![]() |
وأزهر الياسمين
وأزهر الياسمين
لبنى ياسين في كلِّ مرةٍ كنتَ ترسمُ لي فيها على حافةِ الصمت قلباً ووردةً حمراء, كنتُ أرسمُ لكَ عصفوراً وزهرةَ ياسمين, وكان عصفوري يخربشُ فوق القلب ويبعثر الوردة, فألمحكَ تتشظى… تنشطرُ إلى نصفين, أحدهما يتلاشى مع أوراق الورد المبعثرة, والآخر يغرق في صمت حزين. لم يكن ما بيننا يشبه ما يكون عادة بين رجل وامرأة, ولا حتى بين امرأة وأخرى, كان شيئاً مختلفاً, شيئاً لا يشبه الاشتياق ولا تفوح منه رائحة العشق فقط , كأن بين روحينا تواطؤ غير معلن للاحتواء, هناك شيء في حضورك يأسرني ويطلقني في آن واحد, يبعثرني ويلملمني, يشظيني ويعيدُ تكويني من جديد, كنتَ قطعةً باذخة من روحي المحترقة لا أرغبُ بحشرها في أفق ٍ ضيق ٍ لجسدٍ فان ٍ.. كنتَ فرحاً لا يشبه الفرح. ذلك الطغيان الذي تملكه بمنتهى اللطف, ذلك الاجتياح الذي لا أملك له رديفاً , ذلك الألق الذي لم أعرف مثله يوماً, شيء يشبه النقاء, يشبه دموع الأطفال, يشبه الشمس والياسمين, ولا يشبه وردة حمراء, كأنك كنت في ثنايا الروح منذ الأزل, كأنك خلقت وترعرعت هناك, كأنك لم تغادر أبداً. لكنك كل مرة كنت تصر على أن تقدم لي وردتك الحمراء, وكنت أصر على أن أهديك ياسمينة لترى ذلك البياض الرقيق الذي لا أريده أن يخدش بأي هفوة. وحدك دون الناس دخلتَ إلى دهاليز الروح وتجولتَ فيها بحرية من يتجول في سكنه في وحدة ليل هادئ, وحدك عرفتَ الغرف المبللة بالفرح, كما مررتَ بأخرى مسربلة بالحزن, وحدك لامستَ الروح , وعانقتَ أدق خلجاتها, فلماذا تصّر على أن تلوثَ شيئاً أسطورياً سرمدياً لا مثيلَ له بشيءٍ يشبه كل الأشياء التي حوله. عندما جلستَ على شغافِ القلبِ ذات حزن ٍ بحتُ لك بأنني لا أريد أن أكون محطةً تترجل منها عند وصولك إلى أخرى, أريد أن أظلَّ ذلك الوجع القصي في الروح, أخبرتك بأنك لا تشبه الأسماء ولا تحمل الملامح ذاتها التي يمتلكها الكل, لذلك كان علي أن أحتفظ بمشاعرك, ولذلك كان علي أن أحملك على جناحي حلم حتى لا تطأ الأرض فتدفن فيها ذلك الشعور الدافئ, فلا تتكئ على تفصيلٍ صغيرٍ من شأنه أن يجعلكَ تشبهُ كل من حولي, ليس بالضرورة لمن يلامس الجسد أن يقتربَ من الروح, وأظنه حتمياً عليك أن تظل تلك الأسطورة التي تورق في أوردتي, وتزهر على ضفاف وجعي, ستظل زهرة ياسمين رقيقة تنعتق في روحي, لنتحرر معا من الفناء, من أجسادٍ لا ترتقي لأثير أرواح تعانق خيوط الشمس الدافئة, ولا تسمو لتكون شفيفة كروحك ولا متلألئة كذلك الدفق الهائل الذي يخترقني كلما مررت في بالي. دع الأجساد للأرض وانعتق نحو السماء, نحو السمو, حيث لا يوجد للخطيئة مكان ولا معنى. عندما زرعتَ لي الأرض ورداً, زرعتُ لك السماء نجوماً, وخيرتك بين أن ترحل, وبين أن تقتل ورودك كمداً وتنثر الياسمين. كنت أخشى بيني وبين نفسي أن تختار الرحيل, أحتاج إليك, أتوق لوجودك, وأحتاج إلى ذلك الشعاع الذي أشعلته في حنايا نفسي ولا أريد له أن ينطفئ فأنطفئ معه, ولا أريد أن أستفيق صباحاً لأجد نفسي وحيدةً مرة أخرى. أكذب إن قلت أن رحيلك صعب, إنه مستحيل ، قاتل, قد يذبحني, أنا التي للمرة الأولى على امتداد العمر أجد رجلاً يفهمني, يبحر في عمقي, يتمايل مع تناقضات جنوني وفزعي وارتيابي, يعزف على أوتار ظمئي, يشعلني ويطفئني في لحظة واحدة, كيف كان لي أن أفقدك وفقدانك قد يمزق شرايين الفرح في قلبي إلى الأبد. كنت تحاول أن تجرني من يدي إلى تلك الزاوية المحرمة, ومرة تلو الأخرى رحت أشدّك برفق ٍ لتحلق معي حيث النجوم. أزهر الياسمين في قلبي أخيراً, وشممتُ رائحةَ الحرائق تنبعثُ من جدران قلبك, لكن رائحة الياسمين ما لبثتْ أن تغلبتْ على ذلك الدخان, ولم أع ِ أنك أسلمتني روحك ورحت تبحث لقلبك عن امرأة أخرى, لم أنتبه أنني تربعت أخيراً على عرش الأولياء في قلبك, لكن عرش الحبيبة صار شاغراً بانتظار أخرى, أسعدتني لحظة الانتصار, وساعات اللقاء النقي, والأحاديث الملونة حيناً والبيضاء أحياناً أخرى. وها أنت اليوم تعيدُ ترتيب وردتك الحمراء لتهديها إليها, في داخلي مأتم لموتِ شيءٍ لا أدرك كنهه تماماً, قد يكون قلبي, قد تكون روحي, وفي عينيّ تنصلتْ دمعة أغلقتُ عليها جفوني جيداً لئلا تراك, اقتربتُ منكَ بهدوءٍ لا يشي بالزوابع التي تجتاحُ كياني, ولا بالفقد الذي راح يحفر سراديب ظلام على حافة الروح, رسمتُ لك على صفحة وجهي ابتسامةً هادئة, وأعطيتك حزمة ياسمين, أغلقتَ عينيكَ عن دمعةٍ توشكُ أن تفضحَ عريك, وابتسمتَ بارتباكٍ قائلا ً: ما زالَ ياسمينك الأغلى على قلبي, لكنني لا أستطيع الحياة دون وردة حمراء. |
رد: وأزهر الياسمين
الأخت العزيزة الأستاذة الأديبة لبنى ياسين قصة أكثر من رائعة , وسرد أدبي يحمل كل الابداع , وأسلوب مشوق . قرأت " وأزهر الياسمين " أكثر من مرة , من شدة اعجابي وتفاعلي مع القصة , لأنها لامست شغاف القلب والروح . فهم لايستطيعون الحياة دون ورود حمراء . ونحن نعيش الحياة وحولنا بساتين من الياسمين . سلمتِ أستاذة لبنى , وبانتظار المزيد من هذا الإبداع. وتقبلي محبتي وتقديري . |
رد: وأزهر الياسمين
حين بدأت قراءة قصتك أختي الكريمة لبنى ، كنت أعلم أنني على موعد مع ولوج عالم من الإيحاء الجميل الذي وإن كانت له رمزيته الخاصة فإنها تبقى رمزية محصورة في نطاق ضيق ويسهل على كل قارئ فهم كل شيء دون عناء و بالتالي الاستمتاع بالنص ..
متعة النص في نظري تستمد قوتها من هذه المناجاء الهادئة رغم ما تحمله من عتاب و مؤاخذة .. فالصراع ما بين التمسك بالوردة الحمراء من طرف و التشبث بالياسمينة من طرف آخر هو صراع ينأى عن كل خشونة و عنف .. هناك سلاسة و لطف في التمنع و الاسترضاء .. عتاب ولوم و مؤاخذة و لهفة .. وبصيغة أخرى .. حب متأجج لا يخفى لهيبه وناره المستعرة . لكن الحب هنا يسمو فيحلق عاليا في السماء بياسمينة .. وهو في علوه يمد يده لانتشال الآخر من مستنقع الأرض بوروده الحمراء . نهاية رائعة حين نستشف انتصارا للياسمينة رغم تمسك الآخر بالوردة الحمراء .. لكن الدمعة تفضح كل شيء .. تفضح العري وتفضح ذاك التمسك المخزي بمستنقع الأرض واستبداله بطهر الياسمين المحلق في السماء .. أختي الكريمة لبنى .. فعلت حسنا حين جعلت لنفسك ضفافا تنثرين فوقها روائعك .. اسمحي لنا أن نحط الرحال لحظات نتفيأ ظلالها و ننهل من معينها الرقراق العذب .. دمت للإبداع ألقا . مودتي التي لا تبور . |
رد: وأزهر الياسمين
العزيزة الراقية بوران:
كم يسعدني أن تحظى القصة بأكثر من قراءة منك، ومن ثم تعليقك الجميل هنا. شكرا لمرورك الكريم. كوني بخير اقتباس:
|
رد: وأزهر الياسمين
الاستاذ رشيد :
سرني ان تحظى منك القصة بقراءة متأنية. كل الشكر لمرورك الطيب وتركك توقيعك هنا. مودتي اقتباس:
|
رد: وأزهر الياسمين
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]مفارقات كثيرة بين الياسمين والوردة الحمراء.
النهر الجاري المتدفق طربا والتيار الجارف الهادر في الشلال لايتشابهان ولو أن الماء هو الماء في كليهما. قصتك حملت الكثير من المشاعر و الشجون أستاذة لبنى وتبقى الاختلافات في الحاجات بين البشر والاختلافات في الرؤى تنجح في تفريق القلوب وصناعة المسافات . لك التقدير و التحية[/align][/cell][/table1][/align] |
الساعة الآن 26 : 02 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية