منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   ليلة الغربة (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=11943)

نجوى حسن 15 / 08 / 2009 23 : 03 AM

ليلة الغربة
 
كتبت في شتوت كارت

[align=justify]
غادرتْ الوطن ساهمة الطرف مشغولة الفكر بلقاء حبيبتها وفلذة كبدها. في مدينة شتوت كارت الألمانية. لم تشعر بالفراق فقد سبقها الوطن إلى متن الطائرة بصوته الدافئ وملامحه الجميلة بابتسامته اللطيفة. ومن الفضاء تسللت إلى الغوطة الغناء وصعدت إلى قاسيون الشامخ شموخ الأزل من خلال بحور الشعر التي ترنم بها أحد أفراد طاقم الطائرة وهو شاعر مرهف الحس والكلمة. كل ذاك قطع المسافة دون أن تشعر بأنها غادرت الوطن. فالوطن حي ينبض قربها ..
وصلت مطار فرانكفورت فجأة تبخّر الوطن من حولها وغاصت معاتبة في وجوه الغرباء فتشت عن ملامحه أو حتى عن صوت له شبه به بالوطن ولكن عتباً. على حاجز التفتيش لمحت الوطن في وجه رجل يحمل جوازاً. اقتربت منه بحرص شديد .. هل أنت عربي ؟ سألته: أجل عربي سوري واسمي عدنان كان كالديمة الهطول على أرض يباس. ودون سؤال انفردت شهامة العربي وحسه الإنساني الجميل، وذوقه الأدبي لإمرأة من وطنه. خفف عنها عبء السؤال عن محطة القطار وعبء الحقيبة ساعة من الزمن أوصلها إلى الرصيف رقم4 ومنه سنستقلّ القطار إلى شتوت كارت ودعها بكل ذوق لأن عليه أن يصل القطار الذي سيوصله إلى مدينة في غضون وقت قصير. جلست السيدة تتفحص الوجوه المختلفة عن عالمها. بانتظار ابنتها التي ستتأخر قليلاً بسبب الامتحان. كل شيء مدهش راعها منظر الشباب المخنث شعر طويل وقرط في الأذن والبعض يرتدي زي فتاة. إلا القليل والقريب من المكان. طال الزمن عليها فأسعفتها الذاكرة باستحضار كل الأحبة الذين فارقتهم في الوطن وانفردت قاماتهم فوق الوجوه. من بعيد لمحت فتاة طويلة القامة ترتدي قميصاً أحمر اللون وتربط شريطة حمراء في شعرها الذهبي تتسكع يميناً وشمالاً إلى أن دنت من السيدة وتمتمت بكلمات متقطعة ونظرت بعينين زائغتين. اعتمر قلب السيدة رعباً عندما تأكدت بأن الفتاة تلك ما هي إلا شاب ثمل اقتلع الهلع قلبها كما جسدها وهبت مسرعة من مكانها. وإذ بشرطي أمن المحطة يمسك به ويوقعه أمامه بكل قوة وقسوة قائلاً بعض العبارات. هدأ فؤاد السيدة قليلاً وشكرت الله وعادت تستقر فوق المقعد. بعد أن طمأنها الشرطي بأنه قائم على حراستها وحراسة كل الغرباء.
مضت الساعات أشبه بشهور وشق القطار القادم من عتمة الحضارة عن وجه القمر الذي أشرق من بين كل المسافرين وأنار قلب السيدة أنها ابنتها. سالت حرارة عناقهما على أرصفة المحطة التي تعج بآلاف الجنسيات القادمة والمغادرة. وهنأ مسؤول الأمن الإبنة على السلامة وسلامة والدتها قليل الذوق والأدب.أربع ساعات في قطار العودة قرأت السيدة معالم الحياة والفن المعماري المتوحد في جميع المدن التي قطعها القطار وصلتا المدينة المقصودة المطر غزير يغسل الشوارع الضيقة التي تشق قلب الحدائق لتتربع الأشجار الباسقة على أرصفة الطريق المتوغل بعمق تلك الغابات.
مزق الفجر خيوط الليل فبدأت الجراح الحمراء تنزف متلاحمة في كبد السماء إلى أن رممها الفجر.
المطر لم يزل يذرف الدمع المدرار. الأم جالسة على الشرفة الموغلة في قلب الغابة تعانق روحها تسبيح الأشجار للخالق وما أبدعه في تلك الجنان .. مع الشروق تذهب الأبنة إلى الجامعة وكان على الأم أن تتحرش بصمت الطبيعة وتلك المنازل الغافية على أكتاف الأغصان والمزركشة بكل إلوان الورود. يا للجمال العارم المترف المنزوي وحيداً لا أحد يتمتع به جالت الأم بعض الحدائق المحيطة بتلك المنازل الفارهة الغنى. وذات صباح أحبت أن تستجلي طريقاً يبدو موغلاً في تلافيف تاريخ الهيبة والهدوء .. خرجت من البيت استلمت الشارع الغافي وراء الفتنة. موت يضرب سيارة حمراء تقف مفتوحة الأبواب لم تكترث السيدة بل تابعت الاستكشاف .. وإذ بغيمة داكنة تفتحت أبواب التيار فانسكب المطر بغزارة لا توصف. عادت السيدة إلى البيت وقرب السيارة المراد لمحت شاباً يستلقي على الأرض بين الرصيف وباب السيارة والمطر يغسل محياه بعنف. لم تستطع كتم لواعج القطرة الإنسانية اقتربت منه بحذر وسألته: هل تريد مساعدة ؟ .. هل أصابك مكروه ؟.
فقد الشاب كمن لطمه تبار كهربائي. وتلعثم وقال. شكراً سيدتي لا شيء. لاشيء انه مزاج فقط.
تابعت السيدة طريقها بسرعة وإذا بالشاب يركض ورائها. منادياً لحظة واحدة سيدتي لحظة واحدة وقفت السيدة سألته ما الأمر ؟. قال: هل أنت تركية ؟. أو مأت برأسها قاطبة. قال: إذن أنت مسلمة ؟ قالت: أجل والحمد لله. أطرق لحظة ثم سألها هل أنت أم ؟أجابت الحمد لله أنني أم. تمتم الشاب قائلاً أم مسلمة امتلأت عيناه بالدموع وسألها هل أستطيع أن أشتري أماً مسلمة ؟. ابتسمت السيدة بلطف وقالت: الأم لا تباع ولا تُشرى. أليس لك أم ؟. هز الشاب رأسه بالايجاب المقرف. والتفت للوراء. انظري سيدتي هذا البناء الكبير. لوالدي ووالدتي. وأنا مطرود منه ومنذ عشر سنوات. احتضنتني جدتي المسنة والتي تتجاوز الثمانين عاما. وعلى رغم عمرها الكبير فهي تحاول جاهدة تقديم كل العون بحب. ودعته السيدة وتابعت مسيرها إلى المنزل. طاردتها الوحدة ولفها الفراغ علقها على أجنحة القلق. فهاج بها الحنين إلى الوطن تلهفت روحها لصباح الدفء الإنساني بصوت بكاء طفل وأم تهدهد له. بصوت بائع متجول. تتابعت أمام ناظرها كل تلك اللوحات وتبرعم الشوق عناقيد وجد يؤجج الهيام بمدينتها دمشق مدينة الحياة. المدينة التي لا تنام وإن نامت تنام بعين واحدة وتبقى الأخرى حارسة أمينة قطّعَت الذكريات الزمن البارد الغافي على صمت الطبيعة الفاتنة. أشياء ثلاثة يعشقها المرء في ألمانيا. النظام، والصدق. والطبيعة الفاتنة.الساعة الخامسة مساءً الإبنة لم تزل في الجامعة قرع جرس الباب على غير العادة في بلد ثري تحفه الخلايا والأوكار والصداقة الثنائية.ليخلو من العلاقات الاجتماعية العامة _ فتحت السيدة بابها باستغراب. هناك سيدة عجوز تتكئ على عكاز يده من ذهب.
_ أتسمحين لي بالدخول قالت العجوز ؟.
_ تفضلي بكل سرور ردت السيدة
دخلت العجوز لتقدم للسيدة شكرها امتنانها على ما فعلته مع حفيدها صباحاً.خجلت السيدة من جزيل الشكر واردفت : لم أفعل شيئاً
كان مجرد سؤال فقط. تنهدت العجوز بقصة لتشكو همها الكبير.. إنه الإدمان سيدتي. إنها المخدرات ..استيفان حفيدي كان من المتفوقين في المدرسة. وذات ليلة قارسة باردة. عاد متأخراً إلى المنزل _ وهذا أمر طبيعي _ فوجد والده (أي إبني) في منظر شائن. لم تشأ العجوز بالبوح به).. شل منظر الوالد لسان استيفان وقدميه فسقط أرضاً وأسعف إلى أقرب مشفى حيث مكث عدة أسابيع.
خرج من المشفى هزيل الجسم أصفر الوجه وقد علم بطرده من المنزل فاستقبلته أوكار المخدرات عن طريق بعض رفاقه الذين يعانون من الثراء الفاحش. وتعاطي المخدرات في ألمانيا لا يشكل إلا نوعاً من الأبهة لا أكثر لم يكن غياب أستيفان عند والديه ذا أهمية فالمال كثير والأنا الأوربي عظيم جداً. مما قضى على الروابط الأسرية.وأنا غادرت ألمانيا منذ عام 1940 لأعمل في بلد له حرمة للروابط الأسرية. وعملت في إسبانيا حيث المحبة بين الأهل لم يزل الجميع هناك يتعلق بالأسرة والأقرباء. تزوجت من رجل ثري لبناني لأنشئ أسرة مترابطة. تجمعها المحبة والأخوة. ولكن عبثاً ..إن زوجة ابني بريطانية ولا تأبه أبداً للحياة الأسرية همها الوحيد الأموال والحياة. بكل ما فيها من معنى. لذا فقد ضاع حفيدي استيفان وسيلحق به شقيق تومان الذي بدأ أيضاً بدخول أوكار المخدرات.
قاطعتها السيدة أليست المخدرات ممنوعة هنا في ألمانيا ؟ كلا سيدتي. إن وجد في حوزة الشخص كمية كبيرة يعاقب ويسجن أما إن كان يتعاطى فهذا أمر طبيعي. لذا منذ غدا المجتمع الألماني شبه مذهل ويستحق الوقفة أمامه ..

[/align]

رشيد الميموني 15 / 08 / 2009 07 : 10 PM

رد: ليلة الغربة
 
الأخت الكريمة نجوى ..
قرأت قصتك في المرة الأولى ، ثم عدت إليها ثانية ..
وجدت نفسي أمام نص يمتزج فيه الحكي و البوح .. لقد أطلقت - كقاصة - العنان لبوحك وهو يتخلل ثنايا النص ، مقحمة بين الفينة و الأخرى لوحات فنية جميلة من الطبيعة الفاتنة ، لكنك حرصت على أن تبدو باهتة لكونها مجردة من ذاك الدفء الحميمي الذي يغذيه الوطن و عبقه في النفس البشرية ..وفي نفس الوقت أعطيتنا صورة قاتمة عن وسط متفكك منحل .. بارد بالمعنى العاطفي رغم ارتفاع مستواه المعيشي و توفره على وسائل الرفاهية و العيش الرغيد .
كل هذا جعلني أعايش قصتك و استمتع بها ..
مرحبا بك أختي نجوى في نور الأدب وفي منتدى القصص .. وجودك إثراء أكيد لمرافئ الأدب .
مزيدا من الإبداع ..
ودمت بكل المودة

د. ناصر شافعي 15 / 08 / 2009 55 : 10 PM

رد: ليلة الغربة
 
الأستاذة القديرة نجوى حسن :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهلاً و مرحباً بك في منتدانا القدير نور الأدب .. لقد إزداد المنتدى نور على نور .. وإسمحي لي أن أهديك بعض الزهور .
ليالي الغربة قاسية .. وفيها دائماً المؤلم و المُلهم .. ليالي الغربة هى العسل المر .. لا يتحمله سوى الإنسان القوي الحر ..
نحن في شوق لمزيد من الأعمال و الإبداعات الأديبة .. مرة أخرى مرحباً بك وسط هذه الكوكبة من الأدباء و المثقفين المفكرين العرب .
د. ناصر شافعي

خيري حمدان 15 / 08 / 2009 17 : 11 PM

رد: ليلة الغربة
 
الأديبة نجوى حسن
هناك غتراب واضح في المجتمعات الأوروبية وتبدو بأنّها على وشك التفكّك، ولكنّه مقارنة بمجتمعاتن تتمتع بقدر كبير من الحرية والديمقراطية، والتي إن تواجدت لدينا مجتمعة مع الأخلاق الشرقية لتمكّنا ن صنع المعجزات. للأسف مشكلة لمخدرات آخذة بالانتشار في العالم العربي عدا عن الجهل والأمية حيث وصل تعداد لأميّين في العالم العربي ما يزيد عن الـ 70 مليون إنسان، ما يجعلنا نحتلّ لمرتبة الأولى في مستويات الأميّة عالميا. عدا عن كلّ هذا أجد النصّ في منتهى الجمال والتماسك. أهلاً بك قاصّة ومبدعة
محبني
:23_9_12:

ناهد شما 25 / 08 / 2009 20 : 06 AM

رد: ليلة الغربة
 
الأديبة القاصة نجوى / حفظك الله
أهلاً بك في هذا الصرح نور الأدب وأتمنى أن يجد قلمك مساحة للتعبير والبوح والآراء الشخصية
وسنشارك إن شاء الله في بوحك
قصة رائعة بلوحة فنية ممزوجة بحزن وألم برغم أن الإمكانيات تتواجد في المجتمعات الغربية ولكن ينقصها الوازع الديني
بالإضافة إلى ظاهرة التفكك الأسري والجهل الذي يطغى , وكثرة المخدرات التي لا رادع لها ربما نجد ذلك حتى في المجتمع العربي
والخوف من المجهول يجعل المغترب يعيش في حالة قلق على أولاده وعلى نفسه أحياناً
قصة حقاً رائعة وكأنها مسلسل أو فيلم سينمائي
ننتظر المزيد من هذه الإبداعات
دمت بكل الخير

محمد نحال 12 / 01 / 2010 46 : 11 AM

رد: ليلة الغربة
 
بسم الله الرحمن الرحيم
القاصة القديرة
تحياتي وتقديري
الآن فقط اطلعت على نصك الجميل ...سرد للأحداث مرتب متناسق جميل ،وكلمات مختارة وموظفة توظيفا لائقا ....
بوح بين السطور ينم عن غربة وشوق يعيشهما كل مغترب فيك ....وتباين في الرؤى والفكلر بين المجتمعات المتباينة المنضوية تحت لواء واحد -الغربة -
غير أنني وفي مثل هذه المنتديات أنصح بإدراج القصص القصيرة التي لا تأخذ من وقت القارئ الكثير ... ولئن كانت أقصوصتك هذه مما لا يحس قارئه بالوقت لأسلوبها المشوق ...غير أنك قادرة على ما يبدو على اختزال كثير من التفاصيل في قصتك حتى تمضي قدما نحو قلوب القراء..
دمت بكل الألق
من الجزائر محمد نحال


الساعة الآن 02 : 08 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية