![]() |
تأملات في مهبّ الريح (1)
*** أردت أن أبدأ بأداة نفي واضحة لا لبس فيها. دون أن يكون لديّ أي مخطّط مسبق لهذا المشروع الكتابي. مجرّد فكرة الانسياق خلف الانفجار الذاتي الداخلي الذي لم يتوقّف عن الفورة وقذف الحمم طِوالَ سنوات امتدت لما يقارب نصف قرن. المعذرة، أنا فلسطيني! كان هذا يعني الكثير في أواخر القرن الماضي، كانت الفتيات يتبرّكن بملامستنا وملاطفتنا، كنّا أصحاب قضية، ولكنّا ما نزال نحن المشرّدون في بقاع الدنيا .. نحن ما نزال أصحاب هذه القضية. ما الذي تغيّر إذن؟ لماذا لم نَعدْ نشعر بنفس التعاطف إيّاه؟ كان لا بدّ من القفز فوق حاجز الصوت، لندرك بأنّنا قادرون على إلحاق الأذى بالآخرين، وربّما بأنفسنا وأهل عشيرتنا! نحن قادرون على ارتكاب الأخطاء، أدْرَكَ الآخرُ هذه الحقيقة، قبل أن نفقأ أعيننا بمخرز من صنع محليّ. عندها توقفنا قليلاً أمام ضميرنا المُكْلَمْ وقُلْنا: المعذرة، نحن ما نزالُ فلسطينيون!. أنا .. كنت نتاج تلك الخلوة، ليس غريباً أنّني وُلِدتُ في فلسطين. تعلّمتُ لفظها خوفاً، وحبّاً، وكرامة، ومجبراً، ودفاعاً عن الذات، وألماً، وملاحَقاً، وحزيناً، ومتوحّداً، ولئيماً، وجريحاً. هكذا، بكلّ حضوري المشحون بالغياب. ومضيت كما جميع الأطفال الرُضَع أحبو على أربع، وأضحك في وجه الريح عابثا متحدّياً. سمعت بأنّ هناك مياهً غزيرة مجتمعة كألف فيلق عسكريّ، يسمّون ذاك المكان بحراً، وقالوا بأن هناك مياهً أعظم لجاجة وشدّة من البحر، ويسمونه المحيط! عندها أدركت بأنّنا لسنا مركز الدنيا، حتى وإن كنّا مركز الحدث!. عندها كَبِرَ قَلبي واستوعب مأساة الإنسانية وجموحها، وبدأت رحلةُ البحثِ عن الذات ابتداءً من اللقاء الحميم الذي جمع طرفي الإنسانية في عتمة الليل لأضيء. المطران كبوتشي قال في إحدى محاضراته بأنّه دافع بضراوة في كتاباته، عن اليهود الذين اضطهدوا خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك لأنّه يكره الظلم والعدوان وامتهان النفس البشرية. المطران ذاته (وأنت) وأنا أصبحنا بين ليلة وضحاها ضحية الضحية. وتهنا في لجّة العجب والألم، ولم نملك سوى اجترار كياننا وطموحنا نحو البدايات الممهورة في الذاكرة، فعذراً يا سلسلة الجينات المتحفّزة نحو التوافق، جاءت معظم الاحتمالات مأساوية، لتكوّن هذه الدراما المرئية في حافظة التاريخ. لقد كانت ملكي، كلبة سمراء عزيزة على نفس الطفل الذي كنته يوماً ما في فلسطين، ظننت بأنّه يمكنني أن أفعل كلّ ما أشاء بهذه الروح الحيوانية البريئة، امتطيتها وضربتها، فعضتني بحنوّ، وكأنّ كلبتي السمراء الصغيرة تقول لي: آذيتني، تنحّى جانبً، قتلها الإسرائيليون، وأنا الآن وبعد مضي ما يقارب أربعة عقود، أمسح دمعي كلّما تذكرت ذلك الحيوان البريء قتيلاً عند مدخل بيتنا القديم. ألا يكفي كلّ هذا الموت حتى أتذكر كلبة؟ سألت نفسي قبلكم، لأنني وبكلّ بساطة لم أخنْ ذاكرتي وبقيت أميناً على ألفٍ وخمسمائة يوم وليلة، رصيد مواطنتي في مسقط رأسي، لم يتمكن أحداً من سرقة هذا الكنز، بالرغم من العدّة العسكرية وصراع الحضارات. |
رد: تأملات في مهبّ الريح (1)
[frame="1 98"]
الأخ الأستاذ خيري حمدان خاطرة رائعة ,وتأمل أروع . فلن يستطيع أحد في هذه الدنيا أن يسلب منك ومنا هذه الذاكرة , وهذا الكنز ,مهما كبرت العدة العسكرية وصراع الحضارات ,أنت أستاذي بقيت أمينا على ألف وخمسمائة يوم وليلة رصيد مواطنتك في مسقط رأسك . ومن لايملك ولا يوم واحد من هذا الرصيد , يحمل في ذاكرته الكثير والكثير مما سمعه وعرفه وقرأه عن وطنه ومسقط رأس آبائه وأجداده . ونقول : المعذرة , نحن مانزال فلسطينيون. أشكرك وتقبل فائق تقديري واحترامي . [/frame] |
رد: تأملات في مهبّ الريح (1)
اقتباس:
منذ زمن بعيد لم يفاجئني أحد بتعليق مميز. لكن تعليقك جعلني أشعر بالخجل. المعذرة لجميع الذين لا يملكون يوماً أو ليلة واحدة كمخزون في ذاكرة الوطن، وهم كثر بالطبع. كلماتك أثبتت لي بأنّي غنيّ بأيامي التي عددتها بألف وخمسمائة، قضيتها في رحم الوطن. لو كان بيدي لأهديتك جزءً منها. عاطر المحبة |
رد: تأملات في مهبّ الريح (1)
[frame="1 98"]
الأخ العزيزالأستاذ خيري حمدان المعذرة ,والله ماقصدت أن أجعلك تشعر بهذا الشعور , لكن لاأخفي عليك أنني لم أحسد أحدا بحياتي على شيء , أبعدنا الله عن الحسد, إلا أبناء وطني الذين ولدوا وعاشوا ولو وقتا قصيرا , على أرض وتراب فلسطين الحبيبة .ودائما أقول بنفسي (يانيالهم) خلقوا وعاشوا فيها, وتنفسوا هواءها , وتمتعوا بجمالها. هنأك الله بأيامك الألف والخمسمائة التي قضيتها في رحم الوطن الغالي , وفعلا أنت غني بها وبغيرها . تقبل فائق مودتي وتقديري . [/frame] |
رد: تأملات في مهبّ الريح (1)
اقتباس:
ما أجمل هذا الحسد! |
رد: تأملات في مهبّ الريح (1)
في الرحيل نتذكر خبزنا وعرقنا ، حبنا ويأسنا..كل ذلك في الرحيل..الإغتراب قاموس يؤكد فيك حيثك :وطنك أمك وحبيبتك...
عزيزي خيري : سطورك ترسم فيَّ لوحات من الحنين لوطن ولدت ولم أراه..أحصيت أيامي فيه فلم أجد مذكرة تحويها..وجدت فقط عصورا تمتد فيَّ لآلاف السنين.. أنت دائما رائع بصورك.... تقدري العميق... |
الساعة الآن 00 : 03 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية