![]() |
’’في شرفتها’’ للأديب أ : حسن حميد
[align=CENTER][table1="width:70%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/10.gif');"][cell="filter:;"][align=justify]
كثيرة هي أعمال القاص والروائي الأستاذ حسن حميد قصصيا وروائيا ... " في شرفتها " مجموعة قصصية صدرت في العام 2005 .. نقدمها لقراء نور الأدب واعدين أن نقدم مستقبلا رواية " جسر بنات يعقوب " الحاصلة على الكثير من الجوائز .. الرواية المذكورة صدرت حتى الآن في ثلاث طبعات لأديبنا حسن حميد .. [/align][/cell][/table1][/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
أوباش..! [align=justify] إذن، قبيل رحيل الشمس بقليل.. رأيتهم يعودون.. نساءً، ورجالاً، وأطفالاً. بدوا كما لو أنهم يعودون من غزوة خائبة. وجوههم مزرّقة، وعيونهم دامعة، محمرة، وخطاهم مندفعة إلى الأمام. جلت ببصري في الأنحاء المحيطة بي، فرأيت شجيرات قليلة من الحور متلاصقة، كأنها تخشى الظلمة الزاحفة فوق نسيج الضوء الفضي المطفأ. انزوت الشجيرات قرب السور الشمالي من المقبرة، وقد تركت أوراقها تتلامع ببطءٍ شديد. .. بدا كل شيء صامتاً، جامداً، لا حركة فيه. القبور، ماضية في هدوء لم أعرفه من قبل، يبدده، بين حين وآخر، نباح الكلاب، واصطفاق الأوراق المتطايرة من قبر إلى قبر، وصفير الريح أيضاً. كان آخر ما سمعته، والناس ينكصون إلى بيوتهم، صوت حفار القبور، هايل، الذي أعرفه جيداً، كان يتمتم: ــ »الناس، بلا خواص هذه الأيام! قال (100 ليرة) قال..«! واسمعه يضيف: ــ »يا لطيف، حفر يهدّ الحيل، وعرق مثل فرنكات الفضة.. وبعدها (100 ليرة) لا تحلّ ولا تربط«! كنت أعرف أن هايل يشتم أهلي، لذلك تمنيت لو كان بمقدوري أن أردّ عليه، أن أقول له.. إن ما دفعوه له جيد، وعليه أن يحمد ربّه، لكنه لو سمع كلامي لقال لي قولته المعروفة: ــ »ابن آدم ما عاد يموت إلا (بطلعان) الروح.. و(100) ليرة! واللقمة باتت ألعن من قلع الضرس«! أعرف هايل، وفرحه الشديد عندما يموت واحد منا. يهيئ نفسه والأدوات للعمل.. يظلُّ على قلقه حتى يأتي واحد من أهل الميت ويخبره بما حدث، عندئذٍ.. يقصد بيت الميت، (يأخذ بالخاطر)، يتلعثم بكلمتين، ثم يقصد المقبرة، ويشرع بالحفر. ساعة، وينتهي من القبر، ليجلس بعد ذلك منتظراً من سيدفع له، ومن النادر أن يعود إلى زوجته وأولاده راضياً بما أخذ. فالتذمر، والتأفف، وسوء المزاج من طباعه! في هذه المرة، كان هايل هو آخر الخارجين من المقبرة. تعقبته بنظري حتى غاب، ومن ورائه صرّت بوابة المقبرة صريراً باهتاً معلنة انتهاء كل شيء! لحظات، واسوّدت الدنيا في عينيَّ. تماهت القبور من حولي. غابت أشجار الحور. تلاشى التماع أوراقها. وظلَّت أصوات الكلاب، والأوراق المتطايرة، والرياح المتدافعة.. تسمع بين حين وآخر. وهمدتُ منتظراً ما سيحدث! »لقد قال الحاج عبد الله، في أثناء دفني، كلاماً كثيراً، لم أحفظ منه إلا قوله: »سينزل عليك ملكان.. يسألانك« عن أي شيء؟ لست أدري! فقد عجزت عن التقاط كلمات الحاج كلها، لأنني كنت مشغولاً بالنظر إلى وجه أمي، وهيئات أصحابي، وأولاد حارتي.. الذابلة. كانوا جميعاً حزانى، بل إن حال أمي كانت موجعة تماماً، فأنا، رغم ابتعادها عن قبري، أراها، وأسمع صوت نشيجها، إنها تدمدم: ــ »الله ينوّرها عليك، يا عطية، دنيا وآخرة«. وتضيف بحرقة: ــ »رحت! من لي سواك«؟! [ فعلاً، ستبقى المسكينة وحيدة، بعدما رحل والدي منذ سنوات، ولم يعد لديها الآن سوى فاطمة وياسين الصغيرين ]. وتدمع عيناها، وتتمايل النسوة نحوها.. يطيّبن خاطرها! وتدمع عيناي، وأظلُّ وحيداً. أسمع أصدقائي الملتفين حولي، يقولون في أحاديث متداخلة: ــ »الله يرحمه، كان زهرتنا«. كما أسمع كلاماً حلواً من نساء الحارة ورجالها، ومن البقال أبي وحيد، ومن صاحب »المسمكة« عمار أفندي، الذي كنت أعمل عنده. أسمعه يقول لمن حوله: ــ »كان رجلاً عن عشرة رجال«. كانت الأحاديث تدور حولي، وأنا أترصد الوجوه المتعبة وأتألم. بدوت حزيناً لأنني لم أتطاول وأقول كلمة طيبة بحقي، وبحقهم! كان المشهد حفنة من الدموع، والأحاديث الحزينة والنواح الطويل، والذكريات البعيدة المزعجة. الآن، مضوا جميعاً. لفّوا دموعهم وأحاديثهم.. وآبوا. حتى أمي التي كنت أظنها ستبقى قربي قليلاً لتشدّ أزري أمام الملكين (اللذين ذكرهما الحاج عبد الله).. إلا أنها لم تبقَ! بل لم تلتفت نحوي مرة واحدة.. وهي تؤوب! صحيح أنها تعثرت بأذيال ثوبها الطويل مرات، وكادت تسقط.. لكنها لم تلتفت نحوي؛ بل ما أحزنني أن خطواتها كانت سريعة ومندفعة إلى الأمام كي تخرج من المقبرة! مضوا.. وظللتُ وحيداً، وسط هذا الظلام! بغتةً، غادرت موتي.. عندما بدأ جسدي يتحرك. استنفرت أطرافي.. فتأهبتْ! وتكوّرتُ في مرقدي بعدما عجزت عن رفع التراب الكثير الذي وضعه أهلي فوقي. [ آه.. يا ليتهم وضعوا طبقاً من القش فوقي ورحلوا.. لكنت، الآن، رفعته.. وخرجت ]. وظللتُ طيَّ حيرتي وقتاً من الزمن. فجأة، سمعت صوتاً خفيضاً يأمرني بالخروج. بدا الصوت حاداً، مرعباً في آنٍ واحد. قلت: ــ »التراب«! قال: ــ »اخرج«! فمددت يدي بحياء نحو التراب، فما وجدته! كانت العتمة سقف مرقدي. دعوت الجسد للنهوض، فنهض، ومضيت ركضاً نحو أهلي. لم أعد أدري كم مضى عليَّ من وقت وأنا أركض! بل لم يكن ذلك.. يهمني، وقد خرجتُ! طوّفت بالبيوت جميعاً. دخلت بيتنا أولاً، فوجدت أمي تراقص طفلة جميلة (غير فاطمة).. تغني لها، وتمازح رجلاً غريباً (لا أعرفه) يستند إلى فخذها العاري.. وهي في غاية الانشراح: [ يا إلهي، كانت، منذ قليل فقط، تقول من لي سواه]! اقتربت منها. سلمت عليها بدفء.. فما ردّتْ. فاغتممتُ. ناديتها، وصرخت بها أنني عدت، فما استجابت.. لا هي، ولا رجلها، ولا الطفلة الصغيرة.. وانكسرتُ! انكسرت روحي على وجه التحديد. حاولت كثيراً أن ألفت انتباهها، قبل أن أهزّها، فما انتبهت. وحين هززتُها.. وجدتها قطعة من اللحم اليابس! تماماً كما لو أنها تمثال من الشمع الجميل، وحزنت، وضاقت الدنيا عليَّ، واستشعرت بموجة برد بدأت تدخل إلى أعماقي.. لذلك طويت قامتي قربها، وبكيت أمامها طويلاً، ثم انتحبت.. وأنا ألمس وجهها ويديها.. لكن دون جدوى. حزنت لتيبس أمي، والرجل، والطفلة.. ثم بعد حين من البهوت والأسى.. قمتُ! .. مررتُ ببيوت أصحابي كلّهم، فوجدت كلاً منهم زهرة، بعد أن كنتُ زهرتهم. حدثتهم.. فما حدثوني. وسألتهم، فما أجابوا! لقد كانوا تماثيل أيضاً. جفّت روحي.. وغصصت. تمتمت لهم، وأنا أغادرهم: ــ »حتى أنتم..«! هرولت بجسدي نحو الأشجار، وأجمات الورد، ومشاتل النعناع والحبق، وملاعب طفولتي. تلمستها.. فكانت يباساً. لمستُ خوابي الزيتون والزيت والسمن والمقدوس والقريشة.. كلّها.. كانت خاوية، لا حياة فيها! حزني تثاقل عليَّ.. فارتميت على الأرض. جاء رأسي تحت جسدي، فتوجعت، وصرخت! لكن ما لبثت أن نهضت. سرتُ عائداً إلى المقبرة فوق خطا لا بريق لها ولا رجاء. .. وعندما وصلت باب المقبرة، وجدتُ خلقاً كثيرين، يصطفون أمام بابها بنظام صارم، والهدوء يلفّهم، وأمامهم العجوز بدران، حارس المقبرة، وقد شرع يخطب بهم. سمعته يقول لهم: ــ »يا مجانين، استحوا! فما بالكم لا تفهمون أن الحياة حياة، والموت موت. تخرجون كل ليلة، وفي خطاكم آمال كثيرة. ثم تعودون بالبكاء والنواح. ادخلوها (وأشار إلى المقبرة) لعنة الله عليكم«. .. وندخلها واحداً واحداً، وبدران يعدنا، وهو يسألنا سؤاله الاعتيادي المتكرر كلّ ليلة: ــ »لماذا خرجتم«؟! ونقول له أجوبة مختلفة. فمنا من هو شهيد، خرج ليسأل عن الذين مشوا في دربه، وهل استيقظت البلاد من نومتها أم لاتزال غافية، وإذا ما استيقظت.. هل غسلت وجهها أم لا؟ ومنهم.. من يسأل عن شؤون الزراعة والصناعة والسياسة، ومنا من يسأل عن أولاده هل تركتهم الأمهات طلباً للمتعة أم أنهن باقيات على العهد. وهكذا.. أسئلة مرة وأجوبة كاوية.. حتى ينتهي بدران منا وننتهي منه. هذه الليلة، وبسبب حزني كنت الأخير بين جماعتي. أجرُّ خطاي جرّاً إلى مرقدي. وعند باب المقبرة. سألني العجوز: ــ »بماذا عدت«؟! فقلت: ــ »بالحزن يا عم بدران..«! فتأسّف، وتذمر، وشيّعني بقوله: ــ »أوباش! لا فائدة.. حزنكم أنبت شوك المقبرة. وشوك المقبرة أكل أقدامكم ولحومكم.. فبتُّم بشراً من عظام.. ولا تتعظون«! وأسمعه يضيف: ــ »أقول لكم: انفضوا أيديكم من أحيائكم وناموا بهدوء.. فلا تسمعون! أوباااااش«! ضجةٌ قليلة نمتْ في المقبرة، وبعدها لا شيء. وفي داخل مرقدي قلت لنفسي: لا أدري من منا المجنون؟ بدران أم نحن. أهلنا يقولون: بدران، من يومه يومه، مجنون. ونحن، في كلّ مساء وحالما نعود إليه، نقول عنه مجنون، الله يصبره. أما هو فما في فمه سوى قوله: مجانين وأوباش. و.. رويداً رويداً، سرقني الخدر.. فغفوت! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
أحوال..! [align=justify] كانا واقفين قرب النافذة الصغيرة، يأكلان ما تبقى من طعامها، وهما يهمهمان ويتحاوران في محل لبيع السندويش.. حينما دخل ذلك الشاب الطويل المبتسم، وبادرهما بالسلام بصوتٍ طليق رنان. كانا وحيدين في المحل، يتبادلان الهموم والشكوى. كان الأول يتحدث بألمٍ عن ديونه الكثيرة، وعن أولاده الذين صاروا سجنه بعدما أوقف شبابه وعافيته من أجلهم، وأنه يعمل ليل نهار كي لا يسمع كلام زوجته البارد التي لم تقتنع بأن الدنيا حظوظ وسلالم. وكان الثاني يشكو له مرض أمه المزمن الذي منعه من الزواج، والولد، وكيف أن حال أمه المتعبة أطفأت شهوته نحو الحياة، والنساء، والرغبات البعيدة والقريبة معا!! حين دخل الشاب الطويل الممصوص بثيابه المبقعة بنقاط الدهان الكبيرة والصغيرة، انقطع حديثهما، وطارت الهدأة، فالتفتا إليه، واستغربا لهفته على الحياة، وإقباله عليها، وهو بلا عافية، ولا رونق؛ وجهه متعب، ونعله بالٍ، وابتسامته بلا ضفاف. رجلٌ بلا صدر، ناحل مثل عود القصب، يتقاوى، ليحمل بإحدى يديه الرفيعتين دلوه الرمادي المملوء إلى منتصفه بعنب أسود اللون. مال الأول على صديقه، وسأله: ــ »ما الذي يجعل هذا الفتى سعيداً كلّ هذه السعادة«؟! فيقول الثاني: ــ »لم يعرف الدنيا بعد«! وصمتا معاً. والشاب الطويل ذو الشارب الأسود الناعم يدندن لحناً شائعاً منتظراً البائع العجوز أن يفرغ من لفّ عشر سندويشات كبيرة متشابهات في كل شيء. فجأة، انكمشت حركة الشاب. غابت ابتسامته، وانطفأت دندناته الضاجّة حين أحسَّ بأن واحداً من الرجلين راح يتقصده بنظراتٍ خاطفة ذات معنى، نظرات سائلة مقلقة. والبائع العجوز الراعش الشفتين ناشط في توزيع الطعام على الأرغفة المبسوطة أمامه. ونحلة صغيرة ذهبية اللون تحوّم فوق فتحات زجاجات الكازوز الفارغة. أوجس الشاب الطويل ذو الكفين المجرَّحين في نفسه خيفة من نظرات الرجل الصارمة، فراح يتشاغل عنه بالنظر إلى يدي البائع العجوز الأفطس الأنف تارةً، وإلى تلك الفتاة الطويلة ذات الشعر الأشقر المعقوص بشريطة مشمشية اللون، الواقفة على الطرف الآخر من الشارع العام أمام محل الحلويات منتظرة دورها في الشراء، وقد أصبحت محطّ أنظار الآخرين بملابسها القصيرة، وصدرها المفتوح، وجمالها الأخّاذ. بدا الشاب والرجل في حالة من التوتر، والترقب، والمشاهدة الحريصة، والتربص مثل قطين متوفزين. كانت نظرات الرجل القاسية تكاد تستنطق الشاب الذي انطوى على نفسه، وبالكاد صار يناوشه النظرات القصيرة العجلى. وكان الشاب الطويل الحائر لا يدري لماذا يتقصده الرجل الضخم بنظراته العبوسة السائلة، ولماذا يقابله بهذا الوجه المسيّج بالغضب. وهمَّ أن يسأله، لكن ودون توقع منه، تمتم الرجل بنبرة مقتضبة جافة: ــ »أأنتَ من قال السلام عليكم«؟! فأومأ الشاب له بهزّة الموافقة من رأسه، وقد ازرق وجهه وشحب. وتمنى لو أن الحظ أسعفه فشرح للرجل المتجهم أنه هو من سلم محبةً به وبرفيقه، وأنه لم يغلط قط. وودَّ لو أسعفه الحظ أيضاً أو لو أن الجرأة واتته ليسأله إن كان قد اقترف خطيئة أو ذنباً. غير أنه لم يقل شيئاً، وانتظر قلقاً ما سيقوله الرجل الذي أخذ منه موقفاً عدائياً دون أن يدري لماذا!! غير أن الرجل لم يقل كلمة واحدة. وكلّ ما فعله أنه أنهى طعامه، ومسح فمه وأصابعه بورقة بيضاء شفافة، واصطحب صديقه، وخرج من المحل الصغير الضيق، تاركاً الشاب الطويل المندهش مبلولاً بأسئلته المتعددة، وتأويلاته المختلفة، وحيرته الضافية!! [/align] * * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
اللوحة..!! [ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/10.gif');border:4px ridge green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify] ما كان يخطر ببالي أبداً أن يحدث ما حدث!! كان الأمر أشبه بأن يأتي إليك البحر بكل حورياته وأصدافه، وعذوبته الرائعة، أو لكأن تعرّش بين يديك غابة من الخيزران الطري، أو أن تحطّ داخل غرف الروح أسراب من طيور السنونو النافرة. لقد جاءت!! شقّت عتمة غرفتي مثل طيف من دخان الفضة الخفيف ودخلت، تخطو حذرة كي لا تخرّب نسيج الهواء. أراها فزعة تجيل النظر في ما حولها، ترى الأشياء، وتراني ملتفاً بلحافي الحائل اللون، تقترب مني، فأحسُّ بضجيج روحي يتعالى. أرتبك في مرقدي، وأودّ لو كان بمقدوري أن أهبَّ لتحيتها؛ أو أن أحظى مواقفةً بهذا القبول النبيل. أراها تحاذيني، تطمئن إلى نومي، تقترب أكثر، تنحني عليَّ كياسمينة، ما أجملها!! تنحني أكثر، يا لانحناءاتها الخجول. أحكم إغلاق عينيَّ كي لا تضبط يقظتي. أحسُّ بطراوة كفّها تفترش خدي، تلمّس على شعر لحيتي، فأشعر بحرارة وجهي تشويني. تسحب يدها برفق فوق أنفي وعينيَّ وجبهتي، تخلخل شعري الطويل بأصابعها، أسمعها تتنهد بتوجع حميم وتشمّني، وأحسُّ بأنفاسها تتلاهث مضطربة محمومة قرب أنفي. تقبلني فأشهق، وتجفل هي مبعدة لفحة أنفاسها الحرّى. أختلس النظر إليها، أراها تلملم انحناءاتها، وتسترد طولها، وتستدير. تصير غرفتي كلُّها حفيف ثوبها اللجوج، ووقع خطاها الآيبة. وبيدها تغلق الباب عليَّ كما تغلق فلاحة حجريْ الرحى على حبِّها المنقوع. أستوي في مفرشي، أدعك وجهي براحة يدي، وأهزّ رأسي وأنا لا أصدق ما حدث!! أهي تلك التي تأتي إليَّ في مكاني الوضيع هذا؟! يا إلهي!! أما كان لها أن تخبرني لأتهيأ؟! حيرة تأخذني وتدور بي، فأنهض إلى النافذة، أطلق البصر إلى دربها المؤدي إلى بيتها العالي، فأراها تنقّل الخطا مثل طير الدرج فوق درج الرّخام وقد شمرت ثوبها الطويل بأطراف أصابعها، فبانت فضتها مثل بطون الحمام. تدفع الباب برفق وتدخل، وبعدها ينعتم المكان، وتنطفئ الرؤية، فلا أحسُّ إلا بكفي تموج فوق وجهي لتبدد حمّى قبلتها الكاوية. وأعود إلى مفرشي، أنطوي على نفسي محترقاً بالأسئلة الدائرة!! * * * كنت قد رأيتها، للمرة الأولى، قرب طرف حديقتها الواسعة، وهي في شرفة بيتها العالي. كانت تطلُّ عليَّ، بعدما ركنتُ دراجتي جانباً، وأخرجت بريدها، ثلاث رسائل وعدة صحف ومجلات. رأتني وأنا أهمُّ بوضعها في صندوق بريدها الخشبي في أول المدخل، فأومأت إليَّ أن أصعد إليها. ترددت للحظات فقط، ثم مضيت. صعدت درجات سلّمها الرخامي العريض دون أن أفكر بها كثيراً. قلت: ربما كافأتني بقطعة شوكولا أو ورقة نقدية، أو ربما سأعود من عندها بكلمة شكر باردة. في صعودي، رأيت مظاهر النعمة موزّعة هنا وهناك؛ رأيتُ النباتات المدهشة قرب حواف الدرج، واللوحات العريضة والمرايا المعلقة على الحيطان. رأيت الأبواب والنوافذ المغلقة، والسقوف العالية، ورأيتها هي تجالس طاولتها ذات الغطاء المخملي البرّاق. ولم تقف حين صرت في شرفتها، ولم أسمع صوتها، بل سمعت موسيقاها الخافتة، ورأيتها تعيد إيماءتها لي لكي أدنو، فتقدمت منها. كانت تسيّج وجهي بنظراتها النافذة. واقتربتُ، فبدا لي ثوبها النيلي الشفيف واسعاً كشراع، وطويلاً كجذور دالية. كانت تدخن، وأمامها كتاب صغير سميك مشقوق على قلم رصاص، وقربه كأس ماء كبيرة، وصينية عليها ركوة قهوة وفنجان واسع أبيض اللون، وخلفها لوحة رسم غير مكتملة مثبتة على حامل. ورأيت يدها معلّقة على إيماءتها، ونظرها مشدوداً إليّ، ولم أنتظر أكثر، فدفعت الرسائل والصحف والمجلات نحوها، فأخذتها بأطراف أصابعها، وأسبلت عليها أجفانها، وراحت تقرأ عناوينها ببطء شديد، كأنها نسيتني. وظللتُ على وقوفي لا أدري ماذا أفعل! كنت أملّي النظر من كلّ هذا الجمال المربك، امرأة كأنها صورة هاربة لتوها من إحدى لوحات حيطانها العالية؛ امرأة مثل ضحوة النهار وأبهى، ولم تقل شيئاً. لم تشكرني. رمت الرسائل فوق المجلات ونظرت إليَّ ثانية وابتسمت، وهزّت رأسها، فابتسمت لها واستدرتُ هابطاً كالمطرود. لم أرَ الدرج الذي كان منذ لحظات فقط عجينة من الضباب، ولم أنتبه لزخارف النوافذ والأبواب، ولا لجمال قناديل الإضاءة، ولا لروعة النباتات وخضرتها اللامعة، واندفعت نحو دراجتي حالفاً الأيمان أن لا أصعد إليها في يوم من الأيام. ضبطت أحزمة الدراجة وعلوتها، وهممت بالرحيل لولا صوتها الذي شلَّ حركتي مرة ثانية؛ رفعت بصري إليها فلم أرَ سوى إيماءتها الساحرة التي أعادتني إليها قسراً، صعدت وفي رأسي ورشة من الأسئلة. وهناك، في شرفتها، واقفتني فبدا طولها الريان ممتلئاً مثل حبة الكستناء، وسألتني، فدوّى رنين الكلام. أجبتها عن كل أسئلتها كالمنوّم دون أن أعرف لماذا. وبعد لحظات صمت تهدّج صوتها، وراحت تبكي وتتنهد، وأسقط في يدي. لفّتني الحيرة، وأخذني المشهد، فلم أدر ماذا أفعل. لكن نحيبها الذي علا جعلني أقترب منها لأواسيها، فهمهمتُ وغمغمت، غير أنها ظلّت تبكي وتنتفض. بدت مصبوغة بألوانها مثل مرود في مكحلة، فتجرأت واقتربت منها حتى حففت بها، ففاجأتني أنها أمالت عنقها نحوي، فأخذتها إلى صدري، وأجلستني قربها، ورويداً رويداً راحت تمحو البكاء بحديثها المتقطع الحزين. حدّثتني، كأنها تعرفني منذ زمن بعيد، عن وحدتها القاتلة بعدما مات أخوها في البحر منذ سنين، فورثت ما ورث، وظلّت تقول هذا لا، وذاك لا.. حتى بقيت هكذا لا زوج لها ولا حبيب؛ تبدد الوقت الطويل بالقراءة والرسم والسفر، تضيق الدنيا عليها حتى لتغدو بلا ناس، فتصير قهوتها بلا مذاق، وصباحاتها بلا بهجة، وتغرق في وحدتها الظالمة. كانت ذاهبة في الحديث المرّ كأنها تودّ أن تقول كلَّ شيء دفعة واحدة، وقد انهالت عليها المواجع والذكريات، فأواري نظري عنها، وأتشاغل بالهمهمة والتلفت هنا وهناك. رأيت دمعها الركوض يزيد وجهها الناحل جمالاً. فأتجرأ وأمدّ يدي لأطفئ دموعها بأصابعي الراجفة، فتجفل كأنني كشفتها!! وبلحظة واحدة ينتهي كل شيء، يشرق وجهها ويشفُّ، وترامقني وهي تبتسم، وتسألني مرة أخرى، ترجوني أن أحدثها عني، أين أعيش، وكيف؟! فأرجوها أن تعذرني فقد تأخرتُ، وأن تنتبه لنفسها هي فقط بعدما أقلقتني، لكنها تلحّ عليَّ، فأحدثها بكلام برقي عن قريتي الفاخورة التي تركتها منذ سنتين بعد موت أمي وزواج أبي، ومجيئي إلى المدينة لأدرس في الجامعة. وأخبرها، تحت إلحاحها أيضاً، أنني في أيامي الأولى عملت في المطاعم والفنادق، وأعمال البلدية ليلاً، وأنني أسكن وحيداً في الطرف البعيد من المدينة؛ في غرفة كالجحر!! كانت تصغي إليَّ بانتباه شديد، وقد تورّد وجهها، وتلامعت عيناها، وفجأة سألتني ماذا أدرس؟! فقلت: التاريخ!! وهزّت رأسها وصمتت، لماذا؟! لا أدري!! وكي أبدد الصمت شكوت لها قسوة المدينة، وقلة المال وأولاد الحلال، ولا أدري ماذا قلت أيضاً. كانت تستمع بشغف وأنا أحكي، ودونما إمهال باغتتني: ــ »أتعمل عندي«؟! فلم أجب، وقد فاجأتني، وأنا لا أعرفها إلا منذ لحظات فقط!! بدوت أمامها أشبه بمن أخطأه عيار ناري. وطال سكوتي، وهي ترنو إليَّ، فأربكتني. وجمجمت من دون كلام، وتاهت نظراتي، فأنجدتني بقولها: ــ »فكر، وتعال«!! * * * ولم يطل الوقت! قد استجبتُ لطلبها. جئت إليها بعد عشرة أيام. أنهيتُ عملي في البريد، وأخذت راتبي وجئت. قالت لي: ــ »تأخرت«!! قلت: ــ »لكنني جئت«!! فهزّت رأسها بالموافقة. فأدركت أنها كانت تنتظر عودتي. أعطتني غرفة وسيعة في طرف حديقتها بعيداً عن عمارتها. نقلت إليها ثيابي وكتبي، ومنحتني راتباً أرضاني، وأعدّت لي قائمة بأعمالي. لم أكن أكثر من مدبر لشؤون البيت والحديقة. وعاملتني بحنان ولطف. فبدأت أشعر أن الحياة راقت لي بعد أن عذّبتني طويلاً، وأن عكر المدينة ابتعد عني ونأى، وقد حزت على إعجاب السيدة. لقد ضبطتها مرات عديدة وهي تتأملني وتبتسم، وأنا بثيابي الرثة، وشعري الطويل، ولحيتي الكثة. كما ضبطتني هي وأنا أديم النظر إليها كالمشدوه. وبتُّ مع الأيام أرى كما لو أن خيطاً من الودّ يشدني إليها ويشدّها إليَّ. كانت تهمُّ، وفي مرات عديدة أن تحدثني كلما سمعتني أثني على ثيابها وموسيقاها ورسومها المدهشة، لكنها، وفي اللحظة الأخيرة، تلجم نفسها بقسوة بادية وكأنها لم تسمع شيئاً!! حين أخلو لنفسي أتخيلها، وقد جاءت إليَّ مفاتحة بأنها تريد الارتباط بي، أو أنها ما عادت تطيق صبراً، وهي تراني أمامها مثل الفاكهة المحرّمة، وأمضي في خيالاتي التي أبددها جميعاً حين أقارن نفسي بها، فهي فوق، وأنا تحت، وكي لا يؤرقني التفكير بها كثيراً أطوي طيفها بين ذراعي وأنام. في النهار، لا تبدي لي سوى نظراتها الحائمة، ولا تسمعني سوى بحة صوتها التي تجرحني، ومع كل صباح أطوي زمناً وأنشر آخر لعلّ ما يشغل البال يدنو مع اقتراب المساء. أتمنى لو أن القدر يسوقها إلى غرفتي مرة أخرى لأشمَّ أنفاسها، وأرى خطوها يجول قرب مفرشي؛ وأحسُّ بحرارة كفها مرة ثانية؛ لحظتئذٍ، لن أغمض عينيّ، ولن أوقف ضجيج القلب، ولن أتناوم. سأقف وأصارحها بأنها أغلقت عليَّ حياتي، وإن ابتسمت راضية، سأضمّها إلى قلبي، وأطوي أحزان الليالي الماضية، لكنها لا تأتي!! ومع مضي الأيام، رحت أشك بأنها جاءت إليَّ أصلاً، وأن ما حدث لم يكن سوى حلم ليس إلا. وبتُّ أعزو انصرافها عني لسوء مظهري، وإلا لماذا تدقق النظر إليَّ وأنا أعمل داخل بيتها، وفي الحديقة. كنت أراها وهي ترامقني وتبتسم. معها حق، فأنا على الدوام أشعث الشعر، مبلول الثياب، لا رونق لي ولا زينة. لذلك نويت أن أغيّر من سلوكي فرحتُ أقف أمام المرآة طويلاً بعدما اقتنعت بأنني بحاجة إلى قيافة تشدُّ انتباهها إليَّ. فاشتريت ثياباً جديدة وحذاءً لامعاً، وصممت أن أقصَّ شعري الطويل، وأن أحلق لحيتي لتبدو وسامتي، وأن أخرج من هذه الفوضى واللامبالاة في هندامي وقيافتي، ورحتُ أتحين الفرصة لمفاجأتها بعدما قرنتها بقولها إنها ستخبرني بأمر هام وخاص حالما تنتهي من لوحتها الجديدة. تفرغت لغرفتي ساعات ورتّبتها، وهي تراني من شرفتها وتبتسم. شعرت كأن السعادة تدنو، وما عاد بيني وبينها سوى خط واحد أو خطين في لوحتها الأخيرة. ولم يبق عليَّ سوى أن أبدو أمامها بمظهري الجديد لكي أستميل قلبها تماماً!! كنتُ، وفي كلِّ مساء، أتوقع مجيئها، فأقوم بإعادة ترتيب الغرفة وتنظيفها. أرشّها بماء الكولونيا، وأوقد الشموع فوق الطاولة الصغيرة، وأوزّع الكتب حسب حجومها، وأخفي ثيابي المعلقة تحت طرف ستارة الشباك، وأضع زهرتين من ورود الحديقة في كأس الماء الكبيرة. كنتُ أراها وسط الأضواء الخافتة في شرفتها وهي تراقبني وترسم، تدنو من اللوحة وتبتعد عنها مثل طيور البحر وقت المغيب. وأظلّ أراقبها، وتظلُّ هي تحاور لوحتها وتراقبني أيضاً. فلا أنام إلا وقد هدّني الانتظار الطويل!! * * * هذا المساء، انتهت من اللوحة ووقّعتها!! جلستْ قبالتها تحدق فيها طويلاً. كنتُ قد واقفت اللوحة من قبل، مرات عديدة، وفي غفلة منها، فلا أتركها إلا وأنا على قناعة بأنها منتهية تماماً، هنا أشجار وناس، وبيوت متآخية، وهناك وجهان لامرأة ورجل، المرأة جميلة جداً، والرجل طويل متعب، أشعث الشعر، وأحدهما يودّ لو يذوب في الآخر أو ينتهي فيه!! إنني أراها، ها هي توزّع بصرها على اللوحة وعليَّ!! وتمضي في صمتها وتدخينها المتواصل، وأنا أحدق فيها، أكاد لا أرى سواها؛ أصير عيناً واحدة راقبة لكل حركاتها؛ أراها كأنها أومأت إليَّ بأن أصعد إليها، إيماءة ذكرتني بسحر إيماءتها الأولى. أشكّ في ذلك للحظات فقط، لكنني أراها الآن تومي لي ثانيةً؛ بل إن صوتها يملأ سمعي منادياً لكي أصعد إليها. أجل إنها تناديني!! رجفة تأخذني فتهزّني، وقد تاقت الروح إلى لحظة اللقاء. أنفر إلى ثيابي الجديدة، ألبسها، وألبس حذائي اللامع، وأمشط شعري الذي قصصته في غفلة منها، وأحلق لحيتي، وأغسل يديَّ ووجهي مرات عدة. أرى بياض خديَّ، فتبتهج روحي بهذا المرأى الجميل. وقبل أن أخرج، ألقي نظرة فاحصة على محتويات غرفتي، أطمئن إلى ترتيبها ورائحتها، ثم أمضي إليها. من بعيد، كان يبدو لي ظهرها الأجمل من اللوحة، وشعرها الطويل الأسود الذي يلفُّ عنقها. أصعد الدرج بخفة لم أعهدها فيَّ من قبل. كنت سعيداً بمفاجأتي التي أعددتها لها. لابدّ أنها ستفرح كثيراً بهيئتي الجديدة، وستعترف لي بأننا نحن أولاد القرى حين نتقيف يعني نتقيف. أعبر إلى الشرفة، فتتلقاني رائحتها. يا إلهي ما أطيبها. أراها لاتزال مستغرقة في صمتها، مأخوذة بألوانها. أصل إلى مقربة من الطاولة التي وزّعت عليها الفراشي والألوان، فلا تشعر بي. كان السكون مطبقاً حتى أنه بدا لي جزءاً من نسيج اللوحة. أتجرأ وأزحزح الطاولة قليلاً، فتنتبه، تلتفتُّ إليَّ، تراني على عجل، ثم تستدير نحوي بكامل جسدها، تدهشها قيافتي بلا شك. تفتح عينيها على وسعهما كالمذعورة، فأبتسم لها، وأخطو نحوها وأنا ممتلئ بالثقة، لكنني أراها تغطي وجهها بكفيها وتصرخ بي بوحشية كأنها رأت عفريتاً. يبدو أن مفاجأتي لها كبيرة حقاً لذلك لم يكن أمامي إلا أن أقترب منها، وقد علا صراخها واتسع. لمست يديها بتهيّب لكي أرفعها عن وجهها، فصرخت بي ثانيةً وانتفض جسدها وارتعش، فوقفت حائراً مذهولاً لا أدري ماذا أفعل!! وحين أرخت يديها رأيت الألوان تصبغ وجهها، فبدت، رغم انفعالها وصخبها، أجمل وأحلى. وعاد صراخها الوحشي يتعالى بشدة لكي أخرج، لكنني ظللتُ على تسمري بعدما لفّتني لحظات من البلاهة، وازداد صراخها، فبدت كما لو أنها امرأة أخرى لا أعرفها أبداً. فجأة، نهضتْ واندفعت نحوي كذئب جريح، أخذتني من صدري وهزتني بعنف، وراحت تسألني كطفلة ساذجة عن ثيابي القديمة، وشعر رأسي الطويل، ولحيتي الكثة. كانت في حالة من الهستيريا الواضحة وهي تبحث عن شكلي القديم في شكلي الجديد، فقد تأكدت من ذ لك لأنها كانت تردد مفجوعة: ــ »يا مجنون، ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟!«. ولم أقل لها شيئاً، شعرت بأنها أهانتني، فخرجتُ، يطردني غضبي، ووقع قدميَّ، وهيئتها الشرسة، وحين صرت تحت شرفتها تماماً راحت ترميني بفراشيها، وكتبها، وعلب ألوانها، وكأس الماء، وحذائها، وأصابع الشمع الموقدة، وهي تهمهم بحزن شديد: ــ »خرّبتَ اللوحة، خرّبتَ اللوحة«!! ولم أدرك بالضبط ماذا قصدت تماماً، فتواريتُ عنها، وقد علا نشيجُ بكائها وامتدَّ!! [/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]* * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
النمل..!! [ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/3.gif');background-color:seagreen;border:4px ridge green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify] أعترف بأنها عذّبتني كثيراً، وأنها تركتني لأحزاني البعيدة.. ومضت! كانت قد جاءت إليَّ في ظهيرة يوم أحد لأعطيها بعض الكتب، وتمشي، غير أنها جلست وأطالت جلوسها. كانت صامتة تنظرُ إليَّ بتأمل واضح، وتستمع إلى حديثي بانشداه عجيب. تهزُّ رأسها، فيتراجف قلبي، وذؤاباتها تحوّم فوق جبينها كأنها رفٌّ عصافير، وتبتسم لأرى حدود شفتيها الرقيقتين، وبياض أسنانها المتشابكة، ما أجملها!! [ كنت أسمع بها، ولا أعرفها، لكن خيط لهفتي لها امتدّ منذ ذلك المساء العتيق، حين التقيتها في معرض للرسم. رامقتها، وهي تقف قبالتي مباشرة، ونظرت إليَّ، لكأنما كنا على استعداد مشترك لتلبية نداء روح واحدة مقسومة نصفين. كانت نظرتها عميقة وبعيدة مثل غابة لا تخوم لها، ولأنني عجول في كلّ شيء، واريتُ نظري عنها بعدما أشعرتُها بأنها بعثرتني، واقتربتْ. كان لابدّ لها من الاقتراب، فقد تلاقى بصرنا وهي تدلف من الباب واقفة على خطوتها الأولى. كنت مفتتح رؤيتها في ذلك المساء الذي غصّ بالكثيرين ]. حاولتُ، وقبل أن آتي إلى المعرض أن أمنع نفسي عن الحضور، لأنني لا أحبُّ معارض الرسم في ساعات افتتاحها؛ تلك الساعات التي تكون مرهقة ومربكة وبعيدة عن الفن؛ لكن صديقي الوهيبي، صاحب المعرض، ألحَّ عليَّ، قال: أودُّ أن أراك قربي، فأنا أحسُّ بأن الثياب الجديدة والأمكنة الجميلة لا تخفي ارتباك السنين الماضية. تعال أرجوك!! فوافقته، وجئت. أحسست بأن تلامع عينيه، وهو يراني داخلاً، أمرٌ يخصني وحدي. كان يريدني أن أراه وقد أحاطت به الوجوه الجميلة، والزهور، والروائح الرائعة، ودنيا الألوان. وما إن سلمتُ عليه حتى بادرني قائلاً: ــ »أترى.. من كان يتوقع بأننا سنصير شيئاً مهمّاً«!! [ كنت أعرفه بالتفصيل، وكان يعرفني تماماً. كنا طفلين في العاشرة نجوب شوارع دمشق في حالة من التشرد الجديرة بالبكاء الضاج. كنا نبحث عن قطع النحاس والألمنيوم وبقايا العظام وكسر الزجاج.. من أجل بيعها بفرنكات قليلة. أذكر بأننا تعاركنا ذات صباح على عدة عبوات صغيرة من الألوان. كانت يدي أول من أمسكها. حسبتها عبوات (بويا) من النوع القصير، وقد عملت من قبل ماسحاً للأحذية، وعرفها هو، قال: ــ »إنها ألوان للرسم. اتركها لي«! كانت أصابعي متشبثة بها جيداً، لكن قولته الراجية المدفوعة بنظرته المنكسرة، جعلتني أعطيها له عن طيب خاطر. كنتُ أعرف بأنه يرسم جيداً، فقد كان يرسم لي ولغالبية طلاب صفنا. وكان الأستاذ حمودة يمتدحه كثيراً. يقول عنه شاطر، إذا لم تأخذه الفدائية سيصير رساماً كبيراً وهكذا كان فعلاً. [ يا الله، مات الأستاذ حمودة، ولم يرَ الوهيبي في مثل هذا المشهد الباذخ! ]. المهم، بعد تلك النظرة الطويلة، اقتربت سوزان! يا إلهي، طولها زينة، مثل حورة كلُّ شيء فيها مضموم إلى الأعلى. اقتربت، فتابعتها بنظراتي السائلة. جعلت من بصري سياجاً يحفُّ بها لتتقدم نحوي بالضبط. اقتربتْ، وواقفتني مواجهة. كنت أعرفها من مقالاتها في الجريدة. كانت مجنونة بالحقائق، والعمل الميداني، وكانت تعرفني من صوري المنشورة هنا وهناك، ومن الأحاديث التي تثار عن كتاباتي. وقبالتي، على خطوتها الأخيرة وقفت. مدّت يدها نحوي، فأخذت كفها في كفي، وهززتها بلطف شديد، ورامشت هي بأهدابها، لكأنها أمطرت في قلبي. ونسيتْ كفها في كفي، كفها الناعمة كمفرش العشب. وهمهمتْ، وهمهمتُ. ولم أفهم من كلامها سوى قولها، سأزورك قريباً. فرحّبتُ بها. لابدّ أن وجهي الفضّاح كشفني، فأدركت اندفاعي نحوها!! وأفلتتْ كفها، ومضت نحو الوهيبي مهنئة، وحين تركته لتنتقل أمام اللوحات، بدت لي هادئة حالمة مثل طيور الحمام! وعدت إلى البيت فرحاً. كنت ممتلئاً بها، فقد رافقني طيفها طوال ذلك المساء. ظلَّ معي أياماً عديدة، صرتُ أراه قبالتي، وإلى جواري، وفي مرآتي. كان معي في كل شيء. أحسست بأنها أغلقت عليَّ نهاراتي، بل إنها، راحت تعذبني في الليل أيضاً، فهاتفتها مرات عديدة، ولم أجدها. أخبرت زملاءها في الجريدة ورجوتهم أن تتصل بي لأمر هام جداً، ودون نتيجة. حاولت أن أنساها، وأن أقنع نفسي بأن ما حدث ليس سوى لحظات عابرة، وأن حديثها كان للمجاملة وحسب. لكنني ما استطعت. كانت معي، داخل روحي؛ امرأة تأتي بعد ألف عام من الغياب، فتوقظني على وحدتي المرعبة، والسنوات التي تكرُّ بلا حساب، ومضيت إليها. سألت عنها في الجريدة، فقالوا لي: هي تكتب للجريدة، وليست موظفة فيها، ترسل مقالاتها وتحقيقاتها بالبريد فتنشر، وهم لا يعرفونها أصلاً، وحرت بأمري. وندمت، لأنني لم آخذ رقم هاتفها، أو عنوان سكنها، وما كان لي سوى أن أنتظرها، لعلها تأتي!! وجاءتني فعلاً في ظهيرة يوم أحد لتأخذ بعض كتبي، قالت لي إنها مقصرة في قراءة كتبي بعدما تكاثر الحديث عني مدحاً وقدحاً. تمنيت، وهي لا تزال واقفة أمامي، لو كان بمقدوري أن آخذها إلى صدري في مرجحة لا تنتهي. أتت غفلة، دون أن تخبرني، بعدما يئست من حضورها، وقد حسبتها خيالاً ليس إلا!! [ لو أخبرتني، لتقيّفت لها بأحسن ما لديَّ من ثياب، ولنقعت كفي في الماء الساخن، ودلكتهما بالكريم بحثاً عن طراوة مضاعفة، ولرفعت زغب خديَّ، وشربت دلواً من القهوة لأبني لها صحواً خاصاً بها. لا أدري لماذا علقت حياتي عليها، وأنا النفور الملول ]! حين جلستْ، حاولتُ أن ألغي كل شيء، رنين الهاتف، ومقابلة المراجعين، وتسجيل المواعيد. لكنها رفضت. قالت لي: ــ »أريد أن أراك وأنت تعمل.. أرجوك«!! فعلاً، كانت محقة، فالهواتف المتقطعة، ودخول المراجعين وتسجيل الملاحظات، كل هذا منح اللقاء لطفاً وحلاوة. كنت فرحاً بها، أتأملها، وكانت تكتشفني على مهل بكل حواسها وصارحتني بأن هذا اللقاء تأخر خمس سنوات فقط، فقد عزمت أن تتعرف إليَّ منذ قرأت مقالة مكتوبة عني، كان صاحبها يشتمني. آنذاك انزعجت جداً لأنها أحسّت بأنني مظلوم؛ وفتحت حقيبتها، وأخرجت جريدة قديمة، ونثرتها أمامي، فرأيتُ المقالة تلك، وتعليقاتها المكتوبة بالحبر الأخضر، كانت تدافع عني بكلماتها الصريحة الحادة دون أن تعرفني؛ فأحسست بأنها تضع اللمسة الأخيرة على امتلاكي؛ ودونما وعي مني، وصفحة الجريدة بين يديَّ ويديها، ونظري ونظرها متوحدان فوق السطور والحروف.. أخذت كفيّ بين كفيها وضممتهما إلى صدرها، وضغطت عليهما، فتلامعت عيناها لكأنهما تدمعان، وسرت في وجنتيها حمرة شفيفة كحمرة الرمان. وشعرت بها تدنو مني أكثر، لربما زاغ بصري، فأنفاسها الحارقة تتلاهث قرب أنفي تماماً. وهمهمتْ وهي تنهض: ــ »نلتقي في المساء«!! ومشت، وهي تترك وراءها نثاراً من الضوء المُذاب، دون أن تلتفت أو تستدير! وعدتُ إلى عملي مدهوشاً، فقد أوقدتني المخلوقة، ومضت!! [ والتقيتها مساءً، كانت مثل طائر يهفو إلى عشه، وكنت كالطائش الحيران. حسبتها ستأخذني إلى مكان ما، أو أن تترك لي الخيار، لكنها لم تقترح شيئاً، فقط، حاذتني مخاصرة، وراحت تقصُّ عليَّ أخبارها المحزنة، فواسيتها. عرفت بأنها وحيدة مثلي تماماً، وأن الأحلام بعدت، والرغائب ولّت، ولم يبق لها سوى نافذة صغيرة على قدها، ترى الدنيا منها، وتغصّ. مشينا في شوارع عديدة، واسعة وضيقة، والحديث يلّفنا، كنا كلما تعبنا، مررنا بحديقة، واسترحنا فيها. كان القمر كبيراً وقريباً جداً، جعل السماء صحناً واسعاً من الفضة المشتهاة. وامتد الليل، ونحن نمضي من شارع إلى شارع، ومن مكان إلى آخر. وأشرقت الشمس دون أن نعبأ بها، ثم غابت. وعاد القمر فآنسنا قليلاً ثم غاب. كانت تحكي لي وأحكي لها، دون أن نرى أحداً من الناس في الشوارع، والحدائق، والأمكنة الأخرى، شعرت بأنني غني بها عن كل شيء. لا أريد أحداً غيرها، ولا أشتهي شيئاً بوجودها، لكأنني عشت هذا العمر الطويل منتظراً قدومها. وصارحتني بأنها ومذ رأتني تتعذب، لكأنها كانت تبني عشاً لي في صدرها. وما إن انتهى حتى التقينا. وأن غيابها الطويل لم يكن سوى امتحان لها. أشعرتني بأنني أعرفها منذ أمد بعيد، لذلك اقترحتُ عليها أن نمضي إلى البيت، بيتي أو بيتها، لا فرق، فرفضت بشدة، ومشينا مرة أخرى. مررنا بطيور، وأزهار، وحيوانات، ومحطات لقطارات مهجورة. وحين هدّنا الجولان، جلسنا على الرصيف البارد. وما إن شرعنا بالحديث، حتى أحسسنا بأن الرصيف راح يتحرك تحتنا، وقبل أن نفعل شيئاً، سَحَبنا الرصيفُ كبساط متحرك شديد الانزلاق نحو منخفض فسيح. فتشبث أحدنا بالآخر وانشدَّ إليه، لكن السرعة الشديدة طوّحتنا. فمضت سوزان في اتجاه، وأنا في اتجاه آخر؛ كان المنخفض كهفاً واسعاً، بارداً ومعتماً جداً. ناديتها بملء الصوت، فما استجابت إليَّ. ناديت مرات ومرات ودون جدوى. وطفقت أبحث عنها في كل الأرجاء، فصادفتني دروب، وأشواك، ومنحدرات، وجرذان، ولم أجدها. لابدّ أنها كانت تناديني أيضاً فلا أسمعها، وتبحث عني فلا تجدني، وظللتُ ألوب وأبحث عنها، ولم أعثر عليها!! فجأة رأيت، وسط العتمة المديدة، فانوساً يدنو مني. وقبل أن يقترب أكثر. جفَّ حلقي، ولفتني الحيرة، وضجَّ قلبي، وثبتت عيناي، كان وقع خطا حامله يتعالى في صخب وضجيج كالخيل في ساعة الحمحمة. واقترب أكثر. صار بمحاذاتي تماماً. فرأيته معلقاً بيد رجل ضخم، بطنه كبيرة، على رأسه قبعة من القش، وعلى صدره ألوان زاهية، حذاؤه ثخين ومدبب، وحزامه الجلدي رفيع جداً ينتهي بحبات خرز لامعة. وإلى جواره سوزان، ذابلة الوجه، شاحبة. ترامقني من خلف كتفه بأسى!! ولم يتوقفا. تقاويت على نفسي وصرخت بالرجل، وناديت سوزان فلم يحفلا بي. تقدمت من الرجل وتشبثت به، لكنه عبرني وكأنني أتشبث بالهواء. ناديت وصرخت، وبكيت.. ودونما رجاء أو أمل. ركضت وراءهما فخانتني رجْلاي، ولم ألحق بهما. ولا أدري من أين خرج إليَّ نمل كثيف لا يُعد، وراح يحيط بي.. لكأنني أستنفره عليَّ كلما ناديت سوزان، أو صرخت بالرجل. وواصلت ركضي وراءهما، والنمل يطردني، وقد تسلق جسدي، وراح يمتصني، فأصابني بحالة من الخدر اللذيذ، ورويداً رويداً خارت قواي، وغاب صوتي، وانطفأت رؤيتي، فوقعتُ على وجهي فوق صخرة كبيرة مسننة حادة. فسال دمي، وشهقت جروحي، وعلى الرغم من ذلك، ظللتُ أفرُّ من النمل، وأزحف باتجاه الرجل الضخم وسوزان الباكية في عتمة لا أول لها ولا آخر ]!!. [/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]* * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
أمام الملجأ..!! [align=justify] على باب الملجأ، اعتاد أن يقف ساعات طويلة في نهاية الأسبوع. يراقب الفتيات الخارجات بوجوههن المصفرة المتعبة، وعيونهن الراقصة، وشعورهن المرتبة، وأطوالهن المتفاوتة. يرامق الوجوه جميعاً ويدقق فيها واحداً واحداً؛ حتى إنه كاد يحفظها بكل تفاصيلها، فباتت مجموعة من الصور المتتالية ما إن يلمح أحدها حتى يعرفها جميعاً، فيتمنى لو أن هذا الوجه أو ذاك يصير وجهاً لفتحية!! لقد عرف أنها أودعت هنا في هذا الملجأ بالذات منذ عشر سنوات فائتة، وفي أثناء سفرها!! وضعتها أمها التي طلقها في ساعة طيش وغضب، وقد أرسلت إليه رسالة، أخبرته فيها أنها أحبت فتزوجت فسافرت مع زوجها الجديد إلى خارج البلد، وأنها أودعت ابنته التي كرهها الزوج الجديد في ملجأ »الطفولة السعيدة«، فطار عقله وجنَّ لأن زوجته المطلقة غدرت به وبابنتها أيضاً بعدما رجته قبل سفره أن يترك لها البنت لتربيها أحسن تربية طوال السنوات التي يسمح لها الشرع بحضانتها؛ في أول الأمر رفض بشدة، قال للذين وسّطتهم زوجته: ــ »زهرية، امرأتي، وأعرفها، تكرهني كره العمى. إن تركت البنت فتحية لها ستربيها ضدي، وهيهات أن أقنع البنت بي حين تعود إليَّ بعد سنوات من القيل والقال، والتعليم والتلقي! لاشك أن فتحية ستكرهني لأنها لن تجد فيَّ إلا وحشاً أبعدها عن أمها«!! لكن ضغط أولاد الحلال، وتوسلات زهرية، وبكاء البنت المرّ.. كل ذلك جعله، في نهاية الأمر، يوافقها، فترك لها فتحية وسافر حين ضاق المكان عليه؛ لكنها لم تحفظها!! فجنَّ الرجل لأنه ما كان يتوقع أن يحدث مثل هذا لابنته؛ حيلته الباقية في هذه الدنيا، ولأنه لم يتمكن فوراً من ترك أعماله التي ارتبط بها في البلاد التي سافر إليها، فهو لم يعد إلى ابنته مبكراً ليخلّصها من أنظمة الملاجئ وقسوتها. حاول كثيراً أن يترك كل شيء ويعود فأخفق!! انتظر إلى أن واتته الظروف فحزم حقائبه ورجع! ولم يتوقف إلا أمام باب ملجأ »الطفولة السعيدة« وقد بحث عنه طويلاً! حين قرأ العنوان، ابتهجت روحه، فعبَّ نفساً عميقاً لكأنه يخرج من نفق، وهبط الدرج إلى آخره، ووقف أمام باب الحديد الأسود ليتأمل المكان، فأحسَّ بقسوته ووحشته أيضاً، فلا نبات هنا ولا زهور، ولا شبابيك ولا هواء، ولا صخب ولا ضجيج، وهزّ رأسه بحزن وقرع الباب بشدة، وانتظر بارتباك واضح، ثم قرعه على عجل وانتظر، فجاءه رجلٌ عجوز طويل ضامر. فتح الباب له، ودعاه إلى الدخول دون أن يسأله ماذا يريد، وأغلق الباب وراءه بضجة عالية، ثم مضى في الممر الطويل الضيق، يقوده العجوز الضامر الرث الثياب إلى غرفة مفتوحة، شديدة الإضاءة. وهناك قابل مديرة الملجأ. عرّفها إلى نفسه، وسألها عن فتحية، فأنكرت معرفتها بها وهي تبتسم. أعاد السؤال بإلحاح وترجٍ فأنكرت أيضاً، وقد اعتكر وجهها وأظلم، وعندئذٍ أخرج رسالة زوجته الباهتة الحروف ورماها أمامها، وقال لها: ــ »أرجوك، البنت عندكم، هذه رسالة أمها، وأنا أبوها، جئت لآخذها. تركت كل شيء.. من أجلها«!! وهزّت المديرة رأسها نافيةً، وطال الحوار وامتدّ، ولكن من دون نتيجة؛ فلم يأخذ فتحية معه، بل لم يرها أيضاً. كانت المديرة متعاونة معه إلى أبعد الحدود بعدما أحسّت بلوعته ولهفته الحارقة. أخذته إلى مسؤولة الذاتية، وبحثت معها في أضابير البنات جميعاً، فلم تجدا أية إضبارة باسم فتحية، بل لم تجد أي تسجيل لها في الملجأ، فأحسَّ بأنه يختنق؛ وأحسَّت هي بهزيمته الحارقة!! عاود هو البحث في التواريخ، قارن بين تاريخ رسالة زوجته وتاريخ بدايات التسجيل في الملجأ، فصعق لأن تاريخ الرسالة سابق على تأسيس الملجأ، ولهذا لم تكن فتحية مسجلة على القيود. كاد يأكل نفسه من الغيظ وقد دارت به الأسئلة والظنون، وحار بأمره، بحث في المدينة عن ملجأ آخر يحمل اسم »الطفولة السعيدة« فلم يجد!! بحث عن فتحية في ملاجئ أخرى، لكن من دون فائدة. انعتمت الدنيا في عينيه. ذهب إلى أهل زوجته وسألهم عن ابنته فتحية فأنكروا معرفة أي خبر عنها؛ بل أنكروا معرفتهم بمصير ابنتهم التي طردوها بعدما أحبّت ساقطاً وتزوجته؛ وسافرت معه إلى خارج البلاد. ساعتئذٍ، لعن الظروف التي ساقته إلى هذه النهاية المحزنة، المخيّبة، ولم يتجرأ على السفر إلى أهله مخافة أن يضعف أمام أمه فيبوح لها بما حدث!! لذلك ظلَّ طوال السنوات الماضية يبحث عن فتحية، ويسأل عنها هنا وهناك، وفي كلِّ الأمكنة، ولكنه لم يصل إلى نتيجة! ولقناعته بأنه سيلتقيها مهما تأخر الوقت، فها هو، منذ عاد من سفره، يأتي في نهاية الأسابيع وبداياتها إلى ملجأ »الطفولة السعيدة«. يقف بمحاذاة الدرج، ويراقب البنات في خروجهن ودخولهن لعله يحظى برؤية فتحية؛ فتحية التي هدّته بغيابها المرّ، وتواريها الذي ضيّع حياته. أما البنات فقد اعتدن على رؤيته كلما دخلن أو خرجن، فيتغامزن عليه ويتندرن منه تارةً، ويتهكمن عليه تارةً أخرى، فيؤذيه كلامهن بأنه متسول، ومتطفل، ورجل بلا حياء، لم يشبع من الدنيا بعد، وأنه عجوز طقّ عقله ليس إلا. ولم تفكر أيّة واحدة منهن بأنه أب يبحث في وجوههن عن وجه ابنته فتحية، لعلّ الدم يحنّ فجأة فيقودها إليه، ليسمع هتافها المنتظر »أبي، أبي« الذي سيرجُّ جسده الخرب، وروحه الذائبة، لحظتئذٍ، وحين يضم ابنته إلى صدره، سيصير شجرة لوز مزهرة؛ تلك اللحظة عصية حرون فهي لا تدنو أو تبين!! وتظلُّ البنات في دخولهن وخروجهن لا يعبأن به، يرمين له ضحكات الأسى، والصخب الحزين، والتلميحات الواخزة، فلا ترى أي منهن تلك الصورة الصغيرة لابنته فتحية التي جعلها قلادةً تلفُّ عنقه لتدقّ صدره الضامر كلّ آن وحين!! [/align]* * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
انعتاق..! [align=justify] صبحاً، يشهد الله صبحاً، والضوء عميم. والناس في يقظة وحركة اعتياديتين تماماً.. تبدلت الحال وتغيّرت. انشدت الأبصار إلى رجل ربعة. مكشوف الرأس والساعدين، مبلول الشعر والوجه والشاربين. ثيابه نظيفة، وأنفه مندّى، وقيافته زاهية. يسير حافياً في شارع من أحسن شوارع مدينتنا، وقد دفع أمامه شاة سمينة، صوفها طويل نظيف، حلو. عقد في رقبتها جرساً نحاسياً، متوسط الحجم، له قطعة جلد رمادية اللون، ذات قفل نحاسي صغير، قابض على طرفيها. يمشي، فتندفع الشاة أمامه. يتحرك رأسها، فيضطرب الجرس ويرن، ويتباعد الناس من أمامها، وتلتفُّ وصاحبها بالأبصار اللائبة الحيرى، فالمكان ليس سوق الغنم، ولا المسلخ، وإنما هو شارع طويل عريض، أنسامه عطرة، وأفياؤه دائمة، ومحاله رافلة حافلة بالألبسة وأدوات الزينة والمجوهرات والورد، والمداسات، والفنادق الفخمة، والحدائق الجميلة، تؤمه، ليل نهار، نساء كثيرات أنيقات، لامعات، تسبقهن، على الدوام، الروائح، وأصوات أحذيتهن الراقصة. ساعتئذٍ، بدا الصباح مشمساً، ممتلئاً بالرواء والضوء، والناس في التفات وحركة، ووقوف ومسير، وغياب وظهور.. تتوازعهم الدروب، والشوارع، والحارات، والحافلات، والأقبية، والدوائر، والمؤسسات. أحاديث بعضهم تغيّبها أصوات السيارات والباعة، وضجّة الشوارع المتنامية. كنت مشدوداً، كغيري، لذلك الرجل الربعة وشاته السمينة. حين اقترب مني ووازاني، قبضت على خطاي ودهشتي لحظات فقط ورامقتهما.. حتى غابا.. وحين أدرت ظهري لهما وهممت بالمضي إلى عملي.. واقفتني أنثى طويلة، عبلاء، وجهها صاف، وعيناها دامعتان، وشعرها الطويل الأسود مأخوذ بكامله إلى الخلف، وقد انعقد برباط بنفسجي كابي اللون. يتراقص ويهتزّ كلما تحركت. لها أذنان صغيرتان جداً. هزّتني، وقالت: ــ »صباح الخير..«! فابتسمتُ، وأجبتها: ــ »صباح الخير..«. وانتظرتها لتقول شيئاً آخر. وجهها اللامع، انفتح كنافذة وأشرق. واهتزّت شريطتها البنفسجية وتمايلت. ورفت ذؤابتها بطراوة بادية فوق رقبتها المعروقة الطويلة مراتٍ عدة.. وقالت: ــ »قبل قليل، (وأشارت إلى الرجل) وقف عند ناصية الشارع، وخطب في الناس. دعاهم أن يلحقوا به. فشاته مباركة. وسينالون، إذا ما سألوها، ما يشتهون. شاته.. التي ستقف في مكان ما من المدينة، وتستمع للرغبات«، وحين هززت لها رأسي هزات عدة، نقلت ثقل جسدها من رجل إلى أخرى، وكسرت عوداً صغيراً كان بين أسنانها. وأضافت: ــ »إنني ذاهبة إليه، فلديَّ ما أشتهي! هل تأتي«؟! قلت بحزن شديد: ــ »أعتذر، لأنني ذاهب إلى عملي«. لحظتئذٍ، كانت أبصار المارين من حولنا تسيُّجنا.. فانتبهنا، واستنفرنا خطانا. استدارت المخلوقة، واستدرتُ. وحين التفتُّ نحوها، وقد ابتعدت، بدت لي أجمل وأبهى. [ يا إلهي، فعلاً، الطول.. زينة ]. وغابت، وغبتُ. ولا أدري، الآن، كيف تركتُ عملي، وخرجتُ! فحين وصلت إلى مكان عملي لم أجد أحداً من الموظفين قرب دفتر الدوام، وقد اعتدنا التزاحم حوله، كما لم أجد الموظف المسؤول عن تسجيل مواعيد الوصول والانصراف، بل حين دخلت غرفة العمل.. لم أصبّح على أحدٍ من زملائي، إذْ لم أجدهم! انتظرتُ وقتاً لا أدري مقداره، فلم يأت أحدٌ منهم. اقتدت نفسي إلى غرف أخرى في الدائرة.. فلاقتني الأبواب المغلقة بجفاف وعبوس شديدين. ونفرت خارجاً.. دون أن أسمع مراقب الدوام يصرخ في ظهري: ــ »يا أستاذ..«! خرجت فوق خُطا عجلى، وأيقظت حواسي، إذْ بدا الشارع الذي أسير فيه خالياً تماماً من الناس، والسيارات، والباعة، والضجّة.. ودهشت! جزتُ الشارع إلى شارعٍ آخر، فوجدتُه أكثر هدوءاً! ثم إلى آخر فآخر.. ولم أجد مخلوقاً! المحال مفتوحة وخالية، والأرصفة وحيدة لا مؤنس ولا جليس، والمدينة هادئة وساكنة.. لكأنها أطلقت أناسها وصخبها! وددتُ أن أرى مخلوقاً لأسأله »ماذا حدث«؟! لكن ما من أحد. وقفت قرب عريشة ياسمين لا زهر لها ولا رائحة.. ونسيت نفسي! وما تناديت إلى الحركة.. إلا عندما علت الضجة وانتشرت، فانتبهت، ورأيت من بعيد حشداً هائلاً من الخلق.. يقترب مني رويداً رويداً. رأيت الناس يسيرون كالنمال صفوفاً صفوفاً. خطاهم رتيبة، وحركتهم باهتة. وحين اقتربوا.. رأيت وجوههم ناحلة بشفاه مطبقة.. لها ملامح المهابة والقداسة. وفي مقدمتهم يسير الرجل الربعة.. وشاته!! بدا لي أصغر حجماً مما رأيته عليه في المرة الأولى. وجهه ضامر جاف. وجيده انكمش ورقَّ. وقد فَقَدَ قدميه، وأصابع يديه، وشعر رأسه، وشاربيه، ونصف أنفه. وبدت شاته كميةً من العظام، تدب على الأرض بجلد شوتْه الشمسُ. وقد تساقط صوفها، وبان هزالُها الشديد. كانت أقرب إلى قطة كبيرة الحجم منها إلى شاة. جمجمتُ: ــ »ما الذي حدث؟! قبل قليل كانت الدنيا دنيا«! أربكني المشهد، واستولى عليَّ. وحين وازاني الرجل نظر إليَّ نظرةً عاتبة، وقال: ــ »لقد أخّرتنا. اتبعني«. ضجَّ صدري، وتباهتُّ.. لأن الرجل كان يعنيني تماماً، كأنه يعرفني منذ أمدٍ بعيد، لذلك.. ودونما سؤال أو كلام.. لحقتُ به! رأيت خلفه مباشرة رجلين. أحدهما يحمل مقصاً، والآخر يحمل سكيناً. فسألتهما غمزاً بعينيَّ عن المقص والسكين. فأجاب صاحب المقصّ: ــ »نحن في خدمتها. (وتلفّت حوله نحو آخرين، وأضاف): فإن نبت صوفها (وأشار إلى الشاة) أقصّه«! وقال الثاني بطمأنينة: ــ ».. وإن احتاج الأمر.. ذبحتها«! ورأيت رجلاً يحمل سطلين نحاسيين، أحدهما فارغ، والثاني ممتلئ بالماء.. يشدهما إلى صدره بحرصٍ شديد، سألته عنهما: فقال: ــ »إن عطشت.. سقيتها. وإن درّتْ.. حلبتُها«! ورأيت آخرين بين أيديهم تبن، وحشائش، وأدوات حلاقة، وثياب وقطع جلدية، وأجراس، وأدوية، وآلات عزف، وصحون، وأباريق، وكاسات، وأوراق، وكتب، وحصر، وأغطية، وزجاجات عطر، وأسلحة، ومراوح صغيرة.. كانوا بشراً، ثيابهم متنافرة في ألوانها وأطوالها. سألتُهم عن الأشياء التي يحملونها، فأجابوني بأنها جميعاً في خدمة الشاة وصاحبها، وأقنعوني بضرورة وجودها. .. بدوا بوجوههم الصفر، وحركتهم المتباطئة.. حفاة بلا زينة، لا رونق لهم، ولا صفاء.. وقد تخثرت أملاح عرقهم فوق وجوههم، ورقابهم، وسواعدهم، وأكفّهم. كانت الدروب التي ساروا فيها قد برتْ أقدامهم، بعدما تقطّعت أحذيتهم وسقطت، وبعدما تمزقت ثيابهم وتآكلت. وكان ثمة صوت لرجل أشيب يتعالى بين حين وآخر، يدعو بالتوفيق والنجاح لهم. وصوت آخر لعجوز تلبس ثوباً طويلاً أسود، معصوبة الرأس، يدعوهم إلى الصبر. كثيرون منهم، كانوا يعصبون بطونهم بأذرعهم ومطاط سراويلهم، كانوا يمرون بمعامل لا دخان لها، أبوابها مفتوحة، وهدوؤها قائم، وبحواكير غادرتها عصافيرها، بعدما طيّرت ثمارها، وبسواقٍ اعتكر ماؤها وشحَّ.. ولجّت أحياؤها، وبحدود يقظى.. يتناهى من ورائها غناء خافت حزين. فجأةً، ودونما سابق تنبيه، وقفت الشاة قرب شجرة كينا عالية، واسعة الأمداء.. وشرعت تحكّ ظهرها حكّاً عنيفاً، فوقف الرجل، ووقف أفراد الحشد من ورائه، وتدافعوا، وزفروا جميعاً، وتلاهثوا. وتطاولت الأعناق في تزاحم شديد.. لترى الشاة، التي سارت بهم طويلاً! فاستنفر كلٌّ منهم رغباته، ورتّبها في سقف لهاته، وهيأ نفسه للكلام، فربما وقع الحديث عليه أولاً. حكّت الشاة ظهرها بجذع الشجرة مرةً ثم أخرى، ثم ثالثة.. وهكذا إلى أن انكسرت الشجرة الكبيرة الضخمة، وسقطت على بناءٍ عالٍ، فسقط هو الآخر على بناءٍ آخر، فسقط، ثم.. توالت الانهيارات. السقوط، أحدث ضجةً كبيرة، فشهق الناس وتدافعوا نحو بعضهم وتلاصقوا، وهم يتمتمون ويهمهمون، ثم وقبل أن يلقطوا أنفاسهم، رأوا الشاة تنقلب على قفاها كتلةً من العظام، لا نبض فيها، ولا حركة.. حتى جرسها كفَّ عن الرنين، وصمت! في الحال، هرع إليها نفرٌ من الناس في مقدمتهم حامل الماء، وصاحب السكين. الأول: رشّها بالماء.. فما جفلت. والثاني: جسَّ نحرها. وتنشق أنفاسها.. وتباهت. وحين ابتعدا عنها، اندفع إليها طبيب وممرضة، قلّباها على مرأى من الجميع، ثم نفضا أيديهما بأسى، فقد قضي أمرها.. ومضت. عندئذٍ، سقط المقص، واندلق الماء، وتبعثرت الأدوية، وديست الحشائش، وتناثر التبن، وصرّ الورق.. (ووو..). وساد الهرج والمرج، ثم انتهى كل شيء. كان الناس جوعى، حزانى، حيارى، حتى الفتاة الجميلة التي واقفتني، وأنا في طريقي إلى العمل، رأيتُها ضجرة، تفرك في كفّها زهرات من الياسمين الأبيض، وقد استحال بياضها إلى لونٍ أصفر عاتم. سألتها عن سبب اضطرابها وعكر وجهها، فقالت: ــ »رافقتهم.. لأتحدث، وأنسى، وأنال. وها أنت ترى ما حدث«! وودّت أن تضيف شيئاً آخر، إلا أن كلّ شيء تنامى على نحو غير متوقع. فقد رأيتُ، ورأت الخلق.. وقد أداروا ظهورهم للشاة وصاحبها، الذي ارتمى قربها، يقبضون على أيديهم في تشكيل هندسي بديع. كانوا يهزّون أيديهم ويهتزّون. ثم ما لبثت أصواتهم أن انطلقت بالغناء، فغنوا ودبكوا طويلاً.. تماماً كما لو كانوا في فرح حقيقي. الحيرة، تملكتني إذْ منذ لحظات فقط كانوا طيّ حزنهم وذبولهم، بل إن كثيرين منهم سقطوا عندما شاهدوا الشاة تسقط، فما الذي حدث الآن؟! وظللتُ أراقبهم! فجأةً، جمدوا تماماً. غيّبوا هرجهم. وثبتوا في أماكنهم. جمدوا حينما رأوا، من بعيد، ومن الطرف الآخر للمدينة.. الرجل الربعة والشاة يتقدمان نحوهم بسرعةٍ عجيبة! رجل ربعة، حافي القدمين، حسن الهندام، مكشوف الرأس والساعدين، مندّى الأنف، مبلول الشعر والشاربين. وشاة كبيرة سمينة، صوفها طويل نظيف، في رقبتها جرس نحاسي مشدود إلى قطعة جلد رمادية، لها قفل نحاسي صغير يقبض على طرفيها. رؤيتي غابت أو كادت. وجسدي ذوى.. فما استطعتُ الالتفات نحو الرجل الربعة الذي كان ممدداً خلفي، وشاته التي سقطت وماتت.. لأتأكد من وجودهما. ولا أدري إن التفت الناس نحوهما أم لا! ما أدريه حقاً هو أن الخلق من حولي انتظموا في صفوف خلف صفوف، ووقفوا قبالة الرجل الربعة وشاته السمينة القادمين من البعيد، ولم يخلوا لهما الدرب. انتظرتُ طويلاً فلم أرَ الرجل وشاته، فقد حجبتهما عني الصفوف والقامات الناهضة. .. كنت لحظتئذٍ في عراكٍ بارد مع جسدي الذي تماوت، وقد تناوب عليه نعاسٌ حييّ شفيف، وخدرٌ طري ناعم، ولم أعد أرى ما يجري، وقد أصبحت داخل الحشد. كان الوقت ساعتئذٍ صباحاً، صباحاً طازجاً، هانئاً، صافياً. عرائش ياسمينه الخضر دلّت زهرها الأبيض تحيةً للحاضرين.. وسط أنسام مندّاة لفّت الناس، والمكان، والفضاء.. أيضاً. [/align]* * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
تفاصيل ــ 1[align=justify] ــكانوا ثلاثين طفلاً.. أسرتهم، وفرشهم، وملاعقهم، وصحونهم، وطعامهم، ومناشفهم، وأحذيتهم، وفراشي أسنانهم، وملابسهم، وكتبهم، ودفاترهم، وأقلامهم، وألعابهم، ونزهاتهم، ودروسهم، ووجوههم، وصفرة ألوانهم، وانكساراتهم، وضحكاتهم.. كلُّها كانت متشابهة!! ــ 2 ــ كانوا ثلاثين طفلاً.. صافرة، ويستيقظون صافرة، ويصطفون صافرة، ويلعبون صافرة، وينامون صافرة، فيدخلون.. أو يخرجون! ــ 3 ــ كانوا ثلاثين طفلاً.. لا يعرفون المشاغبات، ولا الحنو، ولا الثورات، ولا النزق، ولا الطلبات الملحاحة، ولا الهدهدة أو المناغاة. كانوا لا يعرفون الجري في الأزقة، ولا متعة الوقوف على باب البقال، ولا جمال الركض نحو الأبواب حين تقرع في البيوت، ولا الفرح بمجيء الضيوف، ولا الخوف الوهمي الألوف من صراخ الأمهات الناهرات.. وقد تلوّثت ثيابهم أو توسخت رؤوسهم بعد لعب صاخب في الحارات، ولا روعة عودة الآباء في آخر النهارات ومعهم أكياس الفاكهة.. والحلوى، والثياب، ولا لذّة تكاليف الأمهات: »اسأل جارتنا أم سعيد يا بني إن بقي عندها حفنة رز لأطبخ لكم زبدية رز بحليب«! ولا نشوة الشعور بالأبوة حين يطلب الآباء: »قل لعمك تحسين يا ولد تعال واشرب الشاي معنا لكي يغلبك أبي عشرة طاولة«!! ــ 4 ــ كانوا ثلاثين طفلاً.. في بناء واطئ، أصفر اللون. له نافذتان كبيرتان، زجاجهما ثخين، وشجرة كينا طويلة لا يبدو من أوراقها الخضر إلا القليل، وسياج من شريط معدني شائك هجرته العصافير، وباحة رملية صغيرة لا تلبث أن تجمعهم كلما تناثروا، ومربية قصيرة ممتلئة.. ذات وجه مغلق قست عليها الحياة.. فدفعتها إلى هنا قسراً، مربية تضخمت شفتاها أكثر لكثرة ما صفّرت بصفارتها المعدنية الكبيرة، مربية اختصرت الكلام والحنين.. في صافرة!! ــ 5 ــ كانوا ثلاثين طفلاً، لا ألوان لهم، ولا رغبات! كانوا هنا في هذا البناء! صباحاً ينشدون نشيط الوطن، ونصفهم يبكون بعدما عاقبتهم المربية عقاباً مؤلماً لأنهم بلّلوا فرشهم ليلاً! وفي المساء يحيّون المربية، ويندسّون في فرشهم وهم يفكرون بكابوس السلس البولي إلى أن يأخذهم النعاس، فينامون بلا حكايات، بلا وعود صباحية!! ــ 6 ــ كانوا ثلاثين طفلاً، أصواتهم خافتة، ونظراتهم منكسرة! ورقابهم قصيرة ضامرة! كانوا بلا آباء، بلا أمهات!! ــ 7 ــ كانوا ثلاثين طفلاً، وقد غدوا كباراً.. يختلسون من الوقت وقتاً، فيأتون إلى هنا.. ليروا ملاعبهم، ومقاعدهم، وأمكنة نومهم، والسياج الذي واقفوه طويلاً.. ومعهم أطفالهم الصغار.. كانوا ثلاثين طفلاً، يأتون خلسةً إلى هنا.. فرحين .. وكأنهم يأتون بأطفالهم إلى بيوت الجدّات المنتظرات! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
رجل الصباح [align=justify] لم تكن تتوقع أن الرجل العجوز سيثار، وأنها ستعيده إلى الوراء كثيراً، وستسبب له أحزاناً جديدة. كانت، وفي الصباح، تراه داخل حديقته المجاورة للدرب المترب الناحل الذي يقودها إلى الجامعة؛ تراه منصرفاً باستغراق شديد إلى عمله، والريح تلعب بشعره وثيابه كأنها تهدهده. يحفر الأرض ويسويها بلطف كطفل يحفر في كفه، ويقطف الأوراق المصفرة كمن يقطف حبات التين الذائبة. ومن حوله، تحيط جداول الماء الصغيرة بالأشجار والخضرة الوارفة. تنظر إليه بفرح، فتحسبه قطعة من فضة الصباح الآسرة. والرجل لا يعبأ بالمارين لكثرتهم. كانت سعادته أن ينفق وقت الصباح في حديقة منزله وقد ارتدى ثياب العمل، يعزق، ويفلح، ويقلّم، ويرش. وكانت هي فرجة، جمالها يولّد الشهقات. إن مشت.. سحبت وراءها الأبصار، والأشجار، والبيوت، والأرصفة، أنثى صافية ولامعة كصفحة البللور؛ حلاوتها تفيض عليها فتسيل، طويلة وملأى كالقلم.. ولم تدر كيف ضبطها وهي تنظرُ إليه بدهشتها الكاملة، فارتبكت، وبدّدت بصرها، ثم رمت له تحية الصباح، ومشت. فابتسم لها، وردَّ بحرارة بادية. مضت وهو ينظر إليها بإمعان، وقد راحت أصابعه تلتهم وجهه وتعبث فيه. وعيناه تتوامضان بحنان خفور!!. وأحسَّ الرجل العجوز، وقد اعتاد تحيتها في الصباح، بأن البنت الجامعية تعنيه فعلاً، وأن الصباح عنده لا يكتمل إلا برؤيتها وسماع صوتها.. وأحسّت هي بأنها تلمس طراوة الصباح بيديها كلما حيّته. وحين كرّت الصباحات أكثر، مضى الرجل العجوز الغائر العينين في ظنونه إلى البعيد البعيد، فقد أيقن، وهو يرى نفسه أمام المرآة، بأنه لايزال فتياً، وأن همّته همّة الشباب، وأن ثمة أياماً جميلة لم تعش بعد، وأحلاماً لم يصل إليها أيضاً.. ولم تدر هي لماذا صارت تقرن محبتها للنهار ورضاها عنه برؤيتها للرجل العجوز الذي كان ينتظرها كل صباح في حديقته مثل خفير نشط. فقد باتت تقلقه، وتثير أسئلته، فراح يفكر بها كلما عنّت على باله. وأحسَّ بعدما ألفها، بأن المطلوب منه، وهو الرجل، أن يخطو خطوة أبعد من التحية وردّها، فقرر أن يفاجئها في الصباح القادم. وقبل أن ينام، استحمَّ، وحلق ذقنه، وأعدَّ ثيابه الجديدة في الخزانة ورتّبها، ولمّع حذاءه مرات عديدة، ودهن شاربيه ويديه وشعر رأسه بزيت الزيتون الصافي. وقبل أن يطلع النهار، تأنّق، وضبط هندامه أمام المرآة، وسوّى شاربيه بهدوء وعناية، ثم وضع كرسيين من القش حول الطاولة الصغيرة تحت شجرة الخوخ المزهرة. وغلى ركوة قهوة كبيرة، وأخرج صينية النحاس التي لم يستعملها منذ زمن بعيد، وفنجانين من القيشاني الأبيض مرسوم عليهما روميو وجولييت وكأس ماء مذهبة الحواف، وجاء بكل هذا إلى الطاولة الصغيرة، ومع شعاعات الشمس الأولى خرج إلى الدرب، فتنفس بعمق، ورأى البيوت من حوله تستيقظ ببطء ورخاوة، والدروب تلتقط ناسها رويداً رويداً. كان ينتظرها، فتأخرت، وقد ارتفعت الشمس، وتناقصت مساحات الظل. رأى العصافير تحوّم فوق أشجار الحديقة، وبعضها الآخر يحط فوق الطاولة الصغيرة. فابتسم لها.. وراح يمشي على الدرب قلقاً، كأنه يستعجل مجيئها، وجاءت. تمشي كعادتها على مهل كأنها تخاف أن تخرّب نسيج الضوء بذراعيها. وابتسم لمرآها. وراح يراقبها وهي تقترب. أول الأمر، وقبل أن تصل إليه لم تعرفه، فانعطفت بالتفاتتها نحو الحديقة كما اعتادت كل صباح لتسلِّم عليه، لكنها لم تجده. رأت الطاولة الصغيرة والكرسي، وصينية القهوة، وتابعت خطواتها دون أن تحفل بها، ثم التفتت نحو الحديقة مرة أخرى ولم تره أيضاً فامتعضت. كانت ببصرها تبحث عنه بين الأشجار، وقرب السواقي. ولم تجده. كادت تعبر الرجل العجوز الذي همهم وتحرك في مكانه، وفرك بيديه.. لافتاً انتباهها، ولم تعرفه، لكنها وحين نظرت إليه وقد كاد يسدُّ عليها الدرب.. عرفته. رأته مبتسماً، وقد عجز عن الكلام، يشير بيده نحو الطاولة وصينية القهوة!!. لحظتئذٍ، شملته بنظرة فاحصة، فرأت قيافته المربكة وغصّت؛ أحسّتْ بأن شيئاً ما انكسر بداخلها، وأنها لا تعرف الرجل، ولا تكنُّ له أية مودة، وأن حديقته لا حياة فيها ولا جمال، وأنه لا علاقة له بالصباح، فأسرعت خطوها كالمطرودة، ومضت دون أن تنظر إليه، أو أن تقول له كلمة واحدة. أحسّتْ بأنها ممرورة وقد فقدته.. دفعة واحدة!!. * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
على الرصيف..! [align=justify] على الرصيف الطويل المغبر، وقف الثلاثة يبكون ويصرخون! بكاؤهم مرّ، وصراخهم موجع.. كأن الدنيا انغلقت عليهم. كان الوقت صباحاً، والشمس ماضية في عجلة لتكمل دورة النهار. والناس من حولهم في انشغال وحركة هنا وهناك، وشجيرات الياسمين المتراخية فوق الأسيجة.. أَفلتت زهرها الأبيض دون أن يعبأ بها أحد، والسيارات في جريانها وضجيجها المألوف، والباعة، أطلقوا نداءاتهم الصاخبة، المتداخلة، ليبنوا طقوس البيع والشراء. .. بدا مشهدهم لافتاً للانتباه ومحيّراً.. وهذا ما جعل الناس يتحلّقون حولهم، ويتساءلون!! فالأم.. بدل أن تواسي طفليها، تبكي معهما، وتصرخ كما يصرخان تماماً. بدوا.. كأن ما من شيء يجمعهم إلا البكاء، والصراخ، والنظرات اللائبة. فجأةً، ومثلما اكتظّ الرصيف بالناس وضاق حول الأم وولديها عاد وانكشف عنهم وحدهم وهم في وقفتهم وبكائهم وصراخهم وأسئلتهم الدائرة!! ابتعد الناس عنهم، وهم يسقطون وراءهم كلمات السخرية والاستغراب.. والتهكم، فقد ظنّوا بأن الأم وولديها يستعطون بأسلوب رخيص نهاراً، جهاراً!! وهكذا، ظلَّت الأصوات المتداخلة تلفّهم وظلَّ البكاء والصراخ قائمين إلى أن اقترب منهم أحد أفراد شرطة المرور الذين يقفون على ناصية الشارع، وقبل أن يتكلم الشرطي صمت الطفلان، وسيّجاه بنظراتهما الدامعة/اللامعة. وأوقفت الأم نحيبها وراحت تخفي دموعها بأطراف أصابعها، لكأنها شعرت بالخجل أمامه، وحين سألها الشرطي عن سبب الصراخ والبكاء وقد نهضت هي، ولاذ طفلاها بثوبها وانكمشا، أجابته: »قبل ساعات وصلنا إلى المدينة. أتيت لأشتري لهما حاجيات المدرسة والحذائين فوجدتُ ما معي من النقود لا يكفي لشراء حاجيات واحد منهما فقط، الأسعار مثل النار«! ويهمهم الشرطي مشيراً إلى الطفل الباكي.. فتقول: »إسماعيل، يبكي.. يريد هريسة من تلك الصواني، (وتشير إلى دكان الحلويات)، كما يريد طاقية وبوط رياضة، وبالونات، وجرابات، يريد شراء كل ما يراه أمامه«! وتخفض بصرها منكسرة لتضيف: »وفاطمة، تبكي لأنني لم أشتر لها اللعبة الطويلة ذات الثوب الأبيض والشعر الأشقر ولا ملاقط الشعر الملوّنة. حاولتُ كثيراً أن أصبّرهما فما أفلحت، وحاولت كسر الأسعار فما استطعت. ولم أدرِ ماذا أفعل؟! وحين ضاقت الدنيا بوجهي وتكاثرت طلبات الولدين عليَّ.. وجدت نفسي راكعة فوق هذا الرصيف أبكي معهما. لقد.. تبهدلنا وها أنت ترى أن بعض المارة رموا إلينا.. الفرنكات«! وتململ الشرطي في وقفته.. دون أن يجيب بشيء، وقربه.. بدا الطفلان كأنهما جمعا الدنيا وعلقاها عليه.. فظنّا أنه مفتاحها، وقد راح يمسّد شعرهما بحنو وإشفاق باديين ظنّا منهما أنه المنقذ الذي سيعطي أمهما ما تريد من مال لتشتري لهما كل شيء وهو على هذه المهابة البادية!! وظنّت أمهما أنه، وهو ابن الحكومة، لا يخلو من حلّ لمشكلاتها، وأنه لن يقبل بعودتها إلى القرية مكسورة الخاطر، لكن الظنون ظنون!! لأن الشرطي وقع في عجزه فتهاوى أمامهم كتمثال من الثلج رويداً رويداً، وانكمش على نفسه، وقد لفَّ وجهه براحتيه وراح يعضُّ شفتيه حتى أدماهما، وصوته يخرج الكلمات فحيحاً لافحاً! الأمر الذي جعل الأم وطفليها يحيطون به لمواساته، وتطييب خاطره!! لحظتئذٍ، بدوا كعشٍّ من النحل الألوف يتدبّر شؤونه، أمٌّ تصبّر زوجها، وطفلان يطفئان دمعهما بلطف وهدوء شديدين!! [/align]* * * |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
غياب..! ــ[align=justify] 1 ــيا إلهي، من كان يدري أن ما حدث كان سيحدث، وأن رنّة الحزن ستمتدّ وتستطيل مثل وهج النهار. من كان يدري أن البنت جورية، زينة الحي، الطويلة الملأى ذات الغمازة العميقة الضاحكة.. ستدير ظهرها لعبودة الذي منّى العمر كله أن يأخذها بين ذراعيه في ضمّة حانية لهوف، ثم.. فليأت الطوفان. أبداً، ما من أحد، من أبناء الحي، كان يشكّ بأن جورية الرهيفة قد تعبت كثيراً مع أمها العجوز التي تورّمت ساقاها، فعجزت عن الحركة، وعادت مثل طفل صغير، تنظر بعينيها فقط، وتهمهم وتناغي من دون كلام. لقد أقعدها المرض، فباتت تقضي شؤونها كلها في فرشتها الملونة التي شرعت بين حين وآخر، تطلق روائح لا تحبها جورية، تلك الروائح التي لا تشمّها أمها أبداً، لكأنها صارت جزءاً منها أو جزءاً من المكان. (كانت جورية، وفي غبشة الصباح، تفتح النافذة الوحيدة، وتنظف جسد أمها بعناية شديدة، تمسحه بالماء الدافئ والصابون، وتدلك ساقيها بزيت الزيتون الصافي، ثم تكنس أطراف الفراش، وتسحب الأوساخ، وترش هواء الغرفة بالكولونيا. وحين يغدو كل شيء في تمامه، تغادر الغرفة، ونظرُ أمها عالق عليها يطردها بالرضا والامتنان. تغسل يديها ثم تهيئ طعام الإفطار لها ولأمها وسط حديث وحيد، وتمتمات حزينة، وضحكات صغيرة مرتبكة، ورجاءات طويلة بان يمنّ الله عليها بالشفاء لتملأ بيتها بالحركة والأحاديث، والضحكات الصاخبة، لكن الرجاءات ظلّت رجاءات، والأماني يبست على الأماني!. ــ 2 ــ منذ سنين بعيدة، جاءت جورية إلى الحي مع أمها، طفلة في الثامنة من عمرها، وردة أو تكاد. سكنت مع أمها غرفة صغيرة فوق السطوح مثل طيور الحمام، وبأجر زهيد.. كانت الأم تدفعه ل»أبو راجي« صاحب البيت في نهاية كل شهر، بعدما عاشت وجورية، في أحياء وبيوت عديدة، على طيف من القلق والمخاوف من زوجها الذي طاردهما طويلاً. كانت الأم تنتقي البيوت الظليلة المتوارية، وترحل من مكان إلى آخر. وكانت كلما ازدادت طمأنينتها مع الناس، تمحو المكان. لكنها، ومع الأيام، امتدّت نحو أهالي الحي فعاشرتهم حتى صارت منهم، وتربّت جورية مع الصبيان والبنات، فكوّنت لها معهم عداوات وصداقات!! وما من أحد، في الحي، عرف سرّ الأم وابنتها سوى عبودة الذي لهف قلبه لجورية، فسعى إليها مرات ومرات، عبودة الذي سهر ليالي البرد الطويلة قرب نافذتها، وهي ممعنة في الصدود والعذاب. وحين عرفته رقّت له، وقد أسرها بلطفه، وطول صبره، فالتقيا.. شكت له مُرَّ أيامها، وأحزانها الولود، وشكا لها قسوتها، وجمرة الغياب. وحين تذوقها جنَّ بها، وطارت هي بحلاوة ريقه، وعذوبة حديثه، فضمّته إليها ضمّةً أغلقت عليه باب محبتها حتى لقد صارت دنياه وسعادته الضافية. (كانا، وحالما يباغتُ أحدهما الآخر في النهار، يسترقان النظر، فيبتسمان، وتنادي الروح روحها، وتواعدها عند حلول المساء، وعندئذٍ، يهفو عبودة إليها حذراً، هامس الخُطا، مورّداً كالأرجوان. فتلقاه هي ريّانة دائخة كأنها في منام، ويهبطان فوق السطوح، قرب البراميل في مفرش طيِّ الدفء والهمهمات التي تجمّر الكلام. كان عبودة، وحين يسبقها دائماً إلى مكانهما تحت السماء الفسيحة المنجّمة، ينصت عميقاً ليسمع وقع قدميها كمن ينصت لعزف كمنجات ضاقت عليها أوتارها بالحنين. وقربه، ترمي أحزانها البعيدة، فيحسُّ عبودة وكأنها، وهي في هدأتها وطمأنينتها، مطاردةٌ من شيء ما، مذعورةٌ من وحش يكاد يلامسها، أو ينقضّ عليها، وهي نفور متأهبة لتنتفض هلوعةً بين لحظة وأخرى، فيهامسها، ويهزها كي لا تنفرد، ولو للحظة واحدة، بمخاوفها الدائمة. ويخبرها بأنه ما عاد يطيق صبراً، بعدما صار خوفها خوفه، فهو سيفاتح أمها في المساء القادم، بأنه يريدها.. ولو بالإشارة أو الهمهمة!!. فتدور الدنيا بجورية وتغدو خفيفةً، شفيفة كالطيف، فتنشدُّ إليه بحنو لم يعرفه من قبل، ويقترب منها، فينطفئ الكلام، ولا يمضيان إلا بليلين بالندى قبل أن يفضحهما النهار). وفي الصباح، وكأن ما كان لم يكن، يتقابلان. تحكي له، ويحكي لها.. ثم تأخذهما الدروب إلى أن يحين وقت المساء. (هذا الصباح، كانت جورية على عجل، فواقفته للحظات، ثم استدارت. رأى وجهها معتكراً، كأن النوم جافاها، أو لكأن أمها تودّ أن تبكر بالغياب فيدنو منها، ويسألها، وقد حثّت خطاها فتقول: ــ »إنه منام«!! وتلوّح له بيدها، وتمضي نافرة كأنها في طراد، فيناديها عبودة مذكّراً: ــ »في المساء«. فتهز رأسها، وترمي له ابتسامتها البيضاء الوسيعة كي لا يظلّ حائراً وقت النهار. يرامقها، وقد ابتعدت، فيحسُّ بمخاوفها، وساعة المفاجأة التي لطالما حدثته طويلاً عنها، يتذكر الآن أنها قالت له بأن سرها أبوها، الذي صورته أمها لها رجلاً مرعباً كالغول، وهي التي لم تره منذ أمد بعيد، يوم كانت طفلة في الثالثة. لكنها تشعر، وفي كل لحظة بأنه على مبعدة ذراع منها، وأنه سيأخذها متى يشاء وحين يشاء ويترك أمها لمصيرها وحيدة للقدر. فيحسّها الآن وهي تتلاهث لكأن يداً ما تطبق على روحها، فيهدهدها، ويطمئنها بأن أباها لن يعرفها الآن بعدما نمت وزهت مثل حبق الدار، وأنه لن يلتقي أمها، وقد صارت قعيدة الفراش، فلتهدأ روحها ولتطمئن.. فهو قربها كالزمان. غير أنها تظلُّ تردد جملتها المحزنة: ــ »أنت لا تعرف أبي، يا عبودة، فهو سيد الأمكنة والسؤال«. وتغصُّ، فيستوضحها، لكنها لا تجيب. تبدو له، وهي قربه، أنها في دنيا أخرى موحشة نائية. خائفة من المفاجأة التي ستجعل أمها وحيدة غريبة ترفو أحزانها بخيط دموعها، والتي ستجعله هو.. ندبة الأحلام). ــ 3 ــ وفي المساء. جاءها عبودة على موعدها، ممنياً النفس بلقياها، وقد غابت كل النهار، حاول مراراً أن يراها فوق السطوح، أو قرب بوابة الدار، لكنها لم تظهر، كان مستنفراً لا يهدأ على حال. دفع بوابة السطح بهدوء، فصرّت بأنين حزين لم يعهده، فانقبض قلبه وانتفض. وخطا إلى الأمام. كان ما بينه وبين الغرفة الصغيرة المنزوية في آخر السطوح، ممر طويل ضيق. تقدم، فتناهى إليه ضجيج خافت رتيب يتعالى من الغرفة، لكأن جورية تعدّ له مفاجأة للقاء. بدا مضطرباً لا يحسّ بالظلمة التي ظلّلت الأشياء. تقوده قدماه نحو مكانهما المعهود. ولم يفطن لغياب هديل الحمام، وفزعه الحميم الذي اعتاده كل مساء. وفي مرقدهما هبط منتظراً قدوم جورية، ووقع قدميها فوق الخشب الحنون. انتظرها طويلاً ولم تأت. حتى لكأن طيور الحمام نامت مبكرة، وإلا فأين هديلها، وحيرتها اللجوج؟!! ابترد قليلاً وجورية لم تأت. انتظرها وقتاً آخر، ولم تأت. ظلّت ممعنة في الغياب. أخذته الحيرة، ولعبت به الظنون، وهاجمته المخاوف والهواجس، فنهض كالمقروص. ومضى حذراً نحو الغرفة كمن يمشي على أنفاسه. اقترب من الغرفة، بحث عن بابها وسط العتمة التي لا تفصح عن شيء، ولم يجده، دار حول الغرفة ولم يجب الباب أيضاً، أحسَّ كأنه أضاع المكان. استدار ثانية، وجاء الغرفة من طرفها الآخر، فقابله الجدار، عاد فجاء إلى الغرفة من مدخلها الطويل الضيق، مقابلة لبابها لكنه لم يدفعه، أو يطرقه فقد صار في وسط الغرفة تماماً. هي ذي نافذتها مشرعة، تعبرها الريح الضاجّة الرتيبة. لكن أين جورية وأين أمها الرقيدة، وأين الفراش؟! فما من أحد هنا. دار في المكان الصغير واستدار. يكاد يهوي. يتقاوى قليلاً، فيستند إلى أحد الحيطان. يجول ببصره فيما حوله فلا يرى شيئاً ولا يسمع أنيناً أو لهاثاً. يحسُّ بأنه وحيد مع الريح العابرة. ويدور ثانية كمن يبحث عن الهواء. أبداً ما من أحد هنا، ما من شيء! ينحني على الأرض. يمسحها بيديه وبجسده، فيحسُّ ببرودتها بعدما اختفى بساط الخرق الملونة. يجفل عبودة، ويدرك أن المفاجأة وقعت، فالغرفة وحيدة تماماً. لكنه لا يصدق. يشرع في المناداة، والهمهمة، ويمضي في البحث والدوران. يتعالى زفيره، ويمتدّ لهاثه، لكن دون جدوى، يوهم نفسه بأن جورية موجودة لكأنها عالقة به فيناديها، ويغمغم بالكلام، وما من أحد. وحين يهدّه التعب واللوبان يجلس خائراً، خائباً.. كأنها لحظات ما قبل البكاء. يخلع حذاءه ويمشي حافياً لعل قدميه تلامسان آثار الخطا التي مشتها جورية، ويلمس الحيطان بيديه، ويمر بأصابعه على الرفوف المذيلة بأوراق الجرائد المقصوصة يبحث عن صندوقها ليضمَّ عرائسها القماشية، وأمشاطها، وليقبّل مرآتها التي رأت وجهها طويلاً. ودَّ لو عثر على ثيابها المعلقة فوق المسامير لشمّها ثم لثمها.. ليمتلئ برائحتها. لكن لا شيء هنا. لا أحد سوى الحيطان. يهبط الدرج إلى الأسفل، الأسفل، الأسفل. ينفلتُ في الأزقة والحارات. يمشي الدروب التي مشتها، لعله يصادفها آيبة إليه. يقضي الليل البارد العبوس باحثاً عنها في كل الأرجاء، وحين يطلع النهار يمضي مبكراً إلى البيوت التي عملت فيها ويسأل عنها. يواقف الناس ويسألهم، يناديها، كلما انفرد بنفسه، بملء الصوت لعلها تبدد كل هذا الجولان. بدا، كمن ضيّع روحه، ناشطاً في البحث، والمطاردة، والسؤال، لكن دون جدوى، فعاد، وقد عاد المساء، وافاها على موعدها كأنه يجيء إليها للمرة الأولى. دفع البوابة، فصرّت بأنين كالبكاء، ومضى في الممر الطويل نحو غرفتها التي تصفر فيها الريح. بحث مرة أخرى، ونادى طويلاً. لكن ما من أحد. بدا المكان كالخراب. صعد الدرج الخشبي فشعر، لأول مرة، بأن صعوده لا يترك وراءه ذلك الرنين العذب. صعد متراخياً لكأنه في جنازة. مضى.. فوق السطوح، نحو البراميل وأعشاش الحمام. وما من أحد. أحسّ بالبرودة تملأ قلبه. فنادى، وردّ الصدى جورية. ولا أحد، دار ولفَّ حتى خارت قواه، فارتمى، لكأنما الدنيا دارت به أو انعتمت عليه، وقد أيقن أن كل شيء انتهى، وأنه كان في حضرة السحر ليس إلا. رفع رأسه نحو السماء الفسيحة المُنجمة، فرأى من حوله طيور الوطاويط محوّمة في المكان، لها رهجة الفضة كلما استدار بها الجناح، فراح يراقبها، وهو يحسُّ، وقد هاجت به الروح، بأنها.. طيور الحمام. * * *[/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في المساء الأخير..! [align=justify] ــ 1 ــ عيناي غائرتان، تجولان في وجهي الناحل الممصوص. أفقي معتم تماماً. قدماي لا تبصران طريقي بوضوح. الكآبة تخنقني. حالات الماضي تبعثر لحظات صفائي. أبحث عن أيامي، وساعاتي الرائقات.. فلا أجد. أبداً.. لكأنما المدينة صبّت مرارها فيَّ! ــ 2 ــ أنا خميس الشايب من قرية (الفوارة). قدمان للحزن، وكفّان للخيبة. والليلة رأس السنة الجديدة. أريد الاغتسال.. من أوجاعي، وعثراتي الماضية، أريد أن أفرح.. لكن الفرح لا يقاربني. كثيراً ما أناديه؟ أرجوه أن يبدو لي (ولو) مرة واحدة.. لأشكو له مرار أيامي وأحزاني.. الدائمة. أتصوّره أنثى، فأتودّد لمن هن حولي.. لحظات فقط وأصدّ. أحسبه ضوءاً من أضواء المدينة، وما أكثرها، أقترب منها.. فتبدو معايبي، بل يأخذني خيالي إلى أن أظنه.. الإخلاص في العمل والاجتهاد عليه، أسعى إلى ذلك.. فأوصف ب(دب الشغل). محاولات، ونداءات، وانتظارات.. رمّدت روحي. ــ 3 ــ هي ذي أمسية آخر يوم من أيام السنة تذوي بين يديَّ. فالليلة تمضي وتأتي أخرى. والدنيا ستموج بالناس، والفرح، والأمنيات.. وأنا طيّ وحدتي وأماني.. الباردة! قبل قليل فقط كنت أسمع رفاقي في العمل يتحدثون عن طقوس السهر، وما أعدوه لها، ومع من سيسهرون، وأين؟ وما من أحد منهم دعاني، أو حدثني عن هذه الليلة.. لكأنني بينهم منبوذ أو هكذا أبدو. كنت أتقصد، وهم يتحدثون عن السهر، المرور بهم، أطلب منهم بعض الأشياء، أو أسألهم أسئلة عابرة.. لكن دون نتيجة. تجاهلوني تماماً، وكأنني غيرُ موجود. .. ومع انتهاء الدوام، غادرتُ مكان عملي وحيداً تحت مطر خفيف. شاغلت نفسي، وحدّثتها.. بأنه من الممكن للمرء أن يسهر وحيداً.. فتجيبني (وكأنها ضدي)، يسهر وحيداً.. نعم، لكنه لا يفرح. فأغتمّ! مع ذلك، وبسبب المطر والبرد، أحاول تكريم نفسي في هذا المساء.. فألغي فكرة مواصلة السير إلى البيت مشياً، أو الركوب في الباصات وسيارات (السرفيس)، أسعى إلى مكافأة الجسد مكافأة كبيرة، فأمامي، هذه الليلة، سهر طويل، وقائمة طويلة من الأسى المكتوب، والأماني المشتهاة. تروق لي الفكرة.. فأقبض على خطاي في طرف الشارع، وأنتظر سيارة أجرة فارغة. يمرّ عليَّ وقتٌ طويل وأنا تحت المطر، وما من سيارة. كلما أهمّ أن أصل إلى سيارة أجرة فارغة، يسبقني إليها مخلوق ما ينبت أمامها كالفطر.. يندسّ فيها ويمضي. أنتظر أكثر.. فتبتل ملابسي، ويأخذني البرد، وحين يطول انتظاري.. ألعن ساعة تفكيري بمكافأة الجسد.. فلو مشيت، من ساعتي، لكنت الآن في غرفتي أحتفل بنفسي على طريقتي، أعدّ لها عشاءً فاخراً (أوقية من اللحم المفروم الناعم، وفحل بصل مفروم ناعم أيضاً، وحبة بندورة، وثلاثة أرغفة. سأضع اللحم والبصل في الصحن القيشاني الوحيد الذي أملكه.. ولحظتئذٍ، هات يا قابلية! سآكل وكأنني في أحسن فنادق البلد)! لكن الآن.. ما من شيء سيرضيني، فقد تورّم غضبي وازداد. أتمتم بأسى: ــ لو ذهبت إلى البحر، يا خميس، لجفَّ. دنيا بنت حرام، تعطيها وجهك، فتدير لك قفاها. دنيا أعجب من البراغي«! .. بعد الانتظار الطويل المُرّ، ألغي فكرة ركوب السيارة. أمحو المكافأة بشتيمة كبيرة. أمضي في دربي الاعتيادي مشياً إلى غرفتي بوجه محتقن، وشفتين مطبقتين، في البدء كدتُ آكل نفسي من الغيظ، وقد اشتدّ المطر، وهاجت الريح، لكن، وبعد وقت قصير، هان مسيري وحلا حين رأيت فتاة ناهدة الصدر، طويلة ممتلئة، تمشي بهدوء كأن الرصيف تحت قدميها لوح من البللور تخاف أن.. يتوسخ. تشدّ إلى صدرها محفظةً وكتاباً. يرفّ صدرها.. فيرتجان رجة خفيفة.. آسرة. تسير، قربي، تحت المطر غير عابئة بالناس، والبرودة، والريح اللعوب. تمشي.. فتنسحب معها الأرصفة، والشوارع، والمحال، وأشجار الطريق.. توازيها للتحية، وللمرأى الجميل. يعجبني ثبات خطوها، وأحسدها على تمتعها بالمطر. تروق لي الفتاة فأطوي ببصري بداية الشارع على نهايته.. لأرى إن كنتُ وحيداً قربها أم لا. ألحظ انشغال الناس بأنفسهم، وقد أشعل المطر في أجسادهم الحركة، بدوا يتراكضون ويتناثرون هنا وهناك، وما من أحد منهم مهتم بالآخر. أقترب من الفتاة وأنظر إليها. مرةً أسبقها بخطوات وأنظر إليها. وأخرى أتخلّف عنها وأتفحصها. أنثى كالنخلة، طويلة وممتلئة، ومطمئنة. تبدو لي وكأنها سارت طويلاً تحت المطر.. فثيابها مبتلة تماماً، وشعرها هامد، كفَّ عن إبداء وجهها ورقبتها وإخفائهما. بدت كأنها خارجة لتوها من البحر، بعدما دخلت إليه بتمام قيافتها. أقترب منها ناوياً أن ألاطفها بكلمة، أجسُّ (نبضها)، فأتردد كثيراً، أو أسألها إن كانت بحاجة إلى خدمة ما، فلا أتجاسر، لكن، مع مرور الوقت، تلحُّ الفكرة عليَّ. أقترب منها أكثر. تلحظ هي اقترابي منها وابتعادي عنها، فترامقني مرات عدة، ثم ألحظها ترامقني وتبتسم. تمتلئ الروح برغبتها. أدنو لمحادثتها كطفل، وأنا أتمنى من الله أن يمنَّ عليّ بوقت طيب معها. إن حدث ذلك.. سأكتب تاريخ هذه الليلة على باب قلبي. أدنو أكثر. أهمس ببحة: ــ »مساء الخير«! فتجيب دون تردد: ــ »مساء الخير«! أتلعثم بالاعتذار، وسؤالي إن كانت بحاجة إلى مساعدة، فتهزّ رأسها نافية (ينقبض قلبي) فأكفُّ عن الحديث. تسألني دون توقع مني: ــ »إلى أين«! فأجيبها بحرارة: ــ »لقد تركت دوامي المسائي منذ قليل«. ــ لكي تسهر«؟ ــ »لا.. فأنا وحيد«. تقول بعذوبة، وقد صمتت قليلاً: ــ »ترافقني إلى مكان سهري«! فأراوغ قائلاً: ــ »قد أزعجك«. فتهزُّ رأسها نافيةً. (نفي لا أجمل ولا أرق)! أنسى نفسي قليلاً لأشكر الله الذي استجاب لدعوتي. .. ففي هذه الليلة سأجد لرأسي صدراً دافئاً، وفوقه سأبوح بكل أحزاني، سأقول لها، مصارحةً، أن المدينة عذَّبتني، وأكلت قدميَّ، وأن العيش فيها ضمورٌ لا امتداد، وأنها لم تكن سُلماً، كما قيل لي، له بداية ونهاية، وأن سنوات الحياة فيها درجات.. سنة تقود إلى سنة، حتى أصل إلى القمة. سأصارحها بأشياء كثيرة. لمَ العجلة؟! أمشي.. فأوازي الفتاة في مسيري. دون أن أهتم بما حولي من أشياء، وأصوات، وألوان. أحاول، قدر استطاعتي، كتم صوت حذائي. وأرجو الله أن يكون وجهي، الذي دعكته في غفلة من الفتاة مرات عدة، لامعاً مثل وجهها. أتأسف لها لأن المطر بلّل ثيابها وشعرها.. فتبتسم. (أنتظرها لتتأسف لي.. لأن المطر بللني أيضاً، لكن انتظاري يطول). أحفًُّ بها مصادفةً.. فأضطرب وأجرض بريقي. أسمعها تقول بصوت هادئ أنها قررت أن تفاجئ أصحابها الساهرين بمنظرها المبلول، فأبتسم وأنا أنتهز فرصة التمعن بجسدها الذي بدت مفاتنه، بعدما لصقت الثياب عليه. بدا وجهها الواسع الطويل لامعاً متورداً.. كأن الدموع غسلته للتو. تقول لي: ــ »سنفرح هذه الليلة أكثر من كل الليالي الماضية«. فأتمتم لها: ــ »هذه الليلة جديرة بالفرح«. (لماذا.. لمخلوق مثلي، لست أدري)؟! تحدثني عن وحدتها مع والديها، وأنها عاتبة عليهما جداً لأنهما تركاها بلا أخ أو أخت، وأن حيرتها كبيرة دائماً لأنها لا تعرف كيف تقضي أوقات فراغها. وأحدثها عن قريتي والحياة فيها، وكيف كنت أظنّ أن شهادة الجامعة (حجاب) من الفقر، والخوف، والأماكن العالية، والتردد، والسقوط. (حجاب) سيمحو صفرة لوني، وعثراتي، وماضيَّ. (حجاب) سيأخذني إلى صدر أتمناه، ودربٍ أشتهيه وقد طاردته طويلاً. كنت أظنها دنيا، فسعيت إليها. (بهدلتني) المطاعم ليلاً وأنا أغسل صحون روادها.. فتحملت. وعذَّبتني نهارات الدراسة، فصبرت. ولم أفطن إلى أنني حين كنت أتقدم في الدراسة سنة بعد سنة أن الدنيا تقدمت كثيراً. وحين حصلت على الشهادة انقلب السحر على الساحر.. فلا همومي ولّت، ولا دفئي المرغوب.. دنا. تقول باندفاع شديد: »إن الشهادة صفر، وما عادت تفيد بشيء«! فأوافقها! وتضيف بأنها لذلك، ضحَّت برغبتها في دراسة الأدب الفرنسي، ودخلت الجامعة لتدرس الحقوق كما أحبّت أمها. أؤمِّن على كلامها وأظلُّ طيَّ صمتي؟! أم أنثر ما في القلب من غصّات؟. أتردد قليلاً، فتجتاحني، رغماً عني، كآبة أعرفها جيداً. أسمعها، بعد صمت قصير، تتحدث عن والديها الرائعين اللذين ذهبا إلى سهرتين مختلفتين. فأودّ أن أقول لها إن أهلي، الآن، نيام في هجعة واحدة كعشِّ من (الدبابير).. حلاوة الليل عندهم.. هي أنه هدنة مع الحياة ليس أكثر! أسألها، وقد مضى علينا وقت طويل ونحن نمشي: ــ »أما اقتربنا«؟! فتجيب: ــ »بلى، لكني أقترح عليك أن نتسكع في الشوارع حتى ما قبيل منتصف الليل بقليل. ما قولك«؟! فأغمغم، وقد حننت لمجالستها وملامستها، كأنني أعرفها منذ زمن طويل: ــ »لكن الدنيا.. مطر، وبرد، وأنت رقيقة«! فتهمس: ــ »لا عليك«! وتعود لمحادثتي. تقصُّ عليَّ أخبار عشاقها الذين تركتهم لأنهم غير جديرين بحبها. وتمدُّ أمامي طقوس هواياتها، وصفات صديقاتها وما حدث لهن مع أصدقائهن، وتكشف لي عن أحلامها في السفر. ولكي تسايرني، وقد استمعت إليها طويلاً، تسألني عن ألواني المفضلة، فأقول لها: ــ »الأحمر. الأخضر..«. فتهزُّ رأسها مستغربة، لتقول: ــ »الألوان الأحلى هي الموف، والسكلما..«. وهكذا ظللنا! حديث يأخذنا إلى حديث، وشارع إلى آخر إلى أن أنفقنا وقتاً طويلاً جداً حتى اقتربنا من منتصف الليل (الذي حسبته لن يأتي)! .. لحظتئذٍ، قالت: ــ »هيّا، لقد تعبنا«! فانطلقنا باندفاع بادٍ. كنت أمّني النفس بأن أرتوي من رؤيتها تحت أضواء مبهرة، داخل بيت دافئ. سأنزع عنها ثيابها المبللة قطعة قطعة. وسأمنحها كلّ الدفء الذي اختزنته الروح لأنثى حقيقية. سأنشِّف شعرها ووجهها بخفيف أنفاسي، وسوف..! كانت صامتة، مستمتعة بوقع أقدامنا، وصوت تساقط المطر.. لابدّ أنها، هي أيضاً، تفكر كيف ستُفرح قلبي. وكيف ستجعل من ليلتي هذه.. ليلةً لا شبيه لها. سأساعدها كثيراً.. سأمحو عنادي وترددي، وأكون بين يديها ليّناً طيّعاً، سألبي رغباتها كلها، وسأجعلها توقن تماماً بأن أبناء القرى جديرون بالمحبة أيضاً. أحمّس نفسي وأشجعها.. بأن هذه الليلة ليلتي، وفيها لا فرق أبداً ما بين الوقوف والانحناء. (يبدو أنني سأعرف الفرح.. أخيراً)!!. بغتةً، تنقطع أحلامي دونما تنبيه حين تقف رفيقتي أمام باب خشبي عالٍ، مزيّن بالنقوش والرسوم.. فأقف. تقابلني، لأول مرة، وجهاً لوجه، وقد حضنت صدرها بذراعيها، وشدّت عليه. تقول: ــ »لقد وصلت. هذا هو البيت«. فأقول لها، وأنا أبتسم: ــ »أخيراً..، كان المسير استثنائياً«! توافقني. تزمّ شفتيها على ابتسامة ناحلة، وتهزّ رأسها بعزم، ثم تتمايل أمامي بهدوء، وترمش بعينيها، ثم تقول: ــ »أشكرك على كلّ شيء. وأرجو لك ليلة طيّبة، وعاماً طيّباً.. أيضاً«. سقط قلبي أو كاد!.. فهي تودعني!.. بعد كل هذا المسير، وكل هذا الحديث تودعني! (اعتقدتُ أنني وإياها.. كنا ننثر عتبات صغيرة هنا وهناك.. حتى إن خلونا، تكون الروح قد عرفت الروح وتاقت إليها..). إنها تودعني. تبدد أحلام ساعات طويلة، أحلام عمر بحاله. تمدّ حياتي بكآبة إضافية، وإحباط جديد (وهل ينقصني؟!). أخطو نحوها. أحاول أن أقول لها شيئاً، أن أشرح موقفي، وأبيّن لها أنها إن تركتني الآن.. سأردُّ باب الحياة عليَّ.. وأنتهي، سأحاول أن..!! لكنها استدارت دون أن تسمع كلمة واحدة. ودون أن تواعدني لمرة قادمة. فتحت الباب، ودخلت! وخلفها.. صرَّ الباب ثانية وانغلق،.. فانغلقت الروح على ما فيها.. وانطوت. .. مع ذلك، وقبل أن يخدر الجسد في وقفته، جررتُ خطاي نحو غرفتي.. فما زال لدي هناك جارتي العجوز التي تنتظرني كأنني ابنها الوحيد.. وكتبي، وزهور الأقحوان، وفراشي، وعشاء عامي.. الأخير!! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في غيابهما..! [align=justify] مساءً، أحسستُ بالأسى يملأ قلبي، وقد بتُّ وحيداً في الحديقة العامة، وهما لم يحضرا بعد!! لا أحد حولي، لا عشاق يتهامسون، ولا أطفال يجرون أو يتصارخون، ولا عجزة مثلي يتأملون. يخيفني هذا الفراغ العجيب، فأطلق بصري في ما حولي فلا أرى سوى المقاعد المنزوية تحت الأشجار، وقرب مراتب العشب، وفي البعيد، أرى الحارس العجوز الضامر يترامح هنا وهناك، يغلق الأبواب، يتفقد الأدوات والأسيجة ومصابيح الإنارة، ويخرج!! كان المطر، قد بدأ منذ لحظات، يتساقط ناعماً رخواً، وكنت ألوذ بمعطفي الأسود الطويل تحت واقية التوتياء المصبوغة بإعلانات الأشربة الباردة، أتفرج على الناس الهاربين من المطر وعتمة المساء والريح اللافحة، والسيارات اللجوجة، والبيوت التي راحت تبدي جمالها بعدما أضاءت نوافذها وشرفاتها العديدة. أحسستُ بوطأة الصمت، ووحشة المكان، وبوحدتي المديدة، فهممتُ أكثر من مرة أن أذهب وقد ازدادت البرودة وتضاعفت، إلا أن شوقي لرؤيتهما وهما يتهاديان إلى موعدهما الاعتيادي، جعلني أتلبث في مكاني لكي أراهما فقط!! كانت روحي، لحظة يطلان، تطمئن وتهدأ كأنني ملاكهما الحارس، وما أن يجلسا حتى أنهض مديراً لهما ظهري، متمنياً لو أن أشجار الحديقة تتقارب وتتزاحم حولهما لتحجبهما عن نظرات الناس اللائبة. لا أدري ما الذي حببهما إليّ دون باقي الخلق الوافدين إلى الحديقة. كما لا أدري لماذا رضيتُ عن لقاءاتهما دون أن أعرف محتواها؛ بل لا أدري لماذا كان النوم يجافيني في المساءات التي لا أراهما فيها؛ كلّ ما أدريه هو أنني، وكلما رأيتهما، تذكرت الماضي، يوم كنتُ ألتقي ربيعة قرب بيتهم بعيداً عن العيون الراقبة؛ ربيعة جمال الدنيا الذي لا أنساه، وغصّتها التي لم أستطع محوها بعدما التهمها المرض فجأة فقطع خيطها مرة واحدة!! طال الوقت وامتدّ، ولم يأتيا!! لعنتُ العتمة والبرد الشديد؛ لكنني لم أفقد الأمل، ولم أغادر مكاني. نشطتُ في مراقبة المداخل، وأرهفت سمعي، ولكن دون جدوى، فالحارس ولّى بعدما سها عني قاصداً كعادته. أخثر بصري فوق مقعدهما الخشبي القريب مني، والمتواري وراء مشتل الورد القريب من الشارع العام، والمطل على البحرة الواسعة ونافورتها التي تحيل الماء إلى خيوط من الفضة اللامعة. لقد اعتدتُ على رؤيتهما في كلّ مساء وهما يتقدمان ببطء فوق خطا خجلى نحو مقعدهما المعهود، وقد عششت كفُّ الفتاة البيضاء الطويلة في كفّ رفيقها الطويل الأسمر، وقد مال رأسها نحو كتفه لائذاً في هجعة أرقُّ من الشوق وأحنّ، يمشيان على مهل وهما يتبادلان الهمس، والنظرات، والدفء الرغوب. لم أقترب منهما أبداً، ولم أرَ تفاصيل وجهيهما، ولم أسمع همهماتهما. كنتُ أكتفي دائماً بعذوبة هذا المشهد الرخي، ورهافته الآسرة. في مرات قليلة، كنتُ أشعر بالحزن وأنا أرى الشاب يدخل الحديقة وحيداً يهفو إلى المقعد كالمطرود، يجالسه ويمسّد عليه بكفّه لكأنه يدفئ المكان والوقت ريثما تأتي هي، فلا يهدأ أو يستكين إلا عندما يراها قادمةً على عجل تموج مثل عيدان القصب، ترمي للدرب خطاها ولهاثها ونظراتها الشرود؛ لحظتئذٍ يصير مشهد اللقيا أبعد من اللهفة وأبقى!! أحسُّ بالليل يوغل في العتمة والهدأة الفائقة، وهما لا يأتيان. تأخر الوقت كثيراً، والبيوت أطفأت أنوارها، وهما لا يبدوان! أرفع قامتي رويداً رويداً، وأدفع خطاي نحو مقعدهما الوحيد البارد، فيلفّني المطر الحنون، ونظري يلوّب عليهما حائراً هنا وهناك في مفارق الحديقة، وخلف الأشجار فلا أراهما. أصل إلى المقعد. أدقق النظر فيه كأنني أراه للمرة الأولى. ألمّس عليه. أمسح نقاط المطر المتساقطة على أطرافه. أطرد بلله، وأجمع أوراق الأشجار الصفر المتناثرة حوله، أجعلها طبقاً فوق طبق مفرشاً طرياً لأقدامهما. أبدو كمن يؤثث المكان بأنفاسه وحيرته، وحين أطمئن أنسل مبتعداً كي لا يضبطاني خلسةً قرب عشهما فينفران كطيرين عزَّّ عليهما الأمان، وقبل أن أحثّ الخطا خارجاً أستدير نحو المقعد، أحدّق فيه وأطيل النظر، ثم أحدّق فيه وأطيل النظر، فلا أمضي إلا وقد رأيتهما مثل غيمتين يهبطان عليه بعدما أعياهما التعب والجولان، إحداهما تدنو من الأخرى وتمسح عليها كيد ناحلة تقطر زيتاً تمرّ بخشوع على أيقونة ملأى بالألم العميم، وأبتعد حابساً أنفاسي وطاوياً وقع خطاي، وقد خلفتهما ورائي تضيئهما أنوار السيارات حيناً، وتخفيهما حيناً آخر في لحظة أرحب من المساء وأغنى!! * * * [/align] |
رد: " في شرفتها " للأديب أ : حسن حميد
في شرفتها..! [align=justify]ـ 1 ـ الآن، أيقنت أن الأيام دفعتها إلى الوراء كثيراً. وأن ما فات فات، وأن الندم ما عاد يفيدها بشيء.. لذلك.. علقت حياتها على نهار دافئ قادم أو على مساء فضيّ بَليل.. قد يأتي! ـ 2 ـ وحدها.. وفي كل مساء، وعلى شرفتها العالية تساهر أيامها الماضية. تتذكر صدودها عن شبانها الذين تقدموا إليها والعيوب التي اكتشفتها فيهم وعجزها ـ رغم محاولاتها الكثيرة ـ أن تعيش مع واحد منهم. تتذكر كيف أذنت لها الشهادة أن تودع أهلها وقريتها وتنحدر نحو المدينة، لتتعلم مهنة التمريض، والخواطر والمشاعر التي استولت عليها وهي في قطار الليل تحبو نحو المدينة، والمطر الخفيف الناعم الذي رافقها طوال الرحيل، والأرض الممدودة المرتجفة تحت عجلات القطار.. بمنظره الكالح المهيب. تتذكر كيف قابلتها المدينة بعتمة.. أضواؤها شاحبة أعياها السهر وعذَّبها، تلك العتمة التي أرعبتها وسمرتها فوق مقعد رخامي بارد في المحطة حتى الصباح. وكيف أن صباح المدينة باكرها بالبرودة.. والوحل، وعمال القمامة.. والناس النيام الموزعين حولها بوجوههم المصفرة، وأفواههم المفتوحة وكأنهم في هيئة استغاثة أو حزن عميم!! تتذكر الآن أشياء كثيرة.. مريولها الأبيض، ودروس التمريض والأطباء، والمرضى، وروائح الأدوية، والعمليات، وانكشاف صدرها وشعرها وساقيها لأول مرة أمام الناس في المشفى.. والطريق. (الآن، في شرفتها.. وقد كرت الأيام كثيراً، يعتكر وجهها حين يراودها المستقبل في صورة وجه من وجوه السيدات المتقدمات في العمر اللواتي تعتني بهن في المشفى، أو حين يبدو لها في هيئة من هيئاتهن الحزينة! وحدها.. تتذكر وتحلم ثم تتباهت، فتغفو)! ـ 3 ـ اعتادت، منذ ليال عدة وهي في شرفتها.. مع طعامها وشرابها ونباتات الزينة، وموسيقاها التي تحب.. أن ترى رجلاً يدنو نحوها في وقت متأخر. يقوده إليها درب ناحل مترب يكاد لا يبين. كان يبدو لها، من بعيد كتلة عاتمة تقترب. يتلامع جبينه كالفضة بين حين وآخر وكلما باغته الضوء. يتقدم نحوها فوق خطا واهنة متعبة لكأنما السهر أطفأ رشاقتها. يدنو فتراقبه باهتمام شديد حتى يصبح تحت شرفتها تماماً. عندئذٍ، تسقط بصرها عليه حبلاً حبلاً، وتحاول معرفة ملامح وجهه، لكنها لا تستطيع، لأن الرجل سرعان ما يغيب في مدخل البناء الكبير دون أن ينتبه إليها أو يلحظ وجودها. وحين يتوارى.. تعيد جسدها المتدلي فوق الشرفة.. إليها، وتفكر به قليلاً ثم تمضي في سهرها.. وهي تراقب البيوت من حولها وهي تنعتم واحداً واحداً. في أول الأمر لم يكن الرجل يثير اهتمامها أبداً.. وقد عدّته واحداً من الذين مصَّتهم المدينة ثم صدّت عنهم، يغافل الناس ليلاً، وقد هجعوا وناموا فيأتي إلى أحد مداخل الأبنية وينام فيه، لكن الرجل راح يثير اهتمامها حين بدا لها.. في واحد من المساءات، وعلى حين غرة ـ وهو قرب شرفتها ـ رجلاً طويلاً ممتلئاً. ثيابه نظيفة، وشعره طويل أسود، ووجهه أبيض لامع بشاربين أسودين، وشفتين منفرجتين عن أسنان شديدة البياض، وذقن عريضة مثلومة، وقد انكشف قميصه عن صدر واسع عريض. لحظتئذٍ.. أحسّت بغصّة لأنها ظلمته. وخُيّل إليها أنها رأته من قبل مرات كثيرة، وأن طيفه عالق في خاطرها منذ زمن بعيد، وأن شيئاً ما يربطها به، ويشدّها إليه. (حاولت جاهدة أن تتذكر أين رأته ومتى؟!.. وهل هو من سكان البناء أم من معارفها في المشفى، أم أنها رأته في الطريق لمرة أو أكثر؟! لكن دون جدوى)!! وحين تكرر ظهوره وغيابه، وازداد إلحاحها في مراقبته صار أكثر ما يعذبها في لياليها أن يأخذها النوم قبل قدومه أو أن تطيل سهرها دون أن يجيء، وغدا كل ظهور له يؤكد أنها تعرفه تماماً، وأنها جالسته وحدثته، وأكلت معه وشربت، وأن ثيابه التي يلبسها كانت قد نظفتها وكوتها مرات عديدة. .. ولكم استنفرت حواسها في ليالٍ متعددة وحالما يدخل البناء لكي تسمع صوت باب يفتح له أو يغلق عليه، أو أن تراه صاعداً ملهوثاً.. يرمي للدرج تعبه وعتبه عليه.. لكنها لم تسمع أو ترى شيئاً. ولكم تجرأت، وتركت له الباب مفتوحاً مضاء وتشاغلت عنه.. لعله يدخل أو يسأل، لكنه لم يأت أبداً، ولم تشعر بوجوده داخل البناء. بل إنه لم يعرها اهتماماً حين حاولت لفت انتباهه إليها وهي في شرفتها.. وحزنت!! ـ 4 ـ في هذه الليلة وقد هدتها الأسئلة، والحيرة.. قررت أن تراه وجهاً لوجه، وأن تتأكد من معرفته.. بعدما أقلقها وأغلق عليها نهاراتها. في لحظة من اللحظات، وقد فكرت به كثيراً اعتقدت أنه وحالما يراها سيعتذر إليها طويلاً لأنه وفي كل يوم يأتي إليها فلا تقوده قدماه إلى بيتها. يدخل البناء والدنيا ليل فتتشابه عليه الأبواب، والمداخل ويظل يدور ويدور قليلاً أو كثيراً فلا يجدها، وعندئذٍ يعود خائباً ممروراً حالفاً الأيمان الغليظة ألا يعود..)!! حين صممت على رؤيته، نظّفت الشرفة بالماء والصابون، ولمّعت سياج الألمنيوم المحيط بها، وأسقطت الأوراق المصفرة من نباتاتها، وبدّلت غطاء المنضدة الصغيرة، وأعدت شرابها وطعامها وموسيقاها، ومكاناً خالياً للرجل. وحينما لاح لها أنه من الممكن أن يدخل إلى مطبخها أو غرفة نومها سعت إلى مسح شيء من سواد أحد حيطان المطبخ.. (كانت المدفأة قد تركته منذ سنوات بعيدة) وخبأت ثلاثة فناجين قهوة مكسورة الأيدي، وصحناً من البلاستيك الأصفر مشقوقاً من منتصفه، وركوة قهوة يدها الخشبية القصيرة محروقة من طرفها. وحزمت علبة القمامة بقطعة من البلاستيك الأسود الطري، وربطتها بخيط رفيع من المطاط. ومسحت واجهة البراد بإسفنجة مبلولة. ورتبت ملابسها داخل خزانتها، وأخرجت شرشفاً نظيفاً وغطت به سريرها، ورمت علبة كرتونية كان فيها بواقي قطع من أقراص الغريبة والبرازق. وشمّت كأس الماء التي تشرب منها مرات عدة. كانت على قلق. وحيرتها كحجر الطاحون لا أول لها ولا آخر. وأحسّت منذ أول سهرها أن الليل طال وامتد كما لم تعهده من قبل. بحثت عن أغنيات وقطع موسيقية تحبها، وانتظرته طويلاً حتى أشرف الليل على الزوال أو أوشك. كانت وكلما امتد بها الوقت، تضبط نفسها بين حين وآخر وهي واقفة أمام المرآة.. تستشيرها. وقبل أن يطويها النوم واليأس معاً.. رأته قادماً كالضباب.. منقاداً لخطا رخية. يدنو على ريث شديد. ولما اقترب أكثر، سيّجته بنظرها، وتأكدت أنه هو. واهتاجت الروح في داخلها، وضجّت قدماها بالحركة. ودونما إبطاء انطلقت إليه لتستقبله قبل أن يذوب في المدخل. لحظات.. وأصبحت في فم البناء واقفة باضطراب وارتباك تدعك وجهها براحة يدها، وتهدئ ضجيج أنفاسها رويداً رويداً، وهي تستعد للقياه. نفضت ثوبها مرات عدة، ومشطت شعرها بأطراف أصابعها.. وطال انتظارها، وبدت أعضاء جسدها مستنفرة لا تستقر على حال. تقدمت من مدخل البناء وأطلت إلى الخارج لترى إن كان الدرب مازال عالقاً به أم لا.. فما رأته! اعتكر وجهها أكثر، وساورها شك ضعيف بأنه ربما أحسّ بها فسبقها إلى تحت الدرج وتوارى عنها.. فاستدارت نحو الدرج، واندفعت إليه وهي تتمتم له همساً. وتبحث عنه بنظراتها ويديها وسمعها.. مهمهمة لتشعره بوجودها ودون نتيجة. عادت إلى المدخل، وأطلقت بصرها نحو الدرب.. وما من أحد! مضت وبحثت عنه حول حاوية القاذورات.. فما وجدته! توهمت أنها لم تبحث عنه جيداً تحت الدرج فسارعت، ومسحت حيطانه الواطئة بجسدها لعله التصق بأحدها. وانحنت على الأرضية، ولمستها بكفيها.. وما من جدوى!! شعرت أنها أضاعته فعلاً.. وقبل أن تصدق ذلك نفرت إلى الدرب الذي كان يقوده إليها. ركضت فيه وبحثت عنه في جانبيه كالمذعورة، وعندما لم تجده، راحت تتبع آثار خطاه وسط عتمة لا تكشف شيئاً، وأخيراً يئست، أحسّت ببرودة شديدة تلفّ جسدها الذي أنهك تماماً فاستدارت عائدة إلى البيت.. خطوة إلى الأمام وعشرات الالتفاتات إلى الوراء.. بدت كطائر خرب عشه. كانت، وقبل لحظات فقط، وحين نزلت لتستقبله مشرعة الذراعين والوجه، مفتوحة العينين والصدر والفم، شعرها يعلو ويهبط كرف من العصافير، وثوبها العريض الواسع يتراقص بامتداد فوق قدميها القافزتين. لم تدرِ كيف هبطت كل تلك الدرجات الكثيرة ولا كيف وصلت إلى المدخل.. أما الآن فهي تصعد إلى بيتها درجة درجة ببطء ثقيل، وقد همد شعرها وسكن، وتراخى ثوبها، وانكمش، وانغلق صدرها وانطوى بذراعيها المضمومتين. فمها مطبق، ووقع قدميها كأنه طبل يشيعها. كانت تحصي الدرجات التي تصعدها فترى السليمة منها والمكسورة الأطراف.. فتهز لها رأسها. وترنو إلى أعقاب السجائر التي تناثرت على الدرجات هنا وهناك.. فتتمتم لها: »أعقاب، أعقاب«!! وترى الأوساخ التي علقت في الزوايا، وكتابات الأطفال ورسومهم على حيطان الدرج وقرب الأبواب، الأبواب التي لها عيون سحرية والتي ليس لها، المدهونة منها وغير المدهونة.. وابتسمت بذبول.. لأنها وحين خرجت، تركت له الباب مفتوحاً والشرفة مضاءة، وزمت شفتيها. وها هي.. الآن تنسل إلى شرفتها إلى حيث هي نباتاتها وموسيقاها وشرابها.. وقبل أن ترتخي في جلستها ودون قصد منها شملت دربه بنظرة عجلى فرأته.. وقد قطع نصف الدرب يدنو نحوها على مهل.. كالغبش!! * * * [/align] انتهى الكتاب |
الساعة الآن 27 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية