منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الخاطـرة (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   تأملات في مهب الريح (5) (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=10519)

خيري حمدان 15 / 05 / 2009 30 : 02 AM

تأملات في مهب الريح (5)
 

ما يطلبه المستمعون
أطلب دائماً فيروز .. تعيدني إلى القدس، إلى الضمير النازف. تأخذني إلى اعترافات خاطئ في رحاب الربّ. أطلب فيروز حتى يَبْيَضُُّ شعرُ الطفلِ التي كُنْتَهُ، شقيّ حتى الأذى، أؤذي نفسي وأجرح روحي وأمضي لأعود حتى أموت

بيروت خاطئ بل خاطئة. من أنّث بيروت ولماذا؟ حسنا لتكون عاصمة الجمال العربي، عاصمة أخطئت حين فتحت ذراعيها لتحتضن رصاصة، وغاصت الرصاصة عميقاً، امتدت نحو دمشق وعمان وكادت ورقة التوت أن تسقط! غضوا الطرف ورقة التوت قد سقطت وفيروز لن تصمت.

رسائل شوق من راديو عمان .. كان لي قريبٌ يعمل في الراديو، وكان ينقل رسائل الشوق بين الفينة والأخرى، فلان يحتاج لتصريح، فلانة خطبت أو تزوجت، وأبو فلان فارق الحياة على حين غفلة و و و. وجاء الهاتف المتجوّل، ألغى تلك الرومانسية التي تقعدنا بجانب المذياع في انتظار أخبار الوطن الذي لا يبعد سوى مرمى حجر. وحين يشتدّ الشوق بنا نمضي للبحر الميت، هناك تبدو (إيلات) مدينة إسرائيلية برائحة فلسطينية تمتدّ لآلاف السنين، كيف أخبرهم بأنّني غير قادر على النسيان، تذبحني الذاكرة، وأعيد فرك زرّ المذياع القديم، تقول لي أمي لقد تعطّل، تقول بحيرة أدِرْ المذياع الصغير صوته واضح، وأسألها ماذا بقي لك هناك؟ فتجيب: قلبي .. شروق الشمس .. موسم الزيتون، أختك الكبرى دُفِنَت هناك .. كلّ شيء هناك.

استيقظ الساعة السادسة والنصف صباحاً، بالكاد أفتح جفنيّ، وكأن قَدْراً من الملح قد صُبّ في أصلهما، والدي يشعل سيجارة أخرى، ويستمع لما تيسّر من القرآن الكريم، يرشف الشاي ويتناول على عجل بعض الطعام، يلمّع بصطاره العسكري، لينطلق إلى وحدته في الجيش العربي. لا أجرؤ على التأخر عن المدرسة. أركض بسرعة، أهرول، أقطع المسافة بعشر دقائق فقط. سيل الزرقاء مرعباً أيام الشتاء، هكذا كان قبل عشرين عاماً، المياه تعلو الجسر وبالكاد نقطع الطريق تجاه المدرسة. معظم التلاميذ يفركون أعينهم في تلك الساعة المبكرة. نصطف في الطابور الصباحي، يصرخ أستاذ بصوت جهوري "زبّط الصف!"، عصاه بالمرصاد، ونصطف كأننا في معسكر ننتظر صفارة الانطلاق للصفوف. الحصة الأولى عادة ما تكون سيئة، خاصة يوم السبت، الجمعة يوم لعب وتجلّي وهرب من حياة المدرسة، ولكن أيام الأسبوع سرعان ما تنقلب في انتظار الخميس، حيث يكون الدوام خفيفاً وقصيراً. أقذف بحقيبة المدرسة في أحد أركان المنزل وأذهب إلى ما يشبه الملعب بين الجبال.

حيّ الباكستان يقع على بعد تلتين من منازلنا، يتكون في معظمه من بيوت طينية، كانوا فقراء كادحين، أذكر بأن زملائي الباكستانيين كانوا يحصلون على قوت يومهم من صنع أكياس الورق المستنفذة من أكياس الاسمنت. كانوا يبيعونها لمحلات البقالة والخضروات. نذهب إلى حيّهم لممارسة كرة القدم، وهم معروفين ببنيتهم القوية وأجسادهم الكبيرة، وكان من الصعب الانتصار عليهم في معظم المباريات، إلا أن المتعة كبيرة للغاية. يوما ما ذهبنا وكان الجوّ باردا، وهناك لحق بي وبصديق لي بضعة كلاب كانت تحرس بيوتهم، لحقت بنا لمسافات طويلة، ولم أكن أعرف بأن الكلاب تشتمّ رائحة الأدرينالين، وكلّما ازدادت نسبته في الدمّ زاد تهيجها، ولا أدري كيف خلصنا من شرّها آنذاك. زال الحيّ الفقير وحلّ مكانه بيوت من الحجر والطوب والاسمنت، لكن الذكرى ما تزال باقية إلى يومي هذا. كلّما سافرت إلى الأردن يتصادف أن أقابل أحد أولئك الشبان طيبي القلوب، أصبحوا رجالاً، ومن خلفهم يسير الأطفال وربما الأحفاد أيضاً.

المدرسة كانت جادّة حتى المعاناة آنذاك، في الصف الخامس كان يعلّمنا مدرّس شرّير بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، وكان اسمه ببساطة "أبو علي"، حضر يوماً وقرّر أن نقوم بتأدية امتحان سريع "عالواقف" غاب ربع ساعة وعاد يحمل نتائج هزائمه النفسية، وزّعها وهو يفتل شاربه الكبير مقارنة بوجهه الصغير وجثته المتواضعة. كانت الحصة هي الأخيرة، وكنا نتضور جوعاً وتعباً، علامتي كانت جيدة جداً، ولكنها لم تكن كافية لخلاصي من الفخ الذي نصبه أبو علي. أذكر يومها بأنه طلب من زميلنا الباكستاني ضخم الجثة الخروج أمام الصفّ، في تلك اللحظة أعلن الجرس نهاية الدوام، ولكن لا حياة لمن تنادي. بعد نصف ساعة حضر مدير المدرسة، ليُطرد بدوره من مدرسته، طلب منه أبو علي إقفال جميع أبواب المدرسة. قال أبو علي السبعاوي نسبة لبئر السبع: كلّ من حصل على علامة دون الخمسين فليخلع نعليه وجواربه أيضاً! وضحت الصورة، وعمّ الرعب والهلع بين التلاميذ، سالت الدموع في سبيل التربية المحفوف بالمذلة وكراهية المدرسة وتعظيم ما هو دونيّ.

ِِِالزميل العملاق يقبض فخذي التلميذ لينقلب على ظهره صارخاً، وتبدأ عملية الجلد والمهانة وقتل الروح والمواهب، انتهت الحفلة الدسمة تلك، وطلب أبو علي من أحد التلاميذ المقربين الذهاب إلى بيته لإحضار طعام الغداء ونرجيلة، وهكذا جلس الملك غير المتوّج وحيداً في ساحة المدرسة، معلناً انتصاره على حفنة من التلاميذ الأطفال، قاهراً ما تبقى من عالم الطفولة لديهم. عقابنا الآخر وبالرغم من نتائجنا الجيدة، البقاء مسجونين في رحم المدرسة، وعندما أعلن المؤذن صلاة المغرب، سمح لنا بالقفز من فوق سور المدرسة. عُدنا إلى البيت ولم نجرؤ على الشكوى، لأن المدرّس آنذاك كان فوق الشبهات. بعد شهر من تلك الحادثة، دارت معركة ما بين عشيرة سبعية وأخرى محلية، استمرت فترة طويلة من الزمن، ولم يحل الخلاف سوى بتقبيل اللحى والرؤوس وإقامة حفلات العشاء وذبح الخراف وتقديم المناسف وصبّ اللبن. بالمناسبة، أنا لا أتحدث عن جامعة الدول العربية، لكن الموضوع يتعلق بحادثة حقيقية، كان مسرحها مدرسة هاني بن مسعود الزرقاوية في سبعينيات القرن الماضي. ِِ

***
ِِ

سلوى حماد 15 / 05 / 2009 00 : 02 PM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خيري حمدان (المشاركة 35934)
ما يطلبه المستمعون
أطلب دائماً فيروز .. تعيدني إلى القدس، إلى الضمير النازف. تأخذني إلى اعترافات خاطئ في رحاب الربّ. أطلب فيروز حتى يَبْيَضُُّ شعرُ الطفلِ التي كُنْتَهُ، شقيّ حتى الأذى، أؤذي نفسي وأجرح روحي وأمضي لأعود حتى أموت


ِِ

فيروز هذا الصوت الملائكي الذي يحملنا الى عمق الوطن بلا جواز سفر ولا فيزة ، صوتها الملائكي رافقني في كل صباحات غربتي ايام دراستي الجامعية ، فلم يغب صوتها الشجي عن أي صباح من صباحاتي،


كنت أدندن دائماً لها " زهرة المدائن" فا سمح لي ان اهديك كلماتها

أجلك يا مدينة الصلاه أغني
لأجلك يا بهية المساكن
يا زهرة المدائن

يا قدس
يا مدينة الصلاه أصلي

عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور فى اروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد

يا ليلة الإسراء
يا درب من مروا الى السماء
عيوننا اليك ترحل كل يوم
وانني اصلي

الطفل فى المغارة وأمه مريم
وجهان يبكيان
يبكيان لأجل من تشردوا
لأجل اطفال بلا منازل
لأجل من دافع واستشهد فى المداخل
واستشهد السلام فى وطن السلام
وسقط العدل على المداخل

حين هوت مدينة القدس
تراجع الحب
وفى قلب الدنيا استوطن الحرب

الغضب الساطع أتٍ
من كل طريف آتٍ
بجياد الرهبة آتٍ
وكوجه الله الغامر آتٍ
لن يقفل باب مدينتنا
فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق على الابواب
وسأفتح الابواب
وستغسل يا نهر الاردن
وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الاردن
آثار القدم الهمجية
وسيهزم وجه القوة

البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس سلام
للقدس سلام


أشكرك أخي العزيز خيري على مشاركتنا تأملاتك التى جاءت كأوراق زهرة جورية غافية بحضن كتاب، طالها القدم ومازالت تحتفظ برونقها ودفء الوانها،
ما نحتفظ به في ذاكرتنا من صور هو أثمن بكثير من حاضر لم يسطر ما يستحق تدوينه بالذاكرة.

دمت بعطائك الباذخ،

مودتي وتقديري،

سلوى حمّاد

خيري حمدان 16 / 05 / 2009 57 : 12 AM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
الأديبة الرائعة سلوى حماد
سررت حقيقة بمعانقة كلماتك وسرحت بعيدا مع كلمات أغنية فيروز ...
هدية في منتهى السخاء
حضورك غيّب الغياب وأبعد لعنة النسيان المتراكم
حضور الأديب في مضافة كاتب دعوة لاستجلاب سحاب العبارات وختم النهار بدفء التواصل
أدعوك لفنجان قهوة نصنعه على نار القوافي ونصبه في كؤؤس الأشعار التائهة في مخيلاتها لعلها تجد الطريق لنور الأدب
محبتي

نصيرة تختوخ 16 / 05 / 2009 17 : 01 AM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
نص دسم بتأملاته وصوره يبدو فيه الزمن متغيرا, متحولا و يفوح عبق الماضي بمظاهر الحنين وخدوش الذاكرة أيضا.
المذياع ,صوت سيدة بيروت ,التواصل المحبوب الشحيح عبر الأثير..ذكريات البلد واستيقاظ صورة المدرس الديكتاتور الشرير في الذاكرة.
أتعلم ياأستاذ خيري أنني صادفت مثل هذه الصورة في عدة نصوص من بلدان عربية مختلفة و حتى في نصوص لأشخاص لا يحترفون الكتابة.
شبح المدرس السلطوي الذي طبع في ذهن طفل غض والخوف من العقاب المؤلم يعيش في مخيلات حتى تشيخ و تجعل من يتأملها يدرك جليا أن الاستهانة بمشاعر الصغار و تعنيفهم اعتداء يعيش طويلا في النفوس ويمتد حتى المستقبل البعيد .
للطيبة و الحنان أفنان أجمل ليت كل الراشدين يذكرون هذا وهم يتعاملون مع الإنسان صغيرا أو كبيرا
تقبل تحياتي

خيري حمدان 16 / 05 / 2009 27 : 01 AM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
الأديبة العزيزة نصيرة تختوخ
وكأن الذاكرة بئر عميقة، تقدر في اكحل اللحظات التقاط المزيد من الفحم واللآلئ ذات الوقت
حياة تستحق أن نعيشها بحلوها ومرّها .. نستدير لذكرى ونجد أخرى في منتصف الطريق
وفيروز دائمة الوجود سيدة الضمير صاحبة الصوت الملائكي الذي قدسا يوما ولم يستجب أحد
شكراً لدفء كلماتك أستاذتي العزيزة أتمنى لك أجمل الأمسيات ولعل القوافي تكون دائما طيّعة بين يديك
تقبلي محبتي

هدى نورالدين الخطيب 16 / 05 / 2009 57 : 09 AM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
[align=justify]
تحياتي أستاذ خيري
نص معبّر غني تأثرت به جداً
دمت وسلمت
[/align]

خيري حمدان 16 / 05 / 2009 10 : 08 PM

رد: تأملات في مهب الريح (5)
 
الأديبة الفاضلة هدى نو الدين الخطيب
أشكرك على كلماتك الدافئة
وشكرا لحضورك العطر على متصفحي
دمت بخير


الساعة الآن 07 : 08 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية