منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   متفرقات (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=555)
-   -   معايدة تقطر وجعاً.. (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=30650)

محمد توفيق الصواف 12 / 09 / 2016 57 : 12 AM

معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]جلستُ لأكتب بطاقة معايدة لأحبَّتي..
لكنْ..
فجأةً، غادَرَتني الذكرياتُ عشيةَ العيد ومَضَتْ تَغُذُّ الخطوَ بعيداً عن حاضر مازال يقطر وجعاً ودماً..
سألتُها: إلى أين؟
لم تُجِب، ولم تلتفت حتى، بل لَوَّحَتْ لي بيدها وهي تسرع كأنها عاشقة على موعد تكره أن يُؤخِّرُها أيُّ شيء عنه..
وأمام ارتحالها السريع، لم أملك أنا الآخر سوى أن أطرح حاضري، بهمومه وآلامه، عن كتفيَّ، لأركضَ خفيفاً خلفها، قبل أن أفقدها برصاص قناص، أو بانفجار قنبلة..
حافيةً كانت تركض في أزقة الماضي وحاراته الضيقة، وحافياً كنتُ أتبعُها.. لم تنتبهْ إليّ لأنها كانت تَتَنَشَّقُ رائحة أحباب اشتاقت إليهم، وتَتَلَذَّذُ بأصواتهم التي لم تسمعها منذ زمن طويل..
وجوهٌ تتلوها وجوه.. وجوهٌ جميلة أليفة.. وجوهُ أحبابٍ وأصدقاء وأهلٍ مضوا ومَضَتْ معهم أفراحٌ وأحزانٌ عشناها معاً...
كانت الذكريات تمضي عابرة الدقائق والأيام والسنين دون أيِّ عائق.. كان الزمن يذوب أمام حرارة شوقها ولهفتها..
أصواتٌ راحت تنبعث من جنبات تلك الأيام وباحات تلك البيوت التي كانت، ذات يوم، تنبض حياة.. صوتُ مؤذنٍ من هنا يُذيب حنانه القلب.. ومن مقهى وسط إحدى الحارات، ارتفع صوت أم كلثوم يُعيد إلى الحياة مشاعر وأحاسيس رقيقة نَسِيَها القلبُ وسط لهاثِ الرعب وفواجع القهر.. ومن نافذة تطير ستارتها كاشفة عن وجهٍ عاشقٍ لفتاةٍ في مَيْعَةِ الصبا، انْبَعَثَ صوتُ فيروز الحالم يحمل على أجنحته النورانية نظرات الفتاة التائهة التي تنبض شوقاً إلى حبيب لا تجرؤ على البوح باسمه..
وجوهٌ كثيرة أخرى، كلما التقت الذكريات بأحدها عانَقَتْه وهي تُهنئه بالعيد قائلة: (كل عام وأنتم بخير).. وكل الذين التَقَتْهم ردُّوا على معايدتها بأحسن منها..
وحين انتهت الذكريات من رحلتها، ورأت كلَّ الذين اشتاقت لهم، استدارت عائدة إلى الحاضر.. لكنْ بخطوات بطيئة راحت تجرجرها على أرصفة الزمن بتكاسل وكآبة ونفور..
قُبيل وصولنا إلى كون الحاضر، التَفَتْ الذكريات إليَّ قائلةً: أنا لن أعود معك.. إذا شئت أن تبقى معي فَابْقَ، وإذا شئت أن تعود إلى الحاضر فَعُد..
رغبتُ كثيراً أن أبقى معها، ولكن لم أَشَأْ أنْ أتركَ الذين مازالوا ينتظرونني في محطة الحاضر قلقين على غيابي.. فعُدْت.. وما إن بلغت تخوم الحاضر حتى زَكَمَتْ أنفي روائح الحرائق، وصَدَمَتْ عينيَّ أنقاض البيوت والأبنية، وبقع الدم والأشلاء.. مشيت بينها أبكي تارة وأقهقه كالمجنون تارة أخرى، حين نهض الجميع لاستقبالي: الحرائق والدم والأشلاء وصراخ الثكالى والأيتام والجائعين.. ثم تقدموا نحوي قائلين: (كل عام وأنتم بخير).
أنْصَتُّ لأصواتهم فتهيَّأ لي أنها تخرج من وَجَعٍ يمتدُّ آهاً طويلة مغسولةً بأنهارٍ من دمع ودمّ، لتقول للعالم كله، دون استثناء، حتى للذين غدروا بهم: كل عام وأنتم بخير..
كذلك نَهَضَتْ ياسمينةٌ تقطر حزناً وشوقاً إلى أصحابها الذين تركوها وهاجروا إلى بلاد بعيدة، لتقول بصوتٍ واهن أمضَّه العطش إلى الماء والشوق إلى لقاء الأحباب والذكريات القديمة معهم، في أركان ذلك البيت المهجور: (كل عام وأنتم يا أحبابي الغائبين بخير)..
ومن مطبخِ بيت عربي قديم صار كومة أنقاض، خَرَجَتْ أدواتُ صُنْعِ الحلويات لتقول لأهل الشام عبارة (كل عام وأنتم بخير)، مغسولةً بذكريات أمهات كنَّ يقطرنَ حباً وقَضَيْنَ يقطرُنَ دماً.... ثم أعادت تلك الأدوات (كل عام وأنتم بخير) معجونةً بأصواتِ أطفال يضحكون أمام أمهم فرحاً بمقدم العيد، وينتظرون الحلويات التي تصنعها بفارغ الصبر.. ولمَّا لم تسمع الأدوات الملهوفة أيَّ ردٍّ على عبارتها، بكت، وبدموعها الغزيرة عَجَنَتْ أشواقَها وأحزانَها لتصنع منها حلوياتٍ مُرَّةً بطعم المأساة والدم والذكريات المؤلمة..
نعم.. لم تَفُتَّ المأساةُ في عضد شعبي، ولن تَفُتّ.. ولن تمنعَه من التفاؤل والضحك وصنع الابتسامة على وجوه الغير وشفاههم رغم المأساة التي يعيشها.. ولم تمنعه من أن يقول حتى للذين تآمروا عليه وغدروه (كل عام وأنتم بخير).. وليس هذا بعجيبٍ من شعب ينتمي الفينيق إليه والعنقاء..
[/align]
كل عام وأنتم بخير...

محمد الصالح الجزائري 12 / 09 / 2016 30 : 04 AM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]من الوجع الموجع ألاّ نردّ على كلّ الموجوعين بهذه العبارة التي أضحت بلا طعم (كلّ عام وأنتم بخير) !!! أخي الأكبر الدكتور الصواف..قلتَ ما يجب أن يُقال وأعمق!! شكرا لك وعيد كلّ الشام وكلّ المسلمين بألف خير رغم الوجع..[/align]

د. رجاء بنحيدا 12 / 09 / 2016 12 : 07 AM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
كعادتك أديبنا الرائع محمد توفيق الصواف
مبدع أنت وأكثر
إذ هاأنت اديبنا تجعل الذكريات تتقن حركية الهروب إلى الماضي والانفلات من حاضر يقطر وجعا فتشدنا إلى تفاصيل جد مؤلمة وجد موجعة
ولكن رغم كل هذه الأوجاع ، ، لابد أن نعايد بعضنا، وكلنا أمل أن يعم الخير كل الخير في جميع الأوطان
،،، كل عام وأنت بخير

هدى نورالدين الخطيب 12 / 09 / 2016 17 : 09 AM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]
كل عام وأنت بألف خير..
كل عام وذكرياتك الدمشقية السورية الفاتنة بثوبها وعطرها الياسميني بألف خير..
عندما يستحيل الحاضر مراً كالعلقم نحتفظ بنعمة الذكريات نعيش بها ومعها زمناً رغداً..
أمام بحرة في بهو دار تظلله ياسمينة دمشقية شامخة رأيتك تنعم بالذكريات..
في حواري الشام.. في حواري المجد والتاريخ.. حيث مرّ كل الأنبياء ومنذ أن تعلم البشر الحرف والحضارة الإنسانية..
في سوق الهال سرت مع ذكرياتك .. في الشيح محي الدين رأيتك تنصت لحلاوة وبديع التلبية والتكبير .. سألتك إن مرّرت على الجامع الأموي بلغه عنا السلام..

رجوتك ألاّ تنسى في شوارع الذكريات أن تصطحب معك من كان يعشق ياسمين الشام حتى ما بعد الموت والقيامة.. وما زالت ذاكرة الأرصفة هناك تحفظ وقع خطواته..
رأيته على صفحات ذكرياتك شاعراً أحب الشام عشقاً.. رأيت طلعت بين سطور ذكرياتك، فهل؟
استوقتكما وأنشدت له كما كنت كلما توهج شِعره روعة: (( وعليكِ عَينِي يا دِمَشـقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ))
وبقيت بين طيات ذكرياتك أردد:
يا شَـامُ عَادَ الصّـيفُ متّئِدَاً وَعَادَ بِيَ الجَنَاحُ
صَـرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ
أصـواتُ أصحابي وعَينَاها وَوَعـدُ غَـدٌ يُتَاحُ
كلُّ الذينَ أحبِّهُـمْ نَهَبُـوا رُقَادِيَ وَ اسـتَرَاحوا
فأنا هُنَا جُرحُ الهَوَى، وَهُنَاكَ في وَطَني جراحُ
وعليكِ عَينِي يا دِمَشـقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ
يا حُـبُّ تَمْنَعُني وتَسـألُني متى الزمَنُ المُباحُ
وأنا إليكَ الدربُ والطيـرُ المُشَـرَّدُ والأقَـاحُ
في الشَّامِ أنتَ هَوَىً وفي بَيْرُوتَ أغنيةٌ و رَاحُ
أهـلي وأهلُكَ وَالحَضَارَةُ وَحَّـدَتْنا وَالسَّـمَاحُ
وَصُمُودُنَا وَقَوَافِلُ الأبطَالِ، مَنْ ضَحّوا وَرَاحوا
يا شَـامُ، يا بَوّابَةَ التّارِيخِ، تَحرُسُـكِ الرِّمَاحُ

أبكتني سطورك وطابت الذكريات حتى كدت أحتسي الماء من بردى وأقطف برفق لجيدي أزرار الياسمين وأتحسس حجارة عتيقة عريقة...
وضعت رأسي على صدر عمتي وأكلت من برازق الشام وسرت في الصالحية..
وحين رفعت رأسي رأيت طائر الفينيق يحلق فوق قاسيون ويشدو لدمشق...

كل عام أستاذ توفيق وأنت وأسرتك بألف خير
طابت ذكرياتك وطاب لنا نعيم الذكريات...
كن بألف خير وشاركنا كلما استطعت الهرب من جحيم الحاضر إلى روعة الذكريات....
[/align]

عزة عامر 13 / 09 / 2016 09 : 06 AM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
لم أعد أعرف .. هل قرأت بعيني ..أم بدمعها..وأنا أستوحي ذكرياتي..من عناد ذكرياتك ..التي أبت إلا أن تظل هناك.. بين ثنايات ماضيها الياسميني .. أبية ذكرياتنا.. لا تقبل إلا أن تمارس حرياتها..كما لم نمارسها نحن..تروح ..وتغدو!! مطلقة الحرية..تسافر ..وتعبر حدود الزمان..بغير تأشيرة!! تعرف أوطانها فتغادر في سلام..وتقطن ما شاءت..بأي الأزمان تعجبها.. ذكرياتنا أميرات ، حرائر..لا تؤسرها سلاسل الزمان..ولا تسبيها جيوش النسيان.. كل عام وانت بخير ..أ.محمد توفيق الصواف..وكل عام وذكرياتنا حرة.. لا تعرف للعبودية سبيل.. دمت بكل خير ..ودام إبداعك .

Arouba Shankan 13 / 09 / 2016 19 : 07 AM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
يا لوجع الذكريات .. منه لا أُشفى.. عندما غادرت دمشق.. تركت ذكرياتي فيها.. ومضيت
لكنني وجدت ذكرياتها قيد .. يدميني تارة.. ويضحكني تارة
رغم الألم.. دمشق ابق بخير.. أضحى مبارك.. وكل عام وأنتم بخير
د. محمد توفيق الصواف
ولذكرياتك كل التقدير والاحترام

محمد توفيق الصواف 13 / 09 / 2016 12 : 09 PM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]أخي الحبيب محمد الصالح..
على الرغم من أنَّها أضحَتْ عبارة بلا طعم كما وصفتَها، لا أملك سوى أن أقولها لك ولغيرك مرة أخرى، محاولاً إعادة بعض الطعم لها عن طريق غسلها بالحب مرات ومرات وبمضاعفة كمِّ التمني فيها، عسى أن تستعيد بعض ألقها القديم.. ولذلك دعني أَقُلْ لك: (كلّ عام وأنتَ بخير)..[/align]

محمد توفيق الصواف 13 / 09 / 2016 24 : 09 PM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]أختي الغالية جداً، والمبدعة جداً، الأستاذة هدى..
أسعد الله أوقاتك، وكل عام وأنتِ بألف خير..
شكراً على قراءتك الممتعة لهذه الخاطرة الموجِعَة.. وشكراً لكلماتك الرقيقة التي استطعت أن تجعليها تنبض بالكثير مما رغبتُ بقوله ولم أقله، فجاء تعليقُك وكأنه يُتمِّمُ ما جاء فيها...
ولكثرة ما شعرتُ أنَّك تُحبين الشام، تملكني إحساسٌ بأنَّ رائحة أزقتها وحواريها القديمة تفوح من أعطاف كلماتك التي تقطر حباً وشوقاً لها ولأهلك الذين عاشوا فيها..
أما أنَّ كلماتي استحضرت ذكريات أخي طلعت، فهذا صحيح.. لكم قضينا من أعياد معاً، وكانت كلها أجمل مما نعيشه الآن.. رحم الله طلعت، فقد كان يتهيَّأ لي أنه من كثرة حبه للشام يبدو وكأنها كانت تجري في أنفاسه ودمه.. رحمه الله وطَيَّبَ ثراه..
شكراً لمرورك اللطيف وقراءتك المتعة التي زادت نصي جمالاً..
وتقبلي فائق تقديري واحترامي.. [/align]

محمد توفيق الصواف 13 / 09 / 2016 29 : 09 PM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
أختي الغالية والرائعة الدكتورة رجاء..
كلّ عام وأنتِ بخير..
ما أروع قراءتك لهذه الخاطرة، وما أروع قدرتك الفائقة على إبراز عصبها الرئيس من الناحية الفنية الجمالية.. أشكركِ على هذه القراءة وعلى نظرتك الإيجابية فيما أكتبه..
وتقبَّلي فائق محبتي وتقديري لشخصك الكريم إنسانة ومبدعة متميِّزة...

محمد توفيق الصواف 13 / 09 / 2016 34 : 09 PM

رد: معايدة تقطر وجعاً..
 
[align=justify]الأخت الغالية عزة..
كلّ عام وأنتِ بخير..
مُفاجئِةٌ أنتِ في صياغة تعليقك على هذه الخاطرة، مثلما أنتِ مُفاجئةٌ في صياغة نصوصك القصصية والشعرية..
إنها ذات العبارة المحملة بصور جديدة دائماً ورقيقة دائماً وموحية كثيراً..
لقد زِدتِ بتعليقك على هذه الخاطرة في جمالها.. فشكراً لكِ، وتقبَّلي محبتي وتقديري..[/align]


الساعة الآن 44 : 12 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية