![]() |
الحلقة الخامسة، تفرُّدٌ في الإبداع وتَشَارُكٌ في النجاح...
[frame="13 98"][align=justify]بعد صيف قائظ، أَطَلَّ خريفُ عام 1981 على دمشق بغيومٍ خفيفة واعتدال في درجات الحرارة.. ومن يعرف دمشق، يعرف أن أجمل أيامها في الربيع والخريف، ولذلك يغتنمها الدمشقيون في الخروج إلى الحدائق والمنتزهات، حيث يقضون أوقاتاً ممتعة يرتاحون فيها من تعب العمل بالحديث والسمر وتناول الغداء أو العشاء ولعب الورق أو النرد وتدخين النرجيلة وما شابه...
ومع أنَّ أحداث ذلك العام وما سبقه وتلاه، قد عكَّرت صفو السوريين إلى حدٍّ كبير، إلا أنها لم تستطع أن تَضطرَهم إلى إلغاء نزهاتهم وسهراتهم، بل إلى تقليص مدَّتها فقط، وذلك بالعودة منها إلى بيوتهم أبكر ممّا اعتادوا.. ولأن ثلاثتنا، أنا وطلعت ومحمد، من سكان دمشق، قررنا كغيرنا من أهلها، أن تكون جلستنا الأسبوعية، مساءَ ذلك الخميس من شهر تشرين الثاني 1981، في أحد المنتزهات... ولأن أياً منا لم يكن يملك سيارة، قررنا التوجُّهَ إلى أحد منتزهات الربوة، لكونها الأقرب إلى بيوتنا جميعاً آنذاك.. في تلك الليلة، وبعد فراغنا من العشاء، فاجَأَنا طلعت، بأنه ترك عمله كمدقق لغوي في جريدة تشرين وانتقل إلى العمل كمحرر صحفي في مجلة صوت فلسطين.. باركنا له عمله الجديد، وتمنينا له النجاح فيه. فردَّ علينا بأن التهنئة لا ينبغي أن تكون له وحده بل لثلاثتنا، لأن عمله في هذه المجلة سيُمَكِّنه من مساعدتنا على نشر كتاباتنا فيها، وحثَّنا على البدء بالكتابة.. رحَّب محمد بالعرض، أمَّا أنا فتلكَّأتُ لأنني لم أكن قد نشرت أي مادة من قبل، ولذلك اعترتني رهبة من مجرد التفكير في نشر ما أكتبُه على الناس، واضطراري إلى سماع آرائهم في كتابتي وتعليقاتهم عليها ونقدهم لي ولها.. وانتبه محمد وطلعت إلى ما اعتراني، فشَرَعَا في تشجيعي وحَثِّي على البدء، مُؤكدَين لي أنهما سيبذلان ما بوسعهما لتنقيح أي مادة أكتبُها قبل نشرها لا لتصير مقبولة فحسب، بل لتصير رائعة أيضاً... ومضت أيام تلتها أيام، وأسابيع وراء أسابيع، انهمك طلعت خلالها في إجراء تحقيقات صحفية ميدانية في مخيمات اللاجئين داخل سوريا، أثارت إعجاب الكثير من قراءة المجلة، وغضب الكثير من المسؤولين عن تلك المخيمات آنذاك، لأن تحقيقاته مع سكانها امتلأت بشكاواهم ضد أولئك المسؤولين ونقدهم لتقصيرهم وإهمالهم.. وربما لكثرة ما أثارت تلك التحقيقات من جدل وقيل وقال، انتقل طلعت إلى القسم الثقافي في المجلة، كمحرر فيه بدايةً، ثم كمدير له، كما ظلَّ إلى يوم وفاته.. كان انتقال طلعت إلى القسم الثقافي منسجماً مع طبيعته كأديب وموهبته كشاعر، ولهذا سرعان ما نهض به عبر ما نشره فيه من مقالات أدبية ونقدية وقصائد، ومن خلال تشجيعه الكثير من الأدباء والنقاد الفلسطينيين والسوريين على السواء للمشاركة بإبداعاتهم فيه.. وللحقيقة، أذكر أن غرفته في المجلة، بعد انتقالها إلى طريق الصالحية الشهير في دمشق، تحولت إلى صالونٍ أدبي يومي يحتشد فيه عدد من المثقفين والمبدعين، يتبادلون الأحاديث ويساهمون بما يأتون به من إبداعاتهم لنشره في تطوير ذلك القسم.. ولم أعرف أحداً تحولت غرفة عمله إلى ملتقى للمثقفين والمبدعين على نحو يومي مدهش، سوى اثنين هما: طلعت سقيرق والدكتور حسن حميد، كما سأذكر متوسعاً في حلقات قادمة.. وبحق، يمكن القول إن مجلة صوت فلسطين كانت مُنطَلَقَ شهرة طلعت في الوَسَطَين الثقافيين السوري والفلسطيني على السواء، وذلك بديهي جَرَّاء تحوُّلها إلى منبر شهري قوي لشعره وكتاباته الأدبية والنقدية، فضلاً عن صيرورتها ملتقى يومياً يجمعه بالعديد من الأدباء والنقاد... وربما لم يكن لِيَلُومَه أحدٌ لو أن خمرة الشهرة دارت برأس أنانيته فَتَاهَ على أصدقائه مُغترّاً، لكنه لم يفعل، لأنه كان يكره ــ رحمه الله ــ الاستئثار بأي شيء لنفسه.. ولأننا كنّا نعرف ذلك فيه، لم يُفاجئنا بمبادرته إلى إشراكنا في نجاحه، بدعوته المُلِحَّة لنا إلى اتخاذ صوت فلسطين منبراً لنا ننشر عبره كتاباتنا. استجاب محمدٌ قبلي، بينما ظللت محجماً عن نشر كتاباتي في صوت فلسطين أو غيرها من الصحف والمجلات، خَوْفَ تَعَرُّضِ ما أكتبه للنقد، معللاً رفضي الكتابة بانهماكي في تحضير الماجستير إلى درجة لا تسمح لي بتخصيص أي وقت للانشغال بغيره... حتى كان يوم... التقيت بطلعت في ذلك اليوم على غير موعد، فقد خرجتُ من عملي في مؤسسة الأرض قبل انتهاء الدوام، لألتقي المشرفَ على رسالتي.. فلما لم أجده، لاضطراره إلى الخروج لطارئ، كما أخبرني أستاذ آخر في الجامعة طلب منه إبلاغي بإرجاء اللقاء إلى يوم آخر، وجدتُ لدي فسحةً من وقت، فقلتُ أزور طلعت في مكتبه بصوت فلسطين، وكان مقرها يومذاك في نفس بناء إدارة التوجيه المعنوي الفلسطيني، بحي المزرعة قرب جامع الإيمان بدمشق.. رحب بي ترحيباً حاراً، أردفه بالقول: ــ يا الله كم أنك ابن حلال... الآن كنتُ سأتلفن لك إلى المؤسسة لأراك من أجل أمر هام... ــ خيراً إن شاء الله.. ــ يريدون في المجلة مقالة عن الأدب الصهيوني، فخطرتَ في بالي فوراً، ولذلك لم أتردد، فدققت صدري وقلت لهم كاتبُها عندي، وأنا أقصدك طبعاً.. ــ ماذا؟! ــ لا تفزع هكذا، ليس المطلوب منك إنجازها غداً، أمامك شهر من الآن.. خذ راحتك ووقتك.. ــ ولكن.. أنتَ تعرف انشغالي بموضوع.. فقاطعني وهو يلوح بيده شأن من لا يريد سماع عذر ملَّ سماعه مرات كثيرة، وتابع يقول.. ــ موضوع الماجستير.. أعرف.. لكن لا تَعَارُض بين هذا وذاك.. أعطِ بعض وقتك للمقالة.. أمامك شهر يا رجل.. ثم إن موضوعها ضمن موضوع رسالتك، وهذا يعني أنك يمكن أن تكتبها على المرتاح.. لم تُفلح كل محاولاتي للتملص والإفلات، إذ حاصرني حصاراً شديداً، ولم يتركني حتى قطعتُ له وعداً أكيداً بأن أكتب المقالة التي طلبها مني.. ولذلك غادرتُه وأنا في غاية الهم والقلق، وكأنني طالب على أعتاب امتحان نهائي سوف يتقرر فيه مصير حياته كلها.. لأيام ثلاثة، فكرتُ في موضوعات كثيرة محاولاً اختيار أحدها ليكون محور مقالتي الأولى، وكأن عالم الثقافة العربية كله سيتوقف على مضمونها، وبعد طول تردد وقع اختياري على موضوع يتعلق بالصورة الدعائية للشخصية اليهودية في الأدب الصهيوني، تلك الصورة التي سعت الصهيونية جاهدة لإيهام العالم كله بأن صاحبها سوبرمان العصر، لأنه "سليل شعب الله المختار"، وبأنه "ليس سوبرماناً في ميادين القتال فحسب، بل في كل ميادين الحياة دون استثناء".. بعد أسبوعين من ذلك اللقاء، حملتُ ما كتبتُه إلى طلعت في مكتبه بصوت فلسطين، وأنا مُشفِقٌ ليس من احتمال أن لا يراه صالحاً للنشر فحسب، بل مثيراً للسخرية أيضاً.. وربما لذلك رجوته، يومذاك، صادقاً أن يقرأ ما كتبتُه بإمعان أكثر من مرة قبل نشره، وإذا وجده غير صالح للنشر فليرفضه غير مُتَحَرِّجٍ مني لأنه بذلك يكون كمن يسدي لي معروفاً.. وظللت أفيض أمامه بمثل هذا الكلام حتى أوقفني قائلاً: ــ ممكن أن تسمح لي بقراءة تحفتك النادرة أولاً، ثم تسمح لي بإعطاء رأيي فيها؟.. ــ نعم.. تفضل.. قلت ذلك، ثم رشفت جرعة من كأس الشاي الذي كان أمامي، وأشعلت سيجارة رحتُ أَعُبُّ دخانَها بشراهة عصبية كان يلحظها بطرف عينه بين كل لحظة وأخرى، قبل أن يندمج في القراءة كلية، غير ملتفت إليّ حتى أنهى المقالة كاملة.. وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين رأيتُه يضع المقالة من يده على الطاولة، ثم ينظر إليَّ مبتسماً وهو يقول: ــ رائعة يا توفيق.. صدقني.. أنا لا أجامل في النقد.. صدقني إنها رائعة.. بعد أسبوع، ظهر اسمي لأول مرة تحت مقالة منشورة في صوت فلسطين تحت عنوان (وَهْم السوبرمان اليهودي في الأدب الصهيوني)، لتكون هذه المقالة خطوتي الأولى على درب تركتُ على أطرافه سبعة كتب مطبوعة وثلاثة تحت الطبع وأكثر من خمسمائة مقالة ودراسة وبحث نُشرَت لي في صحف ومجلات عربية مختلفة على مدار ربع قرن ونيف، هذا فضلاً عن أعداد كبيرة جداً من الحلقات الإذاعية لبرامج عديدة بالعربية والعبرية ظلَّت تُبَث لي أسبوعياً من إذاعة دمشق، على مدار سبعة عشر عاماً.. وإنني إذ أذكر هذا الآن، فلستُ أذكرُه من باب التفاخر والتباهي ــ لا سمح الله ــ ولكن اعترافاً بدور طلعت في انطلاقتي الأولى وشكراً له، بعد الشكر لله، على قيامه بذلك الدور الذي ظلَّ يمارسه معي طيلة فترة صداقتنا الطويلة إلى أن تُوفِّي رحمه الله.. وسأحاول في حلقات قادمة الإشارة إلى ما أثمرَتْه مواقف طلعت الإيجابية معي من كتابات ونجاحات يُشكِّل مجموعُها جانباً مهماً جداً من شخصيتي كباحث وأديب، سواء كتاباتي التي نشرتُها باسمي، أو تلك التي نشرتُها بدون أي اسم وهي كثيرة جداً.. [/align][/frame] |
رد: الحلقة الخامسة، تفرُّدٌ في الإبداع وتَشَارُكٌ في النجاح...
شكرا لكم أيها الكاتب ....... ورحم الله طلعت وأسكنه فسيح جناته |
رد: الحلقة الخامسة، تفرُّدٌ في الإبداع وتَشَارُكٌ في النجاح...
(وربما لم يكن لِيَلُومَه أحدٌ لو أن خمرة الشهرة دارت برأس أنانيته فَتَاهَ على أصدقائه مُغترّاً، لكنه لم يفعل، لأنه كان يكره ــ رحمه الله ــ الاستئثار بأي شيء لنفسه.. ولأننا كنّا نعرف ذلك فيه، لم يُفاجئنا بمبادرته إلى إشراكنا في نجاحه، بدعوته المُلِحَّة لنا إلى اتخاذ صوت فلسطين منبراً لنا ننشر عبره كتاباتنا..فلستُ أذكرُه من باب التفاخر والتباهي ــ لا سمح الله ــ ولكن اعترافاً بدور طلعت في انطلاقتي الأولى وشكراً له، بعد الشكر لله، على قيامه بذلك الدور الذي ظلَّ يمارسه معي طيلة فترة صداقتنا الطويلة إلى أن تُوفِّي رحمه الله.)
الجميل في الحلقة عرفانك ..والأجمل إيثار طلعت ـ عليه رحمة الله ـ ..شكرا لك أخي الأستاذ محمد توفيق..أنتظر بشغف بقية الحلقات..مودتي.. |
رد: الحلقة الخامسة، تفرُّدٌ في الإبداع وتَشَارُكٌ في النجاح...
شكرا لمرورك اللطيف أخي زين العابدين....
مودتي وتقديري... |
رد: الحلقة الخامسة، تفرُّدٌ في الإبداع وتَشَارُكٌ في النجاح...
لا شك أن من الجميل أيضا، أخي الصالح، هذه المتابعة النابضة بحبك لي ولأخي طلعت..
مع فائق تقديري ومحبتي... |
الساعة الآن 59 : 07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية