![]() |
الشجرة والأنثى
الشجرة والأنثى في كل صباح أرى الشجرة في أبهى حلةٍ لها, أسمعها مع طلوع الفجر تهمس للعصافير , طالبة منهم ألحاناً عذبة تجدد بها آثار يوم قد ذهب وذهبت معه كل حنايا الوجد المتجددة كل صباح لديها. كعادتي أخرج لأشتم رائحة الصباح , أنتعش, ثم أعد قهوتي وأجلس تحت الشجر , أتلذذُ بشرب القهوةِ مع لفافةٍ من التبغ تقودني أحياناً إلى عالم آخر أرى فيه كل ماعجزت مخيلة الإنسان عن ابتداعه , وعندما أسمع العصافير وهي تنسج مع حفيف أوراق الشجرة أجمل ماتملك من ألحان , أشعرُ أن شهادة ميلاد هذه الشجرة من عمر الأنثى وكواليسها الممتدة من مساءٍ يسكن الذاكرة إلى زمن مجهول يعد ُ مسرحا للمفارقات مابين مكاتب حجز الوفاة ووطن يطلب تأشيرة الخروج منه لكل مزراب يشتم رائحة العزلة ويزج بها فوق أحذية لاتنضب. تعلمتُ من تلك الشجرة أشياء كثيرة, تعلمت كيف يُفتحُ للحزنِ ألف باب , تعلمتُ كيف أهيمُ على وجهي ثمانية أيام في الأسبوع أبحث عن غزالة أصطادها وعندما أجدها أراها بجناحين من نور ونار وهي تحلق بعيداً تبحث عن حياة أخرى لاتطالها أجهزة القمع المتبعة , تعلمت لعبة (الفراغات) , لعبة سهلة وقاتلة , لعبة ممارسة الموت وبحرية تامة , وكثيرةٌ هي الأشياء التي تعلمت . وماذا عن خفايا الشجرة وما أحدثته من وقع جميل في روح الأنثى التي جعلت من تلك الشجرة مأثرة تجتمع فيها لحظات العشق كل يوم, فروحها لاتبخل في الوقوف أمام الشجرة كل صباح , تتقدم منها تلقي أشرعة القوافي عليها , ثم تلف حول جذعها رسائلاً من الشوق , لتنتقل الرسائل إلى أوراقها , تلتقطها العصافير ثم ترسلها إلى صديقي القابع تحت قلعة المدينة , ترتسم على وجهه صيغة الفرح الحقيقي , يذهب إلى العمل في حالة مختلفة عن معاصريه , يعود من العمل إلى المنزل , يجلس في غرفته الحنون , يتمتع برؤية صورة لأنثاه , يراها في كل زاوية, يقول في نفسه: في الماضي كانت تشاركني الجلوس في تلك الغرفة الصغيرة , أما الآن لم يبق من يشاركني سوى روحها الطاهرة التي سكنت الذاكرة منذ زمنٍ طويل وبقيت تحمل بأوردتي جراحاً هي أقرب إليّ من جنة الرحمن , حينها يتشكل في داخله دافع قويٌ يتقصد به الشجرة , يمشي خمسة أميال ليصل إليها , وعندما يصل يلتف حولها , يتلمس جذعها الذي حمل أول حرف من اسمه , حتى يرى صورتها في الحرف , يُقّبلُ الحرف ثم يلتف وأخيراً يشعر بنفسه وكأنه قد صلب على زند من تبصّروا له بدروب مستحيلة , ينتزع من وجهه صيغة الفرح الحقيقي , ينتزع النبض, يرجعه إلى الشجرة ثم يعود ليمشي خمسة أميال جديدة متقصداً منزله , يجلس في غرفته الحنون ينتظر يوماً آخر لعل أسطورته تصبح معجزةً يجوب بها أصقاع الأرض , يتلوها على كل من مشى في دروب يعرف أنها دروباً مستحيلة. نظرت يوماً إلى الشجرة في حين كان المساء يرتقب بدايته الأولى معلناً خيوطه التي راحت تتبعثر , تنسدل على الشفق المتبقي من الشمس بين جبلين عجوزين أطاح بهما ابن آدم وأخذ منهما كل ماأودعته الطبيعة من معالم الجمال لهذا العالم الذي لايعلن النهاية , اقتربت من الشجرة لأجد صديقي جالساً تحتها , ألقيت السلام عليه وصافحته , دعاني إلى الجلوس بجانبه فجلست , ساد الصمت طويلاً , لم أشأ أن أتكلم لأنني أشعر بما يدور في داخله وفي أي عالم هو فآثرت الصمت , غير أن الضجر راح يتفاقم في نفسي, نهضت ثم هززت أحد أغصانها حينها استيقظَ من سبات اليقظة , نظر إلي ثم نهض, أخرج من معطفه زجاجة من الخمر , وأخذ رشفةً منها وقال: في الماضي كنتُ أحبذ الخمر التماساً للسعادة أما الآن فإني أحبذه نسياناً للماضي .... قالوا : إن في العالم الآخر أنهارٌ من الخمر وأنهارٌ من العسل .. إني أرجو ذلك , حينها دخلت في صمت عميق أنظر حولي , أتلفت , لتستقر عيناي على صخور رمادية أحسست بأنها مقيدة تريد أن تعبر عن مايخبئه الزمن المجهول لها وحين أحسَت ببعض الحنان راحت تنطق معلنة عن بلاد البسطاء تلك المملكة التي عاش فيها البؤساء وتوجوها بعشق التحدي والوصول إلى النهاية , ابتسمت قليلا وقلت له: هي الأنثى, هي روحها التي تتحرك دائما في داخلك , تلتزم بقضيتها , تلك القضية التي جعلتَ منها أسطورة تقود إلى مسامعك أعذب ماعُرف من ألحان للخلود وأعذب ماعرفت دواتك من تعابير صادقة هي الآن أحوج إليها من أي وقت مضى , أحسست أنني أثقلت عليه بكلماتي وفتحت له من الذكريات مايجعله متخلفاً سنة كاملة عن النسيان البسيط الذي لايلبث أن يجتاحه لوهلة حتى يعود به ثلاث سنوات قد مضت بذكرياته والآن تجددت . نظر إليّ ثم عاود الجلوس تحت الشجرة , اتكأ على جذعها وقال : في الماضي عندما أمشي وهي برفقتي كنت أتراقص حولها , كانت قدماي تعلنان عن مسيرة أيام جميلة قادمة , أما الآن فصرت أحاذي تلك الشجرة , تلك التي حملت أول حرف من اسمي , ويأتي الخريف دائماً , يُسقط أوراقها مبقياً على ورقة وحيدة فيها ,كُتب على وجه منها مناجاة تقول:( أيها الزمن المجهول ), وعلى الوجه الآخر ( أنتظر الوعود ... أنتظر الهموم ) ثم أشعل لفافة من التبغ وقال مخاطباً إياها: لفافة التبغ.. أيتها السحب التي تصعدين نحو الإله وتحملين خالص الفِكَرِ ... بالله ألا اقتربت رحابه تسألينه عن شوق المحب وعن قدري, ثم نظر إليّ وتابع قائلاً : إنني لاأفهم قول الشاعر: الرجل يحتاج ثانية ليحب امرأة لكنه يحتاج عصوراً لنسيانها. قلت: وماذا بعد ياصديقي, قال: أتمنى لجرحي أن يُشفى صديقي , أتمنى من تلك الشجرة أن تجتث كل ذكرياتي .... قاطعته قائلاً : تتمنى أن تجتث الشجرة كل ذكرياتك رغم تأثرك العميق بها , حتى هذه اللحظة تخفي مشاعرك تجاه تلك الذكريات وأنت تتمنى أن لا تفارقك أبداً, لاتحاول أن تخفي مشاعرك ياصديقي فهي قوية وواضحة , أما الآن فقد أثقل النعاس عينيّ وحان وقت العودة وأرجو أن أراك مرة ثانية تحت تلك الشجرة, حينها نظر إلى الشجرة, نظر إلى جذعها وأول حرف من اسمه ثم نظر إليّ وقال: أخشى أنه اليوم الأخير لارتيادي هذا المكان صديقي. بعد ذلك اليوم صرت أتقصد تلك الشجرة لأتلمس جذعها الذي يعد في نظري جذعاً ممتداً بين صحوة الحياة وخرائط من كتبوها بلغة الأساطير القديمة , وحين أتلمسه أشعر بخفايا تلك الشجرة ماحملته من لغاتٍ وهمسات دافئة على ذكريات كثيرة , كذكرى صديقي والأنثى عاشقين عمل الزمن المجهول على ابتلاعهما وهضمهما بطريقة المشردين ومن ثم عمل على تقيؤهما ليعودا كائنين قد مستهما كل حدود السخط والتذمر والاستهتار وكل أساليب القمع المتبعة . آخر يوم رأيت فيه الشجرة عندما جلست تحتها وكنت قد أعددت قهوتي , أشعلت لفافة التبغ لكنها كانت مختلفة عن سابقاتها , فهي الآن من ماركة تابعة لشركة عنصرية خلفت أشياء قبيحة ماتزال موروثة إلى يومنا هذا , أطلقت سحابة طويلة فاكتظت الشجرة وسقط منها سهواً على دماغي لعبة ممارسة الموت وبحرية تامة , حينها قذفت باللفافة بعيداً, احتميت بجذع الشجرة ولغتها العاشقة المتدحرجة من شرفة الله إلى ثورتي التي تميل حسب الطقوس والأمزجة ثم راح لساني ينطق : آه, ويلتاه, رباه , سامحني , أدخلني في الصالحين من عبادك . رامي وسوف |
رد: الشجرة والأنثى
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
هي ذي النصوص المتفجرة إبداعا على غرار فلذتك هذه تراوح في مكانها ولا يعيرها المارون أدنى اهتمام ... هكذا الإبداع صديقي يعاني جفوة زمن الإسمنت القاسي هذا الزمن الغثائي الرديء ...ففلذتك رائعة سيدي بكل المقاييس الإبداعية ...فيها ما قيل ... وكان قنبلة إبداعية تفجرت في قساوتنا فكانت ندية رقيقة حالمة فيلسوفة إلى أبعد حد أيها المبدع فلغة هذه الفلذة متأنية قارئة فاحصة تصنع الإندهاش والإنشداه لحظة تلقي صعقها الشعوري المبدع تنداح عذوبة توجهها فلسفة وجودية راقية مرمزة رائعة للآدمي في مطلقه الوجودي فهذه الخلطة الشعورية رائعة سيدي المبدع ..أما مالم يقل فهو مبثوث بين السطور لكل قارئ متأني يأوله الوجهة التأويلية المحتذاة سعيد جدا أن قرأت فلذتك هذه " الشجرة والأنثى أو الأنثى الشجرة " ولتفتح أبواب التأويل على هذا النص الجدير بالقراءة والإحترام وإني أدعو كل مبدع في نور الأدب أن يتمتع بهذا النص المفتوح على إبداعية وإمتاعية في المطلق ... تقبل تحياتي أيها المبدع " رامي وسوف" |
رد: الشجرة والأنثى
الكاتب المبدع / رامي وسوف
تحية حب وتقدير الشجرة والأنثى قصة كتبت بحرفية شديده تستحق القراءة من كل الأعضاء تثبت لمدة ثلاثة أيام مودتي وتقديري |
رد: الشجرة والأنثى
عجيب هذا التشخيص الممتع و هذه الصلة المتينة مع الشجرة الأنثى .. و الأروع هذه العلاقة المحورية بين هذا الثالوث المكون لمجريات هذه القصة .. الكاتب و الصديق و الشجرة .. ربما كان هناك محورا رابعا أراه متخفيا من وراء الشجرة مادام الأمر يتعلق بأنثى ..
مبدع أنت أخي الأستاذ رامي .. دمت مبدعا متألقا .. ولك مني كل الود و التقدير . |
رد: الشجرة والأنثى
اقتباس:
الأستاذ نعيم : أشكرك كثيرا على مرورك الكريم وأشكر جميع القائمين على إنارة هذا الصرح الكبير ( نور الأدب ) |
رد: الشجرة والأنثى
شكرا على تواجدكم معنا
|
رد: الشجرة والأنثى
اقتباس:
أشكر إحساسك الرائع أستاذي الكريم ... اعتذاري كبير بعمق تأخري بالرد ... الشجرة والأنثى مخاض تاريخ طويل ياسيدي وهي اليوم بين يديك تقف شاكرة مرورك الرائع الذي أعطاها كل الرونق الجميل والرائع ... شكرا جزيلا |
الساعة الآن 59 : 05 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية