منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   ملف القصة / رشيد الميموني (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=280)
-   -   عيون وشفاه (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=19619)

رشيد الميموني 27 / 03 / 2011 57 : 08 PM

عيون وشفاه
 
عيــــون وشفــــــاه
[align=justify]
فتح الكتاب الضخم الذي ألفاه بجانبه دون أن يدري من أتى به ، ثم شرع في قراءة الحكاية ..." تقف غادة متلفعة بملاءة سوداء وسط بطحاء قاحلة ، لكنها تعج بصبايا في مثل عمرها ، وزعن عبر مجموعات هنا وهناك. لم يسألها أحد حتى الآن عن هويتها وهي تباع في سوق النخاسة لأنها، و بكل بساطة غير معروفة ولا تنتمي لهذا الزمان . لكنها تنتمي للمكان، لأي مكان تفرعت فيه جذورها. وحين يسألها مشتر وهو يتفرس فيها ، مبهورا بعينيها السوداوين الواسعتين وشعرها الفاحم وشفتيها القرمزيتين ، يجيب عنها وليها :
- هي من سمرقند . أبوها تاجر من فرغانة و أمها كانت من سبايا الموصل بعد زحف هولاكو . أما هي فقد غنمها وهي تائهة في الطريق إلى البقاع ، قاصدة حطين ، ومنها إلى عين جالوت ، موطن جدها الأكبر والله أعلم .
ثم ينشغل عنها لمرور موكب من الأعيان وقد ترهلت أجسادهم البدينة فوق عرباتهم الفارهة ، وينحني تحية لهم لعلهم يتفضلون بالتوقف ومعاينة بضاعته الجديدة النادرة ، فيغتنم المشتري الفرصة ويهمس :
- هل أنت حقا من سمرقند ؟
فتجيبه عيناها قبل لسانها الأبكم :
- أنا فرع من فروع الكرمة . عنبي ألذ العنب . هل تفضله سكرا أم رزقا حسنا ؟
- ما أفصحك . لكن قولي .. هل جدك من عين جالوت ؟
تنطق شفتاها القرمزيتان دون أن تتحركا :
- أنا من صلب حاتم الطائي ، واسم من الأسماء الحسنى .. جدي كان سادنا قبل أن يسقي الناس في بئر السبع وعين جالوت .
- هل هو لغز ؟
ابتسمت عيناها ، لكن نور الأمل الذي توهج فيهما لدى اقترابه منها بدأ يخبو وحلت محله نظرة سخرية ومرارة وخيبة أمل..
- ظننتك تفهم بالإشارة .
- لا تظلميني.. فقط أريد أن...
لكن وصول أحد الأعيان يتقدمه كرشه الكبير، يقطع الحديث بينهما ، وينبري النخاس معتذرا للسائل الحائر :
- عفوا سيدي... الفتاة رهنت .
حز في نفسه عدم إتمام سؤاله ، بل وعدم الإسراع بإتمام الصفقة سريعا.. لماذا يلازمه سوء الطالع وتلاحقه الهزيمة أنى حل وارتحل ؟..
- لكني لم أعط رأيي في الثمن ؟
- دفع غيرك مئات أضعاف الثمن.. ثم إنك لم تحسم أمرك... آسف ..– ويلتفت إلى الثري – تفضل سيدي.. هاهي الدرة النادرة .. ملك يمينك .
لكن الثري يأنف من الدنو من الفتاة وبجانبها منافسه الذي بدا في هيئة عابر سبيل ، فينبهه النخاس :
- من فضلك أيها السيد .. اذهب لشأنك ، ودعنا نبحث عن أرزاقنا .
وحين لا يبدي هذا الأخير حراكا ، يأخذ الرجل بذراع السبية ويتنحى بها بعيدا . وتظل هي تنظر إلى الوراء .. في عينيها تساؤل و إلحاح . كيف السبيل إليها وثمنها الجديد يفوق ميزانية بيت مال أمة بأسرها ؟.. ولم هو مسمر في مكانه ؟.. هل أصابته سهام لحظها أم شظايا أنفاسها الملتهبة ؟.. أم أنه انساق بغير إرادته وانصهر فيها مفتونا بمتاهة الغموض الذي يلفها ؟ .. كيف السبيل لإطفاء اللهب الذي أضرمته نظراتها وشفتاها.. بل وكلماتها في كيانه ؟.. هو لا يستطيع شراءها بالمال ، فهل يستولي عليها بالقوة ؟ ولم لا مادامت سبية ؟.. يشعر بالارتياح للرأي الأخير رغم صعوبته وهو يرى النخاس يفرك يديه فرحا بما ناله من ربح في أول النهار ، بينما خادم الثري ذي الكرش العظيم يسوق الفتاة نحو مركبة سيده الفارهة .. فكر في اقتحام القصر ليلا واختطافها كما يحدث في حكايا ألف ليلة وليلة ، لكنه أحجم عن ذلك.. ربما لأن عيني السبية وشفتيها تمنعه من دلك . إذن فما عليه إلا أن يبادر بإزاحة العراقيل ويبدأ أولا بمن سبا الفتاة ، ثم بمن اشتراها وبعد ذلك يخلص جميع السبايا .. هكذا قالت له نظرات الغادة وشفتاها .
يفرك عينيه ويصحو من غفوته ، فيجد البطحاء مقفرة إلا من غربان تنقر بقايا عظام ، وكلاب تخيلها برؤوس آدمية ، تلعق روث الذبائح ، وذباب يملأ أزيزه المكان ، متنقلا بين الجلود المتناثرة وأفخاذ البهائم المتجهة في عناء بأحمالها صوب الدواوير المستسلمة للغبار.. قضي الأمر ، وبيع من بيع ، وتمت الصفقات ، وربح من ربح ، وخسر من خسر ، إلا هو . بقي متفرجا . يتنهد تارة ويتميز غيظا تارة أخرى ثم.. لا شيء سوى الغبار . ما أصعب تمييز الأشياء حين يعلو الغيار ويحل الظلام . حتى الطريق يختفي من تحت الأقدام ، وتختفي معه الأصوات والحركات .
يشعر بالخوف وهو يرى الأشياء تندثر وتتبدد من حوله . وينظر إلى السماء عله يلمح بصبصا من وميض النجوم يستأنس به و يهتدي به . السماء حالكة السواد . كيف.. والشهر قد انتصف ؟ هل هي كثافة الغبار التي حجبت البدر والنجوم ، أم أنه أخطأ الحساب؟ يحملق في الظلام فيتمثل له المكان هوايا و أخاديد سحيقة . يمد قدمه في حذر، ثم يتذكر أن القصر الذي سيقت إليه السبية قبالته . فهو لم يتحرك من مكانه قيد أنملة . يعتريه إحساس طاغ بالسعادة ويتجه بمهل نحو الأمام مبسملا محوقلا .." عسى أن تسعفني العيون السود والشفاه القرمزية بما يسدد خطاي ويحقق مسعاي ".. لكنه يعود قليلا بمخيلته إلى لحظة انقياد الفتاة مرغمة وراء السيد الجديد ويسترجع نظراتها المترجية نحوه وشفتيها الضارع صوتهما وهو يهتف جليا :
- اذهب و أهلك .. واطلب يدي من أهلي هناك في حطين وعين جالوت ، ثم عد وخذني من هنا .. ستجدني في انتظارك ."
رفع رأسه ، فإذا بالفجر بازغ في الأفق .. رفع قبضة يده وصاح وهو يحث الخطى :" إلى حطين... إلى عين جالوت."
هنا انتهت الحكاية ، أو انتهت مرحلة منها لتبتدئ أخرى . أقفل الكتاب الضخم ووضعه حيث وجده ، ثم استلقى منهكا على الأريكة وهو يتمتم :" إلى حطين.. إلى عين جالوت .. ما أشهاك أيتها السبية الأبية .. وما أعذب كلماتك ."
[/align]

نصيرة تختوخ 10 / 04 / 2011 15 : 05 PM

رد: عيون وشفاه
 
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]قصة بفكرة جديدة وأسلوب جديد غير الذي تعودناه منك أستاذ رشيد وكأنها حكاية من ألف ليلة و ليلة.
استمتعت بقراءتها و بتخيل مكانها و زمانها.
دمت متجددا أستاذ رشيد.[/align]
[/cell][/table1][/align]

رشيد الميموني 23 / 08 / 2011 06 : 03 PM

رد: عيون وشفاه
 
مرحبا بك أختي نصيرة و شكرا على تجاوبك مع كتاباتي .
هي الكرامة الضائعة في أمتنا ولاستردادها يجب بذل الغالي و النفيس .
لك كل المودة و التقدير .

محمد سعيد عدنان أبوشعر 01 / 05 / 2012 34 : 03 PM

رد: عيون وشفاه
 
يا لروعة القصة! بل يا لروعة التشابيه واللوحات الأخاذة!
استعارات بارعة من سحر غموضها تاهت عني معانيها الأصيلة وبتّ كذاك الفارس سيء الطالع
إنها فلسطين مجدداً... لقد كانت حطين وعين جالوت واسم الله (القدّوس) إشارات كافية لحل اللغز، لكنه سحر إبداعك الذي يتفوق على كل ذكاء
تلك الغادة الكريمة، لا تزال تنتظر فارساً جديداً، تتألم في خدمة ذلك اليهوديّ الخبيث.. عيونها وشفاهها لا تزال تنادينا وتستغيث
أبدعت هنا أستاذي الكريم أيّما إبداع، يملؤني الفخر بالقراءة لما يخطّه سحر يمينك
طابت أوقاتك بكل الود والمحبة والسعادة

رشيد الميموني 01 / 05 / 2012 05 : 04 PM

رد: عيون وشفاه
 
ويبقى شغفي بردوك يتزايد محمد سعيد ..
تحية محبة لروحك النبيلة و لتواصلك الحميمي .
محبتي .

حسن الحاجبي 01 / 05 / 2012 27 : 06 PM

رد: عيون وشفاه
 
ما أبهاك وما أروعك أيها الرشيد الميمون
هي السبية التي ليس لها ثمن , يأبى النخاس إلا أن يتاجر بها , ويأبى الغاشم إلا أن يستمتع بها , ويأبى العاشق إلا أن يذوب فيها محبة ويحررها .
دمت كاتبا متألقا أيها الغالي

رشيد الميموني 01 / 05 / 2012 35 : 06 PM

رد: عيون وشفاه
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسن الحاجبي (المشاركة 145313)
ما أبهاك وما أروعك أيها الرشيد الميمون
هي السبية التي ليس لها ثمن , يأبى النخاس إلا أن يتاجر بها , ويأبى الغاشم إلا أن يستمتع بها , ويأبى العاشق إلا أن يذوب فيها محبة ويحررها .
دمت كاتبا متألقا أيها الغالي

[align=justify]أهلا بالغالي ومرحبا بك على متصفحي ..
اشتقت اليك و الله يا أخي وافتقدت بصمتك .. ويسعدني أن تنال قصصي إعجابك ..
سأنتظر بكل شغف ولهفة مرورك وتواصلك ..
شكرا لك من كل قلبي ..
ولك مني كل محبتي .[/align]

خولة السعيد 26 / 02 / 2021 05 : 11 PM

رد: عيون وشفاه
 
ونحن أخذنا سحر " عيون وشفاه" قص ممتع وسرد متسلسل مشوق ومغري ينتظر تمعنا وتأملا..
تنتقل بنا من تطوان وضواحيها إلى بردى وإلى حطين وعين جالوث... إلى القدس...
تحرص يا سيدي أن تقول كل شيء بدقة وتفصيل وترسم شخصياتك بوضوح، ومع ذلك تترك لنا كمتلقين أن نكشف عما بداخل أصداف القصة..
شكرا على متعة القص


الساعة الآن 48 : 06 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية