![]() |
ذاكرة معطوبة
أليس من عادتي شرب فنجان قهوة عند الصباح! سؤال طرحته على ذاتي بعد أن أدركت بأنني قد أفقت من النوم وحيدًا. يبدو هذا النهار مختلفًا. عيناي متورمة، رأسي مثقلة بهواجس تصعب قراءتها. الأدهى من كلّ هذا وحدتي القاتلة! أعلنها للملأ دون خوفٍ من فقد كرامتي كرجل شرقي "أنا وحيد كما لم أكن في يوم ما من قبل!" هذا البيت كبير يصلح لأن تسكنه عشيرة بأكملها، لكنني الوحيد الذي يبدو على قيد الحياة في غرفتي الملكية بحجمها وأثاثها، ربّما كنت قد نزلت في فندق فخم للغاية، وحصلت على شقة رئاسية مميزة لسبب قد يكون ثرائي على سبيل المثال وراءها. نظرت من نافذة الغرفة التي بدت كأنها تسكنني عاكسة بذلك معادلة الوجود الأبدية. لكن لا شيء هناك سوى غابة ممتدة أمام ناظري، سياج حديدي مرعب يرتفع في الأفق وأبراج مراقبة على امتداد السياج ومسلحين في كلّ زاوية من القصر! هل ذكر أحد ما في محيط المكان كلمة "قصر"!. ضربت رأسي بكفّي، كانت رغبتي باستعادة ذاكرتي المعطوبة في تلك اللحظة كبيرة إلى حدّ الانكسار. ((من أنا؟)). لا أحد يجرؤ على قرع باب هذه الغرفة العملاقة بحجمها ومساحات الرفاهية والعبث فيها. لكني أشعر برغبة لا تقاوم بهجرها والابتعاد عنها، لأنها تخيفني، ترعبني. لا أرغبها، لا أريدها يا أمي حتى وإن كانت جنّة الله في الأرض! من أنا، حدّدوا هويتي وعدد أصدقائي القادرين على الدخول إلى هذا الصرح المقيت؟ هل يعقل أن أتواجد في هذه السرايا في عزلة قاتلة عن الحياة الصاخبة على بعد كيلومترات فقط من هنا! كيف لي أن أشعر بدفق الحياة في شراييني خلف هذا القنص القادر على رصد تحرّك حتى دودة القزّ وإطلاق النيران الكثيفة تجاهها دون رحمة. أعرف بأن ذاكرتي معطوبة، صرخت بملء صوتي – أخبروني باسمي الذي نسيته ذات صباح، الاسم الذي يلعنه القريب والبعيد، لكن أحدًا لم يسمع ندائي! تعالوا إلى هنا، مارسوا معي بعض طقوس الحياة، شاركوني في رشف القهوة الباهظة الثمن، الخالية من لسعة قهقهة الأحباء وصخب الأطفال وعربدة المراهقين وصراخ التلاميذ في المدارس القريبة. شاركوني في غذائي الفاخر الممتدّ فوق مائدة تكفي لإطعام قبيلة جائعة. لا أريد البقاء وحيدًا في حضرة الغياب المتوّج بالحرس الغبيّ المسلح حتى النخاع بالهراوات الكهربائية والقنابل المسيلة للذكريات قبل الدمع المخصّب بالدم. كانت لديّ رغبة عارمة بالذهاب إلى الحارس الشاب القابع فوق برج المراقبة لأسأله إن كان قد رآني يومًا ما، أو إذا ما كان يذكر اسمي وهويتي قبل أن أصبح كريهًا متقوقعًا في هذه الجحيم؟ كم الساعة الآن؟ سمعت ارتداد صوتي في بهو المكان، انطلقت الساعات والأجهزة الخاصة تصرخ بصوت وقور هادئ خانع معلنة عن الوقت الذي أخذ يحاصرني كدبابة مصوبة مدفعها تجاه ذاكرتي المعطوبة، ردد جهاز: الساعة الآن تمام العاشرة صباحًا يا سيادة الرئيس!. أنا رئيس .. يا لها من مسخرة! أنا الرئيس الذي نسي اسمه، فكيف أريد من الآخرين أن يتذكروني وسط كلّ هذا النسيان! رئيس أي دولة تعسة أنا ما دمت لا أذكر اسمي؟ كيف أذكر هموم رعيتي يا أمي في الوقت الذي ما زلت فيه غير قادر على ذكر اسمي! لكن الرعب سلبني ما تبقى من سلامي الداخلي بعد أن همست لي أمي قائلة بأنها قد نسيت هي أيضًا اسمي، منذ أن أغلقت على نفسي البوابات المؤدية إلى هذه الغابة التي يسميها البعض قصرًا! غادرت السرايا العامرة وأخذت أركض في حدائق القصر المكفهرة الخاوية، كنت أصيح بملء صوتي والهلع يشلّ عضلة القلب في صدري: أعيدوا لي اسمي .. أعيدوا لي اسمي! تمكن المستشارون من اللحاق بي والقبض عليّ قبل أن أغادر حدود جمهورية الرعب التي بنيتها بنفسي. صاح أحدهم: أنت عاري، حافي القدمين يا سيادة الرئيس، وهذا لا يليق بالرعية! لم أكن بحاجة لسماع مشورة هذا الغبيّ، كنت قد أدركت منذ ساعات الصباح الباكر بأنني أفقر رئيس في الدنيا ما دمت قد نسيت اسمي في جمهورية الرعب التي بنيتها جمجمة إثر الأخرى. بالرغم من مرور وقت طويل على إصلاح ذاكرتي المعطوبة، إلا أنني تذكرت كلّ شيء باستثناء .. اسمي! |
رد: ذاكرة معطوبة
الموضوع ليس بالذاكرة المعطوبة
بل بالذكاء المفقود كيف ترجمت معه الحكاية بهذا الشكل لا أعرف لا أستطيع أن افترض الطيبة فهي تتنافى مع كل ما أتى به إذا ما الذي دفعه لكي يصل لمرحلة الذاكرة المعطوبة .. نرجع ونقول غلط في الحساب ولم يحسبها صح ... قلم متربص .. هههههههه .. لكنه ممتع بحق أنتظر كتاباتك بفارغ الصبر شكرا أستاذي العزيز خيري حمدان . أنتظرك في خيمة العودة لتقبل التهاني بالمصالحة لا تتأخر ولحق قبل ما تنعطب المصالحة أيضاّ ههههههههههه بالانتظار ... ودمت . |
رد: ذاكرة معطوبة
اقتباس:
الأديبة العزيزة ميساء البشيتي هناك الكثير من الذاكرات المعطوبة التي ستتمنى يومًا لو تصالحت مع شعوبها بدلاً من حالة التقتيل المذهلة التي تشهدها المدن الليبية ودرعا وغيرها من المناطق العربية. لقد مرت أوروبا الشرقية بهذه التغييرات قبل 20 عامًا ولم تنزل قطرة من الدم باستثناء رومانيا. لكن الحكومات الاستبدادية أدركت بأنه بات من المستحيل البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى، لهذا سارعت للمصالحة وتنازلت لخيار الشعب، وانتخبت مجددا بالمناسبة من قبل الشعب لولايات منطقية لا تزيد على 4 سنوات. أشعر بأن الإخوة الأدباء هنا محافظين حتى الألم. لا بدّ من دعم الثورات الشعبية التي تطالب بالتغيير نحو الحرية بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى. انتهى زمن التخويف من القادم والمجهول. نحن نعيش في المجهول ونمر في نفق مظلم طويل أتمنى أن نخرج منه دون الخوف من عصا الجلاد والسجن وسلب الهوية والتهجير. هذا هو موقفي الوطني. هناك مقولة لأديب بلغاري أردت أن أوردها في هذا المقام. قال ستيفان تسانيف: "ما كنا نسجن لمجرد التفوه به قبل التغييرات عام 1989 بات في متناول كافة فئات الشعب ووسائل الإعلام". مودتي لأنك الوحيدة التي وجدت في نفسها الشجاعة للحضور هنا.:nic93: |
رد: ذاكرة معطوبة
أستاذي خيري حمدان ...
أدعم طرحك حتى النخاع، وليس ذلك فحسب... سأكتب كل ما دار في خلدي سابقاً ولم أبح به " ليس لأني خائف " بل لأني لم أكن كاتباً أصلاً، وسأكتب كل ما يدور في خلدي هذه الأيام... يكفينا وجع وألم وهم ...ندمر أوطاننا من أجل مصالح أشخاص وأحزاب تنظر للأوطان وكأنه شركة للاستثمارات وتوظيف الأموال...وتترك الشعب تنهشه المتاعب والمشاكل .... أتصدق أستاذي بمجرد كوني فلسطيني ممنوع من دخول الكثير من الدول العربية! وأعامل معاملة المجرمين أحياناً على الحدود....هذا إن سمح لي باجتياز الحدود أصلاً! يجب أن نتكلم وأن نكون صادقين مع أنفسنا، بلا تجريح ولا تهويل ولا شماتة ولا تحريض.... نتكلم عن الواقع كما هو .... نتكلم بلسان المواطن البسيط ... نتحدث عن الزعماء كما هم -وهم بشر إذا كان البعض لا يعرف ذلك! - بخيرهم وشرهم وحلوهم ومرهم ونضالهم وفرارهم... وكوننا نحب زعيماً فهذا لا يعني أن نبرر له الأخطاء ( معاه عالحلوة وعالمرة )...أو لا نرمي مخالفه بالخيانة لمجرد اعتراضه على سياسة معينة! صدقني يا أستاذي قد تكون ضريبة هذا المنطق باهظة جدا جدا وأكبر من احتمالنا كأفراد... لذلك أحياناً ألتمس العذر لمن يفضل المشي بجوار الحائط! بالمناسبة أدعوك لزيارة موضوعي/ خطاب مقتضب لديكتاتور! واعترف أنه طرح متواضع أمام خاطرتك الرائعة المعبرة...لكن زيارتك أستاذي تشرفني.... http://www.nooreladab.com/vb/showthread.php?t=19893 وقبل أن أنسى ، أشكرك على هذا الموضوع الرائع، فقد قدمت لنا قصة قصيرة وخاطرة في آن واحد، كلمات معبرة، وعرض مشوق، والأجمل من ذلك تظهر لنا جانباً إنسانياً للزعيم المسجون في قصره، وتسلط الضوء على أسباب تعاسة الحاكم وانفصاله عن شعبه وعن محطيه، وتركز على سلبيات حياته التي صنعت منه ديكتاتوراً فاشلاً في إدارة البلاد ورعاية مصالح العباد. وأخيراً/ لم يدر بخلدي أن موضوعك يتناول قضية الحياة الشخصية للديكتاتور داخل قصره إلا من خلال تفاصيل النص...وبالتالي اعتقد لو علم الأخوة والأخوات بماهية الموضوع الحقيقية لجاءوا إلى هنا في الحال...... وآسف على الإطالة دمت بخير وإبداع أستاذي الكريم |
رد: ذاكرة معطوبة
الأديب علاء زايد فارس
ما تفضلت به صحيح ونابع من مشاعر صادقة تعبر عن تجربة وألم مما تعانيه المنطقة من تقتيل وسلب للحريات ومنع الشعب من التعبير عن الرأي لم تتطل عزيزي الأديب، بل قلت جزءًا ما بخلدي. لعلنا نتمكن من إرسال خطابنا الإنسانيّ إلى أكبر عدد ممكن من القراء مودتي - دمت بخير |
رد: ذاكرة معطوبة
لاأجدها خاطرة بل قصة لشخص تذكر ولو في وقت متأخر أنه إنسان رغم أنه نسي اسمه.
تستحق الحياة أن تحتفي به الآن وأن يبدأ مشوارا خيرا ولو أنه يبدو خرج مُفْلِساً والعالم لايرحم المفلسين. تحيتي لك ولقلمك المبدع أستاذ خيري. |
الساعة الآن 02 : 07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية