![]() |
جميله
جميـــــــلة كونت جميلة لنفسها عالما خاصا بها وحدها .. لذا لم يكن عجبا أن تراها في الطريق .. وهي تسير هائمة .. حالمة .. لا تلق بالا لصياح وسباب قائدي السيارات .. فهي لا تشعر بهم .. أو أن تراها في ركن قصي مهجور من فناء أو حديقة الكلية .. تبحلق في لا شيء وقد علا شرخ فمها اتساعا كالابتسام .. غائبة عن الوعي .. وعن الأشياء .. وعن الكائنات .. تعيش عالمها في خيالها وحدها .. لا تلق بالا لسخرية من يتصادف مروره من الزملاء فهي لا تشعر بأحد . قرأت جميلة في إحدى المجلات بمكتبة الكلية عن الكمبيوتر والإنترنت ومدى انتشاره وتشعبه ، وعنكبوتيته التي امتدت خيوطها إلى كل مكان على الكرة الأرضية .. قررت أن تدخل هذا العالم وتجربه .. وتستقي منه المعلومات عن الأدب والشعر وتنقل عالمها وخيالها إليه .. خاصة أنه لا ضرر منه .. فلن يرها أحد وهي تتنقل بين مواقعه وأبوابه .. اقتنت جهازا واشتركت في النت .. وكانت فرحتها غامرة .. فقد اكتشفت فيه عالما كبيرا كان ينقصها .. بل وجدت فيه عالما يفوق عالمها الذي صنعته لنفسها في أرجاء خيالها .. وفوق أمواج أحلامها .. كان عالما حقيقيا فيه كل شيء .. كونا آخر يذخر بأفواج من البشر لا حصر لها ، وكيانات وأفكار ، وآراء ، وأحلام ، وروايات ، وقصائد ومعلومات .. ودهاليز .. وأغوار .. فيها كل شيء .. غاصت جميلة في أعماق هذا المحيط الرهيب .. راحت تكتشف دره وأصدافه .. تتنقل بين كائناته ومخلوقاته في حرية واستقلالية لا يعوق حركتها خوف ، ولا يمنع غوصها وانسيابها مانع .. أصبح النت حياتها الجديدة .. عوضتها عن الوحدة التي كانت تعيشها وحدها بعيدا عن البشر .. حولت أحلامها وخيالاتها إلى واقع تتحرك فيه .. تنطلق بين قطاعاته .. تطير في سمائه .. تغوص في أغواره وأعماقه .. ساقت الصدفة واحدا من المتصفحين للشبكة العنكبوتية ( النت ) .. قرأ اسمها .. جميلة .. أثاره الإسم فطلب صداقتها .. تعجبت .. فلم يسبق أن طلب أحد صداقتها طوال حياتها .. فالجميع كان ينفر منها .. يفر من دمامتها .. همست في نفسها ( ولم لا .. فلنجرب ) .. وافقت على قبوله كصديق .. تبادلا الآراء ، والأفكار ، والأحلام ، ووجهات النظر في كافة المسائل والموضوعات .. سحرته بأفكارها ، وآرائها وبلاغتها وتحفظها .. طلب منها معلومات أكثر عنها .. ترددت وخافت .. فقد تعلقت به .. وجدت فيه فارسا لأحلامها .. وجدته الملاك يمتطي فرسا أبيضا ، أمرقا .. ويطير في سماء النت يحاول اختطافها على فرسه .. قررت أن تجاريه .. ربما كان كائنا آخر غير باقي البشر الذين التقت بهم في حياتها وظلموها وجاروا عليها .. ونبذوها ، وحكموا عليها بالوحدة والانطواء .. كتبت له أن اسمها جميلة .. تعشق الإخلاص والصدق .. والحب والشاعرية .. تنتظر فارس أحلامها الذي رسمته في خيالها ووجدانها .. فرح بها .. طلب أن يقابلها في مكان ما تختاره وتحدده هي .. خافت .. انتابها القلق .. أدهمتها الوساوس والأفكار .. ولكنها طردتها جميعا .. لماذا تفقد فرصتها الأخيرة التي ساقتها لها الأقدار .. لم تسعى إليها .. طلت وحدها من بين أستار الأمل .. ربما كان فارس أحلامها الذي تمنته .. ربما يراها أجمل الجميلات .. أليس الحب أعمى .. كما قالوا .. أو أن العين ترى الجمال بشكل مختلف .. كل بمنظورها الخاص .. لم لا توافق .. وافقت على اللقاء .. اختارت أن يكون فوق كوبري قصر النيل .. بجوار أحد الأسدين .. سترتدي له فستانا أحمر وعلى صدرها وردة بيضاء وعلى رأسها قبعة حتى يستطيع التعرف عليها . ذهبت في الموعد المحدد .. كانت فرحة ولكن خائفة .. سعيدة ولكن قلقة .. هائمة ولكن في رهبة .. وقفت حيثما اتفق وانتظرت ثم انتظرت .. الوقت يجري .. مضى ساعتان .. دب اليأس في قلبها .. لمعت دمعة في عينيها .. عاودتها حالة الانطواء والانزواء .. انكمشت وتدلت أكتافها كأنها السلحفاه تلملم أطرافها لتتكور داخل نفسها .. ألقت قبعتها من فوق الكوبري فتولاها الهواء الثائر الغاضب .. نزعت الوردة من صدرها وداست عليها بأقدامها . عادت في طريقها منكسة الرأس .. مطرقة ذليلة .. لم تشعر بصياح وسباب قائدي السيارات وصوت إطارات العجل يزحف على أديم الأسفلت مزمجرا صارخا .. عادت إلى دنياها لتتقوقع . لم تلحظ جميلة ــ منذ ساعتين ــ شابا كان يسير في اتجاهها متلهفا بخطى واسعة .. ولكنه توقف بغتة على بعد عشرات الأمتار منها وقد ارتسمت على وجهه آيات الرعب كمن أصابته صدمة مفاجئة قاسية .. راح ينظر إلى جميلة برهة وقد اشمأزت قسمات وجهه .. وفر من المكان لا يلوي على شيء . ============ |
الساعة الآن 38 : 01 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية