![]() |
مدن القهر...
نوفل عيسى (1) مدنُ القهرِ...، دنيا أخرى... تتشكَّلُ في غيبٍ مُلْغَزْ: ممحاةً وظلالاً قاتمةً ورمادْ، وتلالاً من جثثِ الأحلام المُفْتَخَرَةْ... مدنُ القهرْ، الكلُّ سواءٌ فيها: (طفلٌ يحبو، رجل يألمْ، أنثى تهوي، شيخٌ خرفٌ)، الكلُّ سواءْ، إلا طاغيها والعسكرُ والسجانْ... فأُولاءِ همُ الأربابْ.. لا ضعفاً يشكونَ، ولا عجزاً يُبدونَ، وليس يُقارفُ أيُّهمُ الأخطاءْ...! مدنُ القهرِ، لا تسعلْ فيها... ذرَّاتُ الحقدِ لها آذانْ...، وسعالُكَ يعني أشياءً، فاكسِبْ وقتَكَ فيها: قفْ وتحركْ، في آنٍ، وتزيَّفْ...، فالزيفُ سلاحٌ لا يُغلَبْ... وتَرَهَّبْ وازْنِ بلا حَرَجٍ، تُصبحُ ربّاً فيها... واكذِبْ وتحايَلْ واسْرِقْ، واصنعْ من أعصابِ الناسِ حلوقاً تحلمُ بالخبزْ، ثمَّ تعَمَّمْ، وأْمُرْ غيركَ بالمعروفِ، فَذَا، في مدن القهرِ، إلى العلياء سبيلْ... وإذا أحْبَبْتَ سبيلاً أقصرْ....، نافقْ... تَحْظَ بحبِّ الحاكم فيها، ويُبَجِّلْكَ، على رُغْمٍ، محكومْ... فارْقَ ونافقْ....، أو نافقْ وارْقَ بلا حَرَجٍ، من عينٍ سَكَنَتْها الدهشةْ، أو خوفٍ من غضبٍ أطفَأَه الذلْ... فأنتَ.... ولا فخرَ، في مدنِ القهرِ تعيشْ... حيثُ الدنيا، دنيا أخرى... دنيا فيها: الزهريْ... داءٌ في العينين، والسِّلُّ يُصيبُ الآذانَ، والقلبُ مكانَ الأنفِ، والخدُّ على ظهرٍ مصفوعْ... دنيا أخرى... دنيا.... البحرُ نضوبٌ فيها، والجدْبُ يُفجِّرُ طوفانا! دنيا أخرى... دنيا أخرى... (2) أتغرَّبُ في غاباتِ الحرفِ المتجذِّر، في ماضي الأخبار... فَأُفَاجأْ... الكلُّ يُقاتلُ... حتى الميتْ... والقبرُ، كأبلهَ، يمشي، في حيٍّ مكتظْ..، يبحثُ عن جُثَّهْ... لكنْ... --- في مدنِ القهرِ المسكونةِ بالخوفْ، ماتتْ أزمنةُ ولغةُ الأخبارِ.... أتكوَّرُ قبضهْ...، وأمدُّ شراعَ الرفضِ على خارطةِ اليأسِ المتحدِّي.. وأزمجرُ: --- لا... لن أقبلَ... -----أتلاشى... أصبحُ ظلاً ينتظرُ أمامَ الزاويةِ المصلوبةِ، في عينِ الرفضْ... (3) يرحمْكَ اللهُ أيا وطني، فالذعرُ الطالعُ من عينيكَ يقولُ كسوفاً... يرحمْك اللهُ أيا وطني، سنتاجرُ بالحرفِ المسؤولِ إلى يومِ وفاتِك... "هل تعرفُ أن تصنع كفنا"؟! يرحمْك اللهُ أيا وطني، لِمَ أنجبتَ طغاةً؟ أمُّك خاطئةٌ يا وطني، ----- قبل هبوبِ الريح المشغوفة بالأخبارِ القذرةْ،فلتقتُلْها، هل تعرفُ أن تقتلَ أمك؟ بكلامٍ طيب... فالكلمةُ.... أمضى سكِّينٍ تغرسُها، في القلبِ العاشقْ! فاقتلْها...، ثمَّ تبخترْ ــ منتشياً ــ في العرسِ الدامي: ها قد عادَ نظيفاً عِرضي! يرحمْكَ اللهُ أيا وطني.. يا بعضي، يا كلِّي، فالصبر الرابضُ في عينيك يقولُ: وداعاً.... يا وطني... الوقتُ قصيرْ... والريحُ تصرُّ على الأبوابْ... والرايةُ أفئدةٌ حبلى بـ (الآهْ).. فاجمعْ أتعابك، واتبعني... واجمعْ أبعادكَ، واتبعني... واحصدْ أحقادَكَ..، حزنَكَ، -- قهركَ، ---- خوفكَ، ثم اجْمَعْها في صَرَّةِ ثأر باردْ، ولْنَمْضِ سويّاً نحو الطاغي... سقطَ الطاغي أم لم يسقطْ، لا فرْقْ، فجنانُ الحلم هي المأوى... (4) جاؤوا من أدمغة الحَذَرِ المنخورةِ بالجبنْ... قالوا: لا ترحلْ... فالغربةُ ترتادُ الوحلَ إلى أرضِ الظلماتْ... تمشي في موكبِ أبناء النصرِ النجسِ... فاثبُتْ في أرضكَ، أو... فلتعرِفْ أنَّكَ ستذوقُ الخوف بألفِ لسانْ... وتذوقُ الفقرَ بألفِ لسانْ... وتذوقُ القهرَ بألفِ لسانْ... لا ترحلْ... فالغربةُ سكينٌ لا يشكمُها عُرْفٌ أو قانونْ... لا ترحلْ... أعْرِفُ... أعرفْ... لكن، لا... لا أقدرُ أن أبقى مشلولاً أجرعُ قهري، أكبتُ صبري، أسكبُ دمعي، في صمتٍ أبلهْ، وأنا أبصرُ طاغيةً ..... يقتلُ أعظمَ ما فينا....، يقتلُ أنبلَ ما فينا.....، يقتلُ فينا الإنسانْ... ثم يُقيمُ لجثتِهِ عرساً، ويتمتمُ خلفَ إمامِ نفاقٍ خَرِفٍ، قامَ يصلي، في موكبِ كذّابينَ، صلاةَ جنازةْ يَكْلَؤُها الشيطانْ لا ترحَلْ... فالغربةُ مملكةٌ من وحلٍ وصقيعْ... لكنَّ ضياء الشمس المشرقة يناديني... لا ترحَلْ... فالغربةُ أرضُ ضَياعٍ مبهمْ... لكنَّ دبيبَ اللامعروفِ... اللاملموسِ.... يناديني.... لكنَّ العريَ الخارجَ من أعصاب الكبتِ يناديني: أَقْبِلْ... يُغريني صمتُ الأوديةِ المجهولةِ، وهوَ يُنادي خطواتي الخجلى: تعالي... فأسيرُ بها... يُغريني تعبٌ يعقبُه نومٌ هانئْ... يُغريني عبقُ الحرفِ الأخضرِ في قمم الـ (لا)... تُغريني الصيرورةُ إنساناً لا يخشى زهوَ السوطِ، وبردَ العريِ، ولسع الجوعْ... سأسافرُ ــ رغم الأفلاكِ الدائرة على عكسي ــ مجنوناً، في عينَيْ مجنونْ... أكشفُ، في وَلَهٍ، أينَ، وأعرفُ كيفَ وماذا... أُبحرُ في نبضاتِ الغامضِ من كنْهِ الإنسانْ... أركبُ روحَ الريحِ الحاملةِ نحيبَ الليلْ... بحثاً عن أرضٍ بكرٍ... عن عُمرٍ لا يعرفُ قيداً... أطلعُ من جمجمةِ الصمتِ المعجونة بالخوفْ، كالماردِ يطلعُ من قمقمْ... في عينيَّ تنوسُ الدنيا... في حنجرتي، آلاف الأصواتِ المخنوقةِ من زمنِ الطوفانْ... وبكفَّيَّ أهزُّ العالمَ كالبركانْ، لأصيرَ الإنسانْ... سأطاردُ كلَّ الأقمارِ المصنوعةِ من تبنِ الإشفاقْ... وأطاردُ كلَّ الأفَّاقين، الكذابين، المحتالين...، حتَّى لو أخفوا أنفسهم في قبعةِ الإخفاءْ...، سأطاردُ أعداءَ الإنسانْ كي أصبحَ إنساناً... أهوى أن أصبحَ إنساناً... أن أحيا إنساناً... أن أُدفنَ إنساناً، في أيِّ مكان.... (5) لن ترحلَ يا هذا المجهولُ من العالمْ... إِنْ ترحلْ، ماذا نصنعْ؟ ماذا سيثيرُ تَشَوَّفَنا؟ فإذَنْ هيَّا، كنْ ضوءَ مسيرتنا، نحو الشطآن المغمورةِ بالدفء... نحو الأودية اللابسةِ الغيمْ... نحو الآماد اللامحدودةْ... ولنُنْشِدْ أثناء مسيرتنا، أغنيةَ المدنِ المنتَظَرَة: (عيناكِ لقاءُ الأشتاتِ... لمحُ الهمساتِ المشمومةِ من ثغرْ... ظلُّ الأحلامِ الموءُودةْ... ترقصُ عاريةً، في عرسِ الأوردةِ الشبقةْ... صدرُكِ لغةٌ أخرى، يفهمُها كلُّ العشاقِ بلا تمييزْ... يفهمُها حتى الأطفالُ... ساقاكِ رحيلُ الحدسِ إلى أودية اللامعروف...، رئةُ الرؤيا.. واسمُك ــ رمزُ الغربةِ ــ يحملُني وجعاً وسروراً، كي يزرعَني سنبلةً ملأى حسناء، في غابةِ آتٍ، فوق خرائطِ عشقٍ يتفجَّرُ عدواً، نحو الله... 10/5/2012 |
رد: مدن القهر...
قصيدة معبرة تختصر الحكاية كم تمنيت أن أقرأ هنا بعض الجرأة في وصف الحكاية شعراً أو نثراً! شكراً لك نوفل |
رد: مدن القهر...
مضى زمن طويل لم أسجل فيه دخولا
لكن ما كان لقصيدتك التي صفقت لها إلا أن تجعلني أدخل لأعبر لك عن مدى إعجابي بها |
رد: مدن القهر...
د. فادية.. شكراً لمرورك اللطيف.. ولرأيك في القصيدة، وأرجو لك المزيد من العطاء والإبداع.. شكراً..
|
رد: مدن القهر...
د. فادي..
رأيك بالقصيدة أشعرني أن رسالة حزني وغضبي قد وصلت إلى قارئها.. وقدرة أي نص على إيصال رسالة مؤلفه إلى القارئ هي أعظم مكافأة يحلم بها أي أديب.. فشكراً لك على هذا الإشعار بالوصول.. |
رد: مدن القهر...
قصيدة قوية... تنبض ألماً... ولكن عقل شاعرها أقوى وضوحاً في عباراتها من عاطفته وانفعالاته.. هل يعني هذا أن الشعر العربي الحديث بدأ مرحلة الصنعة والتصنع، كما جرى لسلفه في العصر العباسي؟ لا أرجو أن يكون الأمر كذلك.. بل أرجو أن يظل الشاعر طفلاً، ليظل شعره شعراً وليس قصائد تضع نظارات ذهبية طبية وتحمل شهادات دكتوراه.. أي قصائد فيها كل شيء ماعدا الشعر...
|
رد: مدن القهر...
بعدد أصابع اليد الواحدة كانت مقاطع هذه الخريدة..مدن القهر..موغل بثّك أخي نوفل..أنت صوت يجب سماعه ..مودتي..
|
الساعة الآن 14 : 10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية