![]() |
مطر في الصيف/ د. منذر أبوشعر
الوجوه نفسها لم تتغير . والمكان، مبنى جريدة المنار، نفسه. والوقت نفسه . لم يتبدل شئ ، رغم غيابك الطويل . قلت بهدوء، وأنت تدخل إلى مكتبك: _ صباح الخير .. السلام عليكم يا جماعة. ورسمت ابتسامة عريضة على فمك، مادَّاً يدك على طولهما ، متوقعا كلمة ترحيب حارة . لكنك فوجئت بالصمت وباللامبالاة . وبلهجة خجول عاودت قائلا: _ قلنا السلام عليكم .. السلام لله . الصمت نفسه . وأنت واقف بجمود واستغراب وذهول ، ويدك في الهواء لا تزال ممدودة . وارتفع صوتك يائسا ، ثم علا ، واحتد . وكالمجنون صرخت : _ صياح ، راتب ، عصام .. ماذا جرى لكم ؟! وأخذت تهز كلا بمفرده، وأنت تدور في كل اتجاه: _ ماذا جرى ؟! أخبروني ! أخبروني ! الصمت والسكون حليفان ملحاحان ، وأنت تعارك الهواء بمرارة وصبر . وبأسى سحبت مقعدك وجلست خلف مكتبك ، وأنت على غاية من الألم . كان فكرك يدوي . وشئ كدبيب النمل اعترى ساعديك ، فأخذ ينتقل إلى جسمك خدر خفيف . فأحسست بالتعب وبالإرهاق ، وبالحاجة إلى الدموع . ماذا جرى ؟! هل أنت تحلم ؟! لقد غبت طويلا . وتوقعت بعودتك تغييرا جديدا . لكن هذا الجمود ما معناه وما غايته ؟ وهرشت رأسك المربع ، وعضضت أصبعك ، وخبطت يدك على الطاولة المهترئة ، فتطاير الورق ، والكل لا يزال صامتا لا يريم ! ماذا تفعل ؟! ونهضت متثاقلا ، وغادرت المكتب ، والمبنى يد تضغط عليك ، وتخنقك ، وتغتال جميع أنفاسك . كانت قدماك تجتازان الممر الطويل باتجاه غرفة رئيس التحرير . وبهدوء طرقت الباب ودخلت . :_ السلام عليكم أستاذ محفوظ . :_ .. .. .. :_ عدت البارحة مساء ، وأنجزت خلال غيابي مسرحية وعدة مقالات . :_ .. .. .. :_ عفوا أستاذ ! :_ .. .. .. هو الآخر صامت، يحدق بالفراغ : _ عفوا .. هل هناك شئ يشغلك !؟ كأنك لم تسمعني ! :_ .. .. .. لم يجب .فتقدمت نحوه ، ولوَحت بيدك أمام وجهه . ثم هززت جسمه المكتنز بعنف . ولما لم يتحرك ، صفعته بقسوة ، وركلته بغيظ ، ثم بصقت عليه بقرف .. وظل جامدا لا يريم ! رباه .. لابد أن شيئا ما حدث للناس والأشياء من حولك ! بل لابد أن يكون وباء قد انتشر في أرجاء المبنى كله ! ما لهم ؟! ولم يتجاهلون وجودي فلا يلتفتون إلي ؟! هل جميعهم لا يراني !.. تبا للجريدة ورئاسة التحرير والصحافة . ونزلت درجات المبنى مشيا متعثرا، وأنت تلعن، وتدمدم، وتبصق، وتكلم نفسك بصوت عال، وجسمك كله يرتجف . كان الوقت صباحا، والجو خانقا ، والأرصفة تتثاءب ، وجمع من الموظفين والباعة وطلاب المدارس ينتشرون على طول الشارع وزواياه . ومشيت دونما هدف ، وبلا غاية. وتخيلت أنك صرت صفرا، أو عدما، وأنك في حلم سخيف لا تزال. هل يعبثون معي ؟ ورئيس التحرير ؟ والبواب ؟ وزملاء المكتب ؟ رباه ، أتراه يكون كابوسا مروعا لا يحتمل ؟ أحقا يحدث ذلك ؟ ولمن ؟ لي أنا ؟! لماذا ؟ لماذا ؟! وأغمضت عينيك للحظات، وقاومت بدء انهيار أخذ يعروك ! أريد أن أبكي . أفجر نحيبي عاليا . أصرخ عاليا . أزعق عاليا . أصيح عاليا . أولول . أئن . نعم .. أنت تئن ، ووجعك يزداد . مازلت تمشي دونما غاية . والوجوه والطرقات تتابع . ومنزلك يحبو من بعيد . المنزل ؟! آه ه .. الراحة والاطمئنان والدفء. ستخبر زوجتك بكل ما حدث. وستحدثها عن الوباء في مبنى الجريدة ، بل عن معنى الألم . وببساطة ستفتح ذراعيها وتطوقك حانية ، وتمطر وجهك بقبلات دافئة , وبصوت مشجع ستقول لك :_ يغارون منك ! لا تبتئس يا حبيبي .. شجرة الزيتون ، يرميها الأغبياء بالحجارة . وفتحت الباب :_ فاتن .. فاتن ! وهمست وأنت تدلف داخلا :_ ربما لا تزال نائمة . وتوجهت إلى الصالة , وصوتك يردد :_ فاتن .. فاتن ! ثم دخلت إلى غرفة النوم ، فابتسمت بنشوة ، وقلت بابتهاج :_ ما بك ؟ ألم تسمعيني يا حبيبتي ؟! زوجتك أمام المرآة تتزين . :_ فاتن .. فاتن ! كنت تقولها بإحباط . :_ حتى هي ؟! لا .. هذا مستحيل ! وبقوة اليأس ، وبخيط أمل ضئيل ، اقتربت منها وأنت تبكي : _ قولي شيئا يا حبيبتي ! أنا زوجك كامل ! ألا تشاهديني ؟ ألا تسمعين صوتي ؟! انظري إلي مليا ! يجب أن تريني ! يجب أن تشعري بي ! كانت صنما . صورة . شكلا . فأجهشت بالبكاء ، وغادرت المنزل وأنت تنتحب . كان بكاؤك عاليا . صاخبا . وغصة قوية تدمرك وتزلزلك . وشعرت باللا جدوى والعدم . أنا لم أبك منذ زمن .. كنت أكره البكاء وأعتبره ضعفا . لكنني الآن أجده ملاذي الوحيد ، ومسلاتي الوحيدة ، ومهنتي الوحيدة الجديدة . لا أحد ! أشعر بالخواء وبالفراغ . الناس أمامي أطياف حالم .. والأفكار ! الأفكار ؟! ما فائدة جميع الأفكار التي آمنت بها وتمثلتها وهي عاجزة الآن ، في كل صيغها ، عن مساعدتي ؟! وما قيمة قراءاتي وصوري ورحلتي الطويلة ؟! هل ابتعدت كثيرا ، فلم يعد أحد يراني ؟! أين الناس ؟! أين قرائي ؟! وكيف سأستطيع العيش بمفردي ؟! الوحدة شتي قارس ، وصقيع قاتل يوخز عظامي .. أشعر بالبرد ، وبالتعب ، وبالجوع ، وبالفراغ . وعاودت البكاء . والطريق حية تنساب أمامك بلا نهاية .والناس والوجوه تتطلع بغباء وتتكلم بغباء وتسير بغباء ، دون أن يراك أحد. وتعبت .. تعبت كثيرا . وفي حديقة عامة جلست على كرسي دون أنيس. كان ثمة نسوة يتحادثن في الطرف المقابل ، وشاب وفتاة غارقان في حديث اللذة بركن قصي ، وطفل مع أخيه يلعبان الكرة . ليتك بقيت طفلا . :_ هوووب .. ارم جيدا يا باسم . ( قالها الطفل لأخيه ووجهه يتصبب عرقا وترابا وبراءة ). ورمى أخوه الكرة ، فطاشت بعيدا .. فنهضت بعفوية ، وأمسكت الكرة : _ تفضل يا بني . :_ شكرا يا عمي . :_ ماذا ؟! (قلتها بدهشة وسرور). :_ قلت شكرا يا عمي ! وبحب العالم كله ، رفعت الطفل عاليا بذراعيك ، وغمرته بقبلات الأنس : _ أنت تراني ؟! كان الطفل مدهوشا ،.. أنيسا. .وادعا :_ نعم يا عمي .. أنا لست أعمى ! وأنزلته برفق على الأرض.. وتركت ساقيك للريح . وشعرت أن الدنيا تمطر وتبكي وتزغرد طويلا طويلا. 15 / 9 / 1986 م |
رد: مطر في الصيف/ د. منذر أبوشعر
رائعة جدا , تقبل تحياتي
|
رد: مطر في الصيف/ د. منذر أبوشعر
أحلى صباح ورد لصباح :
شكرا لمرورك ، وشكرا لقراءتك ، وشكرا لنور الأدب ، نتفيأ بعطر جمعه . كل الحب لك ، ولقاؤنا مستمر ان شاء الله. |
الساعة الآن 50 : 11 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية