![]() |
اليتيمة و الفستان
أطبق عليها شراك الكآبة المتين مجددا واستسلمت في الغرفة التي تضيق بالأسِرَّةِ الثلاثة لصمتها الحزين و لشجونها التي لو خرجت أصواتا لأغرقت المدينة في نواح يمزق الأرواح.
لو كان والدها حيا لما انقلب حالها إلى هذا الوضع البائس، لو كان لازال حاضرا لما اضطرت لترك مقاعد الدراسة و العمل كآلة ستنتهي بالتلف و الاستبدال. لو ثم لو تبعتهما تنهيدات حسرة لا تجدي فكم مرة استحضرت نفس الافتراضات وماأفاد ذلك في تغيير واقعها قيد أنملة. المرض جعل من جسد الحداد الشديد كومة عظم يغلفها جلد شاحب و قاطرة الموت الرهيبة أخذته غيرآبهة بمن سيبقون خلفه. تركها والدها سالم الغلاب و في عنقها ثلاث أخوات و زوجة ليست بأمها ،زوجة أب تقترب منها مع الزمن لكن بخطى بطيئة جدا. في المصنع هذا اليوم تحدث الذئب عن صاحب المصنع الجديد قال أنه سيخاطبهم غدا وأنه فرنسي، كان الذئب يتكلم, ينتقل من عبارة لأخرى و يعود إليها بنظراته و هي تعرف ما يريد . قال لها ذات يوم و هو يمسك كتفها بيده :' الدنيا أخذ و عطاء يامريم ؛ أنت شابة فاتنة ، لو تنتبهين أكثر بإمكانك أن تُسعدي و تَسعدي ، انفضي عنك غبار الحزن أيتها الحلوة و افتحي ذراعيك للحياة ولمن يقدر على مكافأة ابتسامتك و ضحكتك و لمسة يدك الناعمة . كلمات كانت ثقيلة كالرصاص ، موجعة كمخالب توحي بالمداعبة وتدمي وكان كل ردها كتلة صمت. شراك الكآبة زادها اختناقا و أغلقت عيونها لتغرق في بحر منام لايريح. في الصباح أطل عليهن مسيو بلانشي و هن يعملن قال أنه صاحب المصنع الجديد و مديره أيضا و أن أشياء كثيرة ستتغير في طرق الإنتاج و التوزيع لكنه أكد أن لاأحد سيفقد عمله فالهدف التوسيع و الزيادة لا التقليص. نزلت عبارات الكهل دافئة و مطمئنة على خلاف خطابات المدير السابق و قراراته. على زجاج الممرعلقت إعلانات لاختيار مصممين جدد و المطلوب مؤهل تعليمي وخبرة و نموذج من صنع الراغبين في الالتحاق بالقسم. راتب مريم ليس يكفي للادخار ، ليس يسعفها لشراء ما تحتاجه لتصميم زي ينال الإعجاب حتى جرأتها لا تكفيها لطلب قرض أو مصارحة أحد برغبتها في تقديم طلبها. الذئب و لا شك يستطيع أن يدفع لها ماتريد ، يستطيع أن يساعدها إن أسعدته كما قال. الذئب الذي يطاردها حتى في أحلامها و يمزق ثوبها و يخرج نهدها من شرنقته كفراشة مذعورة قادر على أن يحقق حلمها الغض . مر أسبوعان و قدمت مريم علبة لسكرتيرة المدير قائلة أن محتوى العلبة متعلق بالإعلان الموجود في الممر. بعد ذلك توالت الأيام و بدا وكأن الكآبة شرعت في نسج شراك جديد ومريم تشهد مجيء موظفين لاتعرفهم وهي لم تتلق ردا. ارتفع صوت المكبر في إحدى الصباحات مناديا بأن 'مريم الغلاب ' عليها الالتحاق بمكتب المدير. كانت اليتيمة خائفة لدرجة الذعر, أي إهانة ستسمع و أي توبيخ، كيف تجرأت و أي ثمن عليها أن تدفع ..هواجس رافقت خطواتها حتى وقوفها أمام المدير. كان مسيو بلانشي يرقبها بنظرات فاحصة كاتما انطباعه . سألها :'أتعرفين مادموازيل كوكو شانيل ؟ ' و ردت متلعثمة : 'لا سمعت فقط عن العطور أقصد عطور شانيل '. ابتسم و رد: 'قبل أن تكون العطور كانت الأزياء، كوكو شانيل يا عزيزتي من أشهر مصممي الأزياء في العالم ، امرأة تركت بصماتها في هذه الدنيا قبل أن ترحل '. توقف قليلا ، استدار و أخرج العلبة التي قدمتها مريم للسكرتيرة من خزانة خلف مكتبه. تغير إيقاع القلب المتعب صار متسارعا ,مخيفا و صعدت غصة إلى حلق المسكينة الذي جف. فتح المدير العلبة و كان الفستان لا يزال هناك ، فستان صغير على صدره كرزتان مطرزتان بإتقان و حزامه شريط من ثوب أحمر على يمينه جيب يغري بالاستكشاف وأدناه دانتيل ببياض الياسمين. لامست أصابع المدير الفستان و واصل : هل لي أن أسألك كيف جمعت كل هذه المواد التي استعملتها ؟ ' اغرورقت عينا مريم بالدموع و أجابت : قماش الصدر و الكمين من بقايا قماش نخيطه هنا بالمصنع كان سيرمى لصغر حجمه،الأشرطة في الحزام و الجيوب اشتريتها ثمنها ليس مرتفعا ، الثوب السفلي استبدلته عند أحد التجار ببذلة قديمة لم تعد تنفع أحدا و الدانتيل غلبت الدموع مريم و وقفت حجر عثرة في طريق كلامها . أخرج مسيو بلانشي منديلا ورقيا من علبة مصنوعة من خشب الأكاجو تزين مكتبه و أعطاها إياه. وأكملت :' الدانتيل قصصته من ثوب زفاف تركته لي أمي '. حدق فيها مجددا و أضاف : ' لقد اخترت للمصنع مجموعة من المصممين تجمعهم الموهبة و الطموح ،هم يتفوقون عليك بشواهدهم و مؤهلاتهم الدراسية، البعض منهم سبق وأن شارك في تظاهرات و معارض لكل منهم تخصص محدد لكنهم في مؤسستي هذه ينتمون جميعا لقسم استحدثته هو قسم التصميم، أنت لن تكوني بينهم '. تجرعت مريم مرارة الجملة الأخيرة وواصلت الاستماع. ' مادموازيل مريم، أنا لم يكن ليخطر ببالي أن أصادف كوكو شانيل في مصنعي المتواضع هذا ، شابة بمثل شغفك و إصرارك و إبداعك يمكنها أن تلحق بركب المصممين الآخرين ثقافة و دراسة لو ثابرت لكنهم لن يستطيعوا أن يكونوا بتميزها و قدرتها على الابتكار .' سكت هنيهة و أضاف : ' ستكونين على رأس قسم التصميم إن قبلت وإن عملت بجد سيكون لك شأن أكبر. ' هزت اليتيمة رأسها معربة عن موافقتها و الدموع تغسل وجنتيها لكن الرجل لم يمكن قد أكمل حديثه بعد . ' لي عندك رجاء آخر , في الحقيقة هو رجاء زوجتي، تريد أن تشتري منك الفستان لحفيدتنا 'كلارا ' هاتان الاثنتان متعلقتان ببعضهما بشكل عجيب . في حالة إن قبلت هذا ظرف منها فيه رسالة شكر و مبلغ تظنه مناسبا لكن إن لم يناسبك يمكنك إعلامي طبعا '. أمسكت مريم بالظرف و دقات قلبها المتلاحقة ترهقها . على الرف العلوي في مستودع الملابس تركت وزرتها مطوية بعناية وغادرت المصنع. كان الأفق اللازوردي يغري بالنظر إليه و أسراب الطيور العائدة من بلدان الشمال تحلق و كأنها مواكب احتفال ،لوحت لها مريم بكلتا يديها ثم جلست على مقعد الحديقة أمام النافورة العتيقة , أخرجت الظرف من جيبها و حمامات جريئات ,زاهيات, يمشين على طرف الماء . Nassira |
رد: اليتيمة و الفستان
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
سمفونية رائعة مبدعتنا الفاضلة عزفت بحرفية عالية تشرفت بقراءة نص كفؤ جدير بأن ينتزع إعجاب كل ذائقة صافية .. ففلذتك الرائعة دون مجاملة " اليتيمة والفستان " فتحت كوى تأويلية عديدة تبرز الواقع الأنثوي الكادح المبدع من خلال شخصية نصك المحورية " مريم الغلاب " في مجتمع تسيطر عليه النزعة الذكورية المستبدة فما أكثر المرايم والذئاب في واقعنا مبدعتنا الفاضلة " نصيرة تختوخ" .. رائعة أخرى ذات لمسة نصيرية متميزة فنصك ينافس النصوص الأجنبية فهنيئا لنا بك أختاه ... تحياتي |
رد: اليتيمة و الفستان
تلك هي لمسات نصيرة، كما لمسات مريم و شانيل غاية في الأبداع و الرقي نفسي أعرف، كم دفعت لها "ميسز بلانشي" في الفستان!!!... (أبتسامة) |
رد: اليتيمة و الفستان
أستاذعادل جئت لأطفئ الحاسوب قبل أن أنام فوجدت هذا التعليق المشرف منك،
يسرني فعلا أن تنال القصة إعجابك و أن ينتقل إحساس مريم إليك كقارئ فما يحدث في هذا العالم قاس فعلا و الإناث قد يحتجن أكثر من غيرهن لحماية و مؤازرة للوصول لبر آمن. لك تقديري و تحيتي |
رد: اليتيمة و الفستان
تعجبني روحك المرحة أستاذعبد الله لكن مارأيك أن تسأل الحمامات أو الطيور المهاجرة بعد عودتها.
لك مني كل التقدير و مساء سعيد أتمناه لك. |
رد: اليتيمة و الفستان
[read] الحاسة السادسة عندي اليوم كانت في أوج نشاطها الحمد لله كنت واثقة بمفاجأة منك اليوم بالذات سبحان الله كم هي رائعة قصتك عزيزتي أستاذة نصيرة قصتك فيها من الصور الكثيرة والتي فيها العبر والحكم هل كان يتوقع هذا الثعلب المراوغ أن توافق مريم على الرذيلة لمجرد انها فقيرة وهل يتوقع كل غني أن المرأة الفقيرة هي التي تنساق بسهولة ربما يحصل هذا في مجتمعنا ولكن هم قلة !! هم البعيدين عن الله سبحانه وتعالى فالإنسانة الفاضلة لا تغريها مظاهر الدنيا وفلوسها القذرة حتى لو كانت بأمس الحاجة إليها وهذه هي مريم الغلاب الصابرة الشريفة لقد رزقها الله من أوسع ابوابه لماذا يا ترى ؟؟؟ !! وماذا لو انساقت وراء هذا الثعلب المكار وغيره سبحان الله .... سبحان الله .... سبحان الله أعجبتني جداً قصتك .. هذه القصة الإجتماعية ومن واقع الحياة وأتمنى للجميع أن يطلع عليها أشعر أن قصتك لم تكتمل وإنها وصلت الى ما يسمى بالرواية أو القصة العقدة وان هناك جزء آخر أتمنى ذلك دمت ياغالية ودام لك الإبداع الهادف [/read] |
رد: اليتيمة و الفستان
قصة جميلة أيتها القاصة المتمكنة نصيرة أعجبتني كيف وقعت أحداثها في بلد أجنبي (فرنسا أو كندا) ولكن هذا لم يمنع هذه الأنثى المسلمة العفيفة أن تظل متمسكة بدينها ومبادئها ولم تستسلم لمراودة هذا الذئب عن نفسها فكان في ذلك رضى من الله ورضوان في الدنيا (وربما في الآخرة أيضًا إن شاء الله) فرضي المدير عنها وعيـّنها في مكانة مرموقة لكي تصبح أرقى مكانا ومرتبة من الذئب نفسه ولربما صاعت له الكيل صاعين وأذاقته الهوان جزاء ما كان يذيقها ويذيق أمثالها من الأنثيات الضعيفات الفقيرات. سؤالي أنا هو كيف يكون لمدرسة رياضيات تلك الملكة والموهبة؟ :)) اختك منى هلال |
رد: اليتيمة و الفستان
العزيزة ناهد جميل أن تمري هنا و تتركي انطباعك عما كتبت، في الحياة كثير من الامتحانات و التجارب طبعا و من يتمسك بقناعاته أهم ما يفوز به هو رضاه عن نفسه.
لك تحيتي و تقديري عزيزتي |
رد: اليتيمة و الفستان
الأستاذة الفاضلة منى في الحقيقة صاحب المصنع الجديد أجنبي لكن القصة يمكن أن يكون مكانها أي بلد عربي و لا تدور بالضرورة في بلد أجنبي, للأسف فإن الغرب من الناحية المادية أكثر حماية لمواطنيه.
شمعة الأمل تبقى تضيء الدرب و الاستسلام لظلام اليأس لا يفيد صاحبه في شيء إن لم يزده تخبطا. لك تحيتي و تقديري أستاذة منى و يسعدني مرورك من هنا |
رد: اليتيمة و الفستان
غاليتي نصيرة
ها أنا قد وصلت فوجدت أن جميع الأحبة قد وصلوا قبلي وهذا يا سيدتي الجميلة شيء يسعدني بحق . القصة يا نصيرة جميلة جدا وأسلوب نصيرة أصبح مميزا ً كعطرها الفواح الذي ينتشر بأروقة المنتدى حين تهل علينا فهو مميز جدا ويحمل اسم نصيرة .. طبعا سوف تسأليني ما هي القفزة التي أخبرتك عنها في مكان ما هنا ؟ القفزة هي أنه أسلوبك يا غاليتي أصبح أكثر انفتاحا .. وأخذت تعرضيننا لقفزات ما هنا وهناك .. ربما تحتاجين قليلا من التركيز على هذه القفزة حتى نصبح في حيرة من أمرنا .. أين تريد نصيرة أن توصلنا ؟ في بداية الحكاية تطرقت للذئب فراحت أذهاننا إليه .. في منتصف الحكاية تطرقت للذئب مرة أخرى وكأنك توهميننا أنه لا مفر من اللجوء إليه .. هذه قفزات يا نصيرة .. في النهاية هي وصلت ونجحت بمهارتها وعفتها ووجهت صفعة لهذا الذئب ولكل من تسول له نفسه أن يتلاعب بمشاعر وأحاسيس الفتيات .. نصيرة .. كنت أمام عمل إبداعي جديد فاحت رائحة عطره من العنوان أبدعت يا نصيرة وننتظر المزيد من هذا القلم المذهل ... |
الساعة الآن 21 : 08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية