منتديات نور الأدب - نسر فوق روابي حيفا - في يوم ذكرى النور

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)

- خدوش وجراح على زجاج العمر (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=431)

نسر فوق روابي حيفا - في يوم ذكرى النور – هدى الخطيب

[align=justify]

طفلة صغيرة في الزاوية ترتعش وهي تحتضن ساقيها بين ذراعيها مذعورة: "أبي أمان لا يموت" وسطّرتها ذات طفولة:

قالوا عنه مات..

نسوا أني طفلة

لا تؤمن بالمعجزات

نسوا أني قلب صغير

يرفض الخوارق

رجاء كفوا عن النواح

الآن تركته يقرأ صحف الصباح..

***

استيقظ صباحاً على حلم غريب.. وكأن ماء الحياة تنسل من جسده الشاب وألم ضاغط في صدره، أشعل لفافة تبغ وتأمّل شريط حياته..

عادت الطفولة طازجة وكأن الزمن لم يمر عليها والمكان غير المكان .. البيت الجميل والأشجار التي تزين أطرافه وذلك المطل البديع على المرفأ من فوق الهضبة والبحر يمتد إلى ما لا نهاية..

تذكّر والده القاضي بعمامته وجبته وضيوف كثر واجتماعات كثيراً ما كانوا يملؤون الصالات الثمانية المفتوحة على بعضها.. اخوته.. وغادة التي ماتت هناك برصاصة صهيونية غادرة.. الحديقة وشجرة الكينا وأشجار الياسمين وسطح البيت حيث كان يحلو للعائلة السهر والسمر وحتى الغناء في هذه المساحة المفتوحة على مناظر بديعة حيث البحر وأنوار المرفأ والجبل والهضاب.

توقف عند والده وتذكر مسجده والغرفة المخفية التي جهزها للثوار، وحين كان طفلاً يحمل لهم الطعام بحرص شديد.

تذكر ما كان يروي الوالد لهم عن الثورة واستشهاد القسّام وصلاته عليه بعشرة آلاف مصلي أو يزيد..

دروب حيفا عروس المتوسط وشوارعها التي كانت تعج بالعرب والسياح ومسارحها ومقاهيها.. تمهلت الذاكرة عند مدرسته الإسلامية للذكور بمعلميه ورفاقه..

تذكر ما لم ينس.. جرائم الهاغانا الصهيونية والمستوطنين وتسليحهم لاستهداف العرب.. كيف كان وشقيقه صلاح في طفولتهما أثناء الأزمات يجهزان المولوتوف وكيف كان يضع عمامة والده على عصا ويمدها من النافذة ليطلق المستوطنون النار باتجاهها فيقذف وشقيقه المولوتوف باتجاه مصدر الرصاص.

توقف بحرقة مزمنة عند يوم الخروج من حيفا حيث كان والده مدعوا لاجتماع عربي لبحث الأزمة الفلسطينية عند الرئيس شكري القوتلي في دمشق، وسط أجواء أمنية شديدة السوء في حيفا وكثرة المجازر الصهيونية مما جعل والده يصطحبهم معه دون أن يعرف أحدهم أنه الشتات والخروج الأخير عن منزلهم ومدينتهم وفلسطينهم ، وكان الظن أنهم سيغيبون لأسبوعين على أبعد تقدير!

لم يكن معظم أثرياء فلسطين يحتفظون بأموالهم في المصارف، وكانوا يفضلون عليها جراراً، ولشدة تدين والده خبأ قسم كبير من جرار المال في خزانة بالمسجد ووضع فوقها شعرة لجده النبي صلى الله عليه وسلم ( بركة وحماية ) وبينما تأهبت السيارة للمضي تذكرت والدته أنها بحاجة للمزيد من الحليب الجاف للرحلة بين حيفا ودمشق، فعادت شقيقته حورية على عجل لإحضار بعضها من خزانة في غرفة المؤنة – وقعت بعض الجرار ليتناثر منها الأرّز والسكر وليرات ذهبية كثيرة، يبدو أن والدها خبأها بين المؤنة - ما كان منها إلا أن تعيدها بسرعة إلى داخل الخزانة - بيديها وقدميها معاً - دون إعادتها للجرار حتى تتمكن من إقفال الخزانة – لم يخطر لها مطلقاً أن تنحني وتلتقط ولو ليرة واحدة منها – فهي لم تتعود أن تمد يدها إلى ما يخص والديها.

بينما كانوا يغادرون ، كانت آثار المجزرة ما زالت هناك في الساحة والرصاص يمر سهاماً نارية من هنا وهناك .. على هذه المشاهد فكر والده أكثر من مرة بالعودة لكنه لم يفعل.. يتذكر بحسرة..

والدي المسكين ظن أن اجتماع الرؤساء والملوك العرب سيخرج بشيء يدحر العصابات الصهيونية وأن من واجبه أن يحضر ويروي لهم ما وصل إليه الوضع في حيفا.. لو كان يعلم ما كان ليغادر حيفا مهما كان الثمن دموياً وفادحاً .. تنهد بحرقة .. رحماك ربي..

من دمشق إلى بيروت بدعوى من صديق والده رئيس الوزراء اللبناني آنذاك رياض الصلح فطرابلس لتلبية دعوى بعض رجال الدين كمحطة أخيرة قبل العودة إلى فلسطين – هناك جاء الخبر المشؤوم – سقطت حيفا نهائياً – ولا إمكانية للعودة إلى فلسطين..

تذكر ملياً ذلك اليوم المشؤوم بين نكبتين ويتمين.. سقوط الوطن الذي أسقط هوله الشيخ ميتاً، ليصلى عليه ويدفن في طرابلس.

يشعل لفافة تبغ جديدة ويمر على ما تبقى في حياته من محطات في لبنان حيث شبّ وتعلم وتخرج من جامعتها العربية وسفره ليكمل الدراسات العليا، وعودته إلى لبنان ليعمل ويحب ويتزوج وينجب - أحب والدته وزوجته وبناته - لكنه - لم يحب أحداً كما أحب حيفا ولم يعشق كما عشق فلسطين - محطات كثيرة – مرّت به أو مر عليها في ترحاله وجرحه المؤلم ينزف بغزارة..

عمل كثيراً من أجل الوطن السليب والتقى بكل السياسيين كالنحلة تحاول جمع عسل النضال لاستعادة المسلوب، ووقف خطيباً لفلسطينه على كل المنابر وقذف طلقات شعره لعلها توقظ الضمائر بكل اتجاه..

لم يكن ينام كفاية ولم يسمح لنفسه بالراحة والاسترخاء وفلسطين هناك لم تزل في قيدها.. أربعة وثلاثون عاماً على سطح الأرض عاشها كانت في جرحه وكفاحه المرير كألف سنة وحبيبته سبية في أيد دموية قذرة.. الجرح يحتاج للراحة والتعب ينام في نعش.. ومن ينام في نعشه أبداً لا يستيقظ حتى لو كان في عينيه ذعر على طفلتين صغيرتين جداً.. يتيمتين من بعده...

توقف القلب فجأة ومات – مات نور الدين – في الرابع من آذار – في مثل هذا اليوم غادر جسده لتحلّق روحه العاشقة كالنسر فوق روابي حيفا.. جريحاً عاش ومات عشقاً بعدما غرس ضياع فلسطين أنيابه الحادة في شرايينه حتى مزقها.. مات نور الدين الخطيب حباً بحيفا وعشقاً لفلسطين نكبة قاتلة.

نام في نعش لنحمل نعشه فوق صفحات العمر إلى أن تعود فلسطين وتبتسم صورة وجهه على صفحة مياه شواطئها وتضحك روابي حيفا ربيعاً فلسطينياً لا دموع شتاء بعده ولا حرقة جراح..

تناديه طفلة حين تعلمت الكتابة.. كانت طفلة ذات رابع من آذار بعيد..

عد إلينا يا أبي

أخذوك إلى دنيا ثانية

حسبوا روحك فانية

لا والذي بعث الحياة أنثى

ستبقى روحك في قلبي خالدة

يتمتني وأختي وأمي باتت أرملة

داست نواميس الكون على هذه الطفولة الساذجة

لكنه قدرٌ أراد البؤس للعائلة..
***
سنوات عديدة مرّت وما زلت أعيش حرقة السؤال:
أمات أبي؟!

[/align]