بطلة الرواية (عائشة) حين لجأت إلى مقر القوات السورية، هاربة من شبح الموت والاغتصاب المتكرر والأذى الذي سببه لها أخوتها اللبنانيون أثناء المعارك القذرة التي خاضوها ضد بعضهمٍ، ومن الخوف المزمن الذي زرعوه في قلبها، بل في كل خلية من خلايا روحها وجسدها، أثناء حربهم..
بحادثة اعتداء (أبو شاهين) على عائشة، نجح المؤلف في تأكيد واقعية روايته ومعظم شخصياتها، كما نجح في كسب ثقة قارئه بما تشتمل عليه هذه الرواية من معلومات ومعطيات.. ذلك أن باسم، لم يقدم المقاتل السوري في لبنان كملاك طاهر لا تأتيه الخطيئة من بين يديه ولا من خلفه، ولا كشخصية نمطية مصنوعة وجامدة، بل قدَّمه كبشر من لحم ودم، فيه كل صفات البشر السلبية والإيجابية، فيه القوة والضعف معاً، يخاف ويجرؤ، يحب ويكره، يبكي عشقاً وطهراً، وقد يصبح، في لحظةِ شهوةٍ عارمة، شيطاناً لا يتورع عن افتراس امرأة ضعيفة لجأت إليه طالبة حمايته، كما حدث مع (أبو شاهين).
لكن ليس كل السوريين (أبو شاهين)، بل فيهم من هم نقيضه الكامل، شأن بطل الرواية (محمود)، وصديقه الحميم وشريكه في تقاسم البطولة الروائية (حيان) الذي ما إن سمع بما فعله مواطنه (أبو شاهين) حتى بادر إليه شاتماً غاضباً، ثم لم يتردد عن البصاق في وجهه احتقاراً لما فعل، وتعبيراً عن تعاطفه مع الضحية (عائشة). وبهذا يكون باسم قد رسم صورة الحدث وشخصياته، ببعديها الرئيسين السلبي والإيجابي، فجاءت بذلك صورة واقعية قادرة على إقناع القارئ بواقعيتها وصدقها.
لكن،.... ومن الناحية الفنية؟؟
وسط كل ما ذكرته، آنفاً، من إيجابيات هذه الرواية، وتلك التي لم أذكرها، تجنباً للإطالة، في دراسة محدودة الحجم، ثمة ما يشار إليه بوصفه سلبيات، وخصوصاً على صعيد البناء الفني للرواية، وفيما يلي إطلالة على أبرز هذه السلبيات:
1) رغم حرارة الموضوع الذي تعالجه الرواية، وهو أحداث الحرب اللبنانية، ورغم حرارة القذائف والحرائق المشتعلة على أرض الحدثين، الواقعي والروائي، ثمة برود لا مسوغ له في حركية الأحداث والشخصيات. بتعبير أدق: يلاحظ القارئ أن الحدث، في الرواية، كان يتطور ببطء لا يتناسب مع معادله الواقعي، وكذلك الشخصيات التي كانت تصنع الحدث أيضاً. وأعتقد أن لوقوع المؤلف في هذا العيب الفني، أكثر من سبب، ربما أهمها عنايته الزائدة بالوصف، واستخدامه اللغة الشعرية، بكثرة لافتة، في تصوير مشاهد الحرب وآثارها.. صحيح أن اسـتخدام هذه اللغة قد ساعد القارئ ـ كما ذكرت آنفاً ـ على التفاعل، مع أحداث الرواية وشخصياتها، وعلى التواصل مع مؤلفها، لكن كثرة استخدامها ـ أي اللغة الشعرية ـ أثرت، سلباً، على لغة السرد التي أضحت بطيئة، كما أثرت على حركية الشخصيات، داخل الرواية، فجعلتها بطيئة أيضاً..
ولهذا، ربما لا أكون متجنياً لو قلت: إن بعض المقاطع الوصفية الطويلة المصاغة بتلك اللغة الشعرية، كانت عبئاً على الرواية، في أكثر من موضع، كما بدت زائدة لا لزوم لها في مواضع أخرى، إلى درجة التوهم بأنه لو تم حذفها، لما أثر ذلك على بنية الرواية وموضوعها وفنيتها، في شيء.
2 ـ وما دمنا بصدد الحديث عن لغة الرواية، فإن مما يلفت الانتباه، كثرة مفردات الحرب فيها. وإذا كان يمكن تسويغ كثرة هذا النوع من المفردات في رواية موضوعها الرئيس هو الحرب، على اعتبار أن هذه المفردات ضرورية في وصف مشاهد الحرب ومعاركها والأسلحة المستخدمة فيها، فإن مما يصعب تسويغه استخدام هذه المفردات، أحياناً، في وصف الحالات النفسية أو الشعورية التي تنتاب شخصيات الرواية..
3 ـ وكما أثقلت مشاهد الوصف المطولة حركة الحدث الدرامي في الرواية، وحركة الشخصيات، كذلك فعل استغراق المؤلف في ذكر بعض التفاصيل الصغيرة للأحداث والشخصيات. تلك التفاصيل التي شهدها وعاشها، وعز عليه ـ كما يبدو ـ أن يسقطها من سطور روايته، حتى وإن كان على قناعـة ـ كما أتوهم ـ بأنها ليست ضرورية، وأنها قد تبدو حشواً ربما أساء إلى جمالية البناء الفني للرواية وإلى متانته أيضاً.. من ذلك مثلاً هذا المقطع الوارد في الصفحة /77/:
(كان حيان في حالة الجاهزية الكاملة... خوذة عتيقة، بطانتها الداخلية متيبسة، سوداء، ولا أعلم كم من الرؤوس تنقلت فيها، ويحمل قنابل يدوية، وأنا مثله أجلس خلف ساتر الأكياس، أوجه البندقية إلى مصادر الخطر)..
ترى، لو حذفنا من هذا المقطع العبارات التالية: (خوذة عتيقة، بطانتها الداخلية متيبسة، سوداء، ولا أعلم كم من الرؤوس تنقلت فيها، ويحمل قنابل يدوية)، هل تفقد العبارات المتبقية منه قدرتها على إيصال الفكرة، أو قدرتها على رسم المشهد المطلوب؟؟ أظن لا.....، وإن كان ما أظنه يظل مجرد رأي، يمكن أن يكون غير صحيح..
4 ـ شخصية اللبنانية (عائشة) في الرواية، هي المعادل الرمزي لبيروت، على أرض الواقع. وأعتقد أن المؤلف قد نجح في بناء هذا المعادل الرمزي، إلى حد بعيد، كما نجح في تحميله كل ملامح بيروت الجريحة المغتصبة المتألمة. بيروت التي تتعالى فوق جراحها وآلامها، لتنتصب خلوداً أقوى من كل أسلحة الفتك والدمار، وأقوى من كل محاولات الاغتيال والخيانة والتآمر.
وقد كان من الممكن لهذا المعادل الرمزي ـ عائشة ـ أن يتألق بملامح بيروت وأن يعبر عن آلامها كمدينة، من خلال تماهي تجربة عائشة/الإنسان، مع تجربة بيروت، المكان والإنسان، وتصبح عائشة بذلك رمزاً نابضاً بالحياة والجمال الفني، في آن، لولا أن المؤلف ـ سامحه الله ـ بادر إلى تدخلٍ، أقلّ ما يُوصَف به أنه (تدخلٌ غير محمود)، وذلك حين عمد إلى تنبيه القارئ، بشكل مباشر، في الصفحة /52/، إلى أن عائشة الإنسان هي رمز لبيروت، فعزل بهذا التدخل كلاً منهما عن الأخرى، في وعي القارئ، بدلاً من أن يزيد تداخلهما؛ وبهذا، أبطل سحر الإيحاء الذي يشع به الرمز، في نفس القارئ، كما أبطل، أيضا، سحر الجمال الناجم عن شفافية العلاقة التي يجب أن تبقى غير معلنة، صراحة، بين الرمز والمرموز إليه..
وما كاد القارئ ينسى هذا التدخل من المؤلف، أثناء متابعته لأحداث الرواية التي تلت دخول عائشة بين شخصياتها الرئيسة، حتى عاد إلى تكرار تدخله (غير المحمود) ثانية، في الصفحة /82/. وكم كان جميلاً لو أنه ترك لقارئه متعة التنقل التخييلي بين الرمز والمرموز إليه، ليرى بيروت، ويسمع أنينها، ويلمس جراحها، من خلال رؤيته لعائشة وسماعه لأنينها، ثم يعاين ما لحق بعائشة من دمار جسدي وروحي، من خلال مقارنته بما لحق بيروت/المكان، من دمار وخراب، في تلك الحرب المجنونة..
وبعد، فلا تعني الملاحظات الآنفة على فنية رواية (جسر الموت) إقلالاً من قيمتها كعمل إبداعي يحكي مؤلفه عن حرب عاشها وعانى أهوالها بنفسه، لا عن حرب تخيلها، وأراد من وراء الكتابة عنها مجرد إثبات التزامه بقضايا شعبه وأمته، أو تأكيد انتمائه إلى هذه الأيديولوجية أو تلك، كما يفعل كثيرون غيره، فيما يكتبونه عن الحروب التي خاضتها أمتنا العربية ضد إسرائيل..
[/align]

طلعت سقيرق 11 / 07 / 2008 09 : 10 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
قراءة في مجموعة
(الأشرعة)



[align=justify]في مجموعته القصصية (الأشرعة) التي صدرت عام 1997، عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، يأخذنا الأديب طلعت سقيرق في رحلة نحو عالم من الغرابة، تؤلمنا بقدر ما تفتح لنا نافذة أمل على الآتي، ليضعنا في نهاية كل قصة أمام ذاكرتنا الوطنية وهي تشمخ بدم شهدائنا مصرَّة على أنها لن تمسح الجزء الفلسطيني من خارطتها العربية، مهما قست الظروف وتغيرت.
ولأن ذاكرة الوطن لا تموت
يمكن توصيف (الأشرعة) بأنها (رحيل في اللامتوقع).. إبحار في الاتجاه المعاكس لتيارات الراهن المسكون بالعجز واليأس.. إبحار يتجلى سعياً ملهوفاً في ذاكرة وطن مازال يصر على أنه لم يفقد الذاكرة بعد، وذلك بحثاً عن بيت ضاع ذات يوم، وعن صورة ترسمها أصابع حالم بذلك البيت الذي اندثر إلا من الذاكرة، كما تؤكد قصة (الأشرعة)( ) التي اختار المؤلف عنوانها ليكون عنواناً لمجموعته كلها.....
نعم فالوطن (لا يمكن أن يسقط من تلافيف الذاكرة..)( ) بسهولة، لأن (الأشياء الحبيبة الدافئة تظل تتجول في الذاكرة)( )، كما تخبرنا بذلك قصة (أشياء لا تعرف الرحيل)( ).
وتخبرنا قصص الأشرعة أيضا أن دم الفلسطيني لم يتبخر من ذاكرة الوطن والشعب، بل مازال طرياً ساخناً فيها، وسيبقى، مادام في هذا الوطن من يحمل حجراً ويخرج ليلقيه على جنود الاحتلال، وما استمرت الأمهات الفلسطينيات يزغردن لدى استقبال أبنائهن شهداء. بل إن هذا الدم الذي يتوهم البعض أنه جفَّ من الذاكرة العربية يفاجئنا، كما في قصة (الدم)( )، وقد غادر كينونته الأولى ليصير طوفاناً مروعاً ينزف من جراح فتى من أبطال الانتفاضة غادر جهاز التلفاز ليوقظ فينا، من خلال غرابة التخييل، ذاتنا التي كانت...؛ لينفض عنَّا وَهنَ الراهن وينقذنا من استمرار الغوص في اللافعل واللاجدوى، وحين ييأس يغادرنا ونحن نتخبط عاجزين عن تضميد جراحه النازفة التي هي جراحنا أيضا، ليتركنا مشلولين ذهولاً وحيرة من قدومه المفاجئ ورحيله المفاجئ، ثم ليعود عبر شاشة التلفاز نفسها، أي عبر جسر التخييل الذي بناه المؤلف، إلى أبطال الانتفاضة حيث المستقبل الذي يأمل أن يجد فيه قادرين على مساعدته أكثر منا..
ومن الذاكرة، بوصفها صوتاً دامياً يحاول أن يوقظنا من شللنا الفاجعي، يرسم لنا سقيرق الذاكرةَ جمرةً ما تزال تتقد تحت رماد الراهن المثقل بالعجز الناجم عن ذلك الشلل، كما في القصة الأولى (ذاكرة لا تنام)( ). ففي هذه القصة، وعلى ذات الأجنحة من التخييل الغرائبي تحملنا أشرعة طلعت إلى حيث نرى الفلسطيني يخرج من تحت رماد مأساته التي يلاحقه بها عدوه حتى خارج وطنه ليغتال فرحه ومستقبله، يخرج رافضاً كل محاولات إلغائه مهما بلغت وسائل الإلغاء من وحشية وقسوة. هذا ما تؤكده لنا نهاية القصة، حيث نرى أبطالها يخرجون من الصورة التذكارية التي بقيت سالمة بعد الغارة الإسرائيلية التي اغتالتهم، ليمدوا أيديهم وأصواتهم التي تنفي موتهم، لتنضم إلى أصوات المكان والطائرات والمذياع، ثم ليقبضوا جميعاً على جمرة ذاكرة لا تنام، هي ذاكرة الوطن.
ويشاركهم في القبض على هذه الذاكرة ذلك المسكين الذي فقد ابنته الصغيرة وهو في ذروة حلمه الفرِح بأن يراها ترتدي فستان العيد.. ففي هذه الذاكرة فقط سوف يظل يرى تلك الصورة الفاجعية، الصورة اللاهثة لتلك الفتاة الصغيرة التي حرمتها الطائرات المتوحشة من ارتداء فستانها الجديد وتركتها مطروحة مذبوحة على الرصيف وهي عائدة من مدرستها. سوف يظل يراها من خلف دموعه وهي تتجول أبداً في تلافيف ذاكرته التي لن تنام، طفلة في الحادية عشرة ترتدي فستان العيد، كما تؤكد قصة (الأرجوحة)( ).
ومن الصورة الخارجة من الذاكرة التي لا تنسى، إلى المقبرة التي أرادوا أن تغيب تلك الذاكرة فيها، يمضي بنا المؤلف ليؤكد على لسان الإنسان الفلسطيني في قصة (الدروب)( ) أن (الذاكرة لا تموت)( ).
لقاء الحلم يتجاوز مستحيل الراهن...
وتستمر عملية البحث عن الآخر الذي ضاع، في حركية فعل لا يعرف التوقف، ولا يعترف بالمستحيل رغم محاصرته بالمرض حيناً، وبعبارات التثبيط الساخرة حيناً آخر. لقد ضاعت الطفلة زهرة في زحمة اللجوء من أمها وهي تغادر حيفا قبل نصف قرن، ورغم مرور كل تلك السنين على الفاجعة، فما زالت تلك الأم تبحر على سفن الأمل، مصرة أنها ستلتقي في النهاية بمن أضاعت… لأن التي ضاعت ليست الطفلة زهرة فقط بل الوطن كله. هذا ما تحكيه لنا قصة (الرصيف)( ) التي تغادر بطلتها العجوز المتعبة أرض الواقع في النهاية لتجد من أضاعتها في مساحات الحلم.. ففي تلك المساحات ترى الأم المفجوعة ابنتها الضائعة تغادر صورتها القديمة أيضا لتعود إلى الحياة من جديد، مبشرة بعودة الوطن...
وكما أن المؤلف يرفض توصيف حلم تلك الأم بالجنون، كذلك تأتي قصة (جنون)( ) لتقول لنا إن الرحيل في مساحات الحلم ليس جنوناً ما دام بحثاً عن الحق، وإن استمرار المطالبة بالحق والإصرار على استرجاعه رغم ممانعة معطيات الراهن ليسا دليلين على الجنون... ولهذا لا يمكن أن يوصف بالجنون من لايزال يصيح مؤكداً، كـ (عبد الصمد) بطل القصة (هناك في يافا لنا بيت... من حقنا أن نعود إلى بيتنا..)( ).
وفي (الأشرعة)( ) التي تحمل عنوانها المجموعة، يمتزج الجنون بالحلم بالفعل في النهاية، في حركية غريبة، ترسم مسارها ريشة فنان عاشق لأرض وامرأة وبيت، ظلت تلك المعشوقة تحبه وتحلم بالعودة إليه بعد ضياعه. ولأن الراهن لا يحقق الأمنية الغالية، فقد لجأ الفنان القديم الماهر إلى الريشة لينقل الحلم ويجسده واقعاً. وفي لحظة إبداع حارَّة تمتزج الصورتان في واحدة….. صورة الأرض/البيت وصورة الحبيبة لتتسع ابتسامة الفنان وتزهر وهي ترى إلى صورة أم فدوى تتكامل وتشرق شمساً تخترق تَرَهُّل الراهن وعجزه، ثم تتجاوزه وتلغيه كمسافة زمنية تفصل بين الماضي الذي كان والمستقبل الآتي، وكأن كل ما بينهما من زمن الوجع والفجيعة لم يكن، كما يستشف من نهاية القصة.
الخروج من عطالة الحلم إلـى الفعل النضالي
من طحالب العجز التي نراها تملأ كل مساحة الراهن، كما توحي لنا قصص المجموعة، تنبت أجنحة الأمل على أطراف الصغار لتتحول الأمنية إلى فعل على أرض الواقع. هذا ما تخبرنا به قصة (الأجنحة)( ).. فمن الكتابة على الجدران بالطبشور تنتقل بطلة القصة إلى الفعل المقاوم في مواجهة جنود الاحتلال.. (تداعى أحد الأطفال وسقط.. امتلأ ريش العصافير بالدم.. صرخت.. أغرقت الطبشورة بالدم وكتبت على الجدار "تحيا فلسطين" وقبل أن تفرد أحلامها، صادرها الرصاص وطرحها جثة هامدة على الأرض)( ).
لكن هذه النهاية الفاجعية التي انتهت إليها الخطوة الأولى باتجاه التحول من الحلم إلى الفعل النضالي، لتخطي عجز الراهن واستسلاميته الباردة، لا تثبط عشاق الحرية... فهاهم في قصة (عنفوان)( ) ينجحون في استيلاد البطل الذي يغيِّر اتجاهات الموقف السلبي، ويبدأ رحلة العودة، هذه المرة، على أرض الواقع لا عبر مساحات الحلم، متحدياً جنود الاحتلال وآلة الحرب الرهيبة التي بحوزتهم... ولهذا، يربكهم، يزعجهم ويرعبهم أيضاً... فيبحثون عنه في كل مكان، ولكن دون جدوى... وفي حمى البحث اللامجدي عن ذلك الذي اخترق أسطورة قوتهم الهشة وخرافة عجزه المختلقة، في آن معا، تكبر المفاجأة حين يصير كل شبان المخيم ذلك الذي سموه بـ (الشيطان)... ولهذا، يقررون قتل الجميع فيه وقتله فيهم، للخلاص من الرعب الذي أدخله إلى قلوبهم... فيصفُّون الجميع على الجدار ويقررون إعدامهم.. ولكن مرة أخرى تولد المفاجأة من اللامتوقع فعلاً وزمناً.. (ارتفعت الرشاشات.. توجهت فوهاتها نحو الصدور. ولكن قبل أن ينطلق الرصاص، نبت الفتى الذي حيرهم من أحد الأماكن وأخذ يرميهم بالحجارة.. ثم، وقبل أن تنطلق خطواتهم ورصاصاتهم دفعة واحدة خلفه كان قد اختفى تماماً.)( ).
ومع الانتقال من شلل الراهن إلى الحركة الفاعلة، يحذر المؤلف الجميع من خطر المحايدة.. فلا حياد في زمن الثورات الكبرى، لأن العدو حين يبطش، لا يميز بين محايد وثائر، بل ينظر إلى كل محايد على أنه مشروع ثائر مستقبلي، ولهذا لا يتردد في قتله، كما نستشف من قراءة قصة (الرصاص)( )..
وفي قصة (الانتظار)( )، يأخذ الخروج من الحلم إلى الواقع الجديد مساراً آخر أكثر جدية وفاعلية، فالبطل الفلسطيني يصير الفدائي الذي يعود إلى الوطن مسلحاً بأكثر من الحجر...
أما في قصة (الصورة والظل)( )، فيحاول المؤلف أن يخبرنا بحقيقة هامة وهي أن الاحتلال، بممارساته ضد العرب في الأراضي العربية المحتلة، قد صنع ضده النضالي بنفسه، لأن النقيض يستدعي نقيضه دائماً.
وهذا ما تؤكده قصة (مقاومة)( )، التي نرى البطل الفلسطيني يفلح فيها بتجاوز راهنه المثقل بالعجز، راهنه الكسيح المقعد الذي فرضه عليه الاحتلال عنوة، ليخرج متحركاً على مقعد ذي عجلات، ويشارك في مقاومة قوات الاحتلال... (دفع العجلتين بسرعة مذهلة إلى الأمام.. أصبح الجندي المذهول قريباً منه.. رفع الحجر وقذفه بكل قوته.. ابتعد الجندي، سقط الحجر.... انطلق الرصاص…. امتلأ الجسد بالثقوب والجراح وأخذ المعقد ذو العجلات ينقط دماً... ودماً... ودماً...)( ).
ومثل هذه الحركة، من داخل العجز الراهن إلى الفعل النضالي، باتجاه تجسيد حلم العودة واقعاً، نراها أيضاً في قصة (يوم دافئ)( ).
انتفاضة البطل/الشعب
في قصة (الأرض والحجارة)( )، وهي القصة الأخيرة في مجموعة الأشرعة، حاول المؤلف أن يقول لقارئه إن الفلسطيني استطاع عبر الانتفاضة أن يخرج من قمقم عجزه الذي فُرض عليه، عملاقاً مخيفاً لقوى الشر والظلام، حين نجح في أن يتحدى بحجارة وطنه وحدها آلة الحرب المذهلة التي لدى هذا العدو، وأن يشلها بإرادته التي عبأها في تلك الحجارة. ومن خلال لحمة الشعب الفلسطيني في تلك الانتفاضة، بدا الأمل بولادة فجر الخلاص المأمول قريباً ممكناً. فهذه المرة ليس البطل فرداً واحداً بل المخيم كله، بل الشعب كله. (ارتفعت الحجارة في الفضاء وشقت طريقها نحو الوجوه المقابلة.. تراجع الجنود... زعق الضابط... سار المخيم بكل بيوته وشوارعه وأخذ يلاحق الجنود الذين انسحبوا مذعورين..)( ).
رأي في المضمون
من مجمل العرض السابق لمضمون قصص المجموعة يمكننا أن نقول إن هذه القصص جميعاً تدور حول محور واحد، أو حول فكرة رئيسة واحدة، هي استمرار إصرار الفلسطيني على العودة إلى وطنه، رغم ممانعة الراهن بكل أحداثه وطروحاته والقوى المتحكمة فيه، وهذه العودة تتم في كل قصص المجموعة بإحدى طريقتين:
الطريقة الأولى، تتمثل بمحاولة تجاوز ممانعة الراهن لعودة الفلسطيني إلى وطنه، بتحقيق هذه العودة عبر مساحات الحلم، أما الطريقة الثانية، فتتمثل بمحاولة تجاوز هذه الممانعة عبر الفعل النضالي للبطل الفلسطيني، على أرض الواقع، وليس في أجواز الحلم.. وكأن المؤلف أراد أن يخبرنا أن التطور في تفكير الفلسطيني بالعودة إلى وطنه قد مر بكلتا المرحلتين، وبأن كل طريقة من الطريقتين، آنفتي الذكر، كانت هي المسيطرة على وجدان الشعب الفلسطيني وعقله وفعله أيضاً، في كل مرحلة.. ففي المرحلة التي تلت النكبة، كانت العودة إلى فلسطين تتحقق عبر الحلم، ولكن في المرحلة التالية، صارت العودة إلى فلسطين هدفاً لفعل نضالي يمارسه الفلسطيني فرداً وشعباً، في آن واحد، ويسير نحوه بإصرار لا يعرف المهادنة.. وهذا ما يبدو واضحاً في القصص التي اتخذت من الانتفاضة الفلسطينية محوراً لمضمونها...
إطلالة على البناء الفني
بداية، من الممكن القول إن سقيرق حاول أن يكون مفاجئاً في أسلوب القصِّ الذي اعتمده، بقدر محاولته مفاجأتَنا بمضمون قصصه الذي ما كان له أن يُغادر العادي والمألوف، لولا غرائبية البنية الفنية التي احتوته، الأمر الذي يمكن أن يُبيح القول أنه كان لهذه الغرائبية دوراً بارزاً في شدِّ انتباه القارئ، وفي مساعدته على الولوج إلى عوالم الشخصيات، ومشاركتها آلامها وأحلامها، في عطالتها وفي فعلها...
لكن.. وبقدر ما يمكن أن تثيره فينا غرائبية البنية الفنية من انجذاب ودهشة، فإن تكرار البنية الفنية الواحدة، في عرض مضمون واحد، عبر عدة قصص أحياناً، قد يدفعنا إلى التساؤل، وربما إلى شيء من عدم الرضا... ولعل من أبرز الأمثلة على ظاهرة التكرار هذه، استخدام الصورة الفوتوغرافية كجسر لعبور بطل القصة، أو بطلتها، من عالم الراهن المثقل بالعجز عن الفعل إلى عوالم الحلم المرتجى، حلم العودة.. فقد كرر القاص هذا العبور من الصورة إلى الواقع، أو الرحيل عبرها إلى عوالم الحلم، في أربع قصص على الأقل هي (ذاكرة لا تنام) و(الدم) و(الأرجوحة) و(الرصيف).
من الممكن أن يثير استخدام هذه البنية الأسلوبية، في القصة الأولى، إعجاب القارئ، وهو يتذوق غرائبيتها، لأول مرة، لكن حين يراها تتكرر دون إضافات أحياناً، فقد يشعر بالملل، لأن تكرارها يصبح أشبه بتكرار النغمة الواحدة على أوتار مختلفة، اللهم إلا عزفها في كل مرة على وتر مختلف، وليس هذا بتنويع ولا إبداع، لأن التنويع المبدع يعني عزف نغمات مختلفة على نفس الوتر.. ومثل هذا الحكم يمكن أن نطلقه أيضاً على أسلوبية القاص في تصوير العبور من الواقع إلى الحلم أو العكس، عبر المرآة المشروخة أو السليمة، فقد لجأ المؤلف إلى هذه الأسلوبية الفنية في قصتين هما (جنون) و(ملامح)...
لقد أراد سقيرق أن يؤكد لنا أن فلسطين ما تزال محفورة في ذاكرة الوطن العربي، وأن استعادتها لم تدخل في ملكوت المستحيل بعد، في نظر معظم أبنائه... وربما يكون قد لجأ إلى التكرار، آنف الذكر، لكي يُشرك قارئه بالاعتقاد معه أن هذه الذاكرة التي تمتد أبعادها في وجدان كل عربي وعقله، هي ذاكرة ما تزال حية، وأن فلسطين ما تزال تنبض أملاً واعداً في تلك الذاكرة، ولكن هل يشفع شرف الفكرة أو المقولة التي يريد إيصالها المؤلف لتهاونه في صياغتها الفنية؟
ولعل مما يؤخذ على المجموعة من الناحية الفنية أيضاً، تلك السهولة اللاواقعية لانتصار الفلسطيني في الكثير من القصص على عدوه.. ووصفُ سهولة انتصاره المتخيَل، في قصص المجموعة، باللاواقعية ينبثق من التناقض بين تلك السهولة المتخيَلَََة والواقع الذي نعرفه جميعاً، والذي يؤكد لنا أن الفلسطيني قد دفع ثمناً باهظاً جداً لكل انتصار حققه على عدوه.. وهذا وضع طبيعي تماماً، لا يعيب الفلسطيني أو يسيء إليه، حين نعاينه من زاوية عدم التكافؤ الصارخ بين الفلسطيني وعدوه، سواء في حجم الأسلحة التي يمتلكها كل منهما، أو في نوعيتها. بل تغدو صعوبة انتصار الفلسطيني، في ظل عدم التكافؤ هذا، مدعاة لفخره، الأمر الذي يدعو إلى سؤال سقيرق عن سبب لجوئه إلى الإيحاء بسهولة انتصار بطله الفلسطيني، في بعض قصص مجموعته..
أما لغة القصّ، فنلاحظ فيها جنوحاً واضحاً إلى الجملة الشعرية التي تسللت إلى صياغة قصص سقيرق من كونه شاعراً، في الأصل.. في رأي البعض، لا تُعدُّ هذه الخاصية عيباً في فن القص، إذ لا ضير، في نظر أصحاب هذا الرأي، أن تكون القصةُ القصيرة قصةً قصيدة، بل يذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك فيرون أن الجملة الشعرية الجميلة للمؤلف، قد تساعد في حمل القارئ على أشرعة التخييل التي ينشرها المؤلف، لنبحر معه نحو عوالم الغرابة التي رسمها بجمل شعرية غالبا...
لكن، وفي رأي آخرين، لا يبدو تماهي الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية مقبولاً، بل يُعدُّ عيباً فنياً، يُضعف فنية القصة، بقدر ما تكون بنيتها مثقلة بالجمل الشعرية، تماماً كما تضعُفُ قدرةُ القصيدة على التأثير، كلما كانت بنيتُها مثقلةً بلغة القص وأدواته.
وفي إطار الحديث عن لغة القصّ أيضاً، قد يكون من المفيد الإشارة إلى اعتماد المؤلف على تتالي الأفعال، لتحريك الحدث القصصي، مع الحفاظ على كثافة الدلالة وقوة الإيحاء.. فغالباً ما يبتعد سقيرق عن الوصف والشرح اللذين يؤديان إلى ترهل سيرورة الحدث وبطئه، ومن ثم إلى إملال القارئ...
في الختام، يمكن القول: إن هذه القصص تحاول التغلغل فينا، ليس فقط بوصفها صيحة أمل وإصرار على العودة إلى وطن يصر كثيرون، في يأس راهننا، على أنه لن يعود؛ بل لأن هذه الصيحة تحاول ملامسة أسماعنا ودخول قلوبنا واختراق لامبالاتنا، بفنيةٍ غرائبية، لكنها صادقة...

[/align]

طلعت سقيرق 11 / 07 / 2008 12 : 10 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
هل غاب الشعر حقاً؟

[align=justify]كثيرون يتبارون، هذه الأيام، في إعلان نعي الشعر ودور الشعراء وأهميتهم، مؤكدين انقراض هذا المخلوق الإنساني الجميل، على نحو ما انقرضت مخلوقات أخرى كثيرة قبله، بفعل تدخل الإنسان المعاصر، تدخلاً غير سليم ولا معافى، في تغيير البُنى الجمالية لأنواع إبداعية قديمة، بدلاً من أن يبتكر أو يُبدع أنواعاً جديدة خاصة به، ليس لها جماليتها المعاصرة الخاصة بها فحسب، بل لها اسمها الخاص أيضاً..
بتعبير آخر، يرى أصحاب هذا الرأي من القراء، أن من الأفضل، وربما من الأكثر معاصرة، أن يتجنب من يُطلقون اليوم على أنفسهم تسمية شعراء، تسميةَ ما يكتبونه بالشعر، لاختلافه إلى حد كبير عن الشعر بمفهومه القديم المتوارَث، وأن يطلقوا على إبداعاتهم وأنفسهم تسمية جديدة تتفق مع البنية الفنية الجديدة لهذه الإبداعات...
مقابل هؤلاء، ثمة من يقف في الخندق المواجه، ليؤكد أن الشعر ما زال حياً، لم يمت، بدليل أنه، ورغم كل ما طرأ عليه من حداثة، ما يزال خطاب القلب الإنساني، ولغة الشعور الرائع، والحساسية الشفافة.. بل يذهب عشاق الشعر هؤلاء، بغض النظر عن كونه حديثاً أو قديماً، إلى الاعتقاد بأن الحياة دون ينبوع الشعر الدافئ، ستغدو جافة مثل روحنا المعاصرة التي جففت المادية كل جميلٍ فيها، حتى غدت صحارى موحشة، تمتد دون توقف، منذرة بتحويلنا إلى كائنات بلا مشاعر ولا أحاسيس، وربما بلا قلوب، اللهم إلا إذا نظرنا إلى القلب البشري بوصفه مجرد مضخة للدم.. كلا الفريقين، أي القائلين باستمرار الشعر حياً، ومعلني نعيه، يحبانه، ولكن كلٌّ على طريقته، ومن زاوية رؤيته الخاصة. وربما لهذا، يتبادلان الاتهامات فيما آلت إليه حال هذا المخلوق الإنساني..
فأنصار القديم، تراهم يثورون على الجديد الذي يسميه مؤلفوه شعراً، ليس لأن معظمهم عدوّاً للتجديد، ولكن لاعتقادهم، كما يشرحون لنا، غاضبين صائحين، أن سبب تدهور الشعر يكمن في صيرورته مضغة في كل فم، بعدما صار يدعي كتابته كلُّ من هبَّ ودبَّ من عباد الشهرة والجاه والمال الذين منَّ عليهم سوءُ حظنا، نحن القراء، بالوساطات الثقيلة والخفيفة، في الجرائد والمجلات ودور النشر.. ثم زاد الطين بلاً، بعدما صار يدعي التجديد في الشعر كلُّ من سَوَّلَ له وهمُه أنه سليل أبي تمام في التجديد، ووارث نازك الملائكة والسياب..
أما أنصار التجديد الذين لا يرون بأساً في تجديد الشعر، شريطة أن يظل شعراً، فيقولون إن بعض النماذج الحديثة المنظومة على الطريقة القديمة، فيها ما يغثُّ النفسَ، ويترعها بالكآبة والقرف، مع أن ناظميها يتوهمون أنهم من نسل امرئ القيس والمتنبي، وأكبر من نزار قباني وعمر أبي ريشة... وهؤلاء، إذا مات الشعر فعلاً، كما تقولون، فهم سبب إصابته بجلطة السخافة القاتلة الناجمة عن إصرار عَجَزَةِ الإبداع، على أنهم وحدهم المبدعون..
على الرغم من تناقضها الظاهري، فلاشك أن بين آراء كلا الطرفين، بعض حق، وخصوصاً حين يتحدثان، مُتَّفِقَين، عن انقطاع الصلة بين الشعر وما يسميه كاتبوه اليوم شعراً، وما هو من الشعر ولا شبيهه، سواء كان نظماً بوزن وقافية، أو كان هذراً أشعثَ الوزن عديمَ الصورة، لا قفا له ولا قافية. وهذا الانقطاع المؤلم بين الشعر الحقيقي وما يُنشَر اليوم تحت اسمه، بالوساطة أو الجاه والمال ـ أجارنا الله وإياكم، من سخف كاتبيه إذا نشروا، ومن شرِّ ناشريه إذا خسرواـ أدى بدوره إلى انقطاع آخر أشد إيلاماً وأعظم خطراً.. وهو الانقطاع بين الشاعر والمتلقي.... فبهذا الانقطاع، خسرَ كلاهما.. الشاعر خسرَ وظيفته ودوره الريادي ومكانته المرموقة، وخسرَ المتلقي بوصلته ومنارته.. بل فقدَ أيضاً من كان يُكفكفُ دمعه ويواسيه في حزنه، ومن كان يرسم البسمة على شفتيه في فرحه، ومن كان يرافقه حتى في خلوته مع حبيبته، ليغازلها بكلماتِ شاعره التي لا يُتقن سبك مثلها..
نعم.. على هذا يتفق الطرفان، لكنهما ما يكادان يتفقان على الرأي بهذا الخصوص، حتى يعودا للانقسام، فريقين متصارعين، من جديد. ولكن علامَ هذه المرة؟ على مسألة جديدة، لكنها ذات صلة وثيقة بتراجع مكانة الشعر والشعراء، في عصرنا هذا الذي يكاد التقدم الثقافي المفروض على الأحياء فيه، يُفقدَهم ملامحهم القومية المميزة. وهذه المسألة يُلخصها السؤال الإشكالي القائل: مَنِ السبب في القطيعة بين الشاعر والقارئ؟
فريق يقول: إن الشعراء هم السبب، وفريق يؤكد أن القراء هم السبب.. ثم ما يلبث أتباع كل فريق أن ينقسموا في الرأي انقساماً آخر، ليعودوا من جديد إلى الدوران في نفس الحلقة المفرغة التي يتم فيها تعريف الشعر بالتزام الشاعرِ الوزنَ والقافية وما يتصل بهما من لوازم القصيدة الخليلية، حتى ولو كان ما صدر عنه سخفاً محضاً.
وفي دفاع هؤلاء عن رأيهم وتعليله، يقولون: إن هجر الشعراء المحدثين للوزن والقافية هو سبب تقلص اهتمام الإنسان العربي بالشعر، إلى درجة الهجران والقطيعة، بعد أن وصل إعجابه بهذا الفن، في الماضي، إلى حد كتابته على شواهد قبور موتاه..
وسرعان ما ينبري أنصار التجديد للرد على هذا الاتهام مؤكدين أن العكس هو الصحيح. بمعنى أن إصرار الشاعر العربي المعاصر على التمسك ببعض خصائص الشعر العمودي، وخوفه من إطلاق رغبته في التجديد إلى مداها، هما سبب عزوف القارئ العربي عن التواصل مع الإنتاج الشعري الحديث..
وهنا ينبري بعض الناصحين قائلين، وهم يفتلون شوارب حكمتهم: يا أخي، لا تلوموا القارئ بل لوموا أنفسكم، لأن عليكم تثقيفه أولا، قبل لومه. عرِّفوه بمذاهب الشعر المعاصرة، والتطورات التي طرأت على بنيته الفنية، قبل أن تكتبوا له شعراً معاصراً. علِّموه كيف يتذوق الحداثة المعلبة، كما علمه التجار كيف يتذوق معلبات الأطعمة الغريبة الوافدة إليه من الغرب، حتى ولو كان فيها ما يكره. فكما أكرهه التجار والحكام وأولاد الحرام، بالتجويع، على استطابة هذه الأطعمة، على الرغم من كرهه لها، كذلك عليكم معشرَ الشعراء، أن تُعلموه استطابة نتاجكم حتى ولو كان غثاً ركيكاً. فكل شيء، في عصر العولمة هذا، صار بالإكراه، حتى حرية الإنسان!! ألم يصبح قبول الحرية الممنوحة للإنسان العربي من محتل أرضه، شرطَ اعتباره معاصراً، وصار رفضها تهمة جاهزة له بالإرهاب؟
وكما أن الإنسان العربي المعاصر لم يعد حراً، حتى في أن يكون حراً، بل مكرهاً على اعتبار نفسه حراً، حتى وإن كان هو ووطنه تحت الاحتلال، كذلك يجب أن يُصبح الشعر الحديث، شعراً جميلاً بالإكراه، حتى ول كان غثّاً سخيفاً، وعلى متلقيه العربي أن يتذوق طعم سخافته الكريه، ثم يصرخ (الله)....... متظاهراً باللذة، وهو يكاد يتقيأ، مما ذاق من هذا الشعر الحديث، سواء كان هذا الشعر، بوزن أو لا وزن له ولا قيمة، كقائليه وقارئيه، على السواء، في المجتمع الدولي الذي يرى هذا الإنسان يُذبَح على أيدي دعاة العولمة المعاصرة، ثم لا يُحرِّك ساكناً.
على أي حال، وأمام هذا القَدْرِ من الآراء المتعارضة، يقف القارئ العادي الجاهل مثلي، حائراً بأيِّ هذه الآراء يأخذ وأيها يُصدِّق؟ أيها يتبع وأيها يترك؟ وتبدأ الدوامة تقذفه في دُوارها من جديد، فيدور ويدور في فلك الآراء المتعارضة والنظريات المستوردة التافهة، حتى يصيبه الغثيان ويتقيأ كل ما قرأ وسمع... وعندها تراه ينهض من دواره وألمه ليقول للجميع، وإن بصوت واهن، وفم ما يزال مليئاً بالقيء:
كفى.. فكل ما قلتم وما تقولون وما ستقولون، في الشعر المسكين، تحطم وسيظل يتحطم، على صلابة تلك الحقيقة التي ستظل راسخة أمامكم جميعاً كالصخرة العظيمة الصماء التي تأبى أن تتزحزح، حتى وإن رفضتم الاعتراف بوجودها، وهي أن الشعر المعاصر، بوزن كان أو بدون وزن، بقافية أو بلا قافية، قد فَقَدَ الكثير من علاقته بي، أنا المتلقي العربي، بعدما تضاءل اهتمامي به، جرَّاء طغيان النماذج الغثة منه على النماذج الجيدة... وها أنذا أقول لكم: لن تعود للشعر شعبيته، أو لنقل قداسته الشعبية، إلا إذا توقف سيل غثه وسخيفه عن جرف محبتنا له، إلى قاع اهتمامنا، حيث ألقينا، نحن القراءَ العاديين، بنماذج هذا المسمى شعراً، وبأسماء مؤلفيه أيضاً.. فهل من سبيل إلى إيقاف سيل هذا الغث؟
هذا ما نرجوه، لاسيما وأن تذوق الشعر الجيد من قبل المتلقي العربي، مازال موجوداً، على عكس ما تُقدرون وتتوهمون.. وما زال على قيد الوجود أيضاً، تقدير الشاعر القادر على دخول القلب بحب وفن وصدق.. وإلا كيف تُفسرون خروج دمشق، شيباً وشباناً، نساء ورجالاً وأولاداً، وراء نعش شاعرها نزار قباني؟ وكيف تُفسرون تزاحم الناس على حضور أمسية يحييها محمود درويش أو غيره من الشعراء الذين امتلكوا بشعرهم مفاتيح الدخول إلى قلوب الناس ومحبتهم وتقديرهم؟
من كل ما سبق، نخلص إلى القول: إن الشعر عموماً، والشعر العربي خصوصاً، مازال بخير، رغم طوفان الغث الذي يغمر الأسواق تحت عنوان شعر، وما هو بشعر... وعلى القارئ العربي أن يتصدى لهذا الطوفان بمقاطعة مؤلفيه، وقد فعل.. فلا أحد من شعراء الغثاثة يستطيع بيع ما ينشره، بل حسبه أن يوزع نُسَخَ ما يطبع من غثه، على معارفه في الجرائد والمجلات، ليكتبوا عنها مادحين.. ولكن هيهات، لأن مديحهم لم يعد يخدع أحداً، إلا الأغبياء، وهم قليل، والحمد لله..
[/align]

طلعت سقيرق 11 / 07 / 2008 17 : 10 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
النثعيرة
بين الانحطاط الحداثوي والحداثة الانحطاطوية

[align=justify]
تسميات
حارَ في تحديد نَسَبِها وجنسها، مؤلفوها ونقادها، وكذلك مؤيدوهم ومعارضوهم على السواء، وأعجزت الحيرة الجميع عن التوصل إلى مصطلح جامع مانع في دلالته عليها، فتفرقوا في تجنيسها شيعاً، وذهبوا في تحديد نسبها وتسميتها، مذاهب شتى....
فالمصرِّون على رفع شأنها إلى مرتبة الشعر، رغم نثريتها الفاقعة، وسقوطها في هوة الهذر والغثاثة، قالوا: هي (شعر منثور)؛ وما كادوا يفعلون حتى عارضهم من لم يجدوا فيها للشعر أثراً ولا رائحة، مؤكدين أنها، في أحسن نماذجها، لا تعدو أن تكون لوناً من ألوان النثر الفني، لا أكثر( )، وإذا كان لابد أن توحي تسميتها بوجود نسب ما بينها وبين الشعر، فلتُسمى بـ (النثر المشعور)، لأن النثر فيها غالب، وغلبته تجعل نسبتها إليه، لا إلى الشعر، واجب! أما من لم تعجبه هاتان التسميتان، ولا أخذ بمسوغات إطلاقهما، فقد اجتهد، فأفتى، فقال: هي (شعر حر).. وحين سُئل المزيد من البيان، أفصح موضحاً: أقصد أنها شعر بلا وزن ولا قافية، ولا يرى مؤلفوها ضرورة الالتزام في كتابتها، بأي نوع من أنواع القيود. وبتعريفه هذا، أبانَ لنا ـ دَرَى أم لم يَدرِ ـ لماذا يتجمهر ضِحال المواهب على حلبتها، تَجَمْهُرَ الجائعين على قصعة الطعام، ولماذا كَثُرَ مجرِّبوها حتى صاروا أكثر من الهمِّ على القلب.. إنهم كذلك لأنهم أيقنوا أنها المنفذ الوحيد لعديمي الموهبة إلى الادعاء بأنهم موهوبون، دون خشية التعرض لحساب أو عقاب، بعدما ثبتَ لهم أن لا حرجَ على مؤلفي هذا اللون من الكلام ولا هم يُؤاخذون!!
وأما من لم يجد بين كل ما سبق، من تسميات وتوصيفات، ما يدل على هذا الضرب المحدث من القول دلالة دقيقة، ثم أعيته الحيلة في الوصول إلى تسمية أفضل تكون جامعة مانعة في دلالتها عليه، فقد اجتهد وفكر، ثم عبس وبسر، ثم أقبل وأدبر، إلى أن أوهمه جهله أنْ قد عثر على الاسم الصحيح، حين ارتأى أن يُدعى هذا الضرب من القول: (قصيدة نثر)( )، فسارع يذيعه بين البشر، تياهاً بعثوره عليه وظفره به، تِيهَ من جاء بالدب من ذيله، وقد غفل جاهلاً أو تغافل عامداً، عن انتفاء الألفة والانسجام، فنياً ومنطقياً، بين طرفي هذه التسمية، بشكل واضح، وخصوصاً في نظر من لم يجد شبيهاً لصلة القصيد بالنثر إلا صلة الأكل بالهوا..!!
وأخيراً، ثمة من نظر في هذا الضرب من القول، فرآه مذبذباً بين الشعر والنثر، لا ينتمي إلى أيهما صراحة، فوصفه بالـ (خنثى)( )! وهو وصف يعيد إلى الذاكرة بيتَ شعرٍ تقليدياً ـ (دَقَّة قديمة) ـ قاله الشاعر المرحوم (وجيه البارودي)، هازئاً بنظم أحد معاصريه:
قلتُ: شعراً، قلتُ: نثراً، قلتُ: حاشا ثم حاشا!!
وبعد، ربما هناك تسميات ومصطلحات أخرى لم يَطَلْها علمي ولم تصلها معرفتي المتواضعة، لذا أرجو أن لا أُتهم بتعمد انتقاص شأن ما نسيت منها، أو شأن مطلقيها، إن أنا لم أذكرها.
عجز الجهابذة!!
وإن تَعْجَب، فعجبٌ أن يَحارَ مؤلفو هذا الضرب من الكتابة، ويعجزون عن التوصل إلى تسمية دقيقة له، وفيهم الكثير ممن يزعمون أنهم جهابذة العربية المعاصرون( )! ولكن ما يثير العَجَبَ أكثر، كما أتوهم، أن يدفعنا عجز هؤلاء إلى الاستسلام أمام مشكلة بقاء (ضربهم القولي) هذا دون تسمية دقيقة..
لهذا، ولقناعتي بأن العجز لا يسوغ الاستسلام، وبأن كليهما من شرِّ البلية؛ ثم لإيماني بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد يضع سرَّه في أضعف خلقه، ولظني بأنني ذلك الأضعف، فقد توهمت في نفسي القدرة على بلوغ ما عجز عنه أولئك الجهابذة ـ قدَّس الله جهبذتهم ـ وأعني القدرة على ابتكار مصطلح تكون حدوده الدلالية مفصَّلة على هذا النمط المستحدث من القول في عربيتنا، ولا تنطبق على سواه، ليكون به متميزاً عن كل ما عداه من فنون القول الأخرى، شعرها ونثرها؛ فكان لي، وبقليل جهدٍ، ما أردت...
وهكذا، وُلِدَ مصطلح (النثعيرة) على يديّ ـ والحمد لله ـ في غرَّة الشهر الأخير من عام 2000... ففرحتُ به كثيراً، وحلمتُ برعايته حتى يصير كبيراً، ويغدوَ بين غيره من مصطلحات النقد مصطلحاً مذكوراً. وإليكم ما يعنيه هذا المصطلح، ويدل عليه، وكيف كانت ولادته الميمونة.
مصطلح نثعيرة: تصريفه وتعريفه..
كانت بداية تفكيري بتوليد هذا المصطلح، قناعتي بأن لغتنا الجميلة مطواعة، وتسمح لنا، في جملة ما تسمح، باختصار كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة، وهو ما يسمى في الصرف العربي بـ (النحت الكبَّار)، على نحو قولنا: (عبشمي)، مثلاً، للدلالة على المتحدِّر من قبيلة عبد شمس، و(حوقلة) اختصاراً لعبارة (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وما شابه.. وفي ضوء هذه القناعة بطواعية العربية، وَهِمتُ أنني ربما لا أكون مخطئاً، لو حاولت أن أنحتَ من كلمتي (نثر وشعر) كلمة جديدة تأخذ من كليهما وتدل، في نفس الوقت، على مغايرتها لجنسيهما معاً، فكانت (النثعيرة) هي تلك الكلمة التي وُفقتُ إليها، والتي أرى استخدامها كمصطلح بديل لمصطلح (قصيدة النثر) وغيره من المصطلحات التي سبقت الإشارة إليها آنفاً. وإذا سأل سائل: لِمَ قلتَ (نثعيرة) ولم تقل (نشعيرة)؟ فالجواب: لأنني، في قناعتي، أرى المسماة (قصيدة نثر) أقرب إلى النثر منها إلى الشعر.
وبعد، فما أراني، بعد الآن، أدعو مروِّجاً لمصطلح (نثعيرة) الذي نحتُّه، إلا لقناعتي بأنه الأدق دلالةً، فضلاً عن كونه مؤلفاً من كلمة واحدة، يسهل تصريفها والنسبة إليها، وهاكم برهان ما أقول:
فمن المصدر (نَثْعَرَة) الذي يعني (نَثْرَ الشعر)، أو (شَعْرَنَة النثر) ـ إذا جاز التعبير ـ يمكننا أن نشتق، على وزن (فَعْلَلَ)، ماضياً رباعياً هو (نَثْعَرَ)، ليأتيَ مضارعه (يُنَثْعِر) على وزن (يُفعلِل)، وليأتيَ الأمر منه (نَثْعِرْ)، على وزن (فَعْلِلْ)..
أما بالنسبة لاسم الفاعل من (نَثْعَرَ)، فنحن، صرفياً، أمام خيارين، أمَرَّهما حلو: إذ لنا في (مُنَثْعِِر) اسم فاعل لا غبار على اشتقاقه، إذا أردنا التزام القياس الصرفي، وفي هذه الحال، يكون مؤنثه (مُنثعِرة)؛ أما إذا جَنَحْنا إلى الخروج على القياس، نزولاً عند رغبة من يتراءى لوهمهم الحداثوي أن لفظة (منثعر) غليظة الدم، ثقيلة على اللسان، فما علينا إلا أن نستبدلها بلفظة (نثعور) التي قد تتراءى لهؤلاء مموسقة خفيفة الدم والنطق، فضلاً عن كونها واضحة الدلالة، أيضاً، على مؤلف (النثر المشعور)، وفي هذه الحال، يمكننا أن ندلَّ على مؤلفته بلفظة (نثعورة)..
هذا بالنسبة لاشتقاق المفرد، أما بالنسبة للجموع، فلا أظنني أُجانبُ القياس إذا جمعتُ (نثعيرة) جمعَ مؤنث سالماً على (نثعيرات)، ومثلها اسم الفاعلة (نثعورة) التي تصبح (نثعورات)، أما اسم الفاعل المذكر (نثعور) فقد رأيت جمعه جمعَ تكسير على (نثاعير)، لتوهمي ـ والله أعلم ـ أنه أخفُّ وزناً وأسهل استعمالاً من جمعه جمعَ مذكَّرٍ سالماً على (نثعورون)، في حالة الضم، و(نثعورين) في حالتي النصب والجر.. لكنني لم أجد مفرّاً من قول (نثعوران) و(نثعورتان)، في حال الاضطرار للتثنية.
ورُبَّ سائل يسأل: أما كان الأولَى بك والأصوب قياسياً، أن تستخدم المصدر (نثعرة) للدلالة على (قصيدة النثر) بدلاً من كلمة (نثعيرة) التي يحار المرء في تعليل وجود هذه الياء الزائدة التي حشرتها بين عينها ورائها؟
وأبادر إلى القول: هي ياء زائدة فعلاً، وقد حشرتها في بنية (النثعيرة) لأدل بطريقة حداثوية على أنها ضرب قولي زائد حَشَرَه قائلوه، دون وجه حق، بين الشعر والنثر، رغم عدم انتمائه لأيٍّ منهما، كما سأبين لاحقاً.
وبعد، فعلى افتراض صحة جميع ما سبق من اشتقاقات، وصحة قناعتي بجدواها ودقة دلالتها، سأُحِلُّ كلمة (نثعيرة)، في هذه الدراسة، محل عبارة (قصيدة النثر)، وما شاكلها من تسميات تصعب النسبةُ إليها والاشتقاق منها، وهي صعوبة لا أظن أحداً يماري في وجودها، حتى ولو كان نثعوراً.
تعريف النثعيرة وسماتها
في ضوء مجمل ما سبق من إيضاحات لتسمياتها المختلفة، الآنف ذكرها، وبعد الاطمئنان إلى صحة البناء الصرفي لاسمها الجديد، يمكن تعريفها، دلالياً، بالقول: {النثعيرةُ ضربٌ محدثٌ من القول، لا هو بالشعر فيُطرِب، ولا بالنثر فيُعجب، بل خنثى بينهما!!}. وللنثعيرة سمات تميزها، فناً ومضموناً، أهمها:
ً1) الطلاق بين النثعيرة وموسيقى الشعر
يرفض النثاعير، وبازدراء، التزام أي من أوزان الشعر العربي المعروفة، وإذا ما دُعوا إلى أقل من ذلك، كالتزام التفعيلة، مثلاً، فيما يكتبون، تراهم يتأففون، وباستعلاء يعلنون، طلاق كل ما يمت إلى الإيقاع الشعري بصلة( ).. لأن الالتزام بأي وزن، أو مراعاة أي إيقاع موسيقي، يشكل ـ كما يتابعون معللين ـ قيداً يحدُّ من انطلاق مواهبهم (الفذة)، إلى حيث لا يعلم أحدٌ إلا هم والراسخون في نقد نثعيراتهم. لكن هذا التعليل ما يلبث أن يتهافت أمام حقيقة عجز معظمهم عن التزام الوزن والإيقاع، فيما يُنَثْعِر، كما اعترف بذلك، صراحةً، اثنان من أكابرهم هما: (شوقي أبي شقرا) و(أنسي الحاج)( ).
على أي حال، وأياً كان سبب طلاقهم موسيقى الشعر، فلا أظن من الخطأ القول: إن خلو نثعيراتهم من أي نظام موسيقي، يجعلها خارج الساحة الدلالية لكلمة شعر، لأن (بين معنى الشعر وموسيقاه ارتباطاً حيوياً)( )، كما يؤكد إمام الشعراء المحدثين في العالم (ت. س. إليوت).. ولا أدلّ على قوة هذا الارتباط من ضياع روعة القصيدة وجانب كبير من جماليتها، حين تُترجَم، من لغة إلى أخرى، بكلمات منثورة.. وربما لإيمان إليوت بهذه الحقيقة التي اكتشفها متأخراً، لم يتردد في الاعتراف (بأن أكثر ما كتبه، في فترة من حياته، لم يكن يعدو كونه نثراً عادياً، بينما كان يظن أنه الإبداع)( ).
إذن، وعلى خلفية القناعة بضرورة الموسيقى للشعر، ثم نظراً لوجود ثروة إيقاعية كبيرة، في عروضنا العربي، فإن دعوة النثاعير إلى التخلي عن هذه الثروة، لستر عجزهم عن استثمارها، تغدو ـ أي هذه الدعوة ـ في نظر كثيرين، محضَ جنون. ولأننا نرفض الجنون، أياً كانت أسبابه ونتائجه، ترانا نضم صوتنا إلى صوت الشاعر محمود درويش، وهو يطرح على النثاعير سؤاله الاستنكاري: (لماذا نفرط بثروتنا الإيقاعية؟)( )..
لعل من المثير للدهشة والشفقة معاً، أن يسارع بعض النثاعير إلى الإجابة عن هذا السؤال وما شابهه من الأسئلة الاستنكارية التي طُرحت قبله أو بعده بالقول: ومن قال إن نثعيراتنا خلوٌ من أي موسيقى؟! إن لها موسيقاها الخاصة، وهي موسيقى داخلية مهموسة، استعضنا بها عن ثروتكم الإيقاعية ذات الضجيج المزعج! وككل الذين يتوهمون القدرة على حجب الشمس بغربال، توهم النثاعير في حجتهم المتهافتة هذه، القدرة على إبقاء نثعيراتهم ضمن دائرة الشعر، لكن هيهات! بل إن تحقيق أملهم هذا أشبه، في استحالته، بتحقيق أمل إبليس في دخول الجنة، لأن نتائج البحث الموضوعي في ركام هائل من النثعيرات، يؤكد خلو معظمها من أي موسيقى داخلية أو خارجية أو حتى ما تحت صوتية. لا بل إن بعض النثعيرات يقترب في بنيته من نثرية الخبر الصحفي، أحياناً، كما يمكن أن نلمس، بوضوح، في المقطع التالي من نثعيرة (موت الشاعر) للنثعور (عبد اللطيف خطاب):
(مررت بهم؟/وبعد مرورك بالأقدام الثقيلة، والإذاعات التي لا تصمت، وضعت/نفسك وإحساسك وشعورك وخيالاتك الإدراكية وأظافرك وشعر/ يديك، في محرقة لم ترها في وادي الجحيم....)( ).
وثمة نثعيرات كثيرة مماثلة كتبها نثاعير من أمثال: هادي دانيال( )، وفايز مقدسي( )، وغيرهما، وكلها يخلو خلواً تاماً، من أي موسيقى داخلية أو خارجية، حتى ليمكن القول: إن في سجع الكهان وخطب القدماء ومقاماتهم وما شاكلها، من الإيقاع، أكثر مما في الكثير من هذه النثعيرات( ). والغريب، أنه رغم غنى هذه النماذج النثرية القديمة بالموسيقى الداخلية، لم نسمع أحداً عدها شعراً، فلماذا يصر النثاعير ونقادهم على تسمية النثعيرة الخالية من أي إيقاع شعراً، رغم أنف الذوق والمنطق؟!. (أعنزةٌ ولو طارت)؟! نعم، وإلا كيف يمكن أن يُعد المقطع التالي من نثعيرة بعنوان (قصائد) للنثعور الأردني (أمجد ناصر) شعراً:
(كنا نتكلم على الطقس، مفتاح الحديث الصدئ مع الإنكليز، عندما أخبرتني جارتنا العجوز مسز مورس، الإنكليزية الوحيدة في شارعنا الذي توارى عنه الإنكليز واحداً فواحداً بعد أن رجحت كفة الآسيويين فيه، أن سماء لندن لم تكن مثلما هي عليه الآن: كانت تشبه إلى حد ما السماء عندكم في الهند)( ).
في رأيي، ينبغي أن يفقد القارئ عقله وثقافته، حتى يمكن إقناعه بأن السطور السابقة تنتمي إلى عالم الشعر، حتى ولو كانت منشورة تحت عنوان (شعر)، في مجلة محترمة مثل (الكرمل)، يرأس تحريرها شاعر كبير مثل محمود درويش الذي يبدو أن خوفه مما أسماه ميليشات وأحزاب الدفاع عن (قصيدة النثر)، قد اضطره، في النهاية، إلى أن يعدَّها شعراً، رغم قناعته بأنها (ليست من الشعر)، بل إن تسميتها تضع الشعر والنثر في تناقض، كما يقول، و(أن الناس لا تعرف كيف تقرأ هذا النوع)، و(أن النقد ـ للأسف ـ غير قادر على استيعابها)( ).
لن نعدم نثعوراً أو ناقداً مؤيداً للتنثعر، يبادر إلى رفع سبابته في وجوهنا محذراً: كفاكم! فالمسألة ليست مسألة وزن وإيقاع، كما تتوهمون أيها المتخلفون، بل مسألة حداثة! والحداثة تعني تحرر شاعر اليوم من أي التزام وزني، أفلا تعقلون؟!
لأَدْرَأَ عن نفسي تهمة الافتراء على النثعيرة ونثاعيرها، وتهمة العداوة للحداثة والتحديث، وهما تهمتان أخافتا حتى محمود درويش، كما رأينا آنفاً، وجعلتاه ينشر هذراً تحت عنوان (شعر)، في المجلة التي يرأس تحريرها، أرى أن أرفع المسؤولية عن كاهلي الضعيف، وأترك الرد على السفسطة النثعورية السابقة، ذات الحجة الرخوة الواهية، لشاعر أقوى مني كاهلاً وأكثر قدرة على مواجهة النثاعير وغضبهم، وهذا الشاعر هو (أدونيس) الذي لا يقل احترامي له، فناناً وناقداً، عن احترام الذين يعلنون أنفسهم أتباعاً له من نثاعير اليوم ونقادهم.. ففي معرض بيانه لعلاقة الحداثة بـ (قصيدة النثر = النثعيرة)، يقول أدونيس:
(الحداثة ليست مجرد تقنية، نثرية أو وزنية، وإنما هي رؤيا شاملة… للمناسبة ما أكثر ما يستسهل قراؤنا الحداثة، كلما رأوا نصاً شعرياً بلا وزن أو قافية، سموه حديثاً، هذا فهم خاطئ إن لم يكن جهلاً، إن معظم النصوص التي تُكتب اليوم، نثراً، باسم الحداثة، لا علاقة لها بالحداثة، إطلاقاً.)( ).
وبالتالي، فإن الحداثة الشعرية، كما يؤكد أدونيس، ليست محصورة في النثر وحده، اللهم إلا في رأي بعض الأشخاص الذين كتبوا الشعر نثراً. وهو رأي يمثل في نظر أدونيس (الوجه الآخر للعمودية الجاهلية. فمقابل القول: لا شعر إلا الموزون المقفى، يقول أصحاب هذا الرأي: لا شعر إلا النثر.. وأظن أن هذا بحث آخر، وظلام آخر، عدا أنه يكشف عن فهم خاطئ للشعر وللحداثة معاً)( ).
ً2) الصورة النثعيرية وسماتها:
يُسوغ بعض النثاعير نسبة النثعيرة إلى الشعر بالقول: إذا كان الشعر ليس إيقاعاً وموسيقى فحسب، بل صورة فنية ذات خصائص وسمات مميزة أيضاً؛ وإذا كان الوزن قد أتاح، قديماً، لقصائد عمودية كثيرة أن تُوصف بالشعر، رغم خلوها من أي صورة شعرية، فلماذا لا تتيح الصورة الشعرية للنثعيرة الاتصاف بالشعر، حتى وإن خلت من الوزن والإيقاع؟!
في الواقع، ميز نقاد العرب القدامى بين الشعر والنظم، فأخرجوا كل مفتقر إلى الرؤية الشعرية واللغة الشعرية، خارج دائرة الشعر وسموه (نظماً)، أي نصاً لا شعر فيه. وبالمقابل، أطلقوا صفة (النثر الفني) على النصوص النثرية الزاخرة بالصور الشعرية والمكتوبة بلغة شعرية موحية، أي لم يعدوها شعراً أيضاً، لاعتقادهم أن الشعر طائر لا يطير إلا بجناحين هما الصورة الشعرية الموحية والإيقاع الموسيقي المطرب، وبالتالي فكل نص لا يتوفر له هذان الجناحان معاً، لا يعد شعراً أما نثاعير اليوم، فيصرون على تسمية ما يكتبونه شعراً، حتى وإن خلا من أي إيقاع، مؤكدين أن الصورة الموحية وحدها قادرة على التأثير في المتلقي وتحريكه( )..
مع عدم القناعة بهذا الافتراض، فليت النثاعير تقيدوا بما وضعوه لأنفسهم من تنظيرات، ولم يشطحوا بعيداً عنها، فيستغنوا حتى عن الصورة الشعرية الموحية أيضاً، ليغثُّوا أنفسنا بصور من أبرز سماتها:
أ) الغرائبية
وهي غرائبية لا جمال فيها، ولا يمكن لصاحب أي ذوق سليم أن يتذوقها، كهذه الصور التي حشدها النثعور (علي سفر) في نثعيرته (غناء) التي يقول فيها:
(وسمعتهم يصلصلون فداحة القفز/فهجتَ آخر أفعالكَ/ثم انتظمتَ دفقةَ الكرة النطاطة درجتين/أو أدنى من سـلم المجد/يواتيك ضروس نظافةٍ/ من شبهةِ المستحيل.)( )
إن الغرائبية غير المسوغة وغير المستساغة، في آن معاً، تتبدى، كأوضح ما تكون، في هذه العبارات الغامضة الركيكة التركيب التي ترسم كلماتها صوراً ملغزة، دون قدرة على الإيحاء بمعنى، الأمر الذي يفرض على من يريد التصدي لتفسيرها أن يتكلف المعنى لها تكلفاً، لا ليستر افتقارها إلى أي معنى فحسب، بل إلى الحد الأدنى من الجمالية أيضاً.
وبقدر ما كان التركيب الملغز، بتعمد، لصور نثعيرة (علي سفر)، الآنفة، هو مصدر الغرائبية فيها وفي مثيلاتها، كان الخيال السقيم للنثعور (فائز العراقي) هو مصدر الغرائبية في الصورة التي ضمَّنها مطلع نثعيرته (النشيد الأول):
(من جديد/سأكتبك أيتها الأبدية/فوق قدور السماء النحاسية)( )..
لكم تبدو لي هذه الصورة مثيرة للسخرية والشفقة معاً، خصوصاً حين لا يجد القارئ تفسيراً مقبولاً، منطقياً أو جمالياً، لعبارة (قدور السماء النحاسية)، وقد لا يتردد في الضحك من تركيب هذه الصورة، وهو يسأل ساخراً: ولماذا كانت هذه القدور نحاسية وليست حديدية أو رصاصية أو برونزية مثلاً؟ ثم لماذا هي قدور وليست أباريقَ أو كؤوساً أو صحوناً؟ وهل تتغير دلالة الصورة الغرائبية هذه لو قلنا: (أباريق السماء البرونزية) مثلاً؟ لا أدري.. ولكن ما أنا على يقين منه أن هذه الصورة التي أظنها مصنوعة ومفتعلة لإثارة استغراب القارئ لا أكثر، تفتقر، وبشدة، إلى الحد الأدنى من الجمالية المؤثرة والموحية، هذا فضلاً عن كونها، ومن الناحية المضمونية، مجانية لا وظيفة لها، كأن تسعى، مثلاً، إلى إيصال معنى أو فكرة أو شعور إلى المتلقي..
وحتى لو وافقنا أدونيس على رأيه في أن مهمة (الشاعر) الحداثوي إثارة رغبة البحث عن معنى في نفس المتلقي وعقله، لا تقديم المعنى جاهزاً له( )، نلاحظ أن النثعيرتين، آنفتي الذكر، ومثلهما كثير، لا تستطيعان تحريض قارئهما للبحث عن أي معنى في تلافيف غموضهما الدامس، لسبب بسيط جداً، هو افتقارهما للمعنى، أصلاً، وفاقد الشيء لا يعطيه..
ب ـ السماجة والقبح
ثمة نماذج من النثعيرات يتمنى قارئها لو أنها خلت من الصور تماماً، لسماجة وقبح ما تفتق عنه خيال كاتبيها من صور قبيحة بائسة، كتلك التي تضمنتها نثعيرة (مؤسسة الحب) للنثعور (خليل صويلح) التي يقول فيها:
(كم كيساً/من إسمنت القبلات/يكفي/لبناء مؤسسة الحب؟)( )
الحمد لله أن وَهْمَ التجديد عند هذا النثعور ذي الخيال المريض، لم يدفعه إلى صياغة تصوراته الإسمنتية لعاطفة الحب، في صيغة مسألة رياضية، كأن يطلع علينا قائلاً مثلاً:
/إذا كان كل كيس من إسمنت القبلات يزن طناً من غلاظة المشاعر، وإذا كان كل متر مربع من مؤسسة الحب يحتاج إلى كيسين من إسمنت القبلات، فكم كيساً يحتاج بناء هذه المؤسسة، إذا كانت مساحتها بحجم بلادة مشاعر النثعور الذي كتب هذه النثعيرة؟/.
ألا إن بُعد هذه النثعيرة عن الشعر، بقدر بُعد الإسمنت وقساوته، عن الحب ورقته، وبقدر بُعد عفويته وتحرره من كل قيد عن مفهوم المؤسسة الجامد. بل أي حب هذا الذي يمكن أن يوضع أو يوجد في مؤسسة؟! إنه خيال سقيم خال من حساسية الجمال ورقة الشعور، هو خيال ذلك الذي كتب هذه النثعيرة القصيرة جداً، والتي على عيوبها الكثيرة، قيل لي: إنها ليست للنثعور صويلح أصلاً، بل ملطوشة من مجموعة نثعور آخر، رجاني ألا أذكر اسمه! فيا للمهزلة، ألهذه الدرجة أصيب خيال بعض النثاعير بالسقم، حتى صار بعضهم يلطش سخف من سبقه وهذره؟!!
وإذا أردنا مثالاً آخر على السماجة ومجافاة الذائقة الجمالية، فما علينا إلا قراءة ما كتبه النثعور (فوزي كريم)، في نثعيرته (قصيدة حب) التي، كما يبدو، لا علاقة لها بالحب، بل بالجندية ومفرداتها العسكرية! كما يتضح في قوله:
(أجند حبك لي، واحتراسي من الحب/هذا الفم القروي/أجنده/ ووعدك أن لا أعود وحيداً/أجند طير المحطات فوق المصابيح/والفجر في ردهات المخافر...)( )
ويظل هذا النثعور يجند ما لا أدري من المشاعر ومظاهر الطبيعة، كي يحشد جنوده هؤلاء، في النهاية، لتحقيق هدف واحد بسيط وهو أن يتكلم، فتصوروا! ورغم تذييل النثعور فوزي لنثعيرته هذه بالإشارة إلى أن مكان إبداعها هو لندن، أجدني ميالاً إلى الاعتقاد بأن سبب هيمنة أجواء الجندية ومفرداتها على هذه النثعيرة، ربما يكون تزامن كتابتها مع تأدية نثعورها لخدمته العسكرية، قبل سفره إلى لندن!
ج ـ غياب الصورة تماماً
بذريعة إطلاق ما يسمونه حريتهم في التعبير، إلى أقصى حد ممكن، عمدَ بعض النثاعير إلى الاستغناء عن الصور تماماً، كما فعل النثعور (محمد فؤاد) في نثعيرته (طاغوت الكلام) التي يقول في أحد مقاطعها:
(هل كانت، هكذا، البداية؟!/ليست، تماماً، كانت ككل البدايات/ ولاشيء يمنع أن تختلف قليلاً في الخطوط العريضة أو/الخطوط الطويلة للموقف.)( ).
ومثل هذا الخلو التام من الصورة نراه في نثعيرة حديثة نشرها (عباس بيضون) في مجلة الكرمل، تحت عنوان (دقيقة تأخير عن الواقع/أبواب بيروتية). فقد كتب في مقطعها الأول تحت عنوان (الحديقة):
(الأشجار الضخمة ليست من طبيعة هذه البلاد. إذا كان أحد غرسها فلابد أن يكونوا محتلين متعجلين ولم يفعلوا ذلك كرمى شيء ولا لأنفسهم. لربما كانت إقامتهم قصيرة لدرجة أننا لم نستطع أن نتأكد منها)( ).
تُرى هل يختلف عاقلان على خلو هاتين النثعيرتين من أي صورة على الإطلاق، شاعرية كانت أو غير شاعرية؟
وبعد،
فبالله عليكم، سادتي النثاعير والقراء، لو قارنّا الصور الواردة في النثعيرات آنفة الذكر، بهذا المقطع من رواية (الجحيم) لـ (هنري باربوس):
(إنني وحيد هذه الليلة، ساهر أمام طاولتي، مصباحي يطن كالصيف في الحقول. أرفع عيني، النجوم تتباعد وتدفع السماء فوقي، والمدينة تغرق أمام قدمي، والأفق يهرب أبداً إلى جانبي، الظلال والأنوار تشكل دائرة لا متناهية، ما دمت أنا هنا)( ).
ألا يبدو واضحاً، ودون أي مكابرة، أن في هذا المقطع المترجم لباربوس، من الشاعرية، أكثر مما في النثعيرات السابقة؟ ومع ذلك، لم يزعم باربوس أن روايته، أو بعض مقاطعها، شعر منثور أو نثر مشعور.
ً3) تعمد الغموض والإلغاز:
رحم الله ذلك الزمان الذي كان أهله يعدُّون الغموض عيباً فنياً، إن أصاب شعر أحدهم، سهواً أو عجزاً، سَلَقَه النقاد بألسنة حداد. فقد صرنا إلى زمن يتعمد نثاعيرُه الغموض ويفاخرون بالإلغاز والإبهام، إلى حد اعتبار فَهْمِ المتلقي لما يُنثعره بعضهم فشلاً، كما يقول النثعور (بول شاؤول) مفاخراً: (إن قصيدتي إذا وصلت لأحد فمعنى ذلك أنها فشلت)( ).
وهنا، ليسمح لي النثعور (بول) وأمثاله بالسؤال: إذا كنت يا سيدي لا تريد لأحد أن يفهم نثعيراتك فلماذا تنشرها؟ وإذا كان فهمُ إحداها يعني فشلَها، أفلا تخشى أن يبعث الله عليها ـ وهو القادر على كل شيء ـ من يفهمها جميعاً؟ فما تُراك فاعلٌ عند ذاك؟ ويحَ قلبي عليك يا نثعور الغموض ورمزه. إني لأتصورك، وقد فهم بعض الناس ما تكتب ـ لا سمح الله ـ فإذا بك تتمزق غيظاً، وتتلوى غضباً، ثم يغمرك يأسٌ قاتل، وربما إحباط، وقد تُقْلِعُ عن النَثْعَرَة، إن شاء الله!! لهذا، وتفادياً لمثل هذا المصير (المفجع)، أناشدك يا سيدي، أن تُبقي نثعيراتك في درج مكتبك، وأن تحرص عليها غاية الحرص، خشية أن يَطَّلِع أحد على بعضها فيفهمه، فيحدث لك ما لا تحمد عقباه، كأن يكتشف، مثلاً، أن الرغبة في ستر ضحالة موهبتك الشعرية، هي سر غرامك، وأمثالك من النثاعير، بالغموض المتعمد، وليس لأن الغموضَ صنو العمق، كما تدعون.. فإن كنت ما تزال، وغيرك، في ريب مما أقول، فَلْتُرِني أين العمق في مثل هذه العبارات التي تضمنتها نثعيرة بعنوان (مغامرات نبع) للنثعور (شوقي أبي شقرا) الذي لا أظنك تجحد علو كعبه وشهرته، في عالم النَثْعَرَة:
(أنا مصطاف/أهوى المغاور والاختصار/أدخل في الحائط وأخرج منه/ حفظت الجغرافيا/نلت في الخط والفسيفساء علامات جيدة/نجحت في الغناء/صنعتْ لي والدتي كعكعة كبيرة فأكلتها وأنا ماش/كتبت فروض العطلة/مزحتُ مع الماشية/مررتُ تحت الدير فصقَّع الرهبان/أتكون من الأوجاع العصبية/يظنني الحطاب هرة سوداء/عدوة الجرذان والعصافير/أحب زي الأمير فخر الدين/كان الأمير قصيرا كالموزة/يكره الزحام والصفير/يمشي فيترك بياضاً حواليه)( ).
أين عمق المعنى، في هذه العبارات المشوشة المتداخلة ببعضها، تداخل عباس بدباس؟! بل أين المعنى نفسه، أو حتى مجرد التحريض على اكتشافه؟! وهل هذه هي الحداثة التي يتشدق النثاعير في الحديث عنها ويتفاخرون في ادعاء الانتماء إليها؟ فإن كان الجواب: نعم، وكانت ثمار حداثتكم من طينة هذه النثعيرة، فإني أول كافر بها، وأول رافض لكل ما يأتي به دعاتها وأدعياؤها، حتى وإن صلبتموني على جذوع سخافاتكم.. لأن ما تصفونه بـ (حداثتكم)، والحال هذه، لا تعدو كونها مجرد ورقة تين لستر ضحالة الموهبة عند كبار نثاعيركم من أمثال (شوقي أبي شقرا)، أما بالنسبة لصغاركم، ممن لم تفقس البيضة عنهم بعد، فالمصيبة أعظم.. ومن يُرِد الدليل على صواب ما أقول، فليقرأ معي هذه العبارات التي تضمنها المقطع الأول من نثعيرة (ارتجالات) للنثعور (علي سفر):
(ريقٌ شقَّ سائل بركتك/نظر اللفافة الملوثة فضاءً ينحني ثم يبتهل انشدادك من/حدود يدٍ../أربع أحجارٍ مازجها حرف لاتيني/ وعودتك المسماة/تغرقين عربات آيبة لتُرى في إطار الزجاج انعدام مسرة/ قيام الاحتمال بما يكفله رب السلطة/هدم الغرف ومكننة ضجيج اللغة)( ).
لعلي لا أكون مبالغاً أو مفترياً لو زعمت أن هذه العبارات تعد أفضل مثال للدلالة على معنى كلمة هذر، وأن التزايد السرطاني لمثيلاتها على سطح ساحتنا الأدبية، تحت كلمة (شعر) المفترى عليها، هو أحد الأسباب الرئيسة لانفضاض الناس عن النثاعير، وإعراضهم عما ينثعرون، ومن ثَمَّ، انصرافهم حتى عن الشعراء المجيدين، ظناً منهم أن الانحطاط النثعيري قد أتى على أخضر الشعر ويابسه، فصارت جميع نماذجه إلى هذه الحال البائسة، من انعدام الوزن والمعنى والإثارة الجمالية.
وبعد، هل كان الهذرُ هو الثمرة المرة الوحيدة لتَعَمُّد النثاعير الغموض، ستراً لضحالة مواهبهم، أو لانعدامها أحياناً؟ بالتأكيد لا، فثمة ثمار أخرى، لا تقل عن الهذر مرارة، وفي مقدمتها:
 الهراء
من المعروف أنه لابد لأي كلام من معنى، حتى ولو كان قائله أمياً، فإن خلا من المعنى، أو كان قائله يرفع من الزاوية ليضع على الراوية، فسرعان ما نبادر إلى وصف ما يقوله بـ (الهراء)، وهو وصف يوافق تعريف المتنبي للكلام الخالي من المعنى، بقوله:
ولولا كونكم في الناس كانوا هراء، كالكلام بلا معاني
وصحيح أننا قد نضحك من هذر البعض وهرائهم، لكنه يظل، في نظرنا، مجرد كلام فارغ، نسمعه للحظة، ثم ينزلق عن آذاننا ليسقط على الأرض، أو ليتبعثر في الهواء، قبل أن يغيب في مهاوي النسيان، كما هو حال الكثير من النثعيرات التي ينطبق على قائليها مثلنا الشعبي: (الحكي منه والتفسير على الله).. وكمثال على هذا النمط من النثعيرات الهرائية، واحدة للنثعور (أنسي الحاج)، في مجموعة (لن)، يقول فيها:
(الحياة حية، العين درج، العين قصب، العين سوق سوداء/عيني قمع تقفز منه الريح ولا يصيبه/هل أعوي؟ الصراخ/بلا حبل. هناك أريكة وسأصمد)( ).
ألا بمثلِ هذا فليأتِ الأدباء والنقاد بأمثلة، لتعريف الهراء الحداثوي، في أدبنا العربي المسكين، ولا شك أن مضمون هذه النثعيرة يعدُّ، أيضاً، نموذجاً دالاً، دلالة واضحة، على ما يمكن وصفه بالعبث اللغوي المجاني، وهو وصف يؤكده النثعور (أنسي الحاج) نفسه، في معرض حديثه عن تجربته النثعيرية، فيقول:
(يوجد لدي عبث في الكتابة، مجون، لعب في اللغة، أحياناً يكون هذا اللعب جامحاً إلى حدِّ اللهو المجاني، وكأنه أرجوحة وأنت تحاول الذهاب بها إلى الأقصى!)( ).
ويبدو أن اتجاه عدد من كبار النثاعير، أمثال (أنسي الحاج) إلى الهذر، في بعض نثعيراتهم، قد شجع الكثير من صغارهم على أن يحذوا حذو أولئك (الكبار)، ليتحفونا بهراء لا حدود لسخفه وابتذاله، كما نجد في نثعيرة (عود ثقاب يحترق) للنثعور (لقمان ديركي):
(أنا الراقص المرتبك/الذي نهض لأجلك/وفي علبة السردين المصنوعة في/المغرب/أنا رأس الفلفل الحار/الذي يرميه كل من يفتح العلبة في/المشرق)( )
ويمضي النثعور لقمان على هذا النحو من السخف، في نثعيرته هذه، ليقدم لنا نموذجاً حقيقياً للانحطاط الذي بلغه الشعر العربي المعاصر، على صعيدي الشكل والمضمون معاً.
ويصل الانحطاط الهرائي عند نثاعير آخرين إلى حد ممارسة العواء، كما فعل النثعور (فائز العراقي) في نثعيرته (سفر في غابة العواء) التي يقول في بعضها:
(يا رجل الليل/ادلهمت الغابة/والذئاب سدت منافذ الطرق/عيون زجاجية حمراء/ وأشلاء تتناثر نتفاً/عووو... عووو... عووو...)( )
ألا إنه انحدار مؤلم هذا الذي بلغه بعض النثاعير، وهم يتوهمون أن هراءهم هذا وسخفهم دليل واقعيتهم في التعبير تارة، ودليل انتماء ما يهذرونه إلى الحداثة، تارة أخرى، وما يدرون أنهم في حلقة السخف يدورون.. لأننا لو قبلنا بأن تكون ثمار الحداثة على نحو ما يطرحون في نثعيراتهم، فليس يُلام نثاعير الغد إذا ما استخدم أحدهم كلمة (هششش.. أو حااااء)، مثلاً، منادياً على حماره أو بغله ليقف أو ليمشي!!! أو إذا ما استخدم نثعور مستقبلي آخر كلمة (نووو...) للحديث عن قطته التي يرمز بها لحبيبته، وبهذا تصبح كلمة (نووو...) مثلاً، معادلاً رمزياً في عرفه لكلمة (أحبك)!!!
ويبدو أن النثعور (فائز العراقي)، لتوهمه أن الكتابة على هذا النحو تجعله أكثر حداثوية، راح يدمدم( ) تارة، وتارة أخرى يتكتك( )، وتارة ثالثة يصهصه( )، وهكذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله!!
وقبل أن أنهي إطلالتي السريعة هذه، على الهراء النثعيري، ولأني أعدُّها نموذجاً متفرداً لهذا الهراء، أودُّ أن أتوقف عند نثعيرة بعنوان (أختي العروس) للنثعور (حسان عزت)، يقول في مطلعها المفلفل:
(يا أختي العروس الطالعة بالأمطار/والخمر/المراكب الحرى وأحمال البهـار/من أشـرع الحرام ومنح نجمة السـوسن/طعمك الأخ صهَّال الحلاوات/ الشابق بالخلاصة والنكهة)( )
وبعد هذا المطلع (الشهي) الذي دَلَقَ النثعور (حسان عزت) أحمالاً شتى من البهار فوق عباراته، على أمل أن تصبح سائغةَ الطعم والرائحة، فلا تقلب معدة القارئ، وهو يحاول فهمها وهضمها، إذا بالبهار يفعل أول أفاعيله في رأس هذا النثعور نفسه، فيسكره إعجاباً بما أفرز من صور سقيمة، ثم يُطلق لسانه بشدو هرائي، يبلغ ذروة غموضه وعدم قابليته المطلقة للفهم، بقوله:
(يا متقن الغزو/اشتعلت بيادر الغلات لات نا/يا أيّا ياتِ ياتنا/يا صعبُ)( )
بالله عليكم أفيدوني، يا سادتي القراء، بأي لغة كتب هذا النثعور مقطعه هذا؟ أبالعربية حقاً؟! وإن كان بها، فهل قرأتم أسخف أو أردأ من هذه العبارات المفككة التي لا معنى لها ولا مبنى، ولا يتميز لها رأس من ذنب؟! ألا إنها نموذج جديد، بل نمط متفرد من الهراء النثعيري القائم على أساس ضَفرِ الطلاسم والألغاز في تراكيب بالغة الركاكة، وعبارات غير قابلة للذوبان في أي محلول ذوقي.. وما ذلك إلا لأن مؤلفها يتوهم، وأمثاله، أن ما يُنثعره موجَّه إلى خاصة الخاصة من متذوقي الهراء، وليس إلى أمثالي ممن لا يعرفون الخمسة من الطمسة في عالم الغموض النثعيري الحداثوي، ولا يريدون أن يعرفوا..
 العدمية
أي انقطاع الصلة تماماً بين النثعور والمتلقي، بسبب تعَمُّد الأول الغموضَ وتكلّفه، بمناسبة ودون مناسبة، وبسبب عدم قدرة الثاني على فكِّ طلاسم النثاعير وألغازهم. وقد مرت بنا أمثلة على هذا النمط من الغموض النثعيري، فلا داعي للتكرار.. لكن من المدهش فعلاً، أن تجد بعض كبار النثاعير يفاخر بهذه القطيعة، كما يفعل بول شاؤول الذي يقول متبجحاً بقطع كل ما يصله بعالم القراء: (لا أخاطب أحدا ولا أقيم حوارا مع أحد)( ) .
ً4) بين الغموض النثعيري والغموض الصوفي:
من أبرز الذرائع التي يتكئ عليها النثاعير لتسويغ ما يتكلفونه من غموض، زعمهم أن الغموض في ما ينثعرونه من عبارات، إنما هو صنوُ عمق المعنى ووليده!! وأن (أسوتهم) الحسنة، في هذا المجال، غموضُ شعر المتصوفة القدامى، من أمثال (النفري والحلاج وابن عربي) وغيرهم( )!
هذه حجتهم لتسويغ غموضهم، لكن مقارنة نثعيراتهم بقصائد أولئك المتصوفة، تؤكد أن القليل جداً من هذه النثعيرات يجوز تشبيه غموضه، بكثير من تغميض العينيين وغضِّ بصرهما، بغموض شعر المتصوفة القدامى، أما غالبيتها العظمى، فلا علاقة لها بالتصوف، أو بأصحابه وفنهم الشعري، لا من قريب ولا من بعيد، اللهم إلا من ناحية التقليد الشكلاني المضحك الذي حاوله بعض النثاعير، لبعض نماذج الشعر الصوفي، فكانت النتيجة أن قدموا لنا مسوخاً تبعث على السخرية والرثاء، في آن معاً، كتلك التي تفتقت عنها (عبقرية) النثعور (فايز مقدسي) في نثعيرته المسماة (طوطم) التي يقول فيها:
(تفاجأت بمفاجأة المفاجئ فتفاجأ بمفاجأتي/لم يجيء يفاجئني فتفاجأت ولو جاء يفاجئني/لما تفاجأت/جاء، جال من أجل جلو رغابي)( ).
لكم تبدو هذه (الجأجأة) المفتعلة الغثة والركيكة مسخاً تافهاًً أمام روعة الأصل الصوفي القديم، وتألقه الجمالي المشع مبنى ومعنى معاً، وأقصد بهذا الأصل الذي حاول النثعور فايز مقدسي تقليده، قول (الحلاج):
لي حبيب حبه حشو الحشـا إن يشا يمشي على قلبي مشى
روحه روحي، وروحي روحه إن يشا شئت، وإن شئت يشا
لكم تبدو ظالمة مقارنة (شأشأة) الحلاج الرائعة والرقيقة هذه، بـ (جأجأة) فايز مقدسي البائسة التي لا أرى أن تُقارنَ إلا بـ (شأشأة) تلك الدعابة اللفظية التي كنا نتحدى بعضنا، ونحن صغار، في ترديد كلماتها بسرعة، ودون خطأ.. وهاكم ما كانت تتضمنه تلك الدعابة:
(شـريف وشرف اشتريا شرشفين، قاس شريف شـرشفه على شـرشف شـرف، فإذا بشـرشف شـريف أطول من شرشف شرف بشرشفين وشرشف).
أليس في هذه الدعابة (الشرشفية) من الإيقاع والمعنى أكثر مما في نثعيرة (مقدسي) الجأجأية، آنفة الذكر؟ بلى.. ولكم أصاب الناقد (محمد جمال باروت) حين وصف تلك النثعيرة بأنها (لغو لا شعري)، وأنها لدى مقارنتها بقصيدة الحلاج، تغدو (بناءً لغوياً منحطاً، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالشعر)( ). ومثل هذا الحكم النقدي يصح أيضاً على نثعيرة أخرى وصفها(باروت) بـ (الهأهأة)، وفيها يقول فايز مقدسي:
(وهوت بنا أهواؤنا/هوى الأهواء أن أهوى فتهواني الهوة/فأهوى هوتها وهواي في هواها يهوى كتهاويَّ/في هوتها الهاوية وهي هائمة في هواها)( ).
أظن أن كثيرين من القراء أمثالي، يوافقونني الرأي أن أفضل ردٍّ على هذه الهأهأة، تلك العبارة التي يستخدمها رسامو الكاريكاتير تحت بعض رسومهم وهي: (بدون تعليق)، لأنني في الواقع، لم أعثر على تعليق هأهأيٍّ (يفش القلب) في النيل من هأهأية مقدسي هذه.
ً5) الانسجام الانحطاطوي بين الشكل والمضمون:
ليس (فايز مقدسي) بدعاً بين النثاعير الذين تمكنوا من تحقيق هذا القدر من الانسجام الانحطاطوي المدهش بين شكل نثعيراتهم ومضمونها، بل إن معظمهم، والحق يُقال، استطاع اجتراح هذه المعجزة غير الحميدة. لا فضل لكبيرهم على صغيرهم، في اجتراحها، إلا بكونه أكثر قدرة على الإسفاف في المضمون، والتحلل من كل قيد أخلاقي، إلى حد الإباحية التي تصدم الذوق والحس السليمين، بقدر ما تصدمهما الصياغة الركيكة والتافهة للعبارات التي صيغت بها هذه الإباحية، والتي يكفي مثالاً عليها، هذه العبارات اللاوطنية البذيئة للنثعور (أنسي الحاج):
(يا بلادي في الموت إذا استدعيتكِ، فلرحمكِ أوسعها، لأرفع علمك عضوي، أوهمك ذلك، "مسيحي أنا"، أشبعك بوهم أن عضوي أنت، تصدقين، وترتاح أعصابك، عضوي أنت! عضوي أنت)( ).
وبعيداً عن هذه البذاءة والفحش المنكرَين، يمكن أن نجد نثعيرات أخرى لا تقل إتقاناً، في تحقيق معادلة الانسجام بين انحطاط مضمونها وانحطاط شكلها الفني معاً. من ذلك مثلاً، نثعيرة (فرار) للنثعور (سعد الأبطح) التي يقول فيها:
(غالباً/كنت أفرُّ من المدرسة/أفر/بعيداً/باتجاه البراري/أدخن ما سرقتُ من سجائر)( )
ألا يبدو واضحاً، بجلاء، مدى الانسجام بين انحطاط هذا التركيب اللغوي، وانحطاط مضمونه؟ بلى، فليس أفضل من هذه التراكيب الركيكة التافهة لتزويق سلوكين منكرين كالتدخين والسرقة والإغراء بممارستهما.
ً6) الصنعة والتصنع في كتابة النثعيرة..
كثيرة جداً هي الحملات الشعواء التي شنها النثاعير ونقادهم على الأوزان العروضية القديمة، ثم على التزام التفعيلة الواحدة في القصيدة، مؤكدين أن التزام هذه الأشكال جميعاً يحدُّ من انطلاق مواهبهم. وبعد أن صدَّقنا دعاواهم هذه، إذا بنا نُفاجأ وقد حذا بعضهم، في التزام ما لا يلزم، حذو الكثير من القدماء المقيدين بعروض الخليل، وحتى شعراء ما يسمى، ظلماً وافتراءً، عصر الانحطاط. يُقلد صغارُهم في هذا الالتزام كبارَهم، عن غير وعي ولا إدراك، غالباً، فإن ترك أحد كبار النثاعير بياضاً على يمين إحدى نثعيراته أو شمالها، أو بين سطورها، تبارى الصغار يوسعون مساحة البياض في مجموعاتهم النثعيرية، حتى صار عدد الكلمات، في بعض هذه المجموعات، لا يتجاوز عدد كلمات مقالة صغيرة في صحيفة يومية، رغم أن عدد صفحات هذه المجموعة يصل إلى الستين أحياناً، وذلك لكثرة البياض المتروك فيها عمداً، لإسباغ صفة الحداثوية عليها!!
وحين ترك بعض النثاعير المشهورين سطوراً فارغة في بعض نثعيراتهم، رصُّوها بالنقاط بدلاً من الكلمات، صار تركُ السطور فارغةً تقليعة نثعيرية واجبة التقليد على كل نثعور صغير! وليس ثمة حاجة لإيراد شواهد دالة على هذه التقليعة النثعيرية وسابقتها، إذ بإمكان أي منا العثور على ما لا يحصى من الشواهد عليهما، في أي مجموعة نثعيرية يفتحها.
وتشاء موهبة نثعور كبير آخر أن يوزع سطور نثعيرته على شكل هندسي معين( )، فيفعل، وما تكاد هذه النثعيرة (المعجزة) ترى النور، حتى تجد كل من هبَّ ودبّ من صغار النثاعير يشترون العلب الهندسية، لاستخدام محتوياتها في رسم أشكال شتى، يوزعون عليها كلماتهم الجوفاء التي لا معنى لها.. ويظل بعضهم يبالغ في اصطناع هذه الأساليب تحت ستار الحداثة، إلى درجة تكره معها كل ما يمت إلى الحداثة وأتباعها بصلة، لأن ما وصل إليه مقلدو هذه الأساليب يُذكِّرك، كما يقول الناقد المغربي محمد السرغيني، (بالكتابة الشعرية في عصر ما اصطلح على تسميته بعصر الانحطاط في تاريخ الشعر العربي، حيث تُقرأ القصيدة طرداً وعكساً بمعنيين مختلفين، أو من اليمين إلى اليسار وبالعكس، أو من أعلى إلى أسفل وبالعكس، بمعنيين مختلفين كذلك. وهو ما يتطلب مهارة فائقة في الصناعة)( )..
وثمة تقليعة أخرى انتشـر اسـتخدامهـا في نتاج النثاعير، كباراً وصغاراً، انتشار النار في الهشيم، وهي تقليعة إدخال (أل) التعريف على الفعل المضارع.. فنادراً ما تفتح مجموعة نثعيرية، ثم لا تجد فيها أمثلة على هذه التقليعة. ذلك أن صغار النثاعير، بشكل خاص، راحوا يدخلون هذه الـ (أل) على أي فعل يصادفونه في طريقهم، مضارعاً كان أو غير مضارع، بمناسبة وبغير مناسبة، آملين أن يصلوا باستخدامها المكثف إلى امتلاك ناصية الحداثة التي يرون أن من أهم شروط تحقيقها، الخروج على قواعد النحو العربي، وليس على قواعد العروض والذوق فقط.. وبهذا، صار لنا نحن، معشر القراء المساكين، كمٌّ جديد من الركام النثعيري المشوه نحوياً، دون مناسبة أو اضطرار من أي نوع. من ذلك مثلاً ما فعله النثعور (علي سفر) في قوله: (بلا صكوك غفران القلب/ السرقته العاهرة)( ).
وهنا، لابد من تساؤل: إذا كنا نعذر الشاعر القديم في إدخال هذه الـ (ال) على الفعل لضرورةٍ، وَصَفَها ابن هشام في (شرح شذور الذهب)( ) بالقبيحة، كما في قول الفرزدق المشهور:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
فما هو عذر النثاعير، كبارهم وصغارهم، في اللجوء إلى هذا الاضطرار الوزني، وهم الذين تخلوا عن كل وزن وإيقاع لتأمين انطلاق مواهبهم؟! أم أن استخدامهم لهذا الاضطرار هو من قبيل لزوم ما لا يلزم، في النثعيرة، أم ماذا رعاكم الله؟!!.
ً7) النثعيرة القصيرة جداً:
بعد ظهور فن القصة القصيرة جداً، غار النثاعير، كما يبدو، من القاصين ـ ومن لا يغار حمارـ فقرروا تطوير فن النثعرة إلى شكل جديد يماثل شكل القصة القصيرة جداً، وبهذا طلعوا علينا بما يمكن تسميته (النثعيرة القصيرة جداً).. ويبدو أن النثعور (سعد الأبطح) من المعجبين جداً بهذه النثعيرة، وأظنه من روادها، لكثرة ما حشد من نماذجها في مجموعته النثعيرية (ضلالات الساري). وهي نماذج يتميز معظمها بطوله الذي لا يتجاوز الجملة الواحدة، أحياناً، يشدها هذا النثعور ويمطها، ويبعثر كلماتها بقسوة على طول الصفحة وعرضها، ليجعل منها نثعيرة (يخزي العين عنها)، كما في نثعيرته (حقيقة) التي يقول فيها:
(أيها الموتى/ما/معنى/أن/تعلقوا/أحلامكم/على/إفريز/نافذتي)( )
عزيزي القارئ، صَدِّق أولا تصدق، أن هذه الكلمات العشر فقط، هي كل قوام نثعيرة (حقيقة) التي لا يمت مضمونها إلى أي حقيقة في العالم بصلة! فيا للإبداع الانحطاطي!
ً8) الاتكاء على شرف المضمون:
في السبعينات والثمانينات، من القرن الماضي، حين صار الحديث عن الثورة والسجن والقتال والمعارك جواز مرور إجباري إلى منابر النشر الضيقة الأفق، صار كل ضحل الموهبة يظن أنه إذا تحدث عن هذه الموضوعات، بأي لغة وبأي أسلوب مهما كان ركيكاً، لابد أن ينال إعجاب الجمهور واحترام النقاد، وأن يشق طريقه إلى عالم النشر والشهرة! وهو، للأسف، ما كان يحدث في كثير من الأحيان! وهكذا تراكم في المكتبة العربية كمٌّ هائل من النثعيرات والقصائد المتكئة على شرف مضمونها الأيديولوجي أو السياسي أو الوطني، والخالية، في نفس الوقت، من أي جمالية فنية..
ومن الأمثلة القوية الدلالة على هذا النمط من النثعيرات التي ظن مؤلفوها أن شرف مضمونها يشفع لتهافت بنيتها الفنية وضعفها، ولضحالة موهبة كاتبها، نثعيرة بعنوان (جبهة)، ظن مؤلفها النثعور (جليل حيدر) أنه إذا كتب عن الرصاص صار شاعر الثورة والتمرد، حتى ولو كان ما يكتبه سخيفاً على هذا النحو:
(إلى الرصاص دُرْ/إلى الرصاص أولاً/إلى الرصاص ثانياً/إلى الرصاص ثالثاً/إلى الرصاص رابعاً/إلى الرصاص خامساً/إلى القتال سادساً/إلى النضال سابعاً/إلى الرصاص دُرْ/إلى الرصاص والرصاص/ فالرصاص/سبيلنا الأول والأخير للخلاص)( )
كلما قرأت هذه النثعيرة، حمدت الله على أن نَفَسَ نثعورنا الحربجي (جليل) هذا، توقف عند الرقم سبعة.. إذ ما كان بإمكاننا أن نفعل لو أن نفَسَه طال فامتد به العدُّ إلى الألف أو المليون مثلاً؟! من المؤكد أن نثعيرته السطحية والمباشرة والسخيفة هذه كانت ستحتاج لطباعتها إلى أكثر من ألف صفحة، فتصوروا!!
ولعلي لا أكون مخطئاً لو قلت: إن من هذا النمط النثعيري، نثعيرة (حصار) لمؤلفها (بندر عبد الحميد) الذي ظن أن مجرد ذكره للسادات وإسرائيل في نثعيرته تلك، يكفي لمنجاتها من السقوط في هوة البؤس الفني والغثاثة والسخف. ولكي لا يتوهم أحدٌ أن هذا الحكم قد يكون افتراء على النثعور بندر، لنقرأ معاً هذه الأسطر من نثعيرته (حصار):
(أنا وصديقتي عباسة/تحاصرنا السيارات العريضة/والعطور المستوردة/ نهرب إلى الشوارع الخالية/نتحدث عن الحروب الصغيرة/ وأسعار الكبريت والشاي/وزيارة السادات لإسرائيل/تقول صديقتي/أنها سمعت تصريحاً غامضاً/ لوزير الخارجية الأمريكية/تضحك صديقتي عباسة....)( )
ولا ينجو النثعور (فجر يعقوب) من عيب الاتكاء على شـرف المضمون، أيضاً، في بعض نثعيرات مجموعته (النوم في شـرفة الجنرال)، وإن كان لا يسف فيها إسفاف (جليل حيدر) مثلاً...
وإني لأرجو ألا أكون مبالغاً ولا مفترياً لو قلت إن الاتكاء على شرف المضمون لم يقتصر على صغار النثاعير، بل طال عيبه عدداً من أبرز كبارهم أمثال (سعدي يوسف).. فمثلاً، وبعد أن صار الحديث عن قضية فلسطين لازمة لابد منها لأي مبدع عربي، كي يؤكد وطنيته، قرر (سعدي يوسف) أن يؤكدها، فكتب في نثعيرته (نسخة أولى) يقول:
(أحياناً، أحتاج فلسطين../ لماذا ينفتح الشباك صباحاً؟/أجلس في المقهى وأفكر:/ما صحف اليوم؟/وفي القهوة أشرب نفسي/في الشاي أرى وجه امرأتي)( )..
ترى أي شاعرية في هذه القطعة النثرية ذات المعاني المكرورة، من مثل: (وفي القهوة أشرب نفسي)؟! أما بالنسبة لفلسطين، فالحمد لله أن نثعورنا الكبير (سعدي) كان صادقاً وواقعياً حين لم يبالغ فيقول: إنه يحتاج فلسطين حاجته إلى الماء والهواء، على غرار ما فعل كثيرون من صغار النثاعير والمتشاعرين، تظاهراً بالوطنية والقومية، بل اكتفى بالقول إنه يحتاجها أحياناً فقط.. لكن ما يحزُّ في النفس أنه لم يبين لنا لماذا يحتاجها، وماذا سيفعل بها إن هو حصل عليها..
ً8 ـ القصصية
من السمات البارزة بوضوح في نتاج عدد كبير من النثاعير، نفيُ أسلوب القص وسرديته لشاعرية الصورة، على نحو ما نجد في نثعيرة (كوكاكولا) للنثعور (بندر عبد الحميد) التي يمكن اعتبارها، وبكل بساطة، قصة قصيرة جداً، لا علاقة لها بالشعر المنثور أو المقبور:
(عندما صرخ أرخميدس/وجدتها/اجتمع مجلس الإدارة/في شركة كوكاكولا/ واتخذ قراراً سرياً/لأن أرخميدس يعرف كل شيء/كان يصرخ أحياناً/ويصمت كثيراً/ليفكر/ويسأل/ماذا سيحدث/ويقف على الشاطئ/ يتأمل البحر ويهز رأسه/بعد أيام/وُجِدَ أرخميدس مقتولاً/وإلى جانبه فأس دامية)( )
أما النثعور (فجر يعقوب) فيبدو أن هيامه بالإخراج السينمائي، قد هيمن على نثعيراته التي نشرها في مجموعة (النوم في شرفة الجنرال). ويمكن ملاحظة تأثير هذا الهيام، بوضوح، في نثعيرته (يحدث أن يسألني عن المحطة القادمة) التي يقول فيها:
(في الكهف المسرور/يقف أحدهم ميتاً/ليقص جديلة التنين/بفأس ذي قوة تدميرية/يركض الحارس الليلي والحطاب الوسيم/الحارس الليلي ليتدفأ على أعمدة المشانق/والحطاب الوسيم ليقتل في صمته جرسـاً/في الكهف المسـرور/يتأهب رجل ميت/لإلقـاء التحيـة على المسافرين..)( )
إنه مشهد سينمائي، لا تستطيع غرائبية بعض صوره الارتقاءَ به إلى مصاف الشعر، بل تشد هذه الصور شدّاً، لتتحول في مخيلة المتلقي إلى نموذج فيلم الكرتون ذي المبالغات غير الواقعية..
ويهيمن أسلوب القص وسرديته، على شاعرية النص النثعيري، بوضوح شديد، في مجموعة (سيرة العائلة)( ) للنثعور (حكم البابا) التي لا أراها تزيد عن كونها خواطر وجدانية، نثَرَها مؤلفها قصة تحكي تاريخ أسرته، بأسلوب لا يصل، رغم رقته وحساسيته، إلى مستوى الشعر بحال..
وختاماً،
من المؤكد أنني لم أكتب هذه الدراسة لكوني أحد حراس الشعر الموزون، كما سيسعى إلى اتهامي الكثير من النثاعير والمدافعين عن نثعيراتهم، وليس لأنني ضد الحداثة والجدة، أو ضد التطوير، كما سيفتري آخرون، ولكن كتبت هذه الدراسة لأبقي الباب مفتوحاً أمام قرائها، عساهم يهتدون، على ضوء النثعيرات الواردة فيها، إلى الإجابة الصحيحة عن السؤال الهام التالي:
هل النثعيرات الواردة في هذه الدراسة ومثيلاتها، تخدم اللغة العربية وأدبها، في الوقت الذي تتعرض فيه هذه اللغة والناطقين بها لحرب إبادة، أم لا؟
فإن كانت الإجابة (نعم)، فذلك رأيهم، وأنا أبقى على رأيي ولو وحيداً، لأنني لست من أتباع المثل القائل: (إذا جنَّ ربعك، ما ينفعك عقلك)، بل أنا مؤمن تمام الإيمان بأن عقل المرء يظل نافعاً له حتى وإن جنَّ العالم كله من حوله. وإن كانت الإجابة (لا)، يغدو صحيحاً ادعائي بأنني ضد اتخاذ التجديد ستاراً لتسويغ السخف والاستخفاف بعقول الناس وإفساد أذواقهم، كما يفعل معظم نثاعير اليوم. وعلى هذا، فأنا لست ضد التجديد، حتى وإن كان تنثعراً، مادام ناتجه فناً جميلاً، بدليل إعجابي إلى حد الهوس بمعظم ما كتبه المبدع اللطيف جداً (محمد الماغوط). فأي قارئ، مهما كان بليد الحسِّ، يمكنه ألا يعجب بهذا النص، صياغة ومعنى:
(أيها الحارس العجوز... يا جدي/أعطني كلبك السلوقي/لأتعقب حزني/ أعرني مصباحك الكهربائي/لأبحث عن وطني)( )
إن هذا النص، وعلى الرغم من خلوه من الوزن، لابد أن يثير إعجاب أي صاحب ذائقة نقدية سليمة، سواء ببساطة عباراته، أو بصوره المثيرة للدهشة، رغم بساطتها، النابضة بشاعرية لا نعثر على ما يدانيها، في الكثير من القصائد الموزونة وغير الموزونة التي يكتبها أشباه شعراء اليوم...
ومثل هذا الحكم النقدي يمكن إطلاقه أيضاً، ودون أي حرج، على نثعيرة رائعة، في مجموعة (أغانٍ بوهيمية)، للمرحوم (سليمان عواد)، يقول فيها:
(الوردة تحترق يا حبيبة/كقلب العاشق الحزين/وفي احتراق أحشائها/يكون الفضاء قد تضمخ بعطر جريح/سيموت عطر الوردة المحترقة/ولكن عطر القلب العاشق/أبداً يُسكر القلوب المعذبة).
لا أقول هذا تملقاً للماغوط أو عواد، بل اعترافاً بحقيقة، وإثارة لسؤال لابد من طرحه، وهو: كم مثل الماغوط وعواد بين النثاعير العرب؟ وهل يكفي ما أبدعه هذان الفنانان، والقلائل من أمثالهما، كـ (أدونيس وسعدي يوسف)، ليكون ذريعة تسوغ للعاجزين عن الإبداع الشعري الأصيل، إسباغ صفة الشعر على هذرهم؟
بالتأكيد لا، وبالتالي، فإنني، وعلى الرغم من اعترافي بجمالية ما حوته نثعيرتا الماغوط وعواد آنفتي الذكر، لا أجرؤ على رفعهما إلى سدة الشعر، بل تظلان، في نظري، لدى مقارنتهما بأي من نصوص النثر الفني المعروفة في أدبنا العربي، مجرد نصين نثريين جميلين من نصوص كثيرة مشابهة، يمكن العثور عليها في كتابات القدماء، وبعض كتابات المحدثين من أمثال جبران، كما في كتبه: (زبد ورمل)، و(النبي) و(الأجنحة المتكسرة) وغيرها من كتاباته النثرية الأخرى التي لم يُدرجها بين أشعاره، لقناعته بأن الشعر فن آخر يحتاج إلى الموسيقى قدر حاجته إلى الصورة الفنية الموحية ليصير شعراً..

[/align]

طلعت سقيرق 13 / 07 / 2008 48 : 08 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
شوقي أبي شقرا...
ما.... إلى الهذر المنثور...!!!


[align=justify]بتأثير دعاية الطبل والزمر لما يُسمى (قصيدة النثر = النثعيرة)، قرأتُ، فيما مضى، بعض نصوصها، وفي جملة ما قرأت، بضعة نصوص للنثعور الغامض (شوقي أبي شقرا)، وجدتها منشورة في بعض الصحف والمجلات، فأقنعتني قراءتها، بعدم شراء أي كتاب من تأليفه، إذ ما فائدة اقتناء كتاب لا تفهم منه شيئاً، ولا تسيغ من إبداع مؤلفه صورة، أو تطرب لنغمة، أو تعجب بمعنى أو فكرة...؟ أي أنه كتاب من النوع الذي ينطبق عليه قول مثلنا الشعبي: (لا وجه حلو ولا بشرة ناعمة). وظل هذا رأيي في شوقي أبي شقرا وكتاباته، لم يغيره ما قرأته منها لاحقاً، كما لم يزعزعه مدْح من مدَحَها صادقاً أو متملقاً، ولا قدح من قدح فيها منصفاً أو منصفاً.
وما كنتُ أحسبني مغيِّراً رأيي في تلك الكتابات، أو مقرراً إعادة قراءتها من جديد، لولا أن استضاف تلفزيون المستقبل النثعور شوقي، في سهرة تنفض البدن، ليلة 27/6/2000، ضمن برنامج (خليك بالبيت) لمعده ومقدمه النثعور والمذيع التلفزيوني (زاهي وهبي)، وهبه الله وشركاه من مدَّاحي أبي شقرا، في تلك الليلة، حُسن الختام، وجعلهم من الأعلام في دارَي النثر الحداثوي وما بعد الحداثوي، بجاه المتنبي والبحتري وأبي تمام.
خوف في غير محله
في الواقع، ترددتُ طويلاً، قبل كتابة أي تعليق أو رأي حول ما دار في تلك الحلقة التلفزيونية، على الرغم من شدة ضيقي مما قيل فيها، ومن أساليب الذين شاركوا في حواراتها. ولهذا، ظللت طيلة الفترة التي انصرمت، بين بثها وكتابة هذه المقالة، لا أكاد أخطو خطوة باتجاه الحديث عنها، حتى تراني أعود فأنكص على عقبي متراجعاً، والسبب، كلماتُ بعض الأصدقاء التي ما انفكت تتردد في أذني محذرة ومشفقة:
إياك والاقتراب من موضوع (قصيدة النثر) أو أحد أعلامها بكلمة سوء، فمؤلفي هذا اللون من الأدب، وليس نقادهم فقط، هم من أطول الناس لساناً، وأحدِّهم ناباً، ومن أضيقهم صدراً بالنقد الذي لا يمدح ما يكتبون ولو كان تافهاً، ولا يُطري ما يأتون ولو كان خاطئاً، ولا يثني على (عبقرياتهم الإبداعية) التي يتوهمون أن لا مثيل لها، في قديم الزمان وحاضره ومستقبله. والويل كل الويل لمن تسول له نفسه أن يدوس لأحدهم على طرف، مشهوراً كان هذا الأحد أم مغموراً، أو يقول لآخر منهم ما أحلى الكحل بعينك، لأن من يفعل ذلك يلقَ خصاماً من جميعهم، فتراهم يهبون في وجهه، هبة رجل واحد، يكيلون له التهم، ويرجمونه بشتى الافتراءات من كل شكل ولون... فإذا بهذا المجترئ عليهم، يغدو متخلفاً حتى ولو كان خريج السوربون، ورجعياً معادياً للتجديد والمجددين، حتى ولو تنكر للتاريخ الإنساني القديم برمته. وقد لا يتورعون، والحال هذه، عن اعتباره سببَ تخلف الأمة العربية وسبب انكساراتها الحادة، في الراهن والماضي، وفي المستقبل ربما، وأن اجتراءه على مقامهم السني، إنما حرَّكته رغبة خبيثة في بقاء هذه الأمة، وقد دلف العالم إلى الألفية الثالثة، في ظلمة عصور ما قبل التاريخ، وقد يرمونه بما هو أمرُّ وأدهى. فإياك إياك، والتحرش بهم، لأن من يتحرشهم يكن كمن يهيج عليه عشَّ زنابير في عزِّ الحر، إن لم يقتله لَسْعُهم، آذاه أيما إيذاء.
ولكن إلى متى الصمت على خوف ومضض، وفي القلب ما فيه من هذا اللون الأدبي ومؤلفيه ونقاده جميعا؟ بل لماذا الصمت أصلاً، إذا لم تكن مجاهرة المرء برأيه، وخصوصاً في مجال الأدب، جرماً؟ أليس من أبسط حقوق أي قارئ أن يقول رأيه، بصراحة، في نتاج أي أديب، أَعْجَبَ قولُه هذا الأديبَ ونقاده أم لم يعجبهم، أم أن الإعجاب بأدب هذا الأديب أو ذاك، صار بالإكراه أيضاً، كما هو الحال في كل ميادين حياتنا العربية؟ لكن... ومع قناعتي بحقي، كقارئ عادي، في المجاهرة برأيي، ظللتُ، طويلاً، أنوس بين الإقدام والإحجام، غير قادر على اتخاذ قرار نهائي، حتى انتهيت من نقاش أصدقائي المحذرين المشفقين، إلى النتيجة المريحة التالية:
لا أراني ـ أيها الأصدقاء ـ قادراً على تصديق كل ما تزعمون من انحدار أدبائنا المحدثين ونقادهم إلى ممارسة كمِّ أفواه غير المعجبين بهم وبما يكتبون. وحتى لو انحدر بعضهم إلى هذا الدرك، فما أظن أن يكون بين المنحدرين أيٌّ من النثاعير ونقادهم!! إذ كيف يكون هؤلاء كمَّامي أفواه، وهم ـ كما يصفون أنفسهم ـ دعاة الحرية وثوارها الذين حرروا الشعر العربي من كل قيوده: من عموده القديم وتفعيلاته وإيقاعه الخارجي والداخلي، ومن كل ما يمت إلى الضبط والربط والقواعد والشاعرية بصلة؟ أم تُراهم على مذهب أصحاب الحرية العرجاء الذين يرون حرية التعبير حقاً لهم وحدهم، وحراماً على كل من يعارضهم الرأي أو الهوى، فإن غضب الله على أحد، وقال ما لا يعجبهم، أقاموا الدنيا على رأسه وأقعدوها، ورموا رقبته ورقبة الذين خلفوه؟!!
لا أيها الأصدقاء، ما أظن النثاعير ونقادهم، على هذه الدرجة من الدكتاتورية، ولكي أثبت لكم أن حسن ظني بهم، أصوب من سوء ظنكم، قررت إعلان رأيي، بصراحة ودون أي مواربة، في أحد أهم أعلامهم، وهو النثعور (شوقي أبي شقرا)، ورأيي في كتاباته أيضاً، من خلال ما قرأت له وعنه، ومن خلال مجريات تلك الحلقة التلفزيونية التي استضافه فيها الأستاذ النثعور أيضاً (زاهي وهبي)، وستجدون، بعد نشر هذه المقالة، كم أنَّ مؤلفي النثعيرة ونقادها لطفاء وطيبون، إذ لن يسلخوا جلدي حياً، بعد قراءة هذه المقالة، كما تزعمون، ولن ينشروا عرضي على بيرق، رغم أن لا أحدَ منهم ولا من غيرهم، يعرف بعد، قرعة أبي النقدية من أين!
تصحيح بمديح!!!
في تلك الليلة الليلاء، قيل في شوقي أبي شقرا الكثير الكثير من المديح، فإذا به (شاعر) لا يشق له غبار، وإذا المتنبي دونه، وطاغور، وربما شكسبير أيضاً.. ولكن علامَ كل هذا المديح؟
كان واضحاً أن السبب الرئيس لكل ما مُدح به، كما صرح مادحوه أنفسهم، عرفانهم بجميل قلمه الأحمر الذي لولاه ما كان لتفاهات بعضهم أن تعرف إلى النشر طريقاً!! ذلك أنه بقلمه ذاك، صنع لبعض تلك التفاهات ساقين من قصب، وأعار بعضها الآخر عكاكيز غير مرئية من تدخلاته، غير المحمودة، لتصير، في النهاية، نثعيرات، نُشر بعضها على صفحات (مجلة شعر)، وبعضها الآخر على صفحات (النهار الثقافية).
وعلى هذا يمكن القول: إن ما مُدح به أبي شقرا، تلك الليلة، كان في جملته، نقداً انحطاطياً من ذلك النوع القائم على مبدأ (حُكَّ لي لأحُكَّ لك)!! وما أظن استضافة زاهي له في برنامجه، إلا من هذا القبيل، أي من قبيل العرفان بجميل ذلك القلم الأحمر الذي أجراه الضيف، في وقت مضى، على ما كتبه مضيفه من نثعيرات.
وإن تعجبْ، فعجبٌ رد فعل شوقي على فضح مادحيه لدوره التزويري في كتاباتهم، إذ بدلاً من أن يحاول ستر هذا الدور المنكر، بإنكاره، راح يؤكد ممارسته له، مزدهياً به أمام زاهي وفخوراً! والأدهى من ذلك كله أنه، وبعد اعترافه بالتزوير، عاد ليتحدث، وبدم بارد، عن الموضوعية، فتصوروا!! ألا رحم الله من قال: (إذا لم تستحِ فافعل ما شئت)!!
ثقافة (السآفة) في حوار (المسأَّفين):
ومن أبرز ما يلفت الانتباه، بين سلبيات تلك المقابلة، عامية الضيف ومضيفه، في حوارهما. فإن كان ممكناً أن نغضَّ الطرف عن استخدام العامية في حوار يُجرى مع أي شخص لا يدعي الانتماء إلى الأدب، أَفَتُرَانا قادرين على أن نسيغ استخدامها، في حوار مع من يدعي أنه رأس مدرسة أدبية، بل أديباً من أبرز ميزاته أنه (متضلع) في اللغة، كما وصف شوقي نفسه، وهو يقصد أنه (ضليع)، وكما وصفه مادحوه، في اتصالاتهم مع معدّ البرنامج؟
أم أن السيد شوقي ـ حفظنا الله من تجديده ـ يرى الفصحى من مخلفات الماضي التي يجب القضاء عليها أيضا، شأنها في ذلك، شأن عمود الشعر وتفعيلاته، وأنه لهذا الاعتبار، لا مانع، في رأيه (التجديدي)، أن يصبح القلم (ألماً)، والثقافة (سآفة)، والقصيدة (أصيدة)، والمقالة (مآلة)، والموسيقى (موسيئا)، وفقط (فأط)، وخمسة عشر (خمستاعش)؟!!
ثم هل من التجديد النحوي الذي ضمَّ شوقي ريادته إلى نفسه، مع ريادة التجديد اللغوي، أن ندخل اللام ـ وهي حرف جرـ على حرف جر مثلها هو (إلى) في قوله وقول زاهي مرارا ـ لا فُضَّ فوهاهما ـ (لألو ـ لإلي)، بدلا من له ولي؟ وهل حقا أن سيبويه ـ رحمه الله ـ لن ينتفض بدنه، في قبره، إذا سمع من يصف نفسه برأس مجددي لغة العرب ونحوهم، يدخل الباء ـ وهي حرف جر أيضاً ـ على الفعل المضارع فيقول: (بيتمتعوا، وبيدخل، وبيموت) وما شابه؟..
اعتراف غير مقصود بالحقيقة
منذ بداية المقابلة، وأنا أتمنى متلهفاً أن يُبين الأستاذ شوقي لمشاهديه الفرق بين الشعر والنثر، إذ الفرق بينهما قوامُ المدرسة التي هو رأسها، كما يزعم ومادحوه معه.. لهذا حين سأله محاوره، عَرَضاً، عن الفرق بينهما، وجدتني أقفز من مكاني فرحاً، ثم أهلل وأكبر، قبل أن أجلس، وكلي آذان صاغية، أرقب رده، فإذا به يتلجلج، ثم (يُتأتئ ويُفأفئ) طويلاً، قبل أن يفتح الله عليه بقول ما معناه،: (الشعر هو غير النثر)!!!
لكنه، وقد أدرك أن الفصحى التي لا يحسن الحوار بها، كما يبدو، لم تسعفه في التعبير عن فكرته، بغير تلك العبارة التي هي من قبيل (وفسر الماء بعد الجهد بالماء)، سارع إلى الإعراض عن استخدام الفصحى، رغم أنه مجددها، ومتضلِّعٌ بها، كما زعم مداحوه، هارباً منها إلى العامية يتعلق بتلابيبها مستنجداً، فقال: (الشعر هو الموسيئا والإيقاع الداخلي وكل هالصفات). وما كاد ينهي نطقه بهذه العبارة، حتى أدرك أن حاله صار كحال (الهارب من تحت الدلف إلى تحت المزراب)، لأنه، بتعريفه هذا للشعر، نسف أهم أسس المدرسة التي هو زعيمها، وأقصد مدرسة (قصيدة النثر = النثعيرة)، كما نسف مسوغات كتابة النثعيرة من أساسها، ذلك أن نُثَّارها أو نثاعيرها لا يعترفون بأن للشعر موسيقى أو إيقاعاً، اللهم إلا ما يسمونه الإيقاع الداخلي الذي لا يسمعه أو يحسه غيرهم.
وإزاء هذا العي والتخبط، هبَّ محاوره لنجدته، فطرح عليه سؤالاً ارتجالياً مضحكاً هو: (ما الفرق بين القصيدة والشعر)؟ فإذا بهذا السؤال يزيده عيّاً، بدلاً من أن ينقذه، إذ أجاب: (الأصيدة أنو بتاخد الاسم فأط (فقط) لا غير، بدون ما يكون المضمون. والشعر هو الشعر اللي بنعرفه واللي هوي...).
وما كاد زاهي يشعر أنه، بسؤاله الارتجالي هذا، قد فعل به فعل من جاء ليكحلها فأعماها، حتى قاطعه لينجده ثانية، فسأله: (يعني الأصيدة بتدل عالشكل)؟ فأجابه أبي شقرا، متعلقاً بالقشة التي مدها إليه: (الأصيدة عالشكل.. شكل بس.. شكلية.. الشعر هو حالة، الشعر ما فينا نحدده. يعني الشعر هو الشعر اللي بنعرفه).
الله أكبر! ما هذه الفصاحة يا سيدي، رعاك الله؟ أهكذا أنت غامض في شعرك، غامض في نثرك، وحتى في حوارك، فصيحِه وعامِّيِّه، أيضا؟! ألا سبحان من صاغك من غموض لا وضوح فيه، ومن إبهام لا جلاء له، ومن عسر لا يسر فيه، حتى صرت نسيج وحدك، في قول ما لا يُفهَم وصوغ ما لا يُهضَم، متميزاً في عيِّك كتميزك في نثرك المشعور الذي كانت باكورة إبداعك فيه تلك القصيدة التي اخترت لها (الحمار) عنواناً ـ أجلَّك الله ـ لتتميز بها عن شعراء زمانك، كما أخبرتنا.
ورقة تين الغموض لستر عورة الضعف:
ذكرتُ في دراستي السابقة عن النثعيرة، أن الغموض كان يُعدُّ، فيما مضى، عيباً فنياً، يحاذر الشاعر الوقوع فيه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن وقع، سهواً أو عجزاً، سلقه النقاد بألسنة حِدَاد... أما في عصرنا الميمون هذا الذي انقلبت فيه معايير كل شيء رأساً على عقب، فصرتَ كلما سألتَ من شعرائه، أو من أشباههم، واحداً: لِمَ تتعمد الغموض في ما تكتب، فتجعل الناس ينفرون من كتابتك وينفضُّون عنك؟ بادرَ إلى إجابتك متشدقاً: إن ما تسميه غموضاً هو صنو العمق ووليده!! فإن أنتَ ناقشته القول، احتدَّ قائلاً: الغموض عنوان الحداثة!! فإن تبرأت من الحداثة، مكابراً، تراه يسارع، لكي يفحمك، إلى الاتكاء على حادثة أبي تمام المشؤومة، حين أجاب ـ لا سامحه الله ـ سائلَه المسكين الذي سأله: (لماذا تقول ما لا يُفهم)، بقوله: (ولماذا لا تفهم ما يُقال)؟ ألا ليت الله قطع لسان أبي تمام في تلك اللحظة، فلم يجب بتلك الإجابة التي اتخذها التافهون، من أشباه شعراء اليوم، مسوغاً لتشريع الغموض في ما يكتبون، وورقةَ تين يسترون بها ضحالة مواهبهم، وتفاهة ما تفيض به قرائحهم. ووالله ما أراني كاذباً أو مخطئاً، إن زعمت، أن أبا تمام نفسه لو درى أن عبارته تلك ستستخدم مجناً للدفاع عن ساقط القول وغثه، لما كان تلفظ بها أصلا.
على أي حال، لا أظن أن أبي شقرا ومضيفه ومداحيهما، في تلك الليلة، ينُكرون أنهم من أنصار الغموض، بل ربما سرَّهم أن يُوصفوا بروَّاده وأساتذته. كيف لا، وأحد فطاحل أولئك المداحين، وهو المدعو د. أسعد خير الله الذي لا أعلم، لشهرته، إن كان أديباً أم ناقداً، لم يجد حين أراد المبالغة في مديح أبي شقرا، إلا وصفه بقوله: (فشوئي ـ يقصد شوقي ـ ليس هو السهل الممتنع إنه الصعب الممتنع)!
ليسامحك الله يا سيدي، فلكم أخطأت حين وَهِمْتَ أن وصفَك لشوقي بالصعب الممتنع مبالغة في مدحه، لأن هذا الوصف، في عُرْفِ من له أدنى علم بالنقد، هو هجاء مقذع. أتعلم لماذا؟ لأن السهولة هي ذروة محاولات التخلص من الصعوبة، ولذلك درجت العادة على أن الممتنع لا يوصف به إلا السهل الواضح من القول، أما صعب القول وملغزه، فعيب يوصف به نتاج المبتدئين من الأدباء الذين لم يجيدوا بعد الإفصاح عن أفكارهم وتصوير مشاعرهم وأحاسيسهم، وإيصالها إلى قرائهم، بلغة واضحة يظنها الجاهل ممكنة التقليد من السهولة، فإذا حاول تقليدها، امتنعت عليه سهولتها..
على هذا، أراك أسأت إلى شوقي، من حيث أردت المبالغة في مدحه، بإطلاق تلك الصفة عليه. أما إن كنت تعني بما قلت أن شعره من النوع الذي يمتنع فهمه على أي قارئ، حتى ولو كان مسربلاً بادعاء الحداثوية من رأسه إلى أخمص قدميه، ففي هذه الحالة فقط، أُقرك على وصفك لشوقي ونصوصه بعبارة (الصعب الممتنع).
على أي حال، وأياً كان رأي أسيادنا من دعاة الغموض وصانعيه والمدافعين عنه، فإننا نقول لكم، نحن القراء البسطاء الذين حرقتم قلوبنا بغموضكم، وبالتعريض بجهلنا كلما صارحناكم بعدم فهمنا لما تكتبون: سـنقنع أنفسـنا بحججكم، ونرغمها على القبول بزعمكم أن الغموض وليد العمق، حتى ولو كرهنا، لكننا نرجوكم ـ قدس الله شعركم ونثركم ـ ألا تتكلفوا الغموض تكلفاً، ولا تصطنعونه اصطناعاً، تظاهراً منكم بالعمق وستراً لضعف الموهبة، لأن تكلفكم له واصطناعكم إياه، يجعل القارئ منا غير قادر على تمييز الألف، في ما تكتبون، من العصا. كما أحذركم جميعاً، ودون استثناء، ألا تتكلوا على همتنا في بذل الجهد، لحل ألغازكم وفك طلاسمكم، ليس لأننا كسالى، كما تدعون، ولا لأن معظمنا لا يملك ذلك الباع الطويل في التأويل والتحليل، كما تزعمون، بل لأننا جميعاً ضد أسلوب اللف والدوران، وإنطاق النصوص بما ليس فيها، شأن نقادكم (الكبار) ـ عين الله عليهم ـ ممن أخذوا على عاتقهم خداع القراء، إرضاءً لمن يمدحونه منكم، أو من أجل كسب الشهرة والمال..
ولكي لا أتهم بالافتراء عليكم وعلى السيد أبي شقرا، أرجو منكم أن تأخذونا على قدِّ عقولنا، وتفسروا لنا هذه العبارات التي شنَّف بها أبي شقرا مسامعنا، تلك الليلة، داعياً إياها قصيدة، بعد أن اختار لها عنوانا أتوهم أنه لا يمت إلى مضمونها بصلة وهو: (مغامرات نبع)، وفيما يلي بعضها الذي يدل على مجملها:
(أنا مصطاف/أهوى المغاور والاختصار/أدخل في الحائط وأخرج منه/حفظت الجغرافيا/نلت في الخط والفسيفساء علامات جيدة/نجحت في الغناء/صنعت لي والدتي كعكعة كبيرة فأكلتها وأنا ماش/كتبت فروض العطلة/مزحت مع الماشية/مررت تحت الدير فصقَّع الرهبان/ أتكون من الأوجاع العصبية/يظنني الحطاب هرة سوداء عدوة الجرذان والعصافير/أحب زي الأمير فخر الدين/كان الأمير قصيراً كالموزة/يكره الزحام والصفير/يمشي فيترك بياضاً حواليه).
لن أزعم أنني فهمت شيئاً من هذه العبارات المتداخلة تداخل عباس بدباس، رغم أن الأستاذ زاهي وصفها قبل إلقاء شوقي لها بأنها الأسهل بين كتاباته!! وإنني والله أحسد كل من يستطيع فهم هذا الكلام، أو يقدر على إيجاد رابط من أي نوع بين عباراته غير المتجانسة.. ولأنني خشيت أن أطلق على (قصيدتك الغراء) هذه حكماً قد يصفه البعض باللاموضوعية، أو بالافتراء، رحت أقرأها على كل من هبَّ ودبَّ من عباد الله، مختبرا رأيهم فيها، سائلاً عن مدى تذوقهم لدررها، فإذا كل واحد يدخل في حائط غموضها وتفككها ويخرج منه كما دخل، يداً من قدام ويداً من وراء. وإذا قلتَ لي: إنك لم تقرأها على مختصين، قلت لك: ومنذ متى كانت قراءة الشعر وتذوقه وفهمه اختصاصاً؟!! ومع ذلك فعلت يا سيدي، بل مهدت قبل أن أعرضها عليهم بأنها لون من شعر تيار الوعي، كما ذكر أحد مداحيك، فكان إجماعهم على أنها عبارات كتبت بلا وعي..
وبعد، فما حوته هذه المقالة، لا يعدو كونه مجرد ملاحظات سريعة على سهرة تلفزيونية طويلة حشيت حشواً، بما يحتاج إلى تسويد أضعاف حجمها من الصفحات. ولأنني خشيت إملال القارئ، اكتفيت بما أوردت من ملاحظاتي الآنفة على ما دار فيها.
وختاماً،
أتوجه إلى الأستاذ زاهي، مستعطفاً وراجياً، باسمي واسم جميع المفجوعين بوفاة الشعر العربي المفهوم، بعد أن تكسرت أوزانه وتبعثرت قوافيه وصار هباء منثوراً، على يد فطاحل التجديد الكبار من أمثال شوئي أبي شأرا (شوقي أبي شقرا) الذي استضفته في برنامجك، أتوجه إليك يا سيد زاهي مستحلفاً إياك بحرمة قبر الوضوح والسلاسة والكلمة اللطيفة والصورة الشعرية الحية الموحية، ألا تستضيف، في برنامجك، بعد الآن، شاعراً آخر من طراز أبي شقرا، لا أكثر شهرة منه ولا أدنى، إذ يكفي مشاهديك من النثاعير واحداً، لِيَعُمَّهم الغمُّ ويصيبَهم الغثيان.
[/align]

طلعت سقيرق 13 / 07 / 2008 52 : 08 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
القصة القصيرة جداً
بين حربائيَّة النقد ولبلابيَّة الناقد!!!

[align=justify]أسِفتُ كثيراً لعدم حضوري الملتقى الأول للقصة القصيرة جداً، والذي جرت فعالياته، في شهر أيار من عام 2000، في المركز الثقافي الروسي، بدمشق.. ومما زادني أسفاً على أسف، أمران: سماعي لكثيرين، وهم يتحدثون عن ذلك الملتقى، بين قادحٍ وقادح، ثم عدم شـهودي لتلك اللحظات التاريخية التي تمَّ فيها ـ كما قيل لي ـ تتويج د. أحمد جاسم الحسين أباً روحياً لفن القصة القصيرة جداً، كونه (أوَّل من ألَّف)، عن هذا الفن، كتاباً جامعاً مانعاً ضمَّنه اكتشافات، طاولت أهميتُها، في رأي بعض من وصفها لي، معجَباً، أهميةَ اكتشاف (كوخ) العصيَّاتِ المسببة لداء السل.
هذه المعلومة، مضافاً إليها إعجابي الشديد بفن القصة القصيرة جداً، منذ ظهور بواكيره الأولى، دفعاني إلى البحث عن الكتاب المذكور بلهفة الصادي الباحث في الصحراء عن الماء، خصوصاً بعدما همس، في أذني، أحدُ الذين قرأوه، مهوِّناً عليَّ عدم حضوري ملتقى القصة القصيرة جداً: علامَ الأسف، وبقدرتك أن تَرِدَ النبعَ الذي انبثقت منه كل تلك الجداول التي جرت في ذلك الملتقى؟ اقرأ كتاب الأب الروحي لهذا الفن القصصي الجديد، فهو ذلك النبع، وبقراءته، ستجد نفسك كمن سيق له هذا الفن بحذافيره، فحوى معرفته من جميع أقطارها.
ولحسن حظي، لم يطلْ بحثي عن هذا الكتاب الفريد، إذ سرعان ما وجدتـه عند مَنْ تفضَّل وأعارَنيـه، لأحملـه إلى البيت متشـوقاً التهامَ صفحاته، بشهية الجائع العديم الذي وقع على سلة تين. لكن، ولأن تِيْنَهُ من النوع الذي يصعب هضمه، فقد احتجت جهداً كبيراً لتحليل مادته، وفرز ما انتهى إليه هذا التحليل من نتائج وملاحظات، أودُّ قبل عرضِ أهمها، تالياً، إلقاء حزمة ضوء على ما أظنه:
ثلاث ريادات في كتاب واحد
في كتابه الذي أراده ريادياً في مضمونه ونتائجه وتأثيره، كما يُفهم مما كتبه في الصفحة (109)، قد لا أكون مخطئاًً إذا قلت: إن د. أحمد جاسم الحسين لم يحرز الريادة إلا في ثلاثة مواضع فقط هي:
ً1) ريادته في إصدار أول كتاب عن فن القصة القصيرة جداً
وهو كتاب حاول فيه تقعيدَ هذا الفن الأدبي الجديد، وتعريفَنا بتاريخه وأهم مبدعيه. وهي محاولة أجدني مدفوعاً، وبصدق، إلى تصديق صاحبها في كل ما حكاه عن الجهد الكبير الذي تكلَّفه أثناءها، سواء في جمع مادة كتابه أو في دراستها وتحليلها، كما أخبرنا، عن ذلك كله، في ما يشبه مقدمة ذلك الكتاب، مع الإشارة إلى أن (ما يشبه)، هذه، من ابتكاراته وليست من عندي. وبصدق أيضاً أقول: لَكَمْ تمنيت لو أسفر الجهد الذي بذله د. أحمد، في تأليف كتابه هذا، عن نتائج يمكن اعتبارها ريادية فعلاً، كما تمناها.
ً2) ريادته في اختزال مصطلح (قصة قصيرة جداً) بـ (ق.ق.جداً)
وهو اختزال، ما إن وقع بصري عليه، لأول مرة، في نهاية السطر الأول من الصفحة (16)، حتى فغرتُ فمي دَهِشاً، وبحلقت بعيني مستغرباً متسـائلاً: ما هذا؟ في البداية، ظننته خطأً مطبعياً أو ما يشـبه الخطأ ـ أعجبتني (ما يشبه) هذه ـ لكن، ومع متابعة القراءة أدركت أن (ق.ق.جداً) الذي تعثرتْ به عيناي، وأنا أقرأ، هو اختزالٌ لمصطلح (قصة قصيرة جداً)، ألقاه المؤلف في طريق قارئه، هكذا، بلا (إحْمٍ ولا دستور)، فأجفله أولاً، ثم دفعه، بعد أن استرد أنفاسه، إلى التساؤل حائراً: إذا كان هذا اختزالاً، فما الغرض منه، وما الفائدة؟ أهي الرغبة في توفير الورق، أم في توفير بعض الوقت الذي يستغرقه النطق بالمصطلح كاملاً؟ فإن كان توفير الورق هو الغاية، فلماذا لم تختزل (جداً) في طريقك، فتجعلها (ج)، وإن كان توفير الوقت هو الغاية، أفلا ترى معي أن الزمن الذي يستغرقه النطق بكلمتي (قصة قصيرة) يعادل تقريباً الزمن الذي يستغرقه النطق بحرفي (قاف قاف) منفصلين؟
وبعد، اسمح لي أن أقول: كنتَ في غنى عن ابتداع هذا الاختزال الأعرج، أصلاً، لقناعتي أن لا ضرورة له ولا فائدة، ولا أدل على ذلك من أنك، وأنتَ مبتدعه، لم تلتزم استخدامه في كتابك، إلا قليلاً، مستعيضاً عنه، في معظم الأحيان، بأصله، أي (قصة قصيرة جداً)!! فإن أبيتَ إلا مماراتي فيما أرى، وتشبثتَ، عناداً، بضرورة الاختزال، فليكن (ققجٌ) البديلَ لاختزالك اللامجدي (ق.ق. جداً)، ليس لأن (ققج) يوفر الورق والوقت، فحسب، بل لأنه سهل اللفظ أيضاً، إذ لك أن تلفظه بفتح القاف الثانية فتقول: (قَقَجٌ) أو بتسكينها فتقول: (قَقْجٌ)، كما تستطيع تصريفه والاشتقاق منه إن شئت، وهو ما أرجو أن أُفرد له دراسة خاصة في المستقبل. ولميزات الاختزال (ققج)، آنفة الذكر، سألتزم استخدامه، كمصطلح، ابتداء من موضعي هذا، في دراستي هذه، ولن أنوس مثلك، بين المصطلح واختزاله.
ً3) ريادته في القدرة على التشكيك بموضوعيته،
ابتداء من إهداء كتابه. ونَسْبُ الريادة إليه، في هذا المجال، مردُّه إلى أنني لم أجد بين مؤلفي كل الكتب التي قرأتها، في حياتي، مؤلفاً سبقه إلى اصطناع (مأثرة) كهذه، أي قام بنَسْفِ موضوعيته، قبل أن يبدأ قارئه بقراءته. ولكي لا يبدو كلامي هذا نوعاً من الافتراء، تعالوا نقرأ معاً ما جاء في ذلك الإهداء:
(إلى كل الحربائيين واللبلابيين وأشباههم الذين يتلونون بسبع وسبعين أدلجة في اللحظة الواحدة!! إلينا ـ إليكم، لأننا في النهاية جميعاً حربائيون.. لبلابيون).
لا، يا سيدي، فما هكذا تُورَدُ الإبل!! لذا دعني أصارِحْك مشفقاً: لقد ارتكبتَ خطأً فادحاً حين عمَّمتَ وصفك لنفسك (بالحربأة واللبلبة)، على جميع خلقِ الله.. ليس، فقط، لأنك لا تملك الدليل على اتهامنا جميعاً بهاتين الصفتين السلبيتين، بل لسبب آخر أهم، في تصوري، وهو أن التعميمَ، بحد ذاته، ضدُّ الموضوعية، في أي بحث، ونقيضُها، عرفتَ ذلك أم لم تعرف. ولهذا، لا أكتمك سراً بأن تعميم اتهامك للناس جميعاً، بالحربأة واللبلبة، منذ السطور الأولى في كتابك، لم يُنفِّرني من هذا الكتاب فحسب، بل جعلني أيضاً، أنظر بعين الشكِّ، سلفاً، إلى كل ما حواه من تنظيرات وتحليلات ونتائج وأحكام. وللأسف، أثبتت قراءاتي المتتالية والمتأنية لكتابك، أن شكِّي ذاك كان في محله، كما سأوضح، مُلمِحاً لا مستقصياً، من خلال الملاحظتين التاليتين اللتين أظنهما كافيتين لاتهام منهج بحثك ونتائجه بـ :
مثلبة اللاموضوعية:
الملاحظة الأولى: في تأريخك لـ (ققج) قسمتَها إلى مرحلتين، مددتَ أولاهما من بداية السبعينات إلى نهاية الثمانينات، ومددت الثانية من بدايـة التسـعينات إلى حين تأليف كتابك. ثم وصفت الثانية بـ (الأنضج)( )، مع أن كل من يدقق في أسماء المبدعين الذين حشدتهم في المرحلة الأولى، يجد بينهم بعضَ من يصعب اتهام تجربته القصصية بعدم النضج، وتحديداً (زكريا تامر) و(وليد إخلاصي)، وذلك بخلاف معظم مؤلفي المرحلة الثانية الذين لم أجد بين ما سقتَه من مسوغاتٍ لوصفك إياهم بـ (الأنضج)، إلا مسوغاً واحداً مقنعاً هو حشرك لاسمك بين أسمائهم( )!! ولا أظن كثيرين يخالفونني الرأي لو قلت: إن اعتمادَك هذا المسوغ النابع من اعتبارات شخصية، مقياساً للتفضيل بين مبدعي المرحلتين، يضيف إلى ابتعادك عن الموضوعية، في منهجية بحثك، بُعداً جديداً مؤسِفاً.
الملاحظة الثانية: وصفتَ ما اخترتَه من نصوص محمود علي السعيد بأنها لا تنتمي إلى فن (ققج)، من الناحية الفنية... ومع قناعتي بصحة توصيفك لهذه النصوص التي لا أعرف مؤلفها شخصياً، ولم أستطع أن أستسيغ إبداعه الشعري والقصصي، فإن في لهجة نقدك لتلك المختارات( ) ما يَشِي بأن توصيفك لها بـ (اللافن)، لم يكن وليدَ موقف موضوعي محايد من قبلك تجاهها وتجاه مؤلفها، بقدر ما كان نتاج موقف خلافي شخصي محوره زَعْمُ كليكما بأنه الأسبق إلى استخدام مصطلح (قصة قصيرة جداً)، وهو ما يستشف بوضوح من قراءة ما أوردتَه حول هذا الخلاف بينكما( ).
بتعبير آخر: يخيل للقارئ أن رغبتك الشخصية في الحطِّ من شأن السعيد فنياً، على خلفية موقفك الخلافي معه، كانت وراء تكوينك رأياً مسبقاً ضده، كما كانت تلك الرغبة نفسها، وراء تَعَمُّدِك اختيارَ بعض نصوصه التي ينطبق عليها هذا الرأي الضدِّي، السلبي طبعاً. وبهذا أسأتَ إلى كتابك ومنهجك البحثي بتشكيك قارئك في موضوعيتهما، أكثر مما أسـأت إلى خصمك الذي يشعر من يقرأ نقدك لنصوصه، ويمحِّص اختياراتك لما أوردتَه منها، بأنك قد تحاملتَ عليه، لأغراض شخصية.
وبعد، هل اللاموضوعية هي مثلبة كتابك الوحيدة؟ يؤسفني أن أقول: لا. وإن كنت أظن كثيرين يشاطرونني الرأي في أنها أكثر مثالبه إساءة إليه، لأنها تطعن في مصداقيته وتحطُّ كثيراً من أهمية نتائجه. وإذن؟ ثمة مثالب منهجية أخرى، ومثالب أسلوبية أيضاً، قد يراها البعض أهون من اللاموضوعية، وهي كذلك فعلاً، لكن ليس إلى درجة تسمح بالتغاضي عنها، وسأعرض لأهمها تالياً.
أولاً، مثالب منهج البحث ونتائجه:
وهي كثيرة، ولكثرتها، أراني مضطراً إلى الإيجاز في عرض ما أحسبه أبرزها وأكثرها سوءاً، بادئاً بذكر:
ً1) التأسيس على ملح!
لكم تملكني العجب، حين رأيتك، وأنت تتصدى لتقعيد فن أدبي جديد، تُعرض عن إبداعات الكبار في فن القصة، المشهود لهم في مجال تأسيسها وتطويرها، من أمثال: (زكريا تامر) و(وليد إخلاصي)، وسواهما، لترفع بنيان موضوعتك عن (ققج) على نتاجات مَنْ هُم أدنى، أمثال: نبيل جديد، ومروان المصري، وعماد نداف، وأيمن الحسن، وأحمد جاسم الحسين، ومن في مستواهم ممن ذكرت في كتابك، مع احترامي للجميع ولإبداعاتهم.
لقد بدوتَ لي، وأنت تعتمد إبداعات هؤلاء أساساً لبنائك التنظيري، مُعرضاً عن إبداعات الكبار الناضجين، أشبه بمن يريد إشادة ناطحة سحاب على أساس من ملح!! وإلاَّ، كيف تفسر تخصيصك لأكثر من أربعين صفحة في كتابك( )، للحديث عن مجموعة (أحلام عامل المطبعة) لمروان المصري، بينما لم تحظَ مجموعة (الدهشة في العيون القاسية) للأديب وليد إخلاصي، إلا بثلاث صفحات ونصف فقط( )، منها ثلاث حوَتْ مختاراتك من نصوص تلك المجموعة، ونصف صفحة فقط، لإثبات وجهة نظرك في أنها تنتمي إلى فن (ققج) رغم أنف مؤلفها، كما أخبرتنا بنفسك!( ) هذا، دون أن يفوتك، طبعاً، الغمز غير المباشر من نضجها الفني( )، بعبارة لُطفها يُقَشْعِرُ البدن: (ولا يفوتنا أن نتذكر أن هذه القصص هي من البدايات..)!! الحق معك، فـ (وليد إخلاصي) كان يحبو، فنياً، في تلك القصص، مقارنة بما بلغتَه ومؤلفي مرحلتك الثانية، من (نضج) قصصي!
أما زكريا تامر عملاق القصة السورية القصيرة، وقد لا يخالفني الرأي كثيرون لو وصفته بعملاق (ققج) أيضاً، فلم يحظَ من عطفك واهتمامك إلا بذكر اسمه فقط، في سياق من ذكرتَ من مبدعي هذا الفن، في مرحلته الأولى، أي بين الذين لم يبلغوا شأوك في النضج طبعاً، مع أنه نشر ـ كما أشرتَ أنت نفسك( ) ـ (عدداً كبيراً من القصص القصيرة جداً)! ولا تقل لي أنك غضضتَ من ذكره في كتابك هذا، لنيتك إفراد تجربته بدراسة مستقلة، فهذا ليس بعذر مقبول، وخصوصاً في كتاب يُؤسس، كما تزعم، لـ (ققج) التي يعد تامر من روادها، شئت ذلك أم لم تشأ.
ً2 ) الطول الحربائي لنص (ققج)!
من غريب كتابك وعجيبه، تحديدك في الصفحة (26) منه طول (ققج) بين ثلاثين كلمة، وخمس صفحات. وأنا أراهنك، يا سيدي، أن تطبيق مقياسك هذا على نصوص القصة القصيرة، بدون (جداً)، سيجعل معظمها جزءاً من (ققج)، لأن طول النص في معظمها هذا، لا يزيد على خمس صفحات. ألا فلتبحث لنا عن طول آخر يكون أكثر تحديداً ودقة، وأعدك بالانتظار.
ً3) زيادة في أركان (ققج) وتخليط وغموض
في الصفحة (33) من كتابك، زعمت أن بناء (ققج) يتأسس على أربعة أركان رئيسة هي: (القصصية ـ الجرأة ـ وحدة الفكر والموضوع ـ التكثيف). وحسب خبرتي المتواضعة في فن القصة، أظنك زدت هذه الأركان عدداً، كما سأوضح بادئاً بما سمَّيته القصصية التي ما خطر في بالي أنك ستعدها ركناً من أركان (ققج)، لظني أنك تعتقد مثل خلق الله جميعاً، بأن من البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل، وجوب توفر القصصية، في أي نص يريد له مؤلفه الانتماء إلى عالم القصة، بشكل عام، وليس إلى (ققج) فحسب. إذ لو خلت أي قصة قصيرة، أو قصيرة جداً، من القصصية، فإلامَ تصير؟!
وأما الجرأة التي جعلتَها ركناً من أركان البناء الفني لـ (ققج)، وأردت إيهامنا بأنها وقف عليها، حتى لكأن كل ما سواها من فنون الأدب (جبان)، فيؤسفني أن أراك، وأنت الأب الروحي لـ (ققج)، لا تفرق بين ما هو ركن فني من أركانها، وما يعدُّه الراسخون في فن القصة إحدى خصائص مضمونها!!
في ضوء الآنف ذكره، تخرج القصصية من عِداد أركان (ققج)، لأنها (ذاتُ) أي عمل قصصي وروحُه، قصيراً كان أو قصيراً جداً، وغيابها يعني تحوله إلى جنس أدبي آخر، كما تخرج الجرأة أيضاً كركن فني لـ (ققج)، لأنها من خصائص المضمون. وهكذا لا يبقى من أركان البناء الفني الذي شيدتَه لـ (ققج) إلا الوحدة والتكثيف اللذين هما، في الأصل، ركنا القصة القصيرة العادية، كما أكد جميع منظريها عرباً وغربيين، على السواء. ولا أظن أن لـ (ققج)، أيضاً، ركنين غير الوحدة والتكثيف اللذين نجح، في شرحهما وإيضاحهما، من راجعتَ كتبَهم هابشاً ـ والهبش: كلمة فصيحة تعني الاحتيال لجمع المال ونحوه من هاهنا وهاهنا ـ لتؤوب من وضوح ما هبشتَ بغموضٍ غير مفهوم، وبالتالي، غير مفيد.
ً4) تفتيق في المصطلحات وتخليط وخطأ
ركام من المصطلحات خَصَصْتَ بها (ققج)، دعوتَ بعضها: تقنيات وعناصرَ، ودعوت أخرى: خصائصَ وعواملَ أدبية، وحشرتَ ما تبقى بين ما دعوتَه عوائقَ وهموماً. وإذا كنتُ آسَفُ، حقاً، لضيق هذه العجالة عن نقاش جميع ما ذكرت، بالتفصيل، وتحليله، أراني مطالباً بالتوقف عند مسائل، في هذا الموضع، أحسبها الأهم:
أ ـ تفتيق مصطلحات من أخرى، دونما مسوغ ولا فائدة، وهو سيئة إخالكَ اقترفتَها لوهمك أن زيادة عدد المصطلحات، يزيد في قيمة كتابك، غافلاً عن أن القيمة نتاج كيفٍ لا كمّ. ومن أبرز الأمثلة على هذه السيئة:
تفتيقك مصطلح الأنسنة مما أسميته الترميز، ثم تفتيقك من الأنسنة مصطلح الحيوان. ووصفي لما فعلته هنا بالتفتيق، مصدره الظن بأن شخصنة الحيوان وإنطاقه، في النص الأدبي، ضرب من الأنسنة التي هي، بدورها، ضرب من استخدام الرمز في الأدب. ومن عجبٍ أن تُوردهما ـ الأنسنة والحيوان ـ كتقنيتين مستقلتين، وقد عددتَهما، قبلاً، بين أدوات ما أسميته الترميز( )، وهو ما أكدته، بوعي أو دون وعي، في تعريفك لتقنية الحيوان، بقولك، خالطاً التقنية بالركن بالوسيلة: (تقنية قصصية، من وسائل الرمز)( )، ثم في تعريفك للأنسنة بأنها (خصيصة لغوية رمزية)( )، وهو تعريف ينطوي على خطأين، أولهما: وصف الأنسنة بالخصيصة بينما هي تقنية، والثاني: وصفها بأنها لغوية، وهي ليست كذلك.
ب ـ الخطأ في توصيف بعض المصطلحات، وأكتفي على ذلك بمثال واحد، هو توصيفك السخرية بالتقنية( )، بينما هي من سمات الأسلوب، في أي فن أدبي، كما هو معروف.
ج ـ الخلط بين العديد من المصطلحات، وهو عيب أظن بين أسبابه الرئيسة: أولاً، رغبة المؤلف في تفتيق مصطلحات عديدة من واحد، ليُقال عنه عظيم النقد محمود، وثانياً، جهله بحدود الساحة الدلالية الخاصة بكل مصطلح ابتدعه. فقد أدى هذا الجهل إلى حدوث تداخل لاواعٍ، بين الساحات الدلالية لما سماه مصطلحات، وهو ما يتضح، جلياً، من خلال تكراره الحديثَ عن كل مصطلح في ثنايا حديثه عن غيره. من ذلك مثلاً، هذه الخلطة العجيبة التي قذف بها في ثنايا حديثه عن التكثيف الذي أوجب عليه (أن يستفيد من حضور الحيوانات، ويعطيها أبعادها التي تستحق، ويرمز الأمور، ويبعث الرموز الميتة..، ويمكن له أن يؤنسن الجوامد..)( ). ثم عاد بعد ثلاث صفحات فقط( ) ليخلط بين التكثيف وكل من خصوصية (اللغة والاقتصاد) التي ذكرها في الصفحة /32/، والانزياح الذي عدَّه (تقنية تكثيفية)( )، تماماً كما عدَّ المفارقة والتناص أيضاً( )، ثم كان آخر حديثه عن التكثيف حين أدرجه بين عوائق (ققج)( )!!
أكتفي بالآنف نموذجاً، تغني معرفته عن عرض ما يماثله من نماذج كثيرة، يؤكد مجموعها افتقار المؤلف إلى معرفة الحدود الفاصلة بين الساحات الدلالية للمصطلحات التي ابتدعها، أي تلك المعرفة الموضوعية الدقيقة التي تعصمه من خلط كالذي رأيناه، وتجنِّبه، وقارئ كتابه معاً، الحيرة الناجمة عن توصيف المصطلحات، بأسلوب إدخال عباس في دبَّاس، كما فعل بالنسبة للتكثيف الذي حارَ، وحيَّرنا معه، بين تسميته ركناً تارة، وتارة تقنية، وتارة ثالثة خصيصة، ورابعة عائقاً!!
ولا إخالني مخطئاً لو زعمتُ أن عجز المؤلف عن التمييز بين الحدود الدلالية لمصطلحاته، جعل من السهل على أي كان، أن يُغير مواضع تلك المصطلحات في كتابه، دون أن يؤثر على البنية المضمونية أو المنهجية لهذا الكتاب، ذلك أنها، في الأصل، بنية غير واضحة المعالم، حتى في ذهن المؤلف نفسه. وبعد، أرجو أن تسمح لي، في نهاية هذا الحديث عن مصطلحاتك، أن أختم بالملاحظتين التاليتين:
الأولى: لم أتخيل، قبل قراءة كتابك، أن يقوى ظهر (ققج) الطري وبنيتها الرهيفة على حمل بعض ما خصصتها به من قواعد وضوابط وخصائص وصفات، فكيف بحملها جميعاً؟!! لذلك ما إن فرغتُ من استعراض ذلك الكمِّ الفظيع من الركام الذي ألقيتَه على ظهرها، في كتابك، حتى تراءت لي المسكينة (ققج)، وقد ناءت بحمله، أشبه بديناصور يقف على ساقَي دجاجة. سامحك الله! ألا رفقاً بهذا الفن الوليد ومؤلفيه الذين أتصور أن التزام أيٍّ منهم بما ابتدعته لـ (ققج) من قواعد، سيؤدي إلى ارتباكه أولاً، ومن ثَمَّ إلى إنتاجه نصوصاً سمجة وثقيلة الدم، كتلك التي اخترتَها من (قصصك) وقدمتَها لنا بوصفها نماذج (ناضجة) قاعدياً لـ (ققج)( )، فإذا بنا نكتشف بعد قراءتها، أن ما ينقصها فعلاً، هو ذلك السرُّ الفني الرهيف الذي لا تضبطه قاعدة، والذي وحده يجعل من أي نص قصصي، فناً ممتعاً ومؤثراً.
الثانية: يبدو واضحاً أنك عثرت على مراجع عديدة وهامة تتصل بمصطلحاتك التي أبهظت بها (ققج) في كتابك، والتي أدرجت ثبتاً بأسمائها في حواشي فصولك. ولا أدري لماذا أتوهم، وأرجو أن أكون مخطئاً، أنك إما لم تقرأ في معظم تلك المراجع إلا عناوينها وأسماء مؤلفيها، لتوشح بهذه العناوين والأسماء جريدة مراجعك، على طريقة الكثير من أدعياء البحث المعاصرين، أو أنك قرأت تلك المراجع، فعلاً، ولكن لم تَفِدْ من قراءتها ما يفيد بحثك في (ققج) تأصيلاً وتوضيحاً.
أقول ذلـك، لأن من يَغضَبُ الله عليه، فيضطر لقراءة ما كتبتَـه ـ سيادتك ـ تحت ذلك الركام من المصطلحات، لا يظفر، بعد أن يدوخ (السبع دوخات)، على قول المثل، إلا بالسقوط مغشياً عليه، في فراغ من عدم الفهم، ساهمت في تشكيله عوامل، سأعرض لبعضها، في ثنايا حديثي التالي عن مثالب أسلوبك.
ثانياً، مثالب الأسلوب:
أستهل حديثي عن هذه المثالب، برجاءين حارَّين جداً، أرفعهما إليك، متمنياً عليك أن تأخذ بهما، في قادم مؤلفاتك، رفقاً بالعربية وقرائها. أرجوك، في أولهما، أن تكفَّ عن (إبداعاتك) غير البديعة في صرف العربية ونحوها وبلاغتها. وأرجوك، في ثانيهما، أن تسرع في علاج أسلوبك من داء الركاكة الذي أصاب معظم عباراتك وتراكيبك وجُملك، فلم يحرمها من الجمال فحسب، بل حرمها أيضاً، وهو الأهم، من وظيفتها الرئيسة وهي القدرة على إيصال ما تريد من أفكار ومعلومات وسواها، إلى قارئك. ولكي لا يبدو مضمون رجاءَيَّ هذين افتراء، تعال نستعرض بعض الأمثلة الموضحة لأبرز تلك المثالب:
ً1) الركاكة التي سأكتفي بإيراد مثالين عليها أظنهما كافيين لإثبات إصابة أسلوبك بدائها. المثال الأول لفت انتباهي وأنا أقرأ في الصفحة (34)، محاولاً فهم ما أردته بعبارتك المضطربة التالية، وأنت تتحدث عن أركان (ققج): (قد يبدو أن الركنين الرئيسيين هما القصصية والتكثيف، وهذا مما لاشك فيه، لكن ذلك لا يعني أن الجرأة والوحدة ليست أركاناً، بل هي أركان؛ لكنها تالية للركنين الأولين).
أظن أن ركاكة هذه العبارة واضحة أولاً، في التناقض الصارخ بين الجملة التي تبدأ بعبارة (قد يبدو) التشكيكية، وتاليتها النافية لتشكيكيتها وهي قولك: (وهذا مما لاشك فيه). فماذا تريدنا أن نصدَّق يا سيدي، شكَّك أم يقينك؟ والركاكة واضحة ثانياً، في الجملتين التاليتين اللتين لا أدري لماذا عدلتَ عن استخدام المثنى في صياغتهما، وفي استخدامه جمالٌ وفصاحة. أتراكَ لم تفطن لجماله، أم لعلك لا تتقن التعامل مع التثنية، فآثرت الهرب بقولك ما قلتَ آنفاً، بدلاً من أن تقول: (لكن ذلك لا يعني أن الجرأة والوحدة ليستا ركنين، بل هما ركنان، لكنهما تاليان..)؟!
المثال الثاني على ركاكة أسلوبك، قولك في تعريف الأنسنة: (الأنسنة تقنية أقرب منها للتكثيف والجرأة إلى سواها)( ). إن أي قارئ لابد أن يجد صعوبة في الوقوف على ما تقصده، في عبارتك هذه التي لا يتضح معناها إلا بعد إجراء بعض التقديم والتأخير في كلماتها، والانتباه إلى ضرورة تثنية (سوى)، لأنك ـ عافانا الله ـ ممن لا يحسنون التثنية. أقصد أن تصير عبارتك تلك على النحو التالي: (الأنسنة تقنية أقرب إلى التكثيف والجرأة منها إلى سواهما)، لتصير مفهومة على الأقل.
ً2) ابتداعات لغوية غرائبية، أبدؤها بالإشارة إلى جموع تكسيرك التي يشيب لهول غرابتها الولدان، وذلك من مثل جمعك (ملاحظة) على (ملاحيظ)( ) يا حفيظ! أما استخدامك لـ (ياء النسبة) التي أراها تقفز من نهايات بعض جموعك، مثل (حُمُّصَة الكي)، فأناشدك الله أن تكفَّ عن تلزيقها، كلما حلا لك، في مؤخرة أي جمع، بمناسبة ودون مناسبة، عسى أن يخف عثورنا، في قادم مؤلفاتك، على كلمات تخرق الأذن وتزعج العين، من مثل قولك: (حادثاتية)( )، وقولك (مرموزاتي)( ) الذي لم تصدمني بغرابته فقط، بل صدمتني أيضاً، بجمعك (مرموز) على (مرموزات) وليس على (مراميز)، كما عوَّدتنا وأنت تُظهر براعتك الخاصة في جمع التكسير الذي كسرتَ به خاطر العربية وخاطرنا.
ً3) استخدام أسلوب (تفسير الماء بعد الجهد بالماء)، وهو أسلوب بدأ يشيع في كتابات بعض نقادنا المحدثين، مع أنه يعود إلى ما يسمونه ـ حفظهم الله ورفع مقاماتهم ـ بعصر الانحطاط الذي لا يكفون عن ذمه، ولا أدلُّ على انتمائه إلى ذلك العصر من أن نموذجه التطبيقي الأكمل يتمثل في قول الشاعر (الانحطاطي):
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماءُ
تُرى ألا تشبه (بلاغة) هذا البيت، (بلاغةَ) إجابتك عن سؤالك (ما القصة القصيرة جداً؟)، بقولك: (إنها قصة أولاً، وقصيرة جداً ثانياً)( )!!!
[/align]

طلعت سقيرق 13 / 07 / 2008 57 : 08 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
جدلية الرمزي والواقعي في رواية
جسر بنات يعقوب


[align=justify]
هذه الرواية التي كتبها القاص والروائي (حسن حميد)، صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، عام 1996. ولكي لا يبدو الحديث عنها غامضاً، بالنسبة لمن لم تُتَحْ له قراءتها والتَعَرُّف على شخصياتها وأحداثها، فقد يكون من الأفضل تقديمِ ملخصٍ سريع لحكايتها...

موجز لحكاية الرواية
ربما ليس انتقاصاً من قيمة الرواية، فنياً أو مضمونياً، أن نزعم بأن أحداثها الممتدة على مساحة (365) صفحة، يمكن إيجاز حكايتها بعدة أسطر، بل ربما يكون هذا الزعم لصالح مؤلفها الذي استطاع جعل كينونتها الحدثية البسيطة، تمتد على ذلك العدد الكبير من الصفحات، عبر حركية شخصياتها وتفاعلها، مع تلك الكينونة وتفرعاتها..
فالبنية الحكائية للرواية، بعد أن نجردها من كل التفصيلات والأوصاف المسهبة التي تمنحها ما تتمتع به من ألق جمالي يطغى على توتر الحدث، في كثير من الأحيان، هي:
في القسم الأول من الرواية، حكاية ثلاث راهبات انقطعن للعبادة في دير ناء مشاد على قمة أحد الجبال العالية، في قرية الشماصنة، ولكل واحدة منهن ظروفها الخاصة التي أدخلتها إلى ذلك الدير الذي تصور لنا الرواية نمط حياتهن الورع فيه، قبل دخول (حنَّا)، الشاب القوي في خدمتهن، وهو يظنهن رهباناً... ثم تحكي لنا الرواية كيف تعاملن مع تجربة وجوده بينهن، وكيف أيقظ حضوره الدائم مشاعرهن الأنثوية الطبيعية تجاه عالم الرجال الذي انقطعن عنه، والذي يمثله هذا الشـاب، في الرواية؛ رغم اسـتمرار جهله بحقيقة كونهن راهبات. ثم كيف انتصر تعففهن وتقواهن على شهوات نفوسهن التي اشرأبت إلى جسده، لتتحد، في اللقطة الأخيرة من هذا المشهد الإنساني والفني، طهارةُ المكان بطهارة الإنسان، في كينونة واحدة ثابتة وأصيلة، هي التي حاول المهاجر اليهودي يعقوب اختراقها وتدنيسها، كما تُنبئنا بذلك حكاية أحداث الجزء الثاني من هذه الرواية...
إذ أننا في جزئها الثاني الذي يبدو، للوهلة الأولى، منفصلاً أو مستقلاً عن جزئها الأول، نرى المهاجر اليهودي يعقوب يأتي، من مكان مجهول، إلى قرية الشماصنة الهادئة والعذراء، بطبيعتها وأهلها البسطاء، ليجعل منها منجماً لجمع المال، عبر تخريب طبيعتها تارة، وتارة ثانيـة عبر تخريب أخلاق سكانها وإشاعة الدعارة بينهم عن طريق أجساد بناته الفاتنات، وتارة ثـالثة عن طريق إثارة الأحقاد بينهم، وتارة رابعة عن طريق الزعم بأن السلطان أعطاه الحق بضمان الجسر وحراسته وجباية رسم العبور فوقه من سكان الشماصنة والقرى المجاورة لها.... وتارة خامسة بادعائه القدرة على جعل العاقرات من نسـاء تلك القرى يحملن، وهو ما أودى بحياته في النهاية، حين فاجأه أحد رجال القرية وهو يحاول اغتصاب زوجته الحالمة بالذرية، وقد جاءت يعقوبَ مخدوعةً بقدرته على جعلها تحمل، من خلال ما أشاعه عن قدرته الخرافية على جعل العواقر يحملن. إذ لم يتردد الرجل في قتل زوجته ويعقوب معاً. وتحوُّلت بنات يعقوب، بعد مقتله، إلى داعرات، ما لبث المكان الطاهر الذي حاولن إفساده بدعارتهن، أن لفظهن خارجه، أرضاً وسكاناً...
وكما هي الشخصية اليهودية، في كل زمان ومكان، تصنَّع يعقوب الذل والمسكنة، في البداية، فاكتفى بالإقامة مع بناته في كوخ بناه من القصب، عند طرف الجسر القديم في الشماصنة، وما إن استقوى بأموال سكان القرية الطيبين، وتحوَّل كوخه القصبي إلى بيت حجري قوي، بسواعدهم، حتى تحوَّل هو إلى وحش بلا قلب، لا هدف له سوى امتصاص أموال الذين آووه وبنوا له بيته الحجري ذاك...
من هذه الإطلالة السريعة على مضمون الرواية، ومن مقدمتها التي سأشير إليها تالياً، يمكننا أن نستشف وجود ثلاثة منافذ رئيسة يُشَرِّعُهَا حسن حميد أمام قارئه ليعبر، من أيِّها شاء، إلى عالم روايته. ومن الضروري أن نلاحظ أن هذه المنافذ الثلاثة ليست متشابهة، رغم أنها تقود جميعاً إلى نفس العالَم الروائي الذي ترسمه الأحداث والأمكنة والشخصيات. وأول هذه المنافذ تاريخي، وثانيها مكاني، أما الثالث فإنساني... وفيما يلي توصيفٌ سريع لطبيعة كل مدخل وشكله وميزات اختيار العبور منه...


منافذ العبور إلى عالم الرواية
المنفذ التاريخي
مُفَاجِئِةٌ جداً تلك الإشارة التي (لابد منها)، كما وصفها حسن حميد بادئاً بها روايته، ليوهمنا، من خلالها، أن العمل الذي بين أيدينا ليس من تأليفه، بل هو مجرد تحقيق لمخطوط قديم وصله بالتوارث، ويعود تاريخ نسخه إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي، أي إلى أيام المماليك!( ). ثم يمضي حسن في محاولته القبض على انتباه قارئه ووعيه، بقوة، منذ السطور الأولى لعمله، فنراه يؤكد لنا أنه نَقَلَ نص ذلك المخطوط دون أي زيادة أو نقصان، بعدما عجز عن تشذيبه وتهذيبه، دون إلحاق الحيف بمضمونه وجمالية عرضه:
(وإنني إذ أنشر اليوم أخبار يعقوب وبناته كاملة، أودُّ التأكيد على أنني لم أضف حرفاً واحداً إلى القصة، وأنني أخرجها إلى الناس كما وصلت إليّ عن طريق جدي الياس الشمنذوري.)( ).
وهكذا يفتتح حسن روايته بزجِّ قارئها، منذ البداية، في دوامة من التساؤلات التي تفتح أمامه خيار العبور إلى عالمها من منفذ تاريخي، وهو لا يدري إن كانت تاريخيةُ ذلك المنفذ حقيقيةً أم وهمية... وفي مقدمة هذه التساؤلات:
هل يمكن أن يكون هذا العمل مجرد تحقيق لمخطوط، كما حاول حسن أن يوهمنا، أم أن هذا الزعم لا أساس له؟ وإذا كان الزعم غير صحيح، فلماذا طرحه المؤلف إذن؟ هل كان قصده إتاحة أفق أوسع من الحرية لكلمته، يستطيع أن يقول في رحابته ما يشاء، بحجة أنه يروي على لسان من مضى، وبالتالي فلا إثم عليه، إذ أنه مجرد ناقل، وناقل الكفر ليس بكافر؟ أم أن الأمر محاولة فنية صرفاً هدفها الوحيد زيادةُ إقناع قارئ الرواية بواقعية أحداثها من خلال إيهامه بأنها ليست من نسج خيال المؤلف، بل هي أحداث قديمة جرت فعلاً ودُوِّنَت في مخطوط؟
ثم لماذا اختار القرن الثالث عشر الميلادي، بالذات، تاريخاً لنسخ مخطوطه المزعوم، وإلامَ يشير هذا التاريخ، وإلامَ يرمز اختياره؟ هل هو مجرد إشارة إلى قِدَم المحاولات اليهودية لاستيطان المنطقة، أم أنه إشارة إلى بداية ظهور فكرة استيطان اليهود لأرض فلسطين في اجتهادات بعض الحاخامين اليهود الذين اتخذت الصهيونية من اجتهاداتهم، بعد ظهورها كحركة سياسية، مادة الذرائع الدينية التي تزخر بها أيديولوجيتها، والتي جَدَلَت من مجموعها وَهْمَ الرابطة التاريخية، بين أرض فلسطين ويهود العالم، من خلال الزعم بأن هذه الأرض هي (إرثهم من أجدادهم القدامى) بصكوك إرث مزورة صاغتها من بعض نصوص التوارة، بعد أن اجتزأتها من سياقها التوراتي بعناية فائقة، لتبدو متفقة مع أهدافها الاستعمارية، ثم حاولت توظيفها، كمسوغ لاحتلال فلسطين، وإعطاء احتلالها بعداً دينياً ذا طابع تاريخي، يُوهم بـ (شرعية) ذلك الاحتلال؟
ربما، فالإشارة إلى القرن الثالث عشر الميلادي، تعيد، مثلاً، إلى ذاكرة المتتبع لتاريخ الصهيونية، اجتهاداتِ الحاخام (موشيه بن نحمان/ رمبان) الذي عاش بين عامي (1194 ـ 1270 م)، والذي نسب في ثنايا تفسيره الخاص للتوراة مزايا لأرض فلسطين، لم يسبق أن نسبها لها أحدٌ قبله، وذلك من مثل وصفه لها بأنها (المكان الوحيد المناسب لتأدية الوصايا الدينية المنصوص عليها في التوراة)، لأنها المكان الذي (يصل فيه الإنسان، وكذلك الحـيوان، إلى قمة كمالهما)، الأمر الذي يجعل من (الاستيطان في أرض إسرائيل واجباً دينياً)، اعتبره، ولأول مرة، (واحداً من ضمن /613/ فريضة، تُلزم اليهوديةُ أبناءها القيام بها)، ثم اشتطَّ أكثر فقال: (إن استيطان أرض إسرائيل يوازي كل فرائض التوراة)( ).
وأخيراً، هل يمكن اعتبار الإشارة إلى هذا النمط من الاجتهادات، هي الهدف الحقيقي لحسن حميد، من إرجاع تاريخ نسخ مخطوطه إلى القرن الثالث عشر الميلادي تحديداً؟ أم أن لتلك الإشارة هدفاً آخرَ، وإذا كان، فما هو؟
أياً كانت الإجابة عن هذه التساؤلات التي يثيرها في الذهن زعم حسن بأن روايته مجرد تحقيق لمخطوط قديم، فإن مما لا شك فيه أن هذا الأسلوب قد نجح في وظيفته الأهم، حسب رأيي، وهي إثارة انتباه القارئ وتحريض ذهنه على طرح الأسئلة، بحسب درجة ثقافته ومعرفته، ثم إبقاء جميع تلك الأسئلة التي ترد على خاطره مفتوحة على الكثير من الخيارات والاحتمالات التي يصلح أيٌّ منها لأن يكون هو الجواب الصحيح.
ومن الجدير بالإشارة هنا، أن محاولة التحريض المستمر على السؤال، دون تقديم أي إجابة مباشرة، تعتبر من السمات المميزة لأسلوبية الرواية، وهي محاولة ذكية لأنها تحثُّ القارئ على متابعة الرواية حتى آخرها، يحدوه الأمل في العثور على جواب أي جواب؛ ولكن لا أجوبة، بل على العكس، فكلما أوغل القارئ في صفحات الرواية باحثاً عن الأجوبة التي يأمل، أثار المؤلف أمامه طائفة جديدة من الأسئلة، مضطَراً إياه للجري الدائم وراء سراب أجوبة لن يعثر عليها إلا بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة من الرواية، ويبدأ تحليله ومحاكمته لما قرأه فيها... لأنه، عندها فقط، سيكتشف أن المؤلف استطاع أن يجعل منه شريكاً حقيقياً في تأليف الجزء الأصعب من الرواية، وهو محاولة العثور على أجوبة لما كان يثور من أسئلة، في ذهن مؤلفها نفسه وخياله، أثناء كتابتها...

المنفذ المكاني
منذ البداية، يجذبك هذا الاهتمام البالغ بالمسرح المكاني الذي تجري عليه أحداث الرواية، حتى ليكاد يُخيل للقارئ في كثير من المواضع أن المكان هو البطل الرئيس فيها... فمن الوصف المسهب لكل جزئيات المكان، إلى تغيير مواقع النظر للمكان الواحد أحياناً، على نحو ما يفعل المصور السينمائي، حين يريد أن يخلب لب المشاهد باللوحات الأخاذة التي تلتقطها آلته من زوايا مختلفة للمكان الواحد، يحاول حسن بأسلوبيته الوصفية أن يحملك على أجنحة كلماته التي اختارها بعناية فائقة إلى قرية الشماصنة التي لم تسمع بها، ويجعلك تراها بعيون شخصياته أحياناً، أو بعينيه اللتين لا تتركان شبراً فيها دون وصف، في معظم الأحيان... إنك ترى تلك القرية وتحبها، وتتمنى لو أنك زرتها، ليس في زمن وقوع أحداث الرواية فقط، بل حتى بعد قراءتك لها، لتنعم برؤية كل تلك المناظر الآسرة، ولتسمع كل تلك الأصوات العذبة، أصوات الطبيعة البكر، سواء في الجبل حيث يقف شامخاً دير الراهبات المنعزلات، أو عند الجسر حيث أقام يعقوب وبناته...
وما ذلك إلا لأن المؤلف يأسرك بوصفه الحي للجمال المكاني الذي رآه، أو ربما تخيله، في قرية الشماصنة، ونجح في نقله لك عبر كلماته حتى جعلك تشعر وكأنك تلمس كل جزئياته، وتتمتع بتجلياته الرائعة بكل حواسك، بعينيك وأذنيك ويديك وأنفك … فأنت تكاد تلمس هذه الجزئيات وأنت تقرأ وصفه لدير الراهبات، ثم للمكان الذي بنى عنده يعقوب بيته القصبي، ثم بيته الحجري، كما تكاد تلمس هذه الجزئيات أيضاً، وأنت تقرأ وصفه لبيت سليمان عطارة، وبيت العجوز السوداء، وللحمَّام الذي صنعته بنات يعقوب عند نبع الماء الدافئ...
ويأتي الإنسان بعد ذلك ليأخذ من المكان بعضاً من سحره العفوي الآسر، ثم ليردّ إليه جزءاً مما أخذ وقد أضفى عليه من جماله الإنساني ما يجعله أكثر جاذبية وروعة، وبذلك تتحد الطبيعة بكل أجزائها الجامدة والحية، الحيوانية والنباتية والإنسانية، في كلٍّ رائع. يتحد التراب بالتراب في موسيقى متداخلة الألحان تتبدى على صفحة متنوعة الألوان، لا يستطيع أي مُشاهد لها، فَصْلَ أجزائها عن بعضها، فالكل في واحد رغم تميزه عن البقية، والكل يأخذ بعض جماله من المحيط الذي حوله، ويعطي بدوره جزءاً من خصوصيته لمن أخذ منه.. نلاحظ هذا بوضوح في تلك اللوحة الرائعة التي رسمها حسن بكلماته للعلاقة التبادلية للجمال بين سحر طبيعة الشماصنة وبنات يعقوب الفاتنات. حتى لتحار، وأنت تقرأ ما كتبه عن الطرفين، متسائلاً: أكان المكان هو سر تفتح جمالهن، أم كنَّ هنَّ السبب في جعله أجمل مما كان عليه قبل قدومهن؟
لقد كنَّ، في البداية، في حال مزرية، وكان جمالهن منطفئ القدرة على الإغراء والجذب، قبل أن يغتسلن بماء النهر حيث بنى أبوهن كوخه القصبي. فهاهن لحظة دخولهن قرية الشماصنة يمشين خلف أبيهن المتعب (بأطوالهن المتفاوتة، ووجوههن الشاحبة، يمشين على الدرب المترب بأرجلهن الحافية.. يمشين كالأسيرات لا يلتفتن ولا يتكلمن... بشفاه مطبقة، ووجوه مغلقة، وقد أخفى الغبار والتعب لمعان وجوههن، وبياض بشرتهن وحمرتها..)( ).
هكذا كُنَّ حين قَدِمْنَ على قرية الشماصنة، ولكن ما إن اغتسلن بماء نهرها حتى صِرْنَ خلقاً آخر، فقد (بَدَوْنَ بوجوههن اللامعة الصافية المحمرة، وخطاهن القصيرة الرشيقة، وكأن الاغتسال أتى على آخر مظاهر التعب، والرخاوة، واللامبالاة.. بَدَوْنَ له ـ أي لأبيهن ـ وقد رحن يتراكضن، وأنوثتهن طافحة، كأنهن ربات جمال هبطن فجأة من العالم العلوي لمباركة كل شيء يصادفنه أو يلمسنه أو ينظرن إليه..)( ).
نعم، إنها قدرة فنية متميزة تتجلى في نَسْجِ نوع فريد من العلاقات بين بنات يعقوب والمكان الذي جئنه، أي بين الإنسان والمكان، يقوم كل طرف منهما، في إطاره، بإضفاء بعض جماله على الطرف الآخر، ليصبحا معاً، في النهاية، كلاً جمالياً واحداً، أكثر جمالاً وروعة.. فكما جعلهن المكان بمائه العذب ربات جمال، أضفين، بدورهن، على روعته روعةَ الوجود الإنساني الرقيق ممثلاً بالأنثى الباديةِ الجمال..
وبعد، ثمة سؤال لابد أن يخطر على البال في ثنايا الحديث عن المنفذ المكاني إلى عالم الرواية، وهذا السؤال هو: لماذا هذا الإلحاح على التطويل في وصف المكان؟ هل السبب فني محض أم أن له صلة ما بمضمون الرواية، وما عساها تكون هذه الصلة؟
يُخيل لي أن الهدف أبعد من أن يكون فنياً صرفاً، بل ثمة هدف آخر أو ربما عدة أهداف، قد يكون أولها وأهمها:
استحضار المكان الذي تعرَّض يوماً لدنس الاحتلال، وتجسيده بالكلمات في مخيلة القارئ ووجدانه، في صورته النقية الأولى، وذلك بهدف تخليده في ذاكرته، وتخليد معالمه الأصيلة التي عملت يد الاستعمار الصهيوني على تغييرها، عبر السنوات الماضية، بل على طمس هذه المعالم بطمس الهوية العربية للمكان العربي.... لكأن حسن أراد أن يقول لكل قوى العدوان التي اغتصبت المكان العربي فيما بعد، إن ذاكرة الإنسان العربي ستظل محتفظة بالصورة القديمة لبلاده، صورة النقاء المكاني البكر قبل أن تدنسها مطامع الاحتلال، أو بصورته كما يرسمها حسن بكلماته الشاعرية: (دنيا أولى، عفوية، أرضها بساط من العشب الدائم الخضرة، وأطرافها أشجار بالغة الطول، متعددة الأشكال، زاهية الخضرة، وسماء تدلي غيومها بلطف كالستائر الشفيفة)( ).
هذا هدف، وثمة آخر، قد يوحي به التدقيق في أوصاف المكان الواردة في الرواية، وهو إثارة الحب لهذا المكان في نفس القارئ العربي، وجعله يتحرق شوقاً إلى إعادته لما كان عليه من جمال نقي صاف عفوي، قبل تَدَنُّسِه برجس الاحتلال..
وثمة هدف ثالث يتصل بسابقَيْه، هو تكريس الصورة الجذابة للمكان في وجدان القارئ، لدحض الزعم الصهيوني القائل بأن أرضنا العربية، قبل قدوم الهجرات اليهودية إليها في ثمانينات القرن الماضي، كانت أرضاً (خربة خالية)، كانت (مزارع للشوك والحجارة)، كما يزعم الشاعر الصهيوني (ناتان ألترمان)، والروائي الصهيوني (شموئيل يوسف عجنون) اللذان ينسبان كل ما تتمتع به الأراضي العربية المحتلة من جمال إلى جهود المستوطنين اليهود الذين احتلوها، وما هذا بصحيح… كأن حسن أراد أن يرد على أمثال هؤلاء الأدباء، بأن الأرض العربية كانت آية في الجمال منذ أقدم العصور، وبأيدي العرب الذي هم من بنى ليعقوب بيته الحجري، في حين لم يستطع أن يبني هو بجهوده الخاصة سوى بيت تافه من قصب.... ولعل إعادة تاريخ أحداث الرواية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، يؤكد هذه الرغبة لدى حسن، إذ يجعل الأرض العربية عروساً بهيجة الخضرة، منذ ذلك القرن، وليس منذ القرن التاسع عشر فقط، مؤكداً أن هذا الجمال الذي كانت تتمتع به تلك الأرض، لم يدنسه ويفسد حلاوته، سوى اليهودي الذي احتلها، ثم لم يتورع عن إفساد جمالها، طمعاً بالمال لا أكثر...

المنفذ الإنساني:
هو المنفذ الثالث، وربما الأهم، الذي يفتحه حسن حميد أمام قراء روايته للدخول إلى عالمها الثر... وهو لا يقل عن سابقَيه قدرة على الإيحاء بالكثير الكثير من الخيالات والأفكار والرموز الدالة..... ومنذ البداية يمكن القول إن حسن قد اعتنى بكل شخصيات روايته، حتى الثانوية منها، فلم يترك أي شخصية دون أن يساعد قارئه في التعرف عليها عن كثب، بل يكاد وصفه لشخصياته يتيح لهذا القارئ، في بعض مقاطع الرواية، تَوَهُّم القدرة على لمس الشخصية ورؤيتها ماثلة أمامه بلحمها ودمها... ومن خلال هذه القدرة على تقديم الشخصيات، ساعد المؤلفُ قارئَه على تكوين مواقفه، من تصرفات كل شخصية ومن طبيعتها، بدقة وواقعية..
ولعل من الجدير بالإشارة هنا، أن حسن، فيما عدا تقديمه لشخصيتي سليمان عطارة ويعقوب، يبتعد ابتعاداً كلياً عن تقديم أي شخصية أخرى كشخصية نمطية (stereotype). فحتى بنات يعقوب، قدمهن للقارئ العربي إناثاً من لحم ودم ومشاعر، إناثاً من الواقع، بل نجح في كثير من بدايات الحديث عنهن في جعل القارئ يعجب بهن، وينجذب إلى جمالهن. وحتى حين سقطن في هاوية الدعارة التي دفعهن إليها جَشَعُ أبيهن، ومن ثمَّ المرأة العجوز، فإن القارئ لا يملك منع نفسه من الإشفاق عليهن كشخصيات إنسانية أخطأت، لتحصد نتاج أخطائها عذاباتٍ طويلة وجدباً اختيارياً من الذرية...
ثمة ملاحظة أخرى تتصل بالشخصيات في الرواية، وهذه الملاحظة تتصل بالأبعاد الرمزية التي توحي بها كل شخصية... فقد استطاع حسن أن يرسم لشخصياته أبعاداً رمزية دون أن يمحو، أو يؤثر، ترميزها على أبعادها الواقعية.. بتعبير آخر قدم لنا حسن شخصيات روايته على مستويين: واقعي ورمزي في وقت واحد، دون أن يطغى أيُّ المستويين على الآخر، في أيٍّ من الشخصيات، اللهم إلا في شخصيتي يعقوب وسليمان اللتين أثقلت أبعادُهما الرمزية على ملامحهما الواقعية، الأمر الذي جعلهما تبدوان أقرب إلى الشخصية النمطية.. أما الشخصيات الأخرى، فقد كانت الإشارة إلى أبعادها الرمزية لطيفة وشبه خفية، في معظم الأحيان، إذ تشير إليها كلمةٌ عابرة هنا، أو حركة عفوية هناك، أو تصرفٌ تقوم به تلك الشخصية فيشفُّ قيامها الطبيعي به عن بعدها الرمزي. ولهذا فمن الضروري دراسة شخصيات الرواية على المستويين معاً، وهذا ما ستحاوله هذه الدراسة في السطور التالية...

إطلالة على الأبعاد الرمزية والواقعية لشخصيات الرواية
راهبات الدير
ثلاث فتيات جميلات اخترن العزلة في دير ناء، متنكرات لأنوثتهن بزي رهبان ثلاثة، لا كرهاً بالأنوثة، ولكن خوفاً من طامع تغريه عزلة الدير وبعده عن الأعين، بالاعتداء عليهن وإفساد ما نذرن أنفسهن له… ولم يكن اختيارهن العزلة نتيجة لكراهية الحياة والأحياء أيضاً، بدليل أنهن لا يفترن عن تقديم يد العون لكل من يحتاجها من سكان الشماصنة والقرى المجاورة لها، بل كان هذا الاختيار الصعب وسيلتهن التي اعتقدنَ فيها القدرة على تطهير أنفسهن من خطايا اقترفنها قبل دخولهن الدير، والمرقاة التي أَمَّلْنَ أن تعرج أرواحهن عليها إلى ملكوت الله ورضوانه. وقد ساعدهن دوام ملازمتهن لبعضهن على تحمُّل مشاق الطاعة، وعلى مقاومة إغراء الشهوات التي زُجت بينهن متمثلة بحنَّا الذي جيء به للقيام على خدمتهن، وهو لا يعلم، وظل جاهلاً، أنه إنما يقوم على خدمة ثلاث راهبات لا ثلاثة رهبان... ولم يحاول حسن، ولو عرضاً، أن يقدمهن لقرائه ملائكة فوق نداء شهوة أجسادهن للجنس الآخر، بل نراهن وهن يعانين الكثير ويكابدن الكثير، في محاولاتهن الحيلولة بين صراخ الشهوة في أجسادهن ونداء العفة في أرواحهن.. بل كان الصراع بين هذين النقيضين وسيلتهن للعروج إلى مراتب أعلى من الطهارة والعفة...
وفي أجواء هذا الصراع بين المادي والروحي، برع حسن في تقديمهن لقارئه وهن يتفتحن أمام عينيه، ببطء مدروس، كما لو كن ثلاث وردات... فهو، وبرشاقة أسلوبية، يأخذ هذا القارئ من يده، ليدخل وإياه إلى العالم الداخلي الخاص لكل منهن، فيراهن، ليس كإناث فقط تحت رداء الذكورة الذي تَخَفَّيْنَ تحته، بل يراهن وهن يُفكرن ويحلمن ويتعذبن كإناث.. يراهن وهن يُخطئن، ثم وهن يَتُبْنَ عن أخطائهن... يختلس معهن النظر إلى جسد حنا الرائع وهو يغتسل بماء النهر، ويشاركهن إحساسهن كإناث نذرن أنفسهن للعفة والفضيلة، رغم أنهن لم يستطعن منع هذه الأنفس عن تمني لمس جسد الرجل والتمتع به، ككل أنثى في هذا الكون... ثم يعجب بهن وهن يلتزمن حدود الفضيلة التي وقفن خلفها مختارات.. وحتى حين تقارب إحداهن الخطيئة، في لحظة ضعف بشري، متهالكة الإرادة أمام إغراء الجسد، لا يملك القارئ سوى أن يعذرها، لأن ما كانت تعانيه يفوق القدرة العادية للأنثى.
وبتناغم بديع بين طهارة الراهبات الثلاث وطهارة المكان الذي أقمن فيه، يوحي لك حسن بأنهن أهله الأصلاء... أصحابه الذين أَلِفُوه وأَلِفَهُم، منذ أقدم العصور... هو مثلهن في روعته وجماله، وفي طهارته أيضاً …. وهو مثلهن في تعففه عن كل ما يدنس جماله الأخاذ... إنه ما يزال مثلهن بكراً لم تمسسه أيدٍ قذرة، ما يزال نقياً، وقادراً بنقائه، على جذبك إليه لتكون الحبيب..
هذا هو المستوى الواقعي لشخصيات الراهبات الثلاث في الرواية، وهو، كما نلاحظ، مستوى قابل للتصديق من قبل القارئ... لكن لهذه الشخصيات الثلاث مستوى آخر غني بالأبعاد الرمزية التي لا تتضح لنا إلا إذا نظرنا إلى الراهبات، في الإطار العام لمضمون الرواية. عندها فقط نكتشف أنهن، مع الدير الذي أقمن فيه، يرسمن الصورة الأصلية للمكان وأهله. هذا المكان الذي أراده حسن أن يكون النقيض لما أراد يعقوب أن يجعل منه بعد قدومه إليه … فمن المفارقات الواضحة بين قسمي الرواية، إقامة الراهبات الثلاث في دير ناء كل ما فيه يوحي بالطهارة، وإقامة يعقوب وبناته في نُزُل سرعان ما تحول إلى ماخور لممارسة الدعارة وغيرها من ألوان المجون المرافقة...
بتعبير آخر: يكشف لنا التناقض الصارخ بين طبائع الراهبات الثلاث وطبائع بنات يعقوب الثلاث، عن صراع غير معلن، بين طهارة الأرض العربية وسكانها، قبل قدوم إسرائيل إليها، وقذارة الأهداف التي سعت الصهيونية إلى تحقيقها على هذه الأرض، من خلال إقامة إسرائيل فوقها..
يضاف إلى ذلك، نوع آخر من الصراع تشف عنه المقارنة بين الراهبات ويعقوب مع بناته، هو الصراع بين العلم والخرافة... فالراهبات كن يمارسن التطبيب بالأعشاب البرية، عن معرفة ودراية بفوائدها، إضافة إلى حب من يطببنه بها، بينما مارس يعقوب الطب طمعاً بالمال فقط، إضافة إلى جهله بكل ما يَمُتُّ إلى الطب من صلة. مارسَه عن طريق الادعاء، والتعويذات والتمتمات المبهمة التي كان يحاول إيهام المخدوعين فيه، من خلالها، بأنه طبيب حكيم ورجل مبروك ذو كرامات... وفي هذا إشارة إلى أصالة الحضارة العربية، بكل مقوماتها العلمية والأدبية والإنسانية، مقابل ادعاءات العبقرية غير المؤكدة التي تزعم العنصرية الصهيونية أنها وَقْفٌ على اليهود وحدهم... كما أن في هذه المقارنات إشارة رمزية أخرى إلى أكذوبة اليهودي حامل الحضارة إلى المنطقة..... تلك الأكذوبة التي زعمتها الصهيونية، في المرحلة الأولى من ظهورها. إذ يبدو الجاهل والمتخلف والمليء بالخرافات، في الرواية، هو اليهودي المهاجر وليس أبناء البلاد التي هاجر إليها... وإذا كان ثمة من صَدَّقَ يعقوبَ من بسطاء القرويين، فهذا لا يُعدُّ دليلاً مُؤَكِّداً لعبقريته، بل دليلاً على ممارسته الخداع واللعب بعقول البسطاء لابتزاز أموالهم والعبث بأعراضهم... لهذا، وإدراكاً من الراهبات لحقيقة يعقوب هذه، نلاحظ أنهن قد حَذَّرْنَ كثيراً من خداعه وسَعَيْنَ إلى كشفه، خصوصا أمام نساء القرية اللواتي كنَّ أكثر قابلية للانخداع بترهاته من رجالها...
(وعندما جاء يعقوب إلى المكان ازداد اهتمام الراهبات بالأطفال كثيراً، وبتعليمهم خصوصاً، ونشطت مرجانة ـ اسم إحدى الراهبات ـ كثيراً في الكشف عن فوائد الأعشاب، ودورها في شفاء الكثير من الأمراض. اجتمعت الراهبات بالنساء اللواتي يذهبن إلى يعقوب من أجل أن يرزقن بالمواليد، وتحدثن إليهن طويلاً، ومرات عديدة، بأن ما يفعله الرجل ضربٌ من الوهم، والسحر، والشعوذة، وفتحنَ أمامهن بعض الأوراق التي كتبها، وقرأن فيها كلاماً يثير السخرية والمرارة، وبيَّنَّ أن كثيراً من الحشائش التي يوصي بالتعامل معها سامة، ومضرة بالجسم، وتؤدي إلى العقم، وقلنَ إن الواجب يقتضي طرد الرجل لأنه خطير وعدو ومسيء)( )
حنَّا....
يكاد يكون دور حنا، على المستويين الروائي والواقعي، هو (دور المحرم المر)، كما وصفه المؤلف( )... وإذا كان ثمة ما يجمعه، على المستوى الواقعي، مع الراهبات اللواتي ظلَّ يجهل حقيقتهن الأنثوية، فهو أنه جاء أيضاً إلى الدير لنسيان مأساته العاطفية التي هدَّت نفسه ووجدانه. بتعبير آخر: هو عاشق من النمط الصوفي، خسرَ إلفَه الإنساني ممثلاً بأنثاه، فقرر الذوبان في عشقٍ أقوى وأعلى منزلة وأكثر قدرة على تخفيف معاناة العشق المادي الفاشل، فاتجه في عواطفه إلى الله، يطلب القرب منه وينشد في حضرته نسيان تجربة العشق الفاشل لواحدة من بني جنسه.. هذا على المستوى الواقعي لهذه الشخصية، ولكن ماذا عن مستواها الرمزي؟
يكاد حنا يكون، مثل الراهبات اللواتي جاء يخدمهن، رمزاً لطهارة المكان وأهله، ورمزاً لضعفهم كبشر في مواجهة شهواتهم أيضاً، ثم رمزاً لقدرتهم على الارتقاء، حين يريدون، فوق تلك الشهوات والبحث عن لذات أرفع وأعلى وأعمق، من خلال تجربة السباحة في ملكوت الرضوان الإلهي عبر التعفف عن الرذائل. بتعبير آخر: هو نموذج للبراءة الأولى التي يمثلها بعض سكان المنطقة العربية.. نموذج يعيد إلى أذهاننا شخصيات الحب العذري التي قضى أصحابها حباً.
يعقوب:
في وصفه له، يقدمه لنا المؤلف نموذجاً لشخصية مشوهة قبيحة ومنفرة، فهو (رجل قصير القامة، رثّ الثياب، أحمر الوجه، بارز الأنف والتجاعيد، وفي خريف عمره، يعرج على إحدى رجليه "من اليمنى تحديدا" خطواته أشبه بخطوات الكنغر، ذلك أنه يبدو في مسيره كأنه يقفز قفزاً، كتفه اليمنى أكثر انخفاضاً من كتفه اليسرى. يَتمطَّق بشفتيه لكأن شعرة أو بقايا طعام لا تزال عالقة في فمه، وهو عبثاً يحاول إخراجها طوال مسيره، يفرك بيديه، ويُرَقِّص حاجبيه بآلية عجيبة، ونظره جائل في كل ما حوله من نباتات يابسة، وطرية، وبيوت، وناس، وحيوانات، ووهاد، وأودية، وصخور)( ).
ممكنٌ القول: إن حسن رسم هذه الصورة المشوهة ليعقوب انطلاقاً من موقفه كعربي يحاول أن يلصق بعدوه كل الصفات السلبية عمداً.. ولكن هذا الحكم، قد يختلف، حين ننظر إلى المعين الذي متح منه، كمؤلف، صفات يعقوب الذي أراده رمزاً لإسرائيل... فكما أتوهم، كان حسن تحت تأثير قراءته لما يحفل به ملف الصهيونية وإسرائيل من جرائم بحق العرب ووطنهم. ورغبة منه في تجسيد تلك المحتويات الشائنة كلها، في شخصية يعقوب الذي أراده رمزاً للعدو الصهيوني، بكل شروره وسلبياته، وقع، دون أن يشعر، في مطب الشخصية النمطية، لدى رسمه لشخصية يعقوب، كما يبدو واضحاً في طغيان بنائها الرمزي على ملامحها الواقعية … وفي اعتقادي أنه كان من الأفضل رسم هذه الشخصية، بكل دلالاتها الرمزية التي أراد المؤلف إيصالها لقرائه، دون الابتعاد بها عن الواقع إلى حد تنميطها...
ولكن، غَلَبَ الموقفُ المسبَق للمؤلف قدرتَه على التحكم في أداته الفنية، فباشرَ تقديم شخصية يعقوب للقارئ تقديماً انفعالياً فجاً عن طريق سردٍ مباشر لملامحها القبيحة التي تَضَمَّنَها التقرير الوصفي الآنف.. وقد كان بإمكان المؤلف، لو ارتفع فوق موقفه المسبَق، أن يتجاوز هذه السلبية الفنية، وأن يصل في التأثير بقارئه، إلى أبعد مما أوصله تقرير وصف الملامح ذاك، لو أنه جعل هذه الملامح تظهر في حركية الرواية، عبر سيرورة فعل صاحبها وعلاقاته بالشخصيات الأخرى.
هذا على صعيد ملامح الصورة الجسدية لشخصية يعقوب، أما على صعيد الأبعاد الرمزية التي أعطاها المؤلف لهذه الشخصية، فإن أول ما يفاجئنا من هذه الأبعاد، غيابُ أصلها وهويتها القومية، إذ لم يقل لنا حسن ما أصل يعقوب، كما لم يخبرنا باسم المكان الذي هاجر منه إلى الشماصنة، بل وضعه أمامنا بهيئته المنفرة تلك، مباشرة، وذلك لحظة وصوله وبناتِه إلى الشماصنة...
صحيح أن الجمال المختلف لبناته عن جمال نساء المنطقة، وانفتاحهن على نحو غير مألوف في عادات الأنثى العربية، وخصوصاً في تلك الحقبة البعيدة من الزمن، قد يوحي بأنهن من مجتمع غربي أوروبي، ولكن هذا ليس مؤكداً. فقد يكون يعقوب وبناته من أي بقعة أخرى في العالم... وهنا قد يكون حسن قصد إلى إشعارنا بأن لا أصل لليهودي المهاجر، ولا وطن، بل وطنه الوحيد هو المكان الذي ينتفع فيه ويحقق مآربه، وبالتالي لا علاقة عميقة تربطه بأي أرض، ولا جذور له في أي مكان، فهو دائم الترحال، أبداً، من مكان إلى آخر.. وهذا وصف قد يتلاءم مع الوصف التوراتي لليهودي، على أنه بدوي، كما يتلاءم أيضاً مع التحليل اللغوي للفظ عبري المشتق من العبور، أي الترحال الدائم بين أقطار المعمورة، دون استقرار في مكان محدد، اللهم إلا إذا وجد في مكان ما مجالاً للنفع المادي...
وثمة إشارة عابرة أوردها حسن للإشارة إلى هذه السمة في الشخصية اليهودية النمطية، وهي الواردة على لسان الراهبات في الصفحة (91) من الرواية، حيث وصفن يعقوب بأنه لن (يزرع شجرة، أو يربي بقرة، أو بغلة لأنه لا يحب الارتباط بالأمكنة مهما طال فيها.. فيعقوب وأمثاله، ومنذ أن يُخلَق الواحد منهم تخلق معه جرثومة حب التنقل من مكان إلى آخر، وحب العزلة والانطواء، لأن الآخرين مثل الضوء يكشفون أعماقه ودواخله وغاياته الرخيصة..).
ونلاحظ أن حسن يحاول الغوص بعيداً في دواخل يعقوب وأعماقه، مسلطاً الضوء على غاياته الرخيصة التي لا يقف شرُّها عند حدود العرب الذين قابل حُسْنَ استقبالهم له ولبناته، بالتخطيط والسعي إلى ابتزاز أموالهم وإفساد أخلاقهم، بل طالت هذه الغايات الرخيصة حتى بناته اللواتي لم يتردد في استثمار جمالهن، من أجل جمع المال وتكديسه والسيطرة على شبان الشماصنة والقرى العربية المجاورة لها …
ولعل من الأبعاد الرمزية البارزة أيضاً، لشخصية يعقوب، ما يمكن توصيفه، تجاوزاً، بالبعد الصهيوني/الأيديولوجي، رغم أن زمن ظهوره روائياً، سابق لظهور الأيديولوجية الصهيونية... ويتجلى هذا البعد في إشارة حسن، أكثر من مرة، إلى المزج بين الديني والخرافي والمصلحي في التركيبة النفسية ليعقوب، وهو مزج مشهور في النسيج الأيديولوجي للصهيونية.... وبتعبير آخر: يتجلى هذا البعد بالإشارة إلى التوظيف البراغماتي للأسطورة الدينية التوراتية في السـعي إلى تحقيق المشروع الاستعماري للصهيونية فوق الأرض العربية. وهو توظيف لا يخفى على أي دارس للبعد الديني في الأيديولوجية الصهيونية التي أصرت على التمسك بالطروحات اللامعقولة لهذا البعد، وأدخلتها في نسيجها، رغم تناقضها مع ادعاء مهندسيها بأنها أيديولوجية علمانية؛ وقد كان مصدر إصرارهم هذا، إدراكُهم لقدرة العزف على وتر الوجدان الديني ليهود العالم، في تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، أي أن علاقتهم بالدين كانت علاقة براغماتية ذات غايات استعمارية صرف.
ويعقوب القادم من الأسطورة الدينية التي لا يؤمن بها إيماناً صادقاً، بدليل تضحيته بحماره للإله بدلاً من التضحية بكبرى بناته، كما نذرَ، يخرج من هذه الأسطورة، بهيئته الرثة، والمنفرة، رمزاً لخرافة تفوُّقِ اليهود على سائر شعوب العالم، عبر ممارسته لمهنة الطب التي يجهل عنها كلَّ شيء. تلك الخرافة التي اخترعتها العقلية الصهيونية العنصرية، وَسَعَتْ، وما تزال، إلى تسويقها في كل مكان… وقد جعل حسن نهاية يعقوب متزامنة مع لحظة انكشاف سر تفوقه الخرافي بعلم الطب الذي لم يصدقه إلا السذج من سكان المنطقة العربية… وكأن حسن أراد بتلك النهاية أن يقول لنا، إن تفوق إسرائيل وَهْمٌ، وإن نهاية هذا الوهم ستكون هي نفسها نهاية إسرائيل التي ستأتي متزامنة مع لحظة انكشاف خرافة تفوقها، ذات المنشأ العنصري …
ثمة بعد رمزي آخر رسمه حسن لهذه الشخصية، وقدَّمه لقرائه بأسلوب إيحائي، عبر الإشارة اللمَّاحة إلى عجز يعقوب الجنسي الذي منعه من التواصل مع أي امرأة عربية، ممن أتيح له استباحة أجسادهن، رغم تحرقه الشديد إلى التواصل مع جمالهن الذي انكشف لعينيه، بحجة ادعائه القدرة على جعلهن يحملن.
فكما يغلب على وهمي، أراد حسن أن يوحي لقرائه، من خلال العجز الجنسي ليعقوب الذي يرمز، في الرواية، للكيان الصهيوني الدخيل على المنطقة العربية، أرضاً وسكاناً، بعجز هذا الكيان عن الاندماج فـي المحيط العربي، مهما بلغت درجة قوته، ومهما بلغت قدرته على الخداع. وهذا العجز سيبقى قائماً، حتى لو وافقَ بعض العرب، لهذا السبب أو ذاك، على اندماجه في نسيجهم المجتمعي والثقافي. والسبب في ذلك، يعود إلى كون العجز عن الاندماج كامن في التركيبة الانعزالية الخاصة بهذا الكيان العنصري الغريب عن المنطقة وأهلها، وهو ما يجد معادله الموضوعي، في الرواية، بعجز يعقوب الجنسي الذي حال دون رغبته في إنجاب نسل مدجَّن من اليهود المولودين من أمهات عربيات، الأمر الذي يعني، في النهاية، حتمية زوال هذا الكيان، تماماً كما زال يعقوب، لعجزهما معاً، على المستويين الواقعي والرمزي، عن مدِّ جذورٍ قوية لهما في الأرض العربية ومجتمعاتها على حد سواء.
ومن الأبعاد الرمزية والهامة أيضا لشخصية يعقوب، ذلك البعد المستوحى من كتاب السلطان الذي يحمله، والذي، بموجبه، استولى على الجسر، ثم ابتز المارين فوقه.. فبالإضافة إلى العلاقة الواضحة بين ذلك الكتاب ووعد بلفور الذي منحته بريطانيا الاستعمارية للحركة الصهيونية، هناك علاقة واضحة أخرى بين سيطرة يعقوب على الجسر والدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة، ذلك الدور الذي يُعدُّ الهدف الرئيس، إن لم نقل الوحيد، ليعقوب وإسرائيل، والذي يمكن توصيفه، على المستويين الواقعي والروائي معاً، بأنه دور ابتزازي، هدفه الغائي خدمة مصالح القوى الاستعمارية الكبرى في العالم التي رمز لها المؤلف، في الرواية، بشخص المرأة العجوز، كما سيتضح في سياق التحليل التالي لشخصيتها.
العجوز:
هي شخصية غامضة، تتبدى للقارئ، من وراء سطور الرواية، شخصية تنوس بين الخرافة والواقع، بين الوهم والحقيقة… ففي بعض مقاطع الرواية، قد يغلب على الظن أنها شخصية واقعية، من لحم ودم، ولكن هذا الظن سرعان ما يتبخر، حين نراها، في مقطع آخر، خارجة من ظلمات اللامعقول شبحاً ملفوفاً بالسواد والغموض، يقف وراء أطماع يعقوب، بقوى غير عادية من جهة، وتتناقض مع بلوغها أرذل العمر، من جهة أخرى… فما حقيقة هذه الشخصية التي يتداخل، في بنيتها الروائية، الواقعي بالرمزي، إلى حد يصعب معه الفصل بين مستوييهما، سواء في صورتها الظاهرية، أو في تصرفاتها وأهدافها من وراء هذه التصرفات؟
للوهلة الأولى، قد يتوهم القارئ أن هذه الشخصية يمكن أن تكون رمزاً للتوراة، أو للخرافة التوراتية التي تزعم الصهيونيةُ أنها تربط بين اليهودي والأرض العربية، وهذا ما ذهب إليه الشاعر طلعت سقيرق في قراءته للرواية( ). لكن مزيداً من التمعن في ملامح هذه الشخصية وصفاتها، تجعلنا أقرب إلى اعتبارها رمزاً للقوى الاستعمارية الغربية، صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في اختراع المشروع الصهيوني وتجسيده كياناً سياسياً، فوق أرضنا العربية. بل حتى شيبتها وقواها الخارقة التي لا تتناسب مع عمرها، تؤكد مثل هذا التصور لها، مقارنة بقوى الاستعمار الغربي، ولاسيما الاستعمار البريطاني الذي كان في مرحلة الشيخوخة أيضاً، حين بدأ زرعَ الكيان الصهيوني في أرض فلسطين...
وثمة دلائل أخرى، قد تكون أكثر قدرة على تأكيد صحة تصور هذه الشخصية كرمز للقوى الاستعمارية، ومن أهم هذه الدلائل ما يأتي في نهاية الرواية، بعد موت يعقوب الذي يُعدُّ، بالخان الذي أقامه عند حافة الجسر وبتصرفاته، رمزاً لتجسيد المرحلة الأولى من المشروع الصهيوني.
ومن هذه الدلائل، أننا نرى العجوز، بعد موت يعقوب قتلاً على يد أحد سكان القرى، تظل تشجِّع بناته على القيام بدورهن الرامي إلى حلِّ عرى الأخلاق، في النفسية العربية، عن طريق نشر الدعارة وممارستها، لابتزاز أموال سكان القرى العربية المحيطة بالخان، والذين يمكن اعتبارهم رمزاً، أو معادلاً روائياً لأبناء المجتمع العربي. ولعل مما يؤكد صحة هذا الدليل، أن نصفَ عائدات بنات يعقوب من بيع أجسادهن، بعد أن تحولن إلى عاهرات، كان يذهب إلى العجوز لقاء رعايتها لهن...
(في تلك الليالي الطويلة بمتعها، كانت العجوز الطويلة الناحلة تبارك ما تفعله بنات يعقوب، عبر ظهورات مختلفة. وكانت البنات يجعلن من رضاها اندفاعاً جديداً نحو منح المتع والأخذ منها، ونحو جمع الكثير من المال الذي ذهب نصفه إلى العجوز الساهرة على رعايتهن)( )!!!
تُرى ألا تُذكِّر هذه العلاقة المصلحية المتبادلة بين العجوز وبنات يعقوب الثلاث، بعد موته، بالعلاقة بين القوى الاستعمارية الكبرى في العالم وإسرائيل، وخصوصاً بعد تراجع الصهيونية التي خرجت إسرائيل من رحمها؟ بلى... ولعل هذا ما أراد أن يُعبِّر عنه الصحفي والمحلل السياسي الإسرائيلي (يوئيل ماركوس) بقوله: (إن الجيش الإسرائيلي، بقوته المطلقة لا النسبية، هو خط الدفاع الأول عن المصالح الأمريكية، في حوض البحر المتوسط)( ).
بنات يعقوب الثلاث:
رغم الكثير من الصفحات التي وقفها المؤلف على وصف جمالهن، ومغامراتهن الجنسية، أرى أن أختصر الحديث عنهن بالقول: إنهن المعادل النقيض، في الرواية والواقع، لطهارة راهبات الدير الثلاث ودورهن الإنساني. وهذا ما يشجع على اعتبارهن مجرد رمز لواحدة من أهم وسائل الصهيونية وإسرائيل، في سعيهما القديم الدائم، إلى اختراق المجتمع العربي على المستويين الاجتماعي والثقافي، وحتى على المستوى الديني أيضاً.
فتلك الفاتنات الثلاث اللواتي يختلفن في جمالهن عن جمال إناث الشماصنة، وكذلك في أخلاقهن، يمكن الزعم بأنهن يرمزن لفتنة الوسائل التي تبتكرها إسرائيل لغزو المجتمعات العربية، وتفكيك عرى تواصلها وقوتها من الداخل. لكن، على الرغم من كل ما يثيره في النفس هذا الدور الذي يمارسنه من قرف، لا يملك القارئ نفسه من الإشفاق عليهن، حين ينظر إليهن من زواية إنسانية، ليراهُنَّ من خلالها مجرد مخلوقات تمَّ اللعب بمصائرها، من قبل أقرب الناس إليها ـ أبوهن في الرواية ـ لتحقيق أهداف مادية لم تجلب لهن في النهاية سوى البؤس، ثم السقوط، في هاوية العدمية الأخلاقية والإنسانية وحتى المادية، حين صار اللصوص الذين يدفعون لهن، هم أنفسهم الذين يسرقون مدخراتهن، في النهاية، بالإضافة إلى العجوز، فقد كنَّ (عارفات بأن بعضاً من مالهن يُسرق...)( ).
ونحن نلاحظ أن الأنثى اليهودية عموماً تلعب، في الرواية، الدور ذاته الذي لعبته بنات يعقوب الثلاث فيها، مع اختلاف الأمكنة والأزمنة. نلاحظ هذا في شخصية (وردة) بنت سليمان عطارة التي استخدم أبوها جسدَها الجميل فخاً لإيقاع عباس صاحب المعصرة التي بدأ سليمان العمل فيها أجيراً لا يملك شيئاً من مالها، ليصير، بفضل جسد ابنته وردة، صاحبَها، ومالكَ كل أموال عباس الأخرى التي تنازل عنها لسليمان مقابل ذلك الجسد... وفي النهاية، حين هربت وردة لأسباب مجهولة، حزن سليمان عليها، لا كما يحزن أي أب عادي لغياب ابنته، ولكن (لأنها تركته وراحت تبحث عن مشروعها الخاص... لأنها لم تستطع فتح جميع القرى، وأخذ مفاتيحها وتسليمها له، وقد كان ينتظر ذلك منها، بما ملكت من جمال ساحر غير منظور من قبل!!!)( ).
أما (نانا)، بكر يعقوب التي قُتلت قبل مجيئه مع أخواتها الثلاث إلى الشماصنة، فعلى الرغم من كل الملامح الأنثوية الجميلة التي أضفاها حسن على وجهها، وعلى جسدها، فإنها بسلوكها الأخلاقي المنحل، وموتها قتلاً مع عشيقها، بيد زوجها الذي فاجأهما وهما يتعاطيان الجنس، في إسطبل الحيوانات، فوق الروث والشوك، ووسط روائح المياه الآسنه، نانا هذه، بالتناقض البادي بين جمال جسدها وقبح خُلُقها، وبسعيها وأبيها، إلى استثمار جمالها الأنثوي لجلب المال، تكاد تكون رمزاً لتجارة اليهود بنسائهن التي يقال أنهم اشتهروا بتعاطيها، لإفساد شعوب العالم، وحلِّ عرى الأخلاق بين أفراد مجتمعاتها..
سليمان عطارة:
رغم حرص حسن على نقل كل التفاصيل الصغيرة التي تميز هذه الشخصية، من الناحية الجسدية، في محاولة منه لتقديمها لنا شخصية واقعية من لحم ودم، يُخيل للقارئ الذي يعرف، ولو قليلاً، عن خلفيات المشروع الصهيوني وتاريخه، أن هذه الشخصية ترمز بوضوح إلى طلائع الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، في ثمانينات القرن التاسع عشر… تلك الطلائع التي مهد أفرادها لقدوم الهجرات اليهودية التالية لهم، وساعدوا ـ بمالهم ومعرفتهم واستغلالهم لطيبة سكان المنطقة العرب ـ تلك الهجرات اللاحقة على الاستيطان فوق الأرض العربية...
ولطالما تراءت لي الرغبة في المقارنة بين هذه الشخصية وشخصية أدبية معروفة في الأدب الإسرائيلي قبل قيام إسرائيل، هي شخصية الأديب (موشيه سميلانسكي) الذي اشتهر بلقبه العربي، (الخواجا موسى)، رغم عدم التشابه بين الشخصيتين من الناحية الجسدية.. فكما يروي سميلانسكي في سيرته الشخصية، كوَّن هو الآخر، كسليمان عطارة، في الرواية، الكثير من الصداقات مع العرب قبل قيام إسرائيل، وتعرَّف جيداً إلى البيئة العربية، مكاناً وإنساناً، كما تعرَّف على دقائق الحياة الأسرية العربية، حسبما تشـير إلى ذلك قصصه القصيرة.. وقد استفاد المهاجرون اليهود بعده فائدة كبيرة مما كتبه في هذه القصص، وخصوصاً في مجال التعامل مع سكان المنطقة، عبر التعرف على ثغرات شخصيتهم الطيبة التي نفذوا منها، في البداية.
كما يمكن أن يكون سليمان عطارة رمزاً لأصحاب الأموال من اليهود الذين اشتروا الأراضي العربية وهيؤوها لاستيطان موجات الهجرة اليهودية الكبيرة بعد ذلك، مثل المليونيرين اليهوديين مونتفيوري، وروتشيلد.
أما علاقة هذه الشخصية بجوديت/ابنة يعقوب، فتكاد تكون رمزاً لعلاقة يهود (الييشوف)( ) مع يهود (الكيبوتس)( )، في بدايات الاستيطان اليهودي لأرض فلسطين، فقد كان الود مفقوداً، بين الطرفين، بسبب الخلاف الأيديولوجي بينهما، كما يزعم مؤرخو الاستيطان الصهيوني، رغم حاجة كل طرف منهما للآخر...
رحمون
هذا الشاب العربي الذي قد يتوهم القارئ، في البداية، أنه سيكون طليعة المتصدين لمشروع يعقوب، وذلك حين يعترض موكبه مع بناته وحماره المتعب، لدى وصولهم إلى القرية، ثم يتوهمه ثانية مجرد شاب شبه أبله، حين نعرف من وصف حسن له بأن خيطاً رفيعاً فقط (يفصل ما بين العقل والجنون عنده. في أحايين كثيرة يبدو في منتهى العقل، وفي أحايين كثيرة أيضاً يبدو في منتهى الجنون والشطط...)( )، رحمون هذا، قد يخيل للقارئ، بعد أن يتتبع تصرفاته اللاحقة، أنه رمز للقوى المتعاملة مع العدو من أجل المال والشهوة… وقد تعيدنا تصرفاته إلى ذلك النموذج الفلسطيني الذي نجد أمثلة عليه، في الروايات الفلسطينية المبكرة التي تحدث مؤلفوها عن نمط من الشبان العرب الذين أفقدهم جمال الفتيات اليهوديات عقولهم، فأعطوهن، ومن أجل التمتع بأجسادهن، كل شيء؛ وربما لهذا صوره لنا المؤلف جسداً جميلاً بلا عقل، أو أقرب إلى السفه والبلاهة، لا طموحَ له ولا أهداف سوى إرواء نزوات جسده الجائع أبداً إلى المتع الحسية..
وما دمنا بصدد الحديث عن هذا النموذج من العرب الذين تعاطوا مع المشروع الصهيوني، في بداياته، بقدر كبير من اللاوعي، فلعل من الضروري الإشارة إلى أن رواية حسن لم تصور لنا وجود وعي شعبي بمخططات الصهيونية! فنحن لا نجد إشارات إلى مقاومين عرب لمشروع يعقوب الاستيطاني، إلا في نهاية الرواية، حين بدأ بفرض الإتاوة على المارين من العرب فوق الجسر.. وهؤلاء لم يقاوموه بدافع وطني بل انطلاقاً من شعورهم باستغلاله وابتزازه لهم، دون وجه حق، أي لأهداف شخصية مادية، وليس لأهداف وطنية...
وقد يكون هذا من المآخذ الهامة على الرواية، إلا إذا نظرنا إلى أحداثها بوصفها أحداثاً وقعت في القرن الثالث عشر الهجري، أي من منظور تاريخي، أما إذا نظرنا إلى هذه الأحداث بوصفها إشارات رمزية أراد لها المؤلف أن تكون معادلاً موضوعياً لبدايات الصراع العربي/ الصهيوني، فإن الأمر يختلف تماماً، إذ يكون المؤلف قد حذف، دون أي مسوغ، الإشارة إلى بدايات المقاومة العربية للهجمة الاستيطانية الصهيونية، تلك البدايات التي تجلت في الثورات العربية المتوالية ضد الاستيطان الصهيوني في فلسطين!!!

عصمان:
يصفه حسن بقوله: (رجل فراري كان يأوي إلى الجبل، غضوب، ذاق ريق بنات يعقوب، فقَبِلَ أن يعيش عنده حارساً ومأموراً لحركة الجسر)( ). وهو بهذا الوصف يمكن اعتباره، للوهلة الأولى، رمزاً للمرتزقة الذين دخلوا، في بنية العصابات الصهيونية الأولى التي تحولت إلى جيش إسرائيل، بعد قيامها. ولكن مزيداً من التمعن في تصرفاته، قد يُقرِّبه، في نظر القارئ، ليكون رمزاً لآلة إسرائيل العسكرية القوية التي تفوق قوى العرب مجتمعين. ولعل مما يمنح الكثير من المصداقية والواقعية لهذه الرؤية، رسم حسن لها بصورة القوة العمياء التي تطيع صاحبها دون تردد، وبوحشية بالغة نابعة من وحشية صاحبها...
وقد كان حسن واقعيا أيضاً، حين لم يجعل نهاية عصمان على يد أحد من سكان القرية أو القرى المجاورة لها، بل جعل موته نتيجة الإفراط في الشراب والسكر.. ذلك لو أنه جعل نهاية عصمان على يد أحد من العرب، لكان خرج عن الواقعية في تشكيل الدلالة الرمزية لهذه الشخصية، بوصفها رمزا لآلة إسرائيل العسكرية… لأن مثل هذه النهاية تعني وصول طرف عربي ما، على صعيد الواقع الراهن، إلى مرحلة التفوق على إسرائيل في قوتها العسكرية أو امتلاك ما يعادل قوتها تلك على الأقل... ولهذا جعل حسن تحطم هذه القوة نتيجة سُكرها بقوتها، رامزاً لهذه النتيجة بموت عصمان غرقاً بعدما أفرط في تعاطي الشراب، وبهذا يكون قد انتهى بنهاية صاحبه.. وفي هذه النهاية بُعْدٌ رمزي آخر يوحي به حسن لقرائه، وهو أن قوة إسرائيل العسكرية تابعة لوجودها، تحميه ما استمر هذا الوجود قائماً بمقوماته المعروفة، فإن زال وجودها، لأي سبب، فقدَتْ قوتُها العسكرية قيمتَها، نتيجة فقدانها لدورها ولصانع هذا الدور.

قراءة في دلالات البناء الفني للرواية:
بعد هذا الطواف في الجنبات المضمونية لرواية حسن حميد، أود أن أختم دراستي لها، بالتوقف قليلاً عند بنائها الفني، ليس بقصد بيان سمات هذا البناء من الناحية الفنية الصرف، بل بقصد استخدام تلك السمات كزاوية رؤية جديدة أُطل منها على المضمون الذي حواه، وهو ما يجعل من هذه الإطلالة قراءة جديدة لذلك المضمون، ولكن من الزاوية الفنية تحديداً.
في الواقع، نحن أمام محاولة فنية يطمح صاحبها إلى بلوغ حدٍّ أقصى من التطابق بين مضمون روايته وبنائها الفني.. وربما يكون منطلق هذه المحاولة، كما أتوهم، قناعة المؤلف بضرورة ابتكار صياغة فنية مغايرة، تكون متناسبة مع طرحه المغاير، لقضية مشهورة مثل قضية اغتصاب فلسطين التي يتمحور حولها مضمون روايته، بمستوييها الواقعي والرمزي.
ولعل أول سمات هذه المغايرة، يتمثل في اختيار قرية الشماصنة الواقعة إلى الشمال الغربي من طبريا، رمزاً لفلسطين التي تم اغتصابها، ثم رمزاً لفلسطين التي سيتم تحريرها من غاصبيها في النهاية… وقد ساعد هذا الاختيارُ المختلف لمسرح الأحداث مؤلفَ الرواية في التخلص من المباشرة في الحديث عن فلسطين وموضوع اغتصابها.
أما السمة الثانية، فتتمثل في اختيار القرن الثالث عشر الميلادي مسرحاً زمانياً للأحداث، الأمر الذي وفَّر للمؤلف منجاة من أسر الوقائعية الحدثية، إذا جاز التعبير، ومنحه القدرة على التحليق بحرية أكبر في عوالم التخييل التي حملنا إليها، دون أن يفصلنا تحليقه في هذه العوالم عن جذورها الراسخة في أرض الواقع؛ إذ كانت الأبعاد والدلالات الرمزية للأمكنة والشخصيات والأحداث، على السواء، تقوم بالربط المستمر بين مستوييها الواقعي والرمزي، على صفحة وعي القارئ، دون أن تترك لمخيلته أي فرصة للشرود بعيداً عما يعرفه عن قضية اغتصاب فلسطين وملابساتها.
ومن خلال هذا الاختيار الموفق للمسرحين المكاني والزماني، استطاع حسن عرضَ معظم شخصياته بعيداً عن المباشرة والنمطية التي لم يقع في مطبها، إلا في رسمه لشخصية يعقوب، كما أشرت في موضع سابق من هذه الدراسة..
سمة ثالثة لبناء الرواية الفني… وهذه السمة تتجلى في طريقة سرد الأحداث وترتيبها، وفي رسم الأبعاد الخاصة لكل حدث، والأبعاد الخاصة بالشخصيات أيضاً. فانطلاقاً من زعمه الذي فاجأنا به في مستهل روايته بأن هذه الرواية ليست من تأليفه بل هي مخطوط قديم عثر عليه، ظل حسن وفياً لهذا الزعم في بناء أحداث روايته وطريقة عرضها.. فلم يقسم الرواية فصولاً، كما اعتاد غيره أن يفعل، بل صبَّها في بناء يذكرنا ببناء المخطوطات المحقَّقَة... وهكذا راح يُتْبِعُ كل حدث رئيس يعرضه علينا، بعدد من التذييلات والتعليقات والتفصيلات التي تشبه الهوامش والحواشي المألوفة في أي مخطوط محقَّق. وقد أتاحت له هذه الطريقة، كما أتصور، النجاة من قسرية السرد المتواصل التي تفرض نفسها على الروائي، عادة.
كما ساعدته هذه الطريقة المستعارة من البناء البحثي، على هندسة بناء الأحداث وحركية الشخصيات فيها، بأسلوب اللوحات التي قد تبدو منفصلة ظاهرياً، ولكنها متصلة فنياً بخيط رفيع هو خيط المكان تارة، أو خيط الشخصية المتحركة فيه تارة أخرى. ولهذا لا نستطيع، مثلاً، اعتبار حديثه عن شخصية (نانا) البنت البكر ليعقوب التي قتلها زوجها، قبل هجرة أبيها إلى الشماصنة، حديثاً مقحماً في مثل هذا البناء الفني الذي اختاره حسن لروايته، ولكننا نفعل ذلك لو أنه اعتمد نموذجاً آخر لبناء روايته…
وسمة فنية خامسة، تتجلى في تغيُّر أسلوب القص، بتغيير شخصية الراوي أحياناً، وبالتنقل بين ضميري الغائب والمتكلم أحياناً أخرى، أثناء سرد الوقائع وملامح الشخصيات وصفاتها... فبينما نمضي مع المؤلف، في بعض مواضع الرواية، ونحن نتابع ما يسرده علينا من وقائع مرت بها هذه الشخصية أو تلك، من شخصيات روايته، إذا بنا نفتقده، فلا نجده، بل نجد أنفسنا أمام تلك الشخصية مباشرة، وقد بدأت تروي، بنفسها، جانباً من ماضيها أو تمنياتها...
نلاحظ هذا، على سبيل المثال، في انقطاع حديث إحدى راهبات الدير عن الراهبة ماريا، في الصفحة (57) من الرواية، لتأخذ ماريا نفسها مهمة الحديث عن عالمها الداخلي بأسلوب التداعي الحر، عبر البوح بما يثقل صدرها من هموم وعذابات، في حمى صراعها الدرامي بين العفة والخطيئة... وهي نقلة واقعية على الصعيدين الفني والمضموني معاً، لأنه من غير الممكن أن يتحدث إنسان عن العالم الداخلي لإنسان آخر، بنفس دقة هذا الآخر وصدقه في حديثه عن نفسه لنفسه.. ثم، ما نكاد نرتاح لبوح ماريا المباشر إلينا، حتى ينتقل السرد منها إلى المؤلف، ليكمل الحديث عن جانب آخر من حياتها في الدير، وهكذا...
ومن الملاحظ أن حسن، كان يقوم هو أو إحدى الشخصيات بسرد الجوانب الوصفية الخارجية لشخصية أخرى، ولكن حين يريد إضاءة العالم الداخلي لأي شخصية، كان يترك لها أن تتحدث، بنفسها، عن عالمها الداخلي، لأنها الأكثر معرفة به من أي مخلوق آخر.
وأخيرا، أعود إلى ما بدأت به هذه الدراسة، لأشير إلى سمة فنية سادسة تتميز بها رواية حسن حميد هذه، وهي أن البناء الفني الخاص الذي اختاره لها، أتاح أمام قارئه حرية العبور إلى عالمها من ثلاثة منافذ رئيسة: منفذ تاريخي، وآخر مكاني، وثالث إنساني. وهو ما يمكن توصيفه بجديد آخر خاص بهذه الرواية، حسب حدود معرفتي المتواضعة بالفن الروائي.
لكن أكثر السمات الفنية إثارة للاستغراب والجدل، في هذه الرواية، محاولة مؤلفها تقديمَ حكاية روايته، في جزأين لا رابط بينهما، كما يتوهم القارئ للوهلة الأولى… جزء اختص بعرض حياة الراهبات في دير الشماصنة، وجزء عرض فيه للأحداث التي بدأت بوصول يعقوب وبناته إلى هذه القرية…
ومع احترامي لما ذهب إليه الناقد طلعت سقيرق، في تفسيره لنوعية الصلة بين جزأي الرواية، باعتبارها محاولة لعقد مقارنة بين دين ودين، هما المسيحية واليهودية، نافذاً من خلال ذلك إلى القول: (وهنا نصل إلى مفصل في غاية الأهمية، يقول إن حسن حميد أراد أن يقول: هناك جمعٌ قائم بين العهد القديم والعهد الجديد. أنا أضع أمامكم صورة من هذا وصورة من ذاك، وأجمع كما تم الجمع في الكتاب المقدس، ثم أسأل: لماذا مثل هذا الجمع وعلى أي أساس يقوم..؟ إن الفروقات بين الدينين شديدة الوضوح. فإذا قلتم ما معنى أن أورد هنا اثنتين وتسعين صفحة عن الدير، فلماذا لا تسألون على أي أساس يقوم الجمع بين التوراة والإنجيل؟)( ).
أقول، مع احترامي لهذا الرأي، إن لي رأياً آخر، في تفسير ما يبدو انقطاعاً بين جزأي الرواية.. وقوام هذا الرأي الذي لا أجزم بصحته طبعاً، هو أن الرواية لا تعرض في جزأيها مقارنة بين المسيحية واليهودية، بقدر ما تسعى إلى تأكيد نفي أي صبغة دينية عن مشروع يعقوب في الشماصنة الذي يعتبر المعادل الرمزي للمشروع الصهيوني في فلسطين.. وهو نفي ينطلق من القناعة بأن كلا المشروعين مؤسسان على خلفية استعمارية/اقتصادية، بالدرجة الأولى، وأن اللبوس الديني الذي أضفاه كل من يعقوب والصهيونية على مشروعيهما، لم يكن أكثر من غطاء ذرائعي لتسويغ إقامة هذين المشروعين، على أرض، يدركان قبل غيرهما، بأنها أرض مغتصبة.. وهذا ما نجد إشارة واضحة إليه في المقطع الحواري التالي بين يعقوب وسليمان عطارة:
(“أترى الدرب يا سليمان، إنه يمحو آثار خطانا”!!
“هذا أحسن لنا يا يعقوب”!!!
“أحسن لماذا، وهل نحن لصوص يا سليمان”؟!
وينفي سليمان عطارة ذلك بمرجحة رأسه! ويعود يعقوب ويسأله:”ما السبب إذن”؟!
وبهدوء يجيب سليمان عطارة:”لأن الدرب ليس لنا”!!!)
“ماذا”؟!
ودون إجابة!! يدفعه سليمان عطارة أمامه، وهو يقول له: "فكر بالخان، وبكيسك الفارغ، يا يعقوب، ودعك من الأسئلة الموجعة"( )!!
بهذه العبارة الرمزية الموحية (فكر بالخان، وبكيسك الفارغ..) يكون المؤلف قد حدد نوعية الهدف من مشروع يعقوب الذي يرمز به، في الرواية، إلى المشروع الصهيوني، مؤكداً أنه هدف اقتصادي بالدرجة الأولى. ثم جاءت حكاية تضحية يعقوب بالحمار بدلاً من تضحيته بكبرى بناته شكراً للرب، لتكون الإشارة الرمزية الثانية إلى قناعة المؤلف بأن الصهيونية استخدمت الدين اليهودي كغطاء ذرائعي لأهدافها غير الدينية، دون أن يوضح المرامي البعيدة لهذا الاستخدام، والتي تمت الإشارة إليها قبلاً بالقول: إن الصهيونية قامت بالعزف على وتر الوجدان الديني ليهود العالم، بغية خلق حافز ذاتي لديهم يدفعهم للهجرة الطوعية إلى فلسطين.
في وهمي أن هذا التحليل ينسجم مع البنية المضمونية والمعمارية للرواية التي عاد المؤلف، في نهايتها، للإشارة بالرمز ثانية، إلى ذرائعية استخدام الدين في الأيديولوجية الصهيونية، حين جعل الأرض العربية وناسها من مسيحيين ومسلمين يلفظون يعقوبَ وبناته كدخلاء وليس كيهود، أي كمغتصبين وليس كأبناء ديانة أخرى، لاسيما وأن اليهودية واليهود موجودان في منطقتنا العربية، قبل أن تبدأ طلائع الهجرة الصهيونية بالقدوم إلى فلسطين، أواخر القرن التاسع عشر…
إذاً، فالإشارة إلى ذرائعية الاستخدام الصهيوني للدين اليهودي، تنفي أن يكون الهدف من الفصل الظاهري بين جزأي الرواية هو المقارنة بين المسيحية واليهودية كدينين، وبالتالي، يغلب على ظني أن هناك تفسيرات أخرى لهذا الفصل، يمكن أن يقود إليها تمعن مضمون كل من الجزأين معاً.
ومن هذه التفسيرات، أن المؤلف أراد استثمار الفصل بين جزأي روايته، كأسلوب فني، في الإشارة إلى حقيقتين هامتين تنسجمان مع الواقع إلى أقصى الحدود. أولى هاتين الحقيقتين هي تأكيد عروبة المكان وأهله، من خلال النفي الفني ليعقوب وبناته، أثناء الحديث عن الدير وراهباته، في الجزء الأول من الرواية. وهو نفي ينسجم مع الواقع تماماً، فهذا المكان كان عربياً، وكذلك سكانه، قبل مجيء يعقوب وبناته، وبقي كذلك بعد لفظه ولفظهن خارجه…
أما الحقيقة الثانية التي أراد المؤلف الإشارة إليها، من خلال الفصل بين جزأي روايته، فهي، كما أظن، السعي الصهيوني إلى تغييب الهوية العربية لفلسطين، أرضاً وسكاناً، في إطار سياسة التهويد الإسرائيلية... وقد أشار إلى هذا السعي في الجزء الثاني، من خلال تغييب الدير وراهباته، عن المسرح المكاني للحدث الروائي، إلا في ما ندر.. ومن خلال الربط بين هذين التغييبين للعرب، على المستويين الواقعي والروائي/الرمزي، أراد المؤلف أن ينفذ إلى تأكيد الحقيقة التي تقول: إن الهوية العربية لفلسطين وأهلها، لن تعود إلى الظهور مجدداً، إلا بزوال الاحتلال الصهيوني، لأن وجود أي من هذين الضدين ينفي وجود الآخر حتماً، وهذا ما أشارت إليه الرواية في نهايتها، عبر التلميح الذي يوحي به قيام أهل الشماصنة بإعادة تثبيت الجسر، وهو عمل يشير بدوره إلى أن سكان القرية قد أعادوا كل شيء فيها إلى ما كان عليه، فور زوال كابوس يعقوب وبناته. لنتابع معاً ما ورد في التذييل الأخير من الرواية:
(بدا كل شيء مثل الحلم، أو الكابوس الطويل. حلم له متعته ومخاوفه. حلم مثل المنجم فيه الثمين والبخس أيضاً، منجم واكتشف تماماً، لم يبق منه سوى الحجارة السوداء، والمقبرة، وآثار الخطى التي مشت تلك الدروب.. منجم لم يصرف أهالي الشماصنة عن مواصلة الحياة قرب النهر، وفي السهول، والأودية، مع الماشية، والأرض، والطواحين، ومعاصر الزيت، وكأن ما حدث لم يكن مقلقاً، أو لكأنه لم يحدث أصلا!!)( ).
وثمة تفسير ثان، يمكن إيجازه بالقول: إن المشروع الصهيوني، وإن نجح منفذوه في احتلال أجزاء من الأرض العربية، فقد ظلوا عاجزين، وسيبقون، عن احتلال أجزاء مماثلة من النفسية العربية ومن الوجدان والنقاء العربيين، ممثلَين براهبات الدير.. وبالتالي، فمهما طالت حياة هذا المشروع، في هذا المكان، فإنه لابد آيِلٌ، في النهاية، إلى زوال، لعجز مهندسيه ومنفذيه على حد سواء، عن تخريب اللب العربي النقي، وعن التواصل الحقيقي مع سكان المنطقة العرب الذين على الرغم من كل ما تطلقه إسرائيل من ادعاءات حول رغبتها في السلام معهم، تظل في نظرهم تجسيداً حياً للعدوان على أرضهم وثرواتهم ومستقبلهم… وهذا ما يرمز إليه انعدام لقاء يعقوب وبناته مع راهبات الدير، طيلة الرواية، وحصر العلاقة التي قامت بينه وبين سكان المنطقة في الإطارين الجنسي والمادي/الابتزازي فقط، لتظل مجرد علاقة عابرة أشبه ما تكون بالطفح على جلد التاريخ الحضاري والروحي للمنطقة....
وبعد، فإذا كان ثمة ما يوهم بوجود أي مقارنة بين المسيحية واليهودية، في الرواية، فإن هذا التوهم قد يتشكل، أحياناً، على أرضية المشاهد الجنسية التي تزخر بها الرواية.. أي أن المقارنة لا تنعقد بين دينين، بل بين سلوكين متناقضين، في الإطار الديني؛ أي بين تعاملين متناقضين مع الدين، الأول صادق وحقيقي، على الرغم من كل ما يكلفه من مجاهدة باهظة لشهوات النفس، والثاني ذرائعي لا يكلف صاحبه سوى اختراع المزيد من الأكاذيب وامتلاك القدرة على الخداع، في حين لا يفرض عليه أي مجاهدة لشهوات نفسه.. وهذا ما نستشفه بوضوح، عبر ملاحظة ندم الراهبات على مقاربة الخطيئة أو مجرد التفكير فيها، مصحوبا باستغفار حارٍّ للرب، ثم تتبع النقيض السلوكي عبر ممارسة بنات يعقوب للخطيئة كمهنة، لا تثير في النفس أدنى حرج أو تعذيب ضمير... ولأنهما سلوكان متناقضان، فصل المؤلف بينهما، كما فصل بين ممارسيهما، في الرواية... وهنا، قد لا يكون ثمة مفر من السؤال: هل كانت الرواية بحاجة فعلا إلى كل تلك المشاهد الجنسية المفصلة، لتقول ما أراد لها المؤلف أن تقوله، أكان المضمون سيصل إلينا ناقصاً، أو على غير ما أراد له المؤلف أن يصل، لو حذف بعض تلك المشاهد أو لطف من صراحتها الفجة؟

[/align]
انتهى الكتاب

محمد الصالح الجزائري 07 / 03 / 2014 41 : 01 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
ملفّ أخذ منّي أكثر من ساعتين من المتعة ولم أستفق..ربّما لاهتمامي بكل ما هو نقد..شكرا جزيلا لك رائعتنا الأستاذة الأديبة هدى على عرضك هذا الملف..

د. رجاء بنحيدا 06 / 10 / 2015 19 : 12 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
وأنا أقرأ هذا الكتاب القيم -لأديبنا الكبير الناقد محمد توفيق الصواف- الذي يدخل في إطار ميتا نقد (( نقد النقد )) كما أشار إلى ذلك أديبنا الموسوعي طلعت سقيرق .. استوقفتني التساؤلات التالية :
،فهل على هذا المتلقي ألا يُبديَ رأيه إلا وفق أسسٍ ومناهجَ نقدية معينة ومُعتَرَفٍ بها؟
بتعبير آخر: هل من الضروري أن يكون نقد القارئ مدرسياً مقيداَ بمناهج النقد القديم أو الحديث أو بكليهما، وأن يكون زاخراً بالاقتباسات، مزيناً بالإحالات المرجعية وبفيض من المصطلحات التي تُصدِّع الرأس وتغمُّ القلب، أم يحق له أن يقول رأيه ببساطة، هكذا، وبتلقائية، (يعني على قدِّ ثقافته وفهمه)، وكفاه الله شرَّ مدارس النقد ومصطلحاته؟
أسئلة مشروعة وعميقة، تجرنا للحديث عن كيفية تعامل القارئ العادي مع النص المقروء ؟؟ بحكم أنها ذات قارئة تريد التوسع والتعميق في الخلفيات والمعايير والآليات .. تملك ما تقرأ ، وتملك أن تقرأ ما تشاء بالخلفيات والمقاصد والآليات التي تتخيرها تخيرا ..
إن التواصل بين النص الإبداعي والقراءة عملية لا ينظمها قانون مسبق ، أو تحركها مساطر محددة مقننة بقدر ما تحركها متعة القراءة ولذة التواصل التي تحدث عنها رولان بارت ..
ومن ثمَّ فهي عملية تحريرية للنص الأدبي وللقارئ أيضاً.
شكرًا للأديبة الفضلى هدى نور الدين الخطيب على إعادة هذا الموضوع القيم إلى الواج
هة .

محمد الصالح الجزائري 07 / 09 / 2016 23 : 05 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
[align=justify]..وبعد سنة تقريبا ها نحن نعيد القراءة ولمّا نشبعْ !! شكرا لك أختي الغالية الأستاذة الأديبة هدى نور الدين الخطيب على إعادة عرض هذا الكتاب لأخي الأكبر الدكتور الصواف..[/align]

د. رجاء بنحيدا 07 / 09 / 2016 16 : 06 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
شكرًا للأديبة هدى الخطيب على إعادة هذه اللؤلؤة النقدية الفائقة إلى الواجهة ..
كم نحتاج مثل هذه المواضيع القيمة ، وكم نحتاج .. التذكير !!

محمد توفيق الصواف 08 / 09 / 2016 56 : 11 PM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
[align=justify]بدايةً... أجدُ نفسي مديناً بالشكر العميق للأستاذة هدى الخطيب التي فاجأتني بهذه الهدية الجميلة المتمثلة بإعادة كتابي (القارئ ناقداً) إلى واجهة موضوعات الموقع من جديد..
كما أجدني مديناً بالشكر أيضاً لأخي الشاعر محمد الصالح الجزائري على ما علَّق به بعد نشر هذا الكتاب في المرة الأولى والآن، وكذلك الدكتورة رجاء بنحيدا التي أعتز بتقييمها كثيراً..
لكلِّ هؤلاء الأحبة والأعزاء كلُّ المودة والشكر العميق، ولروح أخي طلعت الرحمة وعذب الذكريات التي تحملني إلى تلك الفترة التي أعقبت صدور الكتاب عن دار المسبار التي كان يملكها، وكيف راح يُرَوِّجُ له في الأوساط الأدبية السورية والفلسطينية ويدافع عنه وعني.. فله كل الحب مني، ولروحه الرحمة من الله العلي القدير..
وبعد،.. بعد كل هذه السنين التي تلت صدور هذا الكتاب الجدلي الذي سعيت فيه وبقوة لتأسيس ما يُشبه نظرية نقدية، أو إحياء نظرية نقدية قديمة تحاول إعطاء القارئ العادي حقه في نقد ما يُنشَر من كتب على اختلاف أنواعها.. بعد كل تلك السنين، وكل الجدل الذي ثار، ربما أشعر الآن بشيء من الأسف على ما بدر مني من قسوة في هذا الكتاب.. ولذلك أستميح جميع من ذكرتُهم فيه العذر.. وإذا كنتُ أجد عذراً لنفسي بنفسي، فإنني أجده في رفضي المستمر لكل غث في الفن والأدب، وفي رغبتي بالارتقاء فيهما إلى أعلى وأرقى المستويات دائماً، وفي الانتصار للقارئ العادي المظلوم على مر العصور.. [/align]

خيري حمدان 10 / 09 / 2016 24 : 10 AM

رد: " القارئ ناقدا " للأديب أ : محمد توفيق الصواف
 
دراسة قيّمة وتقديم رائع يحتاجان لقراءة متأنية ولأكثر من مرّة. القارئ ناقدًا يفتح آفاق الأديب ليدرك أبعاد الكلمة والقراءة ما بين السطور.
شكرًا للأديب الأستاذ محمد توفيق الصوّاف. شكرًا لنور الأدب والرحمة والغفران لروح الأديب والصديق والأخ طلعت سقيرق. شكرًا للأديبة هدى نورالدين الخطيب للتذكير بأهمية هذه الدراسة والتي تبدو كحديقة من الريحان وسط حقول الشوك التي تحيط بنا من كلّ الأنحاء.


الساعة الآن 51 : 04 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية