![]() |
امـــرأة وحـــيدة!!
لم أكن بعيدة عنهما كثيراً حيث جلست في الحديقة العامة، كانا إلى جواري، على مبعدة أمتار فقط، كانت تحدثه باهتمام شديد، تشرح له بحماسة بادية، فحركاتها، وإشاراتها المضطربة تدل على خطورة الموضوع وحرارته، وهو أمامها كتلة جامدة، يلعب بطرف شاربه ببرود شديد، وينظر إليها بثبات عجيب، يهمر ويهمهم، ويغمغم ولكن من دون كلام، وهي ذاهبة في حديثها المتدفق جداً! كانا شابين في طراوة العمر! الفتاة، قمحية اللون، تربط شعرها الطويل بشريطة بنفسجية اللون، لها فم دقيق، وأنف طويل حاد، وعينان واسعتان لم أميز لونهما، كانت ترفع خصل شعرها المتساقطة فوق جبينها وعينيها بين لحظة وأخرى، وكلما احتد الكلام. وكان هو سميناً، غليظ الرقبة، منفتح الوجه، لـه شارب أسود ناعم، وشعر قصير جداً، وأنف لطيف يكاد لا يبين!! بدت الفتاة نحيلة سمراء عكس الشاب السمين الأبيض!! أراها وكأنها تود لو تدخل إلى صدره تماماً، والشاب ذو الملابس البيضاء الفضفاضة في حالة من اللا مبالاة الفظة! كان الوقت قبيل الغروب تقريباً، والحديقة ملأى بالأطفال، والنساء، والشباب، والشيوخ! كان إلى جواري رجال يلعبون (عشرة طاولة) قرب بحرة الماء، وفي الطرف البعيد مجموعة من الأطفال راحوا يلعبون كرة القدم قرب السياج بجانب مشاتل الورد! كنت أنسج كنزة صوفية لصفوان، ابني الصغير!! وأتفرج على حركة الناس، والسيارات الدائرة خارج الحديقة، وأرى الناس وقد اقتعدوا شرفاتهم في الأبنية المطلة على الحديقة، وهم يشربون الشاي أو القهوة! كان المساء رائعاً. وكنت مشدودة إلى ما يحدث قربي بين الشاب الذي احمرّ خداه العريضان، والفتاة التي شرعت تبكي! أراها وقد غطّت وجهها بكفيها، فبان جمال أصابعها، والشاب يضرب الأرض بمقدمة حذائه السميك العالي الكعب غير مبالٍ بما تفعله الفتاة التي حنت رأسها على ركبتيها وراحت تجهش بالبكاء المرّ! وما عدت أقوى على إكمال نسيج الكنزة! فطوّفت ببصري فيما حولي فلم ألحظ أحداً قد انتبه لحالة الشاب والفتاة، كان الناس منصرفين في انتباهات مختلفة. ولم أدر كيف نهضت، وتقدمت نحوهما ببطء وهدوء، جئت إلى الشاب من خلف ظهره تماماً، وما إن وصلت إليه حتى ربّت على كتفه وأنا أبتسم له، فنهض، وتمتم مضطرباً: - "أهلاً، نعم"! وانتبهت الفتاة، فرفعت وجهها المخضل بالدمع وقد احمرت عيناها، وتراجفت شفتاها، ورمقتني بنظرة محايدة، ونقلت بصرها سريعاً ما بين وجهي ووجه الشاب لكأنها تسأله: - "من هذه المرأة"؟! وحين أحس الشاب بمعنى نظرتها، سألني مجدداً: - "نعم"! وهز رأسه مستفسراً! وسألتهما معاً، وأنا أبتسم: "أتسمحان لي بالجلوس مدة دقيقة واحدة فقط"! ولكأن الشابين بوغتا بطلبي، وظنا معاً بأنني قريبة لأحد منهما، فتمتما معاً بالموافقة، وأفسحا لي مجالاً قربهما.، قلت لهما: إنني آسفة لأنني ما عدت قادرة إلى إكمال النسيج، فقد هزني مشهدكما، وأنا امرأة عاطفية جداً أنفعل كثيراً بالبكاء، وأنت وهي شابان في مقتبل العمر، وأنا أراكما في مثل هذا التحابب والتفاهم والتوادد، ولم أكمل، فقد أحسست بأن الفتاة تبكي دفاعاً عن اختيارها له، وهو صامت لأنه يقدرها لكي تأخذ جرعة انفعالها كاملة..، وقلت لهما إن لي قصة سأحكيها في عشرة أسطر، فحواها أن أبي قسا علي وزوجني هذا الرجل الذي هو أبٌ لأولادي لأنه كان يحبه. قلت له يا أبي حبك غير حبي، فقال لي الحب هو الحب، إن لم تعرفيه تعلميه. حاولت كثيراً أن أنجو من ذلك الزواج فما استطعت. وقد زاد الأمر سوءاً لأنني كنت أحب أجمل فتى في الحارة (هو لليوم وقد صار عمره في مثل عمري لم يتزوج لأنه كان لا يعرف إلا الكذب وإيهام الفتيات والتغرير بهن، وحين كشف في الحارة صار حبيباً لفتيات غريبات يبدلهن على الدوام بين الفترة والأخرى) ومع ذلك عطبت قلبي بجمرة كبيرة، وأقبلت نحو هذا الرجل الذي اختاره أبي لي، وتعلمت كيف أحبه يوماً بعد يوم. كان الأمر أمر من العلقم في البداية، ولكن مع الأيام صار الرجل أحلى من السكر، وأحن من شجر الصفصاف! طبعاً تفاصيل القصة كثيرة، إن التقينا في مساء آخر سأحكي لكم أشياء ستدهشكم أيضاً. اعذراني لقد قطعت عليكما الحديث. (وأنا أعرف بأن لا حديث كان بينهما، فقد كانت الفتاة غارقة في بكائها، والشاب غارق في صدوده وقسوته) فأنا ذاهبة إلى أطفالي لكي يجتمعوا من أجل أن نذهب وقد غربت الشمس، ومن أجل أن نفك أسر أبيهم من خساراته المتتالية أو لكي نفرح معه إن غلب جارنا (أبو العبد) ومضيت مزهوة وأن أحس بأنه كان لا بد من تدخلي هذا لإصلاح الموقف بينهما. أجل كنت أعرف بأن الشابين يراقبانني الآن وأنا أنادي على أطفالي، وأنهما سيعرفان جيداً بأنني سأخرج من الحديقة وحيدة لا أطفال معي ولا زوج، بعدما فاتني كل شيء، آتي إلى الحديقة كل مساء لأرى الأطفال والأمهات والآباء وهم يمنحون المكان حياة جديدة، أجل، لعلهما، سيعرفان بأنني امرأة وحيدة، وحيدة تماماً!! من مجموعتي القصصية " كائنات الوحشة" منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2002 |
رد: امـــرأة وحـــيدة!!
لم تتضح حقيقة هذه المرأة العاطفية جدا إلا في الأخير .. تتابع حركات الناس .. تنسجم مع أحاديثهم و شجونهم .. بينما هي غارقة في وحشة الوحدة ..
استطعت أخي د, حميد تقمص شخصية هذه المرأة وكأنها هي فعلا الكاتبة .. استمتعت بقراءة القصة وراقتني مشاهدها . دمت بكل الود . |
رد: امـــرأة وحـــيدة!!
الأستاذ الأديب القدير د .حسن حميد :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لقد تمتعت للغاية بالقصة .. الإسلوب الأدبي سهل و أنيق .. النسج القصصي متماسك و يخدم الهدف من القصة ، الهدف من القصة رائع و نبيل . تحياتي وفي إنتظار المزيد من إبداعات سيادتكم الأدبية . تقديري و إحترامي . د. ناصر شافعي |
رد: امـــرأة وحـــيدة!!
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]كالعادة استمتعت بالقراءة لك د.حسن حميد ولو أن النهاية جاءت هذه المرة مُرَّة وموحشة.
تقديري لإبداعك.[/align][/cell][/table1][/align] |
الساعة الآن 48 : 11 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية