![]() |
رواية تعويذة الحب
[align=justify] إن هناك كثير من الأحداث التي تؤثر في نفس الإنسان وشخصيته ووجدانه، قد تكون حادثة مر بها وعاشها بحلوها ومرها أو تكون حادثة شاهدها حدثت لصديق قريب من نفسه أو شخص غريب عنه.... ومعظم أحداث القصة من الخيال ولا تلمس الواقع إنما كانت نموذج لقصة حب بين قلبين سطرها القلم،وخواطر القلب ومشاعره نقشت ليجس العالم لحظات من حياة الحبيبين . عسى أن تكون هذه القصة رسالة.....رسالة حب إلى كل من نسى حبيباً أو فقد عزيزاً.. وليدخل نسيم الغرام الفؤاد، ولترينا مرآة الحياة العلاقة الغراميةُ،ثم ليسأل كلﱞ نفسه السؤال الصعب: من أحب؟.....وليظهر كل امرىءٍ قناع المروءة عند إلقاء تعويذة الحب ولتنطق شفتيه أصعب كلمة : "أحبك"..............عمرمحمدعمر بن طاهر باوزير في منتصف الليل بإحدى ضواحي مدينة ساكنة وحين تسربل شعاع القمر الساطع إلى نافذة حجرة صغيرة في الطابق العلوي لمنزل شارد تائه في أرجاء مجتمعه...تتحسس تلك الفتاة الشابة (مادلين)نور القمر ليهمس لها بصوت متهدج خجل عن أجمل رسائل الحب العذب، وكأنما نوره يدان تتحسسان شعرها الكستنائي الناعم ويداعب خصلاتها ليرسم بأنامله خلفها ظلاً لجسدها ذي القوام الرشيق ليشرق ثغرها الباسم على الكون بأجمل ابتسامة وتفتح نافذتها لتواجه ذاك القمر الساطع لكن الرياح الهوجاء زمجرت والسماء السوداء رعدت وظهر شررها ولتنزل نجوم سوء الطالع لتغير مجرى القدر..وسرعان ما طرق سمع مادلين رنين هاتفها الخلوي في الساعة الواحدة ليلاً لترى رسالة ورد فيها:_ "نظرات قلبي إليك تهتف باسمك الغالي، ودمعت عينيّ المعذبتين دماً ينزف ولن يوقفه غيرك أنت، نظرات عينيك الزرقاوتين سحرا قلبي يا حبيبتي ووجهك المقمر الصافي أذاب قلبي، فأنت الأجمل...هلمي إلى صدري فأنت تدفئينني من البرد هلمي إلى قلبي فأنت تسعدينني عند الحزن.هلمي إلى حبك الأبدي..تمتعت بحبي معك حلّق قلبي بهواك...تعذبت عذاب الحب الغالي لما غبت عن بالي..أنت لي الدنيا ومافيها ، ما أمكنني على السكوت فحبك يغلي ويغلو في قلبي فلم تردي له بالصمت؟! موجات الهوى عادتني ورياح الحب هاجمتني، وأنبتّي في قلبي حباً نابضاً. نفخت في صدري فأدمنت حبك أهواك دوماً، بركان حبك ثار في قلبي فأخمديه يا حبيبتي بهمسات من شفتيك، لقد زلزلت قلبي وعقلي...اشتقت إليك يا مادلين.ابتسمي يا حبيبتي فلن يزول حبنا مهما حصل، فبدونك حياتي لاطعم لها..غداً اللقاء في مكاننا المعتاد.أحبك...حبيبك دائماً (وجدان) " فقرأتها مادلين بفرح كاسح وتنهدت قائلة في نفسها:_ " أتمنى ألا يزول هذا الحلم أبداً ويأتي يوم يجمع القلوب والدماء والأجساد معاً إلى الأبد" فتمددت مادلين على سريرها،وكان غطاء سرير النوم ووسادته البنية اللون مصنوعة من كشمير ناعم فأخذت مادلين تحضن الوسادة بين ذراعيها، ثم أغلقت جفنيها لتنام لكن قلبها لاينام فللقلب داؤه ألا وهو الحب. ولما طلت شمس الصباح مبتسمة وعمّ دفؤها البقاع وضوؤها كل الموجودات استعدت مادلين للذهاب إلى كليتها_كلية الإعلام( قسم الصحافة)_في عامها الأخير لحضور محاضرة في الساعة السابعة صباحاً لكن المدهش في الأمر أنها لم تذهب هناك........لقد ذهبت لملاقاة حبيبها الشاب الصحفي (وجدان)في مكان خال من الناس لكنه مليء بالأجواء الرومانسية عند شاطيء بحر فيروزي فدارت بينهما الحوارات وعند ذلك قال حبيبها وجدان:_" مادلين إن لك قلباً يمد بلا كلل حباً بلا سكون ولا ملل..إن بعدك ذوقني المر، إنني المشتاق الذي أردت كلمة من تلك الشفاه التوتية لأسكّن بها قلبي، وأردت قبلة على تلك الخدود الوردية لأهنيء بها شفاهي، وأردت نظرة فيك لأمتع بها عيني..شوقك أشعل الناروحبك عذب المشتاق...أردت لقاءك بلهفة وشوق فقد افتقدتك كثيراً حينما رحلت بعيداً عنك إلى بلدٍ آخر، ولقد كانت تلك الأشهر الثلاثة قاتمة كئيبة فقد مرت كسنوات طوال..كنت أتلهف لأسمع صوتك أرى عينيك..لم أملك سوى الصبر على عذابي.ردت مادلين بابتسامة صماء شاردة:أعدمتني عند ذهابك بعيداً وأحييتني عند قدومك لي يا حبيبي؛ فقد انقضت علي أيام غيابك كعذاب مستمر يشل جسدي فلم أذق طعم الراحة وانتابني السهاد والأرق...كنت خائفة قلقة عليك لهذا عدني بأن لا تتركني مرة أخرى لهذا العذاب فقال وجدان وهو ممسك بيديها الباردتين:أعدك يا حبيبتي مادلين.......ولم أنس أني قد أحضرت لك مفاجأة فأغمضي عينيك، وإذا به يخرج من جيب سترته قلادة ذهبية براقة منقوش عليها أول حرف لاسميهما: (M♥W) فألبس وجدان حبيبته القلادة ثم قبل يديها وجبينها وضمها لحضنه بلطف حتى أحسا وكأنهما طائران بين النجوم وتتراقص أمام أعينهما الغيوم على هدير البحر الفيروزي ثم تفارقا بوداع رومانسي وتواعدا على اللقاء مرة أخرى. مساءً وحين كان وجدان في منزله خطر على بال مادلين أن ترسل له رسالة ، فكتبت بأناملها الناعمة تأكيداًَ على حبها: "أعييتني..أدميتني...كل هذا بحبك، كل هذا لهواك فلم الجفاء؟أنت أنت كالقمر سامر في قلبي، ينبض بالحب الفؤاد...وكالشمس سلت كاهلي تحرق الليل المؤاذ...أرحني اجبني وصلني يا نسمة روحي وبلسم جروحي وموجة حنيني أنت ملهم خوفي..افهم بنودي فأنت أول حلولي واحفظ عهودي فبحبك جنوني.......مع حبي. في ليلة الأربعاء تواعد الحبيبان على الذهاب إلى السينما والإلتقاء عند موقف الحافلات...كانت الساعة الثامنة مساءً ووجدان قد تأخر مما استدعى مادلين لأن تركب الحافلة...فتقعد بجانب النافذة الزجاجية الشفافة لتجدانعكاس صورتها فترى وجهها الحزين الكئيب فجأة تشتت تلك الصورة لتعود الابتسامة حينما رأت من على نافذتها حبيبها الشاب الذي سرعان ما صعد بجانبها، ثم وصلت الحافلة إلى الموقع المحدد فنزلا بتؤدة وهما يتضاحكان....بعدها سارا قليلاً مشياُ على الأقدام وقد كان وجدان يغني لها ويطربها بأحلى الكلام...تطل السماء وتدنو النجوم لتسترق السمع.بعد ذلك وصلا السينما متأخرين، فقعدا في آخر صف من القاعة لمشاهدة فيلم رومانسي للغاية، فتتابعت مجريات الفيلم وتتابعت خفقات قلبيهما ليندفع الدم المليء بالحب إلى شرايينهما ليغذي كل أوصال جسميهما، وحينما قال بطل الفيلم لحبيبته عبارة:"ردي لي قلبي يا حبيبتي " رددها وجدان عدة مرات لاشعورياً لمادلين وإذا بشفتيه ترتوي من شفتيها لتطفيء عطشها الشديدولتنتقل شفتيه إلى تفاح خديها ولعنقها الماسي الذي تحسسته يديه الدافئتين، فتعض مادلين شحمة أذنه اليسرى برقة شديدة وتهمس له فيها:"أحبك" ومن هول هذه الكلمة انطفأت الأضواء وتوقف الفيلم وتعرّق جبينها وعجزت لسانها عن النطق وهرولت مسرعة وشعرها يطير لسرعتها، فتنتظر وجدان تحت جذع شجرة عتيقة. لحقها وجدان مهرولاً إلى هناك قائلا لها: وأنا كذلك أحبك...تنفست هواء رئتيك وأدمنت زفير شفتيك .نازعني الهوى والولع فيك..لا أستطيع كبح جماح عشقي..فرسمت مادلين على جذع الشجرة قلبا خائفاً من دوامة الحياة، و هبا للمشي على الرصيف، وتنهدت مادلين ببطء عند الفراق لتخرج أنفاسها وتمتطي الريح لتصل منزلها في الساعة العاشرة و النصف مساءً، فطرقت باب منزلها عدة طرقات ففتحت أمها الباب مسرعة، فدخلت مادلين المنزل فخلعت معطفها البني وسألتها والدتها:أين كنت كل تلك الساعات؟فردت مادلين ببساطة:كنت عند صديقتي أحلام زميلتي في كلية الإعلام لندرس قبيل الامتحان النهائي، فصدقت الأم تلك الكذبة البيضاء سريعاً كونها مشغولة دوماً فهي تعمل قاضية. أما الأب فكان طبيباً دائم الانشغال كذلك.لذا فإن مادلين تملك مساحة كبيرة من الحرية بالإضافة لكونها ابنتهما الوحيدة المدللة. .بعد ذلك خلعت مادلين ملابسها وارتدت رداءً فضفاضاً فسفوري اللون، ثم تناولت وجبة خفيفة، واستلقت على أريكة في حجرتها في الطابق العلوي واضعة على أذنيها سماعات متصلة بمسجلة بها أغاني كلاسيكية فجعلت تصغي ومؤقها يدمع وقلبها يسمع حتى غاصت في بحر من الأحلام ونامت كفراشة نائمة بين أحضان الزهور.أما وجدان فقد ذهب لمنزله الصامت تماماً_فهو يعيش وحده بعد موت والديه بحادثة سيارة قبل ردحٍ من الزمن_و ظلّ جالساً على مقعد من خشب الجمّيز وهو يسرح في حبيبته ويذكر كيف أصابته سهام حبها عندما صدمها في حفلة تخرجه_السنة الفائتة_صدمة دندن بها قلبه على أوتار حبها واهتزت بها كل جوارحه فتبادلا النظرات طوال الوقت _فالعين تعشق قبل القلب أحياناً_...نعم نظرات الحب..حباً رزيناً صامداً ليس بنزوة ولا حباً عادياً....فإذا بالنوم يتسلل بخفة إلى عينيه وكأنه يسرق خطواته حتى غاص في سبات عميق. بعد ثلاثة أيام دعا وجدان حبيبته لتناول طعام الغداء معه، وظهراً..والأرض صارت قيظاً، والشمس تشوي الأرض شياً دخل الحبيبان مطعماَ أجواؤه ساخنة_لازدحام الناس المتباينين أجناساً وألواناً ودوي الصيحات.... وبسكينة ليجلسا بعيداً عن الناس في هدوء وحول طاولة مستديرة متميزة عليها مصباح من الكريستال الشفاف واللماع وكأنه زهرة وشمعدان فضي.لقد كانت قاعة الطعام بها ستائر قطنية والطاولة والكراسي مغطاة بقماش مخملي أحمر والجدار ملبس بالكتان المقلم بالرمادي والأبيض في توافق ناعم وفي أجواء رومانسية، استطاع وجدان بقلبه أن يرطب الأجواء ببعض من لمساته الحانية وظرافته. تلكّأت مادلين عن اختيار أي طعام واكتفت بشرب ماء تلون بلون الكأس.لكن وجدان أصر عليها فطلب طبقان من المعكرونةوجعلا يتبادلا اللقم بشوكتيهما وتمد يديهما الكؤوس الزجاجية بلون اليانسون لتروي كل منهما الآخر، و أفواه الملاعق ذات اللون الفضي تشهد لهما بالحب الأبدي.و مالبث وجدان حتى قال لحبيبته: مادلين..أي لغات أخرى لم أقل لك بها(أحبك)؟؟؟فردت مادلين بهدوء:بلغة القلب.. بعد ثوان ظل الحبيبان كمحنطين كلاهما يحدق بعيني الآخر دون حراك...فجأة يقل وجدان:أريد أن أتقدم لطلب يديك من والديك ؟سكتت مادلين هنيهة وشردت ببصرها نحو الكأس وتفكر سريعاً وترد عليه:كيف سيقتنع والديّ بزواجي الآن؟لابد أن أكمل دراستي أولاً فأخر طلبك تحسباًلأي طارىء..أموافق يا حبيبي؟فيقتنع وجدان راسماً على شفتيه ابتسامة تدل على الموافقة. بعد ذلك غادرا المطعم نحو حديقة خضراء.. الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال..عندها التمسا بخواطرهما الواقع وجعلت تتراقص أناملهما مع مزمار الحياة المعتمة، وينظرا إلى الشمس المشرقة..وتداعبهما أغصان الأشجار المورقة و تسلل إلى أذنيهما خرير المياه المزرقة ويطربهما البلبل الذي يشدو بأنغامه المنسقة..لحظات وينتقلا إلى الأوهام المغرقة...يترآن نفسيهما طائرين في سماء صافية صحوة زرقاء وتلمس المزن جفونهما الغائمة مع ترحيب الطيور في الأجواء الناعمة و فجأة يستيقظان من الحلم بقرصة مؤلمة من ميدان الحياة ومن لسعات الشمس الحارقة جعلتهما يفرقان بين الحقيقة والخيال. وفي ليلة كالحة متجهمة كان وجدان يمشي مع مادلين في وسط شارع مليء بالضوضاء، وبينما هما يسيران لفت انتباه مادلين قلب مخملي أحمر داكن معلق في محل لأدوات الزينة فعرف وجدان ما يجول في خاطرها..فتركها دقائق لشرائه، وبتلك الدقائق مرّ شاب غمز بعينه لمادلين ثم مد يده ليمسك بذراعها فإذا بذاك القلب المخملي ينبض وينبض ليشعر وجدان بأن خطراً ما يداهم حبيبته، فأسرع وجدان ليلكم ذاك الشاب المغازل لكمات متتابعة حتى نزف أنفه دماً و قدّ قميصه وكاد يغمى عليه وألتم الناس حولهما...إنها مسألة دفاع عن الحقوق وغيرة تنهش القلوب جعلت ذاك الذئب البشري_المغازل_يدفع ثمن ما فعله حتى كاد يموت مما دفع الشرطة إلى سجن وجدان لمدة شهر تأديباً له. ترسل مادلين رسالة لوجدان في سجنه وتكتب له فيها:"أكتب لك بالقلم الذي أهديتني إياه لأنقش به الكلمات ممزوجة بأحلى المشاعر والذكريات، والأحاسيس منهمرة كالشلال على الورق..آن لقلبي أن يفصح عن مشاعره ويفك قيده...لا تقلق علي إنني بخير وما أشد حاجتنا لأن تذرف عيوننا دموعاً لتغيث الأشجان وتفرج الخطوب وتروي العين وتجلي بريقها، هجمات المد والجزر التي أصابت حالك الآن جعلتني لا أميز بين حزن وفرح، أحس بفراغ عميق وهوة بعيدة الغور تمنعني أن أجد المتعة في حياتي بدونك..القلق عليك يعكر صفو أيامي وينغص عليّ راحة لياليّ ويثير في نفسي كوامن الألم الدفين الذي بنى من فوقي سقفاً معتماً من الوحدة والانعزال..ويترجم اليراع ما يجول بخاطري فتصير الكلمات حبراً على ورق..وتغلغلت لأعماق نفسك فسردت لي همومك.أحبك ,مخلصتك مادلين". وقد أرسلت رسالتها ملفوفة بوشاحها الحريري الأبيض. مر يومان وكانت مادلين في حافة الانهيار العصبي..انطبق جفناها ثم انطبقت شفتاها فانزلقت عليهما دمعاتها بسلاسة لتمر خلالهما إلى ذقنها رويداً حتى مرت عبر عنقها الذي أعطاها الضوء الأخضر ليخطو الدمع مسرعاً صارخاً نحو قلبها ليطفيء نار خوفها على حبيبها السجين ويطرد الأرواح الشريرة ليرفرف القلب بأعلامه البيضاء، وفي الكفة المقابلة في السجن وجدان الذي كان يتجرع بملعقة الظلم جرعات ألم مريرة وتنزف الكلمات من فمه ويحادث الهواء المحيط حوله ليبعث سلامه عبره إلى حبيبته البعيدة..فيتحدث وجدان إلى الهواء في الفراغ قائلاً له:"أيها المسافر المترحل في كل البقاع..إني أحمّلك رسالة إلى مهوى قلبي فأخبره عن اشتياقي وأخباري وأحوالي..وأبعث له سلامي وإهدائي ..وأخبرني أين هي الآن وما آل إليه حالها "وفجأة ينبض قلبه سريعاً ويدير وجهه نحو الباب الموصد..ظلّ يحدق فيه، فينفتح فإذا بظل يرتمي على الأرض التي يمسها بحنان فإذا هي فتاة شابة شعرها الناعم المصبوغ بالأسود مرفوع من الخلف مع خصلات متداخلة تنطلق حول الوجه ومع أحمر شفاه مرتدية فستاناً أسود ينتهي لركبتها من الشيفون المتموج بالأبيض ومفتوح من جانب الركبة..نعم إنها مادلين حبيبته الغالية، ودخلت فأنارت المكان بابتسامتها المنتعشة وترفرف برموشها الكثيفة وترمق حبيبها ببريق عينيها ليزيد ذلك وجدان عنفواناً واندفاعاً نحوها لترتمي مادلين بين أحضانه..ويهمس لها:"تبددت شمس السعادة من حياتي في بعدك وتسلط قنطار الكآبة قلبي..فحبك يسري في مجرى دمي"..ويظل العناق حتى انتهى الوقت المحدد للزيارة، وغادرت مادلين...وعادتها الوحدة والكآبة والملل لما بعد ناظريها عن حبيبها ورأت العذاب في قلبها المكلوم شديداً قاسياً أسدلت الدنيا على قلبها الحنون الطاهر بظلام زادها شوق إليه ولوعة وشعرت وقلبها بطول الزمان وطول عذابها......ولم يذق فمها الطعام ذاك اليوم ولا عينيها النوم تلك الليلة صامت حتى عن الكلام... بعد أيام على زيارة مادلين...أسرع وجدان بإرسال رسالة عاطفية رقيقة يكتب فيها:"إلى نصفي الآخر إلى أغلى حنين وحبي اللذيذ في عمري الجديد إلى القلب الرقيق..أهدي إليك نفحات حبي وسلامات قلبي..أهدي إليك تحيات عمري فإلى أنقى إحساس وأصفى إرهاف, إلى أعز حميم بأحلى رنيم تكفني كلمة (أحبك)، فحبك أوتار في قلبي تترنم وتتغنم فيه.....هل أنت بخير؟أمشتاقة إلي؟ أما أنا أتشوق ناراً لأراك لأسمعك اجيبيني بسرعة....فإلى الهوى الدفين والعشق الجميل بدّد الغسق الظليم واجلب نوري البعيد وإلهامي الركيد اجلب حبيبتي من سريرها غير السعيد." بعد ثمانية أيام من سجن وجدان قبلت أخيراً الشرطة كفالة دفعتها مادلين..ليخرج وجدان بعدها من خلف القضبان، ويخجل وجدان لأن حبيبته دفعت لأجله من مالها، ثم سارت به إلى منزله ليستريح هناك ويأخذ فترة راحة وودعته ومضت. في اليوم التالي التقيا أمام ذلك البحر الفيروزي، وكان هذا اللقاء مختلفاً جداً فقد بدت مادلين كأميرة مرتدية فستاناً من الستان وردي اللون ممتداً إلى أسفل وركيها مرح جداً بحمالاته المتلألئة وشقته الوحيدة الجانبية المرتفعة،ووجهها متزين بمكياج هاديء،و جاعلة شعرها الأسود متهدلاً على الوجه وبانسياب، وأحمر الشفاه اللامع وواضعة وشاح أحمر حول عنقها وأقراط على أذنيها من الذهب الأبيض المطعم بفصوص من الألماس ومتعطرة بعطر ندي فواح وتمسك بحقيبة صوفية وتسير بحذاء ذي كعب رفيع عال، أما وجدان فقد أتى مرتدياَ قميصاً أبيض مخططاًبخطوط زرقاء عريضة وسروال أسود وحذاء أسود...ألوانهما في تلاؤم وانسجام مع ألوان الطبيعة لترسم لوحة ذا طابع رومانسي كلاسيكي. وأحضر وجدان مفاجأة تمثلت في جهاز ستريو، ليهتز سمعيهما بموسيقى رومانسية وفي صورة وجدانية وإيقاعات موسيقية ودلالات خيالية بأجواء رومانسية فلا همجية بل لحظة إنسانية مع رصيد من الحرية...وانحنى وجدان أمام مادلين طالباً منها الرقص معه على هذه الأنغام الساحرة فوقفت ملبية طلبه..فأمسك وجدان بمادلين واضعاً يده اليسرى على خصرها ويده الأخرى ممسكة بيدها اليمنى، أما مادلين فرمت رأسها على كتفه الأيسر لتنام في حلم لا تريد له نهاية . واضعة يدها اليسرى حول عنقه..ليتمايل الجسدان ويتراقصا على الألحان، وظلها يتبع ظله وخدها يلاصق خده..لتمتد يدها اليسرى لتلمس خده لتنزلق بنعومة إلى شفتيه فتحسدها شفتيها اللتين أقبلت على تقبيل ذقنه وخديه وشفتيه...بعد ذلك بلحظات مد وجدان زهرة حمراء إلى يدها ينبعث منها عطر الربيع التي شممتها مادلين بأنفها ليبتسم ثغرها..ثم دارت بينهما الأحاديث وتبادلا الأحاسيس فختمت مادلين قائلة:" أردت منك اعترافاَ فليس بيننا اختلاف أدلي لي برداف وانزع عني العفاف.....وابعد الخلاف أرجوك أنت أن ترد لي قلبي ثم يطلق وجدان صيحات أمام شاطيء البحر:" أحبك..أحبك..أحبك..." صيحات يشتتها صرير الريح الحاسدة، ثم يحمل وجدان حبيبته ببن ذراعيه ليتجه بها نحو البحر...ليسبحا ويغوصا في بحر الهوى..بعد ذلك ذهبت مادلين لمنزله لتجفف نفسها وترتدي بعضاً من ملابسه، وتصل منزلها مرتدية بنطالاَ وقميصاَ.ثم جعلت تصلي في محراب الأمل وتدعو أن يستمر هذا الحب، وتمنت لو أنها سممت ذاك الوقت ليطول اللقاء... تدور الأرض متزحلقة برجليها الناعمتين ويمضي الزمن ويطوي القدر الأيام والليالي وهاهي ذا مادلين أكملت دراستها وبتقدير مقبول قد تخرجت وعملت كصحفية مع وجدان مؤسسين صحيفة خاصة أسموها( الآفاق)..وبذلك كانت قد اختفت معظم الخطوط الحمراء العائقة لزواجها من حبيبها الغالي الذي بعزمه هدّم الخوف من قلبها مقررا التقدم لطلب يدها. وفي عصر يوم الخميس كانت مادلين تترقب وتنتظر وتتأمل عقرب الساعة يتحرك ويدور......وتدق الساعة أربع دقات وانتظرت مادلين واصطبرت حتى وصل عقربا الساعة إلى (IV) -الساعة الرابعة و عشرون دقيقة- عندها دق جرس الباب الذي لم يدق منذ زمن من قبل أحد..ولازالت مادلين عذراء، فتلكّأت فلم تفتح الباب فشرع أبوها بفتحه فأدخل حبيبها الوسيم الذي كان مهندماَ مرتدياَ بذلة أنيقة وسار به إلى غرفة الجلوس، وأغلق والدها باب الغرفة...حاولت مادلين التسلل بخفة لتستمع أي حديث بينهما لكن لاشيء البتة، فرجعت أدراجها وانتظرت وكانت غيوم الشك تساورها وقلبها يقف بساق واحدة على حبل الصمت الرفيع، ومادلين متوترة جداً. بعد عشر دقائق من القلق المستمر رأت مادلين مقبض الباب يدور ليفتح والدها باب الغرفة يخرج باتجاه حجرتها في الطابق العلوي فيجدها شاردة الذهن جالسة على الدرج نظراتها ساقطة على قلادة ذهبية –فيستغرب من داخله- ثم يأمرها أن ترتدي ثياباً أنيقة وأن تحضر القهوة لضيفه..، فأسرعت لتغتسل ثم ارتدت لباساً محتشماً ودخلت مهرولة حاملة أكواب القهوة الساخنة، وكان حبيبها ووالدها يتحادثان فلما دخلت قطعا كلامهما..فمدت مادلين أكواب القهوة ثم صافحت بيدها اليمنى حبيبها وجلست بعيداً عنه..بعدها تحدث والدها إليها –وبعد حديث طويل مع الشاب من قبل- قائلاً:"إن هذا الشاب أمامك قد تقدم لطلب يدك مني...ولابد لك أن تريه لتحكمي لاحقاً عليه، واسمه...قطعته مادلين قائلة:وجدان..اسمه وجدان..إنه زميلي في الصحيفة.يبتسم الوالد ابتسامة كاذبة مصطنعة أمام الشاب ثم سأله عن أحواله وعمله، فأجاب وجدان عن كل تساؤلاته.بعدها رمق الأب ابنته بنظرات حادة مشيراً لها بعينيه للخروج من الغرفة، وقبل خروجها التفتت بنصف ابتسامة إلى حبيبها ثم مضت، وأشار والدها إلى وجدان في ترك الفرصة له ليفكر وحدد له بمثل هذا اليوم بعد أسبوعين كرد حاسمٍ لطلبه ثم أعطى وجدان رقم هاتفه لوالدها بعد ذلك غادر المنزل. اتجه والدها إليها في حجرتها ليتكلم معها عن هذا الشاب، فألمحت مادلين لوالدها بأنها موافقة بطريقة غير مباشرة وألمحت عن رغبتها به، فقرر الوالد السؤال عن هذا الشاب ومعرفة المعلومات عنه، وبعد أسبوع من تلك الزيارة علم والدها الكثير فقد عرف أن وجدان فقد والديه منذ زمن ويعيش لوحده، وأن عمه يعيش في بلد آخر كان ينفق عليه قبل عمله في الصحيفة....وأخبر والدتها بكل ذلك، وكانت مادلين تتنصت على حديثهما وهما يعارضان زواج ابنتهما من شاب لا يملك عائلة ومتدني المستوى المعيشي وخوفاً على ابنتهما الوحيدة مبديان رفضهما التام في زواج ابنتهما من ذلك الشاب حتى أنهما قالا الكثير من الكلام الجارح عنه لذلك غمر مادلين القهر واعتراها الضعف فصعدت –باكية-الدرج نحو حجرتها لتغلق على نفسها الباب وتظل تبكي وتبكي.....واتصلت مادلين بحبيبها الذي استغرب اتصالها في تلك الساعة وقد طال فراقهما مندهشاً حاسباً أن الطريق قد تمهد لزواجهما المقدس....لكن أذنيه سمعت غير ذلك حيث أخبرته مادلين قائلة:ألو..حبيبي وجدان-الصوت يجهش بالبكاء والنحيب-..آه آه لا أستطيع ان أخبرك، فيرد عليها وجدان: مادلين..مادلين ماذا بك؟ماذا حصل يا حبيبتي؟تجيب مادلين بعد أن مسحت دموعها من عينيها:لقد كنت استمع المذياع مساءً في حديقة المنزل و إذا بي أتنصت على غرفة والديّ من الخارج وهما يتحدثان فيها عنك وعن رفضهما لزواجنا رفضاً تاماً، وبصوت عال مجلجل ترفقه نبرة ألم قاتل مطلقاَ الآهات يقول:لماذا ؟ لماذا ؟ ماذا فعلت لكي يحل غضبهما علي؟تجيب مادلين باكية: مرجعين الأسباب إلى أنك –كما يزعمان- لا تملك عائلة وقالا بأنه لا يليق بعائلتنا ذي الطبقة الفوقية أن تنظر للطبقة الدونية من الناس..وخوفاً على ابنتهما الوحيدة التي لابد أن تتزوج شخصاَ ذا منزلة عالية مرموقة في المجتمع –واستمرت مادلين في سرد الكلام- ثم توقفت فجأة وقالت:إني مستعدة للهروب من منزلي معك لنذهب بعيداً بعيداَ عنهما.لكن وجدان لم يرد عليها ثم تتكلم مادلين :وجدان ....وجدان حبيبي.قد طبق وجدان سماعة الهاتف ولم تكمل حبيبته كلامها بعد.........حتى حزّ في صدرها ما قالته لحبيبها. ظل وجدان المسكين ينتحب أمام الهاتف، وتنزل دموع الرجولة الغالية ويبكي جرّاء قسوة والديها وعنصريتهما..مقرراً الانتحار، فأرسل لمادلين طرداً في الساعة الثانية ليلاُ عبر زميل لهما في الصحيفة...طرق الشاب باب منزلها طرقا خفيفاً فتفتح مادلين الباب كونها ظلت ساهرة لوحدها من الحزن والقهر، فاستلمت الطرد مستغربة وصوله من وجدان هذه الساعة المتأخرة، ففتحت الطرد لتجد وشاحها الأبيض الحريري ملطخ بالدم مكتوب عليه بالحبر الأسود:" أحبك.....سأنتحر لأقتل حبنا الأبدي وليرتاح والديك مني" أظلمت الدنيا على مادلين تلك اللحظة وخافت كثيراً وقلبها وجسدها يرتجف، ولكيلا تخسر حبيبها تركض_ مرتدية ثياب النوم_ لتأخذ سيارة والدتها ودون علم أحد....وها هي ذا الطبيعة تشاطرها قلقها فإذا بدمع حار تبكي السماء وهبت عاصفة هوجاء على النبت الضعيف فيقشعر جسدها النحيف وترعد السماء ويظهر شررها....وصلت مادلين منزله لكن يبدو أنها قد تأخرت...فلقد كان وجدان مرمياً على الأرض وفي يده اليمنى سكين حادة، ويده اليسرى بها جرح عميق، فكانت يده تنزف كالسيل دماً من ذاك الجرح في الوريد.تأكدت مادلين أن قلبه ينبض ولكنه كان مغمياً عليه واضعاً قرب شفتيه وشاح مادلين الأحمر المعطر...أسرعت مادلين بربط جرحه بالوشاح ربطاً محكماً وجرته بصعوبة وبشق الأنفس إلى السيارة...ثم أوصلته إلى أقرب مرفق طبي وكانت الساعة الثالثة صباحاً، فأدخلته إلى غرفة كانت بيضاء الستائر ومددته على سرير أخضر الشراشف ثم خرجت من الغرفة تاركة الممرضة تتصرف...وظلت هي جالسة على المقعد خارج الغرفة خائفة يرتعش كل بدنها. أجرت الممرضة ما استطاعت وفجأة تفتح باب الغرفة تلهث وتخبر مادلين التي وقفت حال رؤيتها: " إن هذا الشاب على حافة الموت...إنه يحتاج لمتبرع دم حالاً وإلا سيموت ." خرّت مادلين من الصدمة منهارة القوى جاثية على ركبتيها..تفكر في حبيبها هنيهة، وإذا بها تمد ذراعها لتتبرع بدمها.وبسرير مجاور لسرير حبيبها تستلقي...وهي تدعو الرب أن ينجي حبيبها،وترمق بعينيها الخائفتين عشيقها المغمي عليه وعينيه العسليتين بين الموت والحياة...تبكي ويبكي قلبها تشعر أن هذا ذنبها-نادمة- وأسودّ جفناها حزناً وأرقاً لينتقل الظلام من ذاك السواد...فتنطفيء أنوار المصابيح، فأشعلت الممرضة شمعات لتضيء لهما.تركض الثواني وتتباطأ أنفاسه..ينتقل دم مادلين مسرعاً متلهفاً ليعانق دم وجدان فتمتزج الدماء...أيقظت دماء الحب الحياة في قلبه، والمدهش في الأمر أن فصيلة دميهما كانت متماثلتين، ولكن وجدان لا يزال مغمياً عليه. نهضت مادلين متحدية الإرهاق والتعب، فتجلس على كرسي خشبي بمحاذاة وجدان....الشموع تبكي والساعات تحكي عن تساؤلاتها المريرة وتدق الساعة أربع دقات...أتعتبر جرس الإنذار لمشكلة ما ؟ أتدق ناقوس الخطر؟؟...فجأة تنطفيء أنوار الشموع.فوضعت مادلين رأسها على حضن حبيبها النائم..وتضع أذنيها على قلبه لتسمع خلجاته..نبضاته..هتافاته.تقل:_"أهواك دوماً"، ثم يغشاها النعاس واضعة خدها على صدره وشعرها الطويل يحجب نور الشمس المشرقة عن عينيها، والمصادفة أن والدها يعمل طبيباً في ذاك المرفق الطبي.والدها الذي خرج من منزله في الساعة السابعة والنصف صباحاً بسيارته ظاناً أن ابنته نائمة نوماً عميقاً في حجرتها بعد سهر طويل لكن المفاجأة حين رأى ابنته نائمة في مكان عمله والمشكلة في حضن حبيبها_ مما زاد الطين بلة والنار أواراً_ يتلقى والدها صدمة..يتلقى وصمة عار،فينفجر جنونه في بادىء الأمر كقنبلة موقوتة،ويزدري ابنته ونظراته لها نظرات الخزي والذل...ولم يتوانَ بأن يتحول إلى وحش يكشّر عن أنيابه فجرّها بعنف من شعرها بلا مراء..وإذا بها تفتز من غفوتها فرأت والدها...وقفت كجثة هامدة شاحبة الوجه مصفر لون جلدها ثم تشجعت و أشارت بكفيها نحو قلبها وقالت:" هذا الشاب النائم استحوذ على روحي وعلى هذا الشيء الخفاق في جنبات صدري"....انكشفت العلاقة الغرامية لوالدها جلياً، فلطم خدها لطمة طرحتها ممددة على الأرض ثم سحبها من يدها بقوة إلى سيارته متجهاً نحو المنزل، فحبسها في حجرتها ويسقط على سمعها منه وابل من الزجر و الانتهار من قبل والدها فتردعليه بالصمت، فتهيج أعصاب والدها فينهال عليها ضرباً جرّاء غضبه وهي تبكي وترد عليه بكلمات لا بضربات: "اقتلني..ارحمني من هذا الحب وإلا ستجدني معه" فيقل لها:_"لا..لن يتم هذا الزواج أبداً..لقد حكمت على هذا الحب منذ الآن بالإعدام..لا تذكري هذا الشاب أبداً...فقد قررت أنا ووالدتك عدم زواجك بهذا الشاب...أما مادلين فتمثل عدم معرفتها بهذا الخبر..تصطنع الذهول وتسقط على الأرض، ويخرج والدها بتعجرف ويُسمَع صوت حذائه يطرق الأرض ليقتل الصمت..يتباعد الصوت رويداً رويداً حتى يعتري الهدوء والصمت الأجواء. مادلين سجينة الحب والآن هي سجينة الظلم.تأبى كل شيء إلا حب وجدان..وجدان.تحبه...تشتاق له ولا تريد الانتحار لأنها تعشقه، وتريد رؤيته والاطمئنان عليه، وزاد العذاب في سجن الصمت...قررت مادلين العيش مع ظلمتها..وحدتها...مع نفسها فقط، ولا تتكلم بل تتألم ولا تنام ولا تأكل الطعام وتعيش بالغرام. يستيقظ وجدان من مضجعه في المرفق الطبي في الساعة الرابعة عصراً بعد إغماء طويل، فيندهش لبقائه حياً متسائلاً:لماذا أنا هنا؟من أحضرني هنا؟فتجيب الممرضة التي أسعفته: إن شابة مرتدية ثياب النوم جلبتك إلى هنا، وقد تبرعت لك بدمها وقبل أن تموت نزفاً، ثم رأيت والدها الطبيب يجرها بعنف نحو السيارة.يشهق وجدان بفزع وكأنه قد تخبطه الشيطان من هول ذاك الخبر لأنه قد عرف تلك الشابة....إنها مادلين. بعد شفاء وجدان تماماً يذهب لمنزله، ويتمدد على سريره ويحضن وسادته ويسبح ببصره نحو السقف، تراوده صورة مادلين.تلح على عينيه صورتها كل يوم ولا تغادر..وينتابه القلق على ما سيصيبها من والديها جرّاء الحادثة.أراد الاتصال بها لكن خشي على مادلين من والديها إذا ما كالمها.تمر الأيام وهو لا يزال مشتاقاً لها، ويحس بعذاب حبيبته، فهو أسير حبها ولم تعد هناك لقاءات وطال الفراق.ليلاً يخرج وجدان لوحده يمشي في طريق مليء بأصوات الناس، ويضع وجدان يديه في جيوبه وعينيه تبصرالأرض، وظله الكئيب يلحقه وينطوي على النوافذ والجدران....لم تكن معه حبيبته لم تعد معه روحه لذا الجسد الخائر فقط يتحرك ويدور، ويسير أسير الحب مقيّد القلب ممسكاً عن لوعته راغباَ عن نشوته وفرحته، ويلمح في دربه حبيبين يتعانقان فيهرب ركضاً..فهذا الموقف ذكره بمادلين. يجلس وجدان لوحده على الطريق ليحضن قلبه الأرصفة جرّاء الشوق الشديد والحنين للحب اللذيذ...وتفيض عيناه دموعاً تدفعها غريزته..تظمأ نفسه إلى الراحة التي فقدها منذ بعد مادلين عنه....ولا يزال يسبح ببصره نحو السماء فتهاجمه أنياب الليل الموحش.ضاقت دنياه، نظر بعين متفائل إلى القمر، وتنظر في تلك اللحظة مادلين للقمر من نافذتها فيسلط القمر نوره لتنعكس صورة أسير الحب من موضعه على القمر في حلك الليل فينشرح صدر حبيبته.ثم نهض وجدان من موضعه ليتجه صوب منزله ولم يسرد همومه لأحد. في منتصف الليل اتصل وجدان بحبيبته، ورن الهاتف رنيناُ متذبذباً فردت مادلين فقال لها وجدان بلهفة:ألو مادلين..تجيب عليه بسرعة:وجدان حبيبي طمئني عليك..أأنت بخير؟يقول لها:_نعم..أنا بخير فلولاك لكنت ميتاً تلك الليلة...يطلق نفساً عميقاً من صدره ثم يقول:أسكرني بعدك وقتلني صمتك.ترد له:لقد حبسني والديّ فلم أستطع رؤيتك ولا.....فيقل وجدان:ألو مادلين..مادلين." فقد انقطع كلامها فيد قد نزعت منها الهاتف...هو والدها الذي سمعها تتكلم مع وجدان.وبنبرة حادة الصوت يكلم والدها وجدان:"أيها الشاب لا تتصل مجدداً..لا زواج لك بعد الآن هذا رأيي ورأي والدتها لن تتزوجها أبداً أبدا " وطبق عليه ثم أخذ والدها منها هاتفها معه. ولا تزال مادلين مسجونة لكن ليس خلف القضبان بل بين أربعة جدران ..جدران صماء ساكنة. وتتنفس مادلين من والديها الهوان وتتغذى أحشائها من قهر الزمان ويشرب من دمائها الليل الموحش الغضبان فلقد آثرت أن تقدم روحها قرباناً لأجل أن تنقذ عشيقها الأول والأخير فقسوة والديها أرادت أن تحمل نعش هذا الحب الأبدي إلى مثواه الأخير قسراً.أما وجدان فقد بدأ يقوى حبه ويشتد بعد تلك الحادثة.ونظرات وجدان الوديعة الحالمة وانطلاقة عفوه السجية مازالت كما هي. بعد كل معاناة مادلين ومرارة أيامها أحسّ والداها بأنهما عقبة في طريق الحبيبين ولقد أذاقا ابنتهما المر بهذا العذاب..هما يقتلانها بيديهما، ويراودهما صورة ذراعين حمراوين من أثر الدماء..دماء ابنتهما. تتشتت تلك الكوابيس ويدخل إلى نفسيهما الندم والألم. يوم يتلو يوماً آخر و مادلين لا تنام ممسكة عن الطعام.ظلت في غرفتها يقبرها زئير اللحظات مرتدية ثوب الآهات باكية في كل الأوقات.....حزنها حجب نور السماء وتناثرت حروف اسم حبيبها عندما نطقتها في الفضاء..تجمعت وحطت على الغبراء بشكل رسائل نداء: " يا حبيبي روحي لك فداء" فنزل ملك من السماء ليحلق بأجنحته البيضاء ويحط عند والديها اللذين لايرانه، ليتحدث لعقليهما بصوت الضمير ويقول: " الحب سر الحياة..فليكن الزواج قدر الحبيبين ولتقتلا الغرور في نفسيكما..ولتكن محنة الحبيبين مجرد ذكرى تسقط قناع الزيف عنكما وليطعما حلاوة الحياة بعد مرارة وعناء وبذل للدماء فالرب معهما ملبياً كل نداء."وعلى أصداء صوت الضمير المخاطب لهما تدخل الحسرة والأسى في نفسيهما على ما فعلاه بهذا الحب الأبدي، فيتصل والد مادلين بوجدان مبدياً له أسفه الشديد عن استعجاله ووالدتها قائلاً بنبرة هادئة: " ألو وجدان..أنا والد مادلين لقد أردت أن أعلمك أنني ووالدتها قد اتخذنا قراراً خاطئاً أدى إلى دفن ابنتنا بالحزن...لا نريد أن تموت ابنتنا نرغب في تصحيح خطئنا..أرجوك أن تقبل اعتذارنا ونعبّر لك عن موافقتنا التامة لزواجك من ابنتنا...احضر الآن يا وجدان وبأسرع ما يمكن........فمادلين في حالة انهيار."بعد نصف ساعة طرق وجدان باب منزل حبيبته.يدخل منزلها فيشير له والديها بالبنان نحو غرفة مظلمة مغلقة الباب في الطابق العلوي..نعم غرفة حبيبته فتخطو قدمه رويداً رويداُ. ويسمع صوت وقع أقدامه وتقارب الخطو، وتصعد قدمه بتمهل الدرج.درج تغشاها ظلمات جهنمية وشباك عنكبوتيةوزوبعة أطلقتها الأرواح الشريرة التي صدى أصواتها يدوي في المكان، وعندما أقبل وجدان بوجهه على المكان طار الظلام بأجنحته السوداء وحط النور والضياء بديلاً وتلاشت كل أجواء الحزن..تبددت كل الأرواح الشريرة وتسطع الأضواء من كل ناحية، ويمسك مقبض الباب، ويفتح حجرتها ويدخلها ويغلق بعده الباب، ويتقدم ليرى حبيبته جالسة تحضن بيديها ركبتيها ناكسة رأسها الذي يغطيه شعرها الأسود وتلفها هالة من الشجن..يناديها بصوته العذب: "مادلين..حبيبتي " تلتفت إلى مصدر الصوت....تلتفت إلى ذاك الشخص أمامها..تقف..تظنه حلماً فتقرص نفسها..ولا يزال واقفاً أمامها..تشتت الحزن وتبددت هالة الشجن..وينزاح عن كاهلها ذاك الجبل الصخري من الهموم الذي سرعان ما دكته ابتسامتها دكاَ فصار هباءً، ويتقدم وجدان نحوها وظل يشق الأرض التي تمتد وتزداد بعداً، وحين رأى البؤرة النابضة المتوهجة_قلبها_يتمرد ويطير فرحاً واندفع بسرعة نحوها. وجهاً لوجه وبعد طول فراق، فتضع مادلين يديها حول عنقه.ترمق عينيه وشفتيه وترد له: "لبيك..يا حبيبي" يحضنها بشغف..يخلع عنها رداءها الأسود الحزين ليكسوها لباس السعادة الأبيض..يمسح دموعها بمنديله ثم يمسك يديها ويقبلها..ليعيد لها حياتها بعد موت وشيك بدونه...حجرتها بها جو مشحون بالمشاعر والعواطف، وملموس فيها وجود الخواطر والأحاسيس، تنهال مادلين عليه وترتمي بحضنه الدافيء، وبصوت خافت يشبه الهمس تتحدث مادلين وهي مبتسمة: "ملكت أفكاري وأشعلت ناري..أنا مغرمة بك ضميري لا يؤنبني في أي لحظة قضيتها معك."فيقل لها مبتسماً:"أتقبلين بي زوجاً لك،ورفيق دربك طوال عمرك؟ "فتجيب له مطأطئة برأسها:" أقبل بك زوجاً لي ورفيق دربي طوال عمري. " وتسقط شفتاه على شفتيها الناعمتين لتشاركهما أجواء الحب الخالد، وبعدما ارتديا ملابسهما خرجت مادلين من سجنها_حجرتها_لينزلا إلى والديها وتردد الألسنة الكلمات لتعلن بذلك خطوبة الحبيبين، فيلبس وجدان خطيبته خاتماً ذهبياً براقاً في إصبعها وبالمثل مادلين ألبسته خاتماً فضياً لامعاً دلالة على خطوبتهما.وتكون المصادفة في أن يكون هذا اليوم هو نفس الأجل المسمى الذي حدده والدها لوجدان ليرد له رأيه في زواجهما وكذلك هو يوم عيد ميلاد حبيبته. أرادت مادلين أن تحتفل بعيد ميلادها بعد الخطوبة مع وجدان فقط، وأمام مرأى من والديها استعدت للخروج من منزلها، ليسيران وسط الطريق..يصفق القلبان فرحاً معاً..تتمايل أغصان الأشجار بفعل النسيم، وحمامة بيضاء تصدح واقفة على غصن شجرة.يجلس الحبيبان لوحدهما على العشب الأخضر عند تلك الشجرة العتيقة المرسوم على جذعها قلباً محفوراً من قبل مادلين، ليسند وجدان ظهره على جذع الشجرة أما مادلين فتستلقي على حبيبها، وتغرد حولهما الطيور مع أوتار النسيم وإيقاع تيجان الزهور وتتجلى كل مباهج الحياة وإشراقا تها وزخرفها.فجأةتلبدت السماء بالغيوم وسقطت قطرات المطر عليهما فتبللت ثيابهما بالمطر حتى التصقت ثيابهما بجسديهما وارتعدا من البرد. وجدان في حبها ولهان والأشواق تلعب به والزمان، وفي خلوتهما زاد الشوق والحنان..فقد احتلت مادلين شغف قلبه..مر زمن على خلوتهما والمطر ينهمر على جسديهما، وإذا بحبيبته تقف أمام عينيه حافية القدمين..يغطي ذراعيها وشاح أحمر وتمشي متمايلة، فذاب فؤاد حبيبها من نشوته ولوعته..ويشد الوشاح نحوه....وغابت شمس الأصيل لتتوارى وراء الأفق ولم يتوقف المطر.....بعد ذلك أوصلها وجدان لمنزله لتترجل حبيبته عن صهوة سيارته الجديدة..لتدخل عتبة الباب، وتترك وراءه كل غم وحزن لقيته يوماً من هذا المنزل. بعد دوران عقرب الساعة أربع دورات كانت مادلين تستلقي على سريرها وتهمس تخاطب نفسها: " أتعتقدين إنه قدرنا ووجدان الزواج ؟ أسيظل يحبني بعد ذلك؟ترد نفسها قائلة: "لا تغرك كلماته ولمساته الحانية فلم يأن الوقت ليتوحش ويصبح حالك كطير مجروح كسير الجناح يرفرف ليعود إلى وكره، لم يأن بعد وقت الصدمة العاطفية يا عزيزتي مادلين "ترد مادلين بغضب على نفسها: "لا..هذا غير صحيح فوجدان يحبني ويعشقني وأنا أحبه وسأظل جنبه مهما حصل...لن أترك حبيبي يوماً وسأصمد لأجل الحب." وفي حجرتها طرق سمعها رنين هاتفها الذي ظل يرن ويهتز حتى أمسكته فردت فإذا هو وجدان وبصوت رنّان: "ألو.. يا أجمل وردة تطفو على النهر وأغلى درة تطلع من غور البحر_ويُسمَع صوت قبلاته على الهاتف_أحتاجك كاحتياجي للماء والهواء بل إنك أنت أول أسباب الحياة لجسدي.فاطربي سمعي، فترد له وهي تعلق بصرها في لهب نار الموقد:عصتني كل الكلمات عدا واحدة..ابتسمت وأغمضت عينيها: "أحبك." وفتح وجدان كلتا عينيه وابتسم قائلاً: "إنها أروع كلمة أسمعها من شفتيك....مادلين ما رأيك أن نذهب سوياً لأمسية عشاء رومانسية غداً ؟؟؟ تردعليه:لامانع من الذهاب ما دمت معك. فاتفقا على أن يمر وجدان لمنزلها الساعة التاسعة مساءً ليصطحبها معه في اليوم التالي. وبالفعل أتى وجدان بالموعد المحدد بسيارته لمنزل حبيبته لينتظر أمامه ويطول انتظاره حتى ضاق صدره وهمّ بدخول المنزل فإذا بمادلين تخرج من منزلها، ففاجأته بجمالها وأناقتها...كانت فائقة الجمال والروعة؛ جمالها أطفأ نار غضبه وظل بصره معلقاً عليها، ثم تصعد الجميلة مادلين بجانبه في السيارة ليتجه بها نحو مطعم فاخر..يدخلانه فتنزع مادلين معطفها ثم تقعد أمام طاولة ليس عليها سوى وردة وشمعة حمراء مشتعلة، يحضر لهما النادل كأسين وقارورة عصير..يرتشفا جرعات منه ثم يتحدث وجدان مبتسماً لعينيها ومبهورة عينيه بجمالها: " تبدين جميلة جداً يا مادلين، وعيناك الزرقاوتان رائعتان..إنني في حلم لا أصدق فيه نفسي."و نهض فقبل يدها، ثم تناولا الطعام وفي الأمسية الرائعة ظل العشيقان يتحدثان أحاديث الحب....وفي منتصف الليل وعند مغادرتهما باب المطعم ترتعد فرائص مادلين وتقع فريسة الخوف والهواجس وغطت عينيها براحتيها، وبصوت قلق يقل وجدان:ماذا بك يا مادلين؟بماذا تشعرين؟ فترد عليه:لاشيء...لاشيء... لا تخف مجرد شعور بالخوف راود مخيلتي هي تهيّؤات لا تكترث لها.وتمضي معه إلى سيارته.... صارت الغيوم تتراكم والضباب الكثيف يحجب الرؤية ويبدو أن تهيؤات مادلين حقيقة.يقود وجدان سيارته وبسرعة عالية وقد كان الليل قد كسا الأفق بردائه، ويمر وجدان من الشارع العمومي الخالي تماماُ من أي حركة وبينما هو يقود فجأة غفلته عيناه وإذا به يصدم سيارة، فارتطمت سيارته بها ارتطاماً شديداً حتى انقلبت سيارته على جنبها، وارتطم رأسه بالمقود حتى شُجّ رأسه وجرحت يده أما مادلين فقد سقطت من النافذة مغشياً عليها مضرجة بالدماء التي تسيل من رأسها، وتمر دقائق على الحادث فتأتي سيارة الإسعاف مسرعة لتنقلهما إلى المشفى، وكان الوقت عصيباً في المشفى، وأسرع والديها_اللذين دخل إلى قلبيهما الخوف والفزع على ابنتهما الوحيدة_ للمشفى ليقعدا بجانب ابنتهما مادلين وكانت الثانية بعد منتصف الليل. بعد ساعات استفاق وجدان الذي أصيب برضوض خفيفة أما حبيبته فقد كانت في غيبوبة نتيجة صدمة في رأسها، ومر يومان ولا تزال مادلين في المشفى طريحة الفراش وفي غيبوبة...لا تزال جفونها مغلقة وعيونها مغمضة وأهدابها بلا حراك.اكتملت النوائب بسجن وجدان نتيجة الحادث المروع بعد تعافيه، ليرجع إلى ديدنه القديم إلى الوكر القذر خلف القضبان وليومٍ كامل، لكن والدة مادلين قد تولت قضيته وبنفوذها خلصته من القيود والأغلال ومن السجن بلا جدال وأثبتت براءته ضد كل اتهام. يعود وجدان لحبيبته في المشفى ليطمئن عليها..يجدها لا تزال في غيبوبتها فيقعد بجانبها...يفك العصابة البيضاء من رأسها فيشهق ويبكي: "أذنبت بحقك..كان يجب أن أكون أنا مكانك..لا يمكنك أن تتركيني..ليس الآن أرجوك." وظل مكانه لا يبارحه...كل يوم يمسّد شعرها المسترسل ويمسك يديها ليقبلها وهي في غيبوبتها.بعد أسبوع من الحادث أتى وجدان إليها فيقعد بجانبها يهمس بأذنها ليرن صوته الشجي على سمعها: " إنني وحيد في هذه الدنيا ليس لي أحد غيرك التقط أنفاسه ثم أردف قائلاً وبصوت مرتعش: "تفيض الروح بالعشق لك..حياتي تحولت جحيماً بدونك، ويشكو القلب إليك وحدته، القلب الذي ينبض لك لا يرى سوى صمتك، القلب الذي يقرأ كل صفحات حياتي معك لا يزال يخفق بحبك فلا تتركيني...إنني بجانبك دوماً يا حبيبتي. ظلت مادلين على حالها في غيبوبة إلى أن أتى يوم مشهود.....في الصباح نهضت الشمس من مهادها وأطلت على الكون بخصلاتها الذهبية الدافئة، تدفع الحياة في كل شيء وفي صمت رائع، ليطرب الكون صوت الحياة؛ صوت تغريد الطيور وخرير المياه وحفيف ورق الشجر، صوت الحياة غزا روح مادلين، فيهز قلبها وعقلها لتستيقظ من غيبوبتها على مداعبة أنوار الشمس المرحة، فتستيقظ مادلين وبعد أسبوعين من الحادث، يعيدها والداها إلى المنزل لكن لم تعد كما هي_عرف والداها بذلك_ "وياللتعاسة!" يقولها كلا الوالدين في قلبيهما الحزين على ابنتهما الوحيدة.عصراً من ذاك اليوم سُمع صوت جرس الباب، يدخل وجدان للمنزل ويقول لوالديها " لقد ذهبتُ للمشفى فلم أجد مادلين وقيل لي أنها استيقظت من غيبوبتها ورجعت للمنزل، أهي بخير الآن؟أيمكن لي أن أراها؟ترد عليه والدتها: نعم...نعم ولكن مادلين فا..._لم تستطع إكمال كلامها_فأردفت: "إنها على غير ما يرام فقط. "فيصعد وجدان ركضاً لحجرة حبيبته قلقاً عليها وقلبه يخفق خوفاً عليها، ليجدها جالسة على طاولة في شرفتها ترقب الشمس وتحتسي فنجان القهوة الساخن يجلس بجانبها وبلهفة وبأنفاس متقطعة يقول: مادلين كيف حالك الآن؟طمئنيني..ترد عليه قائلة:أأنا مادلين؟أتعرفني؟ يرد وجدان بذهول شديد جداً وتنبهر عيناه: "نعم...أنا وجدان خطيبك وحبيبك وجدان...ألا تذكرينني يا حبيبتي؟ قالت: "لا..لا أذكر أحداً باسم (وجدان)...لا أذكر أحداً...لست أدري حتى من أنا." وتذرف دموعها.كانت تلك الكلمات والحروف ثقيلة بمعانيها على وجدان الذي تحدى الدموع وعاند الخنوع..ألقى باقة الورد من يديه ظن أن صرح أحلامه وحبه قد انهار ولكن تداهمه الذكريات ، فيقل لها: " أيمكن لك نسيان أيام اللقاء والمواعدة بيننا ؟أنسيت يوم.._توقف فجأة فقد قرأ عينيها اللتين تعدانه غريباً بعد أن كان حبيباً_ وقال: "لن يجدي هذا الكلام...فإذاً بلغة القلب للقلب سيكون الحل.....سأهب روحي دواء لأسقامك إن اضطر الأمر، فاعتقي روحي ولا تعذبيها، وردي لي قلبي يا حبيبتي، ردي لي قلبي يا حبيبتي " يختم بكلمات كانت مطبوعة في ذهنها وقلبها يوماً ما...ثم ينصرف سريعاً عنها. بعد لحظات من خروج وجدان يبادر مادلين _الفاقدة للذاكرة_ صوت وجدان في مخيلتها وهو يخاطبها "ردي لي قلبي يا حبيبتي" ذاك الصوت أيقظ قليلاً من ذاكرتها فقد اندفعت صوب خزانتها حتى ترى ثوباً وردي اللون فتذكر عند رؤيته البحر وهدير البحر، فتراود مخيلتها كلمات حب قالها وجدان لها يوماً...لكن لا تزال لا تذكر أحداً، وتظل مادلين على هذه الحال لأسبوع، وحين أشرقت شمس يوم الإثنين يأتي وجدان لمنزلها فيخبر والديها قائلاً:سوف لن تستعيد مادلين ذاكرتها إلا إذا أخذتها بنفسي إلى مكان اعتادت رؤيته معي دوماً، فيطلب والداها منه فعل ذلك بأسرع ما يمكن. تخرج مادلين مع وجدان فيسيران معاً وذراعه ممسكة بذراعها فيقودها بسيارته_وببطء_نحو شاطيء البحر الفيروزي ثم يتجها مشياً بالأقدام على الرمال البيضاء الحريرية عند الشاطيء. وأمام البحر الفيروزي يقف وجدان أمامها، وينظر لعينيها وتنظر لعينيه، ويضع وشاحاً حول عنقها وإذا به يقبلها ويطول تقبيله، لقد أضاء بقبلاته شمعة في مخيلتها نعم شمعة حبها الأبدي...رأت جمال عينيه وأحست دفء شفتيه ، وفي لحظات تقبيلها تمسك قلادة كانت ترتديها وتظلم الدنيا على عينيها ولا ترى شيئاً وتقول: "أحبك. " فارتجفت كل أوصالها ثم سقطت مغشياً عليها على الأرض فاقدة الوعي، فرشّها وجدان بقليل من الماء، لتستفيق ويحدق وجدان _للمرة الثانية_ بعينيها ليستشف بواطن أفكارها وجد أنّ مادلين حبيبته قد عادت..نعم قبلاته الساحرة أعادت حبيبته وأعادت ذاكرتها، يجلسها تحت ظلال النخل السامق، وترتسم ابتسامة جميلة على مادلين وبإحساسٍ مرهف تتحدث: "قرأتُ من عينيك كل ذاكرتي يا حبيبي." ثم تنقش بأناملها على الرمل (أحبك يا وجدان)ثم تقول له: "جمالك حجب نور الشمس..صارعتني خواطري وأحاسيسي لاستفيق بصراع العواطف...أشكرك على إصرارك وأهدي إلى قلبك الولهان كل الحب والعرفان" سارا بعيداً عن البحر واجتازا عرض الشارع وقادها وجدان بسيارته نحو منزلها ويودّعها بغمزة من عينيه وابتسامة رائعة على شفتيه، فارقها وقد وقع كلامها موقعاً جميلاً في قلبه فقد كان بلهجة كلها رقة ولطف، فيقول وجدان مخاطباً نفسه: "آن الوقت لنضيء أناملنا شموعاً تضيء لنا لتبدّد حلكة الليل وترينا كل بصيص للأمل. " انفعالات السعادة تعتريه وتسيّره كالريح تحمل ورق الشجر حيثما تشاء، فنبرات صوت حبيبته حركت أوتار فؤاده، وعادت الفرحة لأهل مادلين بعودتها كما كانت... ينقطع وجدان ليومين عن لقاء مادلين والاتصال بها لانشغاله بعمله، أما مادلين وبعد إجازة قدرها شهر كامل عادت للعمل في الصحيفة وكلها شوق لترى وجدان لكن المفاجأة حين رأته يتبادل الحديث مع فتاة شابة جميلة في ربيع عمرها، فتقترب مادلين منهما والشرر يتطاير من عينيها والغيرة تقتلها..لم تجرؤ على مفاتحته في الموضوع الدائر بينهما والشك يأكل قلبها وتترقبهما من بعد وتقول لنفسها:أيعقل بعد كل كلام الحب وتضحيته وشوقه لي ولهفته يحب غيري؟؟!!ترقرق عيناها بالدموع والإحساس بالخديعة يعذب قلبها وتقول لنفسها: هل كان حبه لي مزيفاً..أرهقها الحوار مع نفسها، ومع ثوران نفسها تتجه إليه وتسحبه إلى الخارج وتقول له بصوت يدوي كالرعد: ولّى زمن الغفلة..اكشف خداعك وخيانتك لي وتمثيلك الحب علي..اعترف لي بعلاقتك بتلك الشابة.يرد عليها وجدان بكل رقة: "إني مخلص في حبك..فكل نَفَس لصدري ونبض لقلبي يهتف باسمك(مادلين)..أما إن كنت شعرت بالغيرة عند حديثي مع تلك الفتاة، وعدم اتصالي بك فقد أخطأت قراءة المواقف فقد انشغلت كثيراً لأعد لك ثوب زفافك، وتلك الشابة بأناملها نسجت الثوب بطلب مني، وكمفاجأة مني لك. وبالطبع تأكدت مادلين، وقد كان كلامه صحيحاً، فانتابت مادلين حالة بكاء شديد وخجل مما فعلته وقالت لوجدان جرّاء وخز الضمير: "يا حبيبي سامحني..اعمل بي ما تشاء.عاقبني بما تريد لكن لا تتركني أرجوك يا حبيبي سامحني..لتنشق الأرض وتبتلعني إن حزنت أنت مني و اغرورقت عيناها بالدموع فيرد عليها بكل دعة وتواضع: “سامحتك..سامحتك يا حبيبتي" ويمسح بيديه دموعها من عينيها، ثم يريها وجدان ثوب الزفاف الأبيض المطرز بالخزف واللؤلؤ ، فتغمر الفرحة كلا الحبيبين، بعد ذلك يسيران بالأقدام وسط المدينة المزدحمة، يدخلها وجدان أحد المتاجر فيشتري لها سوار من الذهب المطعم بفصوص من الزبرجد هدية لها قبل الزواج، ثم يقود سيارته ومعه مادلين معصوبة العينين، فقادها لمنزله يباغتها من خلفها يحضنها ثم يفتح الرباط المربوط على عينيها، لتفتح عينيها وترى نفسها داخل غرفة ذات جدران بيضاء وستائر قرمزية جعلت تنظر داخلها وإذا بها تمتليء بلعب الأطفال وفيها سرير للأطفال ودولاب خشبي كبير فالتفتت إليه مبتسمة مندهشة فيرد على دهشتها: ستكون هذه الغرفة غرفة طفلنا القادم بعد زواجنا...لقد أعددت هذه الغرفة في منزلي خلال اليومين المنصرمين وجعلتها مفاجأة لك يا أم فراس. عندما كانت شمس الأصيل تموت وبهدوء وصمت تام كان الحبيبان يلتقيان عند شاطيء البحر الفيروزي...وكانت مادلين تصغي لكلام حبيبها العذب...تقطر من فمه كلمات الحب لتقع على قلبها كسهم يصيب هدفه ولايخطيء أبداً...رضخت كل أنوثتها ونزعت حياءها وتقول له بعد إكماله لكلامه العذب: " قريباَ جداً سنتوّج حبنا بالزواج ونقطف من التجربة ثمرتها ولنتنسم عبق الماضي ولتبقى الذكريات حية تطاردنا يا حبيبي، وأحلام اليقظة التي كنت أعيش حياتي بها ستتحقق أخيراً. "ثم ترمي بنفسها على صدره، ويسقطا على الرمال الناعمة، وتسيل من عينيها دموع الحنين غزيرة فيعانقها ويحضنها بذراعيه، وتضع يديها على خديه، ويمسح بيديه دمعتيها ويقول: "آن لي أن أتخلص من ألم ومعاناة الحب بقربك..بزواجنا........فقد كنت قبل أتقلب في فراشي، أهيم في حبي ولا أجد أحداً بجانبي...أجد نفسي وحيداً..أما الآن فقد تحول البؤس إلى فرح واليأس إلى أمل وانقشع الضباب عن حياتي بعد أن انصهرت روحي في بوتقة آلام بعدك...أخبرتك أصدق أحاسيسي يا مادلين..أحبك،وتردعليه مادلين: " إني أبادلك كل هذه الأحاسيس..وشعرت بما شعرت أنت ومررت بمعاناتك عند غيابك يا حبي الغالي. "وبعدها يوصلها لمنزلها ويسير معها إلى المنزل لكن القدر رمى بسهامه سريعة فقد سمعا صراخ والدتها.وصيحاتها تدوي المكان وبكاءها وعويلها...يركضان وبسرعة إلى المنزل ليجدا والدها مرميّاً على الأرض ووالدتها تبكي، فلقد داهمته سكتة قلبية أودت بحياته وأدت إلى مفارقته لروحه الطاهرة بعد دقائق من كتابته لرسالة قصيرة إلى ابنته مادلين كتب فيها: " ابنتي العزيزة مادلين, مبارك- مقدماً- الزواج السعيد بابني البار وجدان، وأزف لكما أجمل التهاني وأرق الأماني..وهذه الهدية لعروسنا الجميلة..استعدي جيداً لحفل زواجك القادم"وكان بجانب الرسالة هدية جميلة؛ هي عبارة عن عقد ذهبي،قرأت مادلين الرسالة ومالبثت أن سقطت على الأرض فاقدة الوعي من هول الحدث، فيرشها وجدان بعطرها فتنهض بعد لحظات وتبكي وتنتحب عند صدر والدها المتوفى، فيهدأها وجدان ثم يحمل والدها إلى سيارته ليتجه به نحو المشفى حيث تم التأكد من وفاته. الكل ثيابه سوداء أما والدها فأكفانه بيضاء، ويٌحمَل جثمانه أمام موكب كبير ليتم وضعه في قبره، وجعله في لحد ضيق ويدفن ويوضع تحت التراب والجنادل وحده..وحده، وبعد رحيل كل الناس تأتي فتاة شابة ترتدي ثوباً أسود وقبعة سوداء تجلس عند قبره فتضع وردة بيضاء وتمد كفيها إلى السماء وتدعو الرب لأجله وتسأله ثباته ثم تخاطب القبر قائلة:" أبي...أبي أنا ابنتك مادلين _تذرف دموعاً_أرجوك ان تغفر لي، وتعذرني إن أخطأت بحقك يوماً...لم أتح لك الفرصة لتظهر عطفك وطيبتك لي لقد شعرت بها من قبل وأحسستها الآن برسالتك الجميلة، وسأحقق حلمك بزواجي من وجدان حبيبي، وأرجو أن تكون فخوراً بي بعد الآن..أما أنا الآن فقد سامحتك على كل شي فعلته بي...وداعاً...وداعاً...وداعاً."وتختفي مع ضباب الشتاء الكثيف. تسود الكآبة والأسى والحزن أجواء منزل مادلين بسبب وفاة والدها وكذلك يتم تأجيل موعد زواجها بحبيبها الغالي.. بعد شهر من هذا الخطب الجلل أرادت مادلين أن تريّح نفسيتها فأشارت لوجدان بالسفر معاً إلى مدينة أخرى للتنزه، ثم يعودان لعملهما ويقرران الاستعداد لحفل زواجهما.... في صباح اليوم التالي تقود مادلين دراجة هوائية وبسرعة فائقة تتجه صوب التلال الخضراء وأعالي الرّبا ويداعبها هواء النسيم وتبتسم وتستمر في قيادة دراجتها وشعرها الحريري الأسود يتطاير بالريح مرتدية قميصاً أبيض متسخاً وسروالاً أزرق ممزق الجيوب...ترجلت من دراجتها، وأخذت تجمع التوت البري في سلتها ثم رجعت إلى منزلها لتصنع فطيرة وعصيراً بالتوت، وبعدها اتصلت بخطيبها ليأتي للفطورعندها، فيحضر وجدان ليفطرعلى طعام من صنع يدي مادلين...لقد كان لذيذاً حيث زاد نهم وجدان على أكله وتبتسم مادلين لذلك وبعد ذاك الفطور الرائع يغادر وجدان منزلها. في صباح الثلاثاء يصعد وجدان القطار بعد تأخر مادلين، فيتحرك القطار بسرعة كبيرة، وتظهر مادلين وقد تعثرت في لحاقها بالقطار الذي يسير بسرعة جنونية فجأة يتوقف القطار يعود أدراجه للوراء...ينزل وجدان ممدداً يده لحبيبته.يصعد وجدان القطار ومعه حبيبته ويتحرك القطار ليسابق الريح، ويتحرك كل شيء يريانه عبر النافذة ويتبدد ويختفي كسراب، وترتعد مادلين من برد الشتاء فيحضنها وجدان إلى صدره ليدفئها في حضنه، وبعد مرور وقت قليل وصل القطار إلى وجهتهما المحددة...ينزلان ويسيران مشياً على أقدامهما فيصلان إلى نافورة، فيرمي داخلها وجدان عدة عملات معدنية ويغمض عينيه ليتمنى أمنية.، ويسيران باتجاه مقر صحيفتهما الجديد، وبعد مغادرتهما العمل يوصل وجدان خطيبته لمنزلها ثم يودعها. لاتنفك مادلين تنظر لنفسها أمام المرآة وتمشّط شعرها الحريري ثم تخاطب تلك الصورة في المرآة: " لابًدّ أن أتزوج بوجدان، فلقد طال انتظاري وقصة الحب لم تنته بعد بالزواج، وحبه يتدفق في دمي ويزداد كل يوم، فمتى سأرتدي ثوب الزفاف الأبيض وأغطي شعري بطرحة طويلة؟ثم تتجه إلى صورة وجدان فتجعل تقبلها وتقبلها ثم ترن لهاتفه رنة واحدة وهو لا يدري ما بقلبها من شوق شديد إليه ولعينيه، فقد كان يهيئ نفسه ومنزله لأجل حفل الزواج. في يوم الأربعاء في الساعة الثامنة مساءً يمر وجدان لمنزل مادلين فيأخذها معه بسيارته ليتجه بها نحو البحر الفيروزي، فيصعد معها إلى قارب صغير خالٍ، ليس فيه شيء سوى كأسين وقارورة عصير وسترات نجاة، وجدّف وجدان بالمجداف ليحرك القارب إلى مسافة بعيدة وسط البحر فلم يعد القارب يتلوى بل استقر.وصمت البحر احتراماً لهذا الحب...وعلى أضواء القمر يسمران لوحدهما وفي هدوء تام فيتبادلان الحب وأحاديثه..ويشربان من كأسيهما، وزادت لليلة إشراقة أنوارها، وأضاءت قسمات وجهيهما فرحاً، فأوسعت مادلين حبيبها تقبيلاً في رحلتها العذبة أمام عيون السٌّها، ويعيشان اللذة في تلك اللحظة، وتسقط الشهب أمام مرأى من عينيهما، ويشمم وجدان شعرها ويهمس لها: “حبيبتي...أنت حبيبتي..وستظلين حبيبتي حتى ولو فرّقنا الموت. " بعدها اكفهرّ وجه السماء وتلاطم الموج واشتدّ البرد حتى ارتعدا من البرد، فيجدف وجدان عائداً بسرعة وكانت الساعة الحادية عشر مساءً، فيسيران على الأقدام فوق الرمال فجأة يلقيان ثلاثة رجال غرباء يرتدون ثياباُ رثة قذرة ترابية اللون يترأسهما رجل رمادي الشعر منتفخ الأوداج مقطب الجبين عابس الوجه فيتحدث إليهما بصوت جهوري: "أعطياني كل ما لديكما من مال حالاً وإلا..." يرد وجدان بشجاعة: "هذا رابع المستحيلات أن أعطيك شيئاً فاذهبوا بعيداً عن طريقي."فاحتدم الرجل غيظاً وصاح قائلاً لصاحبيه: "امسكاه بقوة ثم اقتلاه أما أنا فأرتئي أن أهتم بصديقته الجميلة. "وبالفعل هبّ الرجلان يمسكان وجدان لكنه ظل يصارعهما ويقاومهما وجرّ رئيسهما مادلين بقوة فجعلت تصرخ وتصيح محاولة منعه من جرها، بينما وجدان يسدد ركلات برجليه ولكمات بيديه لكلا الرجلين حوله...، وأثناء ذلك جعل رئيسهما المتوحش يثبت مادلين_التي كانت تصرخ_بالأرض ممسكاً بيديها ثم بدأ يقطع ثوبها حتى بانت صدريتها وامتقع لونها وارتجف كل بدنها ولفحت وجهها زفرات حارة من أنفاسه، حتى صار يُسمَع صوت أنفاسه شديداً متلهفاً وظل يحدق فيها وفي جسدها، فصاحت صيحة قوية مستغيثة بوجدان وبأعلى صوتها تصرخ وتصرخ. وعندما رأى وجدان ما يفعله الرجل الرمادي الشعر بحبيبته تدفعه الغيرة إلى ضرب الرجلين بكل ما أوتي من قوة..وخنقاً بيديه، فالتفت الرجل الرمادي الشعر إلى صاحبيه وهما يموتان بيدي وجدان، فتوقف الرجل لثواني وقام فإذا مادلين تركض هاربة وتخلع حذائها لتركض، وتلهث والرجل يجري وراءها فلم يتلذذ بها بعد، وتتجه مادلين نحو الأشجار لتختبيء وراءها فلا أحد يجيب نداءها في ذلك الوقت..تتعب من الركض فتتوقف، وفجأة تلتفت خلفها فتجد ذاك الرجل أمامها...تشهق وتبكي، ويمسكها بيديه بقوة ويقول لها: "هيت لك...ألن تمتعيني قليلاً؟ فبصقت في وجهه، فاحتدم غيظاً وأراد اغتصابها فطرحها أرضاً وهي تصرخ، ثم استيقظ الضمير الحي فيها قائلة: "أنقذني يا رب...ساعدني يا رب."فلبّى الرب نداءها، فجره حبيبها وملاكها الحارس (وجدان) بعيداً عنها وظلا يتصارعان ويتلاكمان فبينما مادلين تحمل صخرة كبيرة بيديها، وإذا هما يتقلبان على الأرض كلاً يريد قتل الآخر، وإذا بالرجل يخرج سكيناً حادة ويطعن وجدان عدة طعنات ويستمر في الطعن فتلقي مادلين بتلك الصخرة الكبيرة وبكل قوتها فوق رأس ذاك الرجل فمات بعدها فوراً، وتتوقف أصوات أنفاسه ويسقط كعمود على الأرض، فتتجه مادلين صوب حبيبها وجدان المرمي على الأرض_وهو بين الحياة والموت_ فتجعل رأسه بين أحضانها...وللمرة الأخيرة..يلهث وتقل له: "وجدان ..أرجوك لا تتركني وحيدة..وزواجنا غداً..أرجوك يا حبيبي." وكان وجدان قد نزف كثيراً وأصبح نفسه متقطعاً وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: "أحبك وسأظل أحبك...سنلتقي في فردوسنا في أعلى السماء عند الرب. "ويبتسم وجدان ابتسامة الملائكة ويرفع إصبعه إلى السماء مشيراُ إلى السماء ثم سقطت يده على الأرض وللأبد وبعد أن اطمأن عليها...تنصدم مادلين بالموقف والدماء تنساب من كل بدنه وتلطخ ثوبها بدمه الأحمر، وأذعنت ساكنة أمام هذا المشهد المؤثر ثم جعلت تحضنه وتحضنه ثم تهدأ قليلاً فإذا الفجر يلوح بالأفق واللون الأحمر_لون الدم_يصبغ المدى وتطلع الشمس كئيبة من البحر ولاتنطفيء ولكنها تخلّف من السحب رماداً وإذا بالنهار يقتل الليل وارتفعت روح حبيبها طائرة بأجنحتها البيضاء وتجلى البريق من عينيه. تسير مادلين حافية القدمين وثوبها الممزق ملطخ بدماء حبيبها الذي تجره معها إلى المشفى....، ولم تتحمل أن ترى جثة حبيبها في المشرحة، فغادرت مادلين إلى منزلها وفي اكتئاب شديد وتمنت لو أنها ماتت مع حبيبها فلا دواء لحبها سوى الموت.دخلت منزلها وانطرحت على سريرها باكية والدموع الحارة تنهمر من عينيها، واسودّ المكان بحزن مادلين القاتل، واظلم الزمان بأنينها وصرخاتها، فلم تستطع كبت عذابها...سرعت بتمزيق ثوب زفافها قطعة قطعة....كسّرت كل شيء فقد اعترتها نوبة غضب، وتدوي حجرتها بصيحاتها وصرخاتها وآهاتها وأناملها مخضبة بدماء حبيبها، انطلقت مسرعة نحو منزل وجدان...تدخله وتشتم رائحة أنفاس حبيبها، تسمع صدى صوته، ولقد كانت جدران المنزل تهمس لها بحبه مدللة لها بصورها المعلقة عليه...دخلت غرفة نومه تتمدد على سريره وتحس دفئه ونعومته وجعلت تحضن وسادته......وأثقل النعاس جفناها_من كثرة البكاء_حتى غفت على سرير حبيبها. دقت الساعة أربع دقات واجتمع حشد من الناس لينقل جثمان وجدان إلى مثواه الأخير على نعش الحب المزين بأغصان طرية.وحينها أمطرت السماء لتواسي مادلين، وقبل أن يُدفَن قبَّلته مادلين في جبينه ثم يوضع جثمانه تحت الثرى المبلل بماء المطر البارد، وفاحت رائحة المسك من جسده، وتأتي مادلين مرتدية ثوباً أسود ووشاحاً أسود لتقعد أمام قبره وبعد رحيل كل الناس..ترتمي مادلين على القبر وتبكي وتبكي...فلم يودعها وجدان قبل رحيله...وبصوت يجهش بالبكاء تقول: "حبيبي....لا داعي لأن أعيش حياتي إن كنت أنت قد فارقتها..فلا أحس بالحياة إلا بوجودك معي...كفى عذاباً لحياتي..ثم تدمع وتلمس بيديها القبر وبنعومة حتى صافح وجهها النسيم الناعم حاملاً بتلات ورد أحمر....إنها هدية وجدان لحبيبته. تفقد مادلين رونقها بعد موت حبيبها.....بعد موت وجدان تحول العالم بالنسبة لها إلى عذاب وجحيم دائم.شعرت بأنها وردة قد أذبلتها ملوحة هذا القدر المر و عاصفته الهوجاء.بهتت الألوان من حياتها وهمس لها القلب بحزن : من يمسح لي دموعي ويدفع عني همومي؟؟ وأمام شاطيء البحر الفيروزي ظلت مادلين واقفة تتذكر قبلاته الدافئة وأنفاسه وهمساته الناعمة...تسيل العبرات من عينيها وكأنها فصوص الماس برّاق تتناثر مع هجمات الريح.وأغمضت مادلين عينيها وإذا وراءها جسم قد ضمها من الخلف بقوة، وظلّ يتنفس شذى ضفائرها وعطرها الندي الفوّاح، وتحس بزفير شفاه دافيء يرتطم بعنقها، وأحست بوخز شعر شارب ودفء يدين دافئتين...صدّقت جسدها الزاعم تصحيح القدر وإذا بالسماء تثلج ويُسمَع للرعد هز يمه ويتجلى للبرق سناه ليتهاوى الصقيع من السماء وتتشقق من بعد الشفاه وانسدلت الأستار لتغطي وجه الشمس، فإذا هي التفتت لترى هذا الجسم الذي من خلفها.....كان لاشيء..نعم إنه مجرد طيف شبح لحبيبها أتى ليودعها ثم اختفى_وكانت هذه أمنيته عند تلك النافورة في أن يودعها وداعاً رومانسياً عند موته_فخلعت مادلين القلادة الذهبية التي أعطاها إياها حبيبها وجعلت تضمها بكلتا يديها وتقبلها وتتذكر أحلى أوقاتها وذكرياتها معه....احمرّت عيناها من الدموع وخرّت على الشاطيء، كانت مادلين تنتحب وتبكي بحزن واجم...هبات الرياح تحمل ذرات الرمال ونبضات القلب ترسل صرخات القهر والأنين عندما فقدت روحها نصفها الآخر... الآن تتلاشى الحياة تدريجياً في جسدها الذي يتصنع بأنها حية قائلة: " لا..لن أتحمل..لن أسكن..سأُنطِقُ الحجر والهواء والطير في السماء لكي تقول بشفاهي:أحبك يا وجدان. نعم ستشهد لي بتلك الحقيقة وسأكتب بدمي أني أحبك. "ثم تغوص مادلين في أعماق البحر المظلم، فيتناطح الموجان....ليدفن صراع الخواطر جرحها الدائم ويريحها من عذابها، ترى فقاعات من سطح البحر تتصاعد رويداً رويداً حتى إذا بها تختفي ويسكن كل شيء ويصمت الكون. [/align] |
رد: رواية تعويذة الحب
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر اخي عمر علي اروع قصة قراتها في حياتي والله يرزقني مثل هذا الحب الجميل الطاهر اختكم انجود |
رد: رواية تعويذة الحب
شكرا أنجود على مرورك الاروع ...
|
الساعة الآن 41 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية