منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=553)
-   -   عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3) (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=30655)

محمد توفيق الصواف 18 / 09 / 2016 49 : 12 AM

عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
[align=justify]أنهيت الحلقة الماضية من هذه الدراسة التي خصصتها لإلقاء حزمة ضوء على بعض شعر الشاعر عادل سلطاني، بالحديث عن جمالية الصورة الشعرية عنده على الرغم من إحكام نسجها وتشكيلها، سواء من ناحية اختيار الكلمات أو من ناحية تشكيل الصورة نفسها أو من ناحية الدلالات الموحية في التشكيل النهائي لكل صورة.. وسأتابع في هذه الحلقة الحديث عن الصورة في شعره من خلال مثال مختار من إحدى قصائده..
وقد قررتُ الاستمرار في هذه الدراسة، على الرغم من قلة الاهتمام بها، كما يبدو واضحاً من عدد قرائها وعدد المعلقين عليها بعد نشرها. وما قراري بمتابعتها وليد إعجابي بفنِّ مبدعِها فحسب، ولكن وليد رغبتي أيضاً في تجاوز أسلوب التعليق النمطي السكوني على ما يُنْشَرُ في الموقع من إبداعات، إلى محاولة الدخول في حوار نقدي مثمر، يتفاعل فيه المبدع مع المتلقي فيتطوَّران بنتيجته معاً.. وهذا النوع من التفاعل ليس مجهولاً في (نور الأدب)، بل كان موجوداً في زمن مضى وغاب..
أعتذر عن هذا الاستطراد، وأعود إلى الحديث عن الصور المُرَكَّبَة في شعر السلطاني..
إنَّ أيَّ دارس لهذا الشعر لابدَّ أن يُلاحِظ أنَّ صُورَهُ ليست من النوع البسيط السهل، بل هي مُركَّبة من عدة صور بسيطة ليست العلاقة بينها واقعية بالضرورة، أو معقولة دائماً، وهذا أحد أسرار جمالها من جهة، وأحد أهم أسباب اختلافها وتَميُّزها، في تشكيلاتها النهائية، عمَّا يُعرَف في البلاغة العربية بالتشبيه التمثيلي من جهة أخرى، وأحد أسباب اختلافها، من جهة ثالثة، عن نمطية الصورة الغامضة الشائعة في كثير من النصوص الشعرية الحديثة، أي عن تلك الصورة التي يصنعُ غموضَها الإلغازُ المُتَعمَّد من قِبَل الشاعر..
بتعبير آخر، أكاد أتصوَّرُ أن الصورة المركبة في شعر السلطاني تنتمي إلى نمطية إبداعية أخرى، تُقَرِّبُها كثيراً من بُنيَةِ الصورة السريالية أحياناً، وهي صورةٌ يُمكنُ تعريفُها بشكل تبسيطي جداً بالقول: إنها تَتَكَوَّنُ من أجزاء كلّها واقعية، أي موجودة على أرض الواقع فعلاً، لكن التشكيل النهائي الناجم عن جمع هذه الأجزاء مع بعضها هو غير الواقعي.. وبالطبع ليس بالضرورة أن يَتَعَمَّدَ الشاعر إنجازَ مثل هذا التشكيل واعياً، بل الأقرب إلى منطق الإبداع وآلياته أن يَتشكَّل هذا النمط من الصور في اللاوعي الإبداعي للشاعر، أو ما يُسمَّى حالة الإلهام.
ولكي أُوضح ما أعنيه بالتركيب السريالي للصورة الشعرية عند السلطاني، سأنتقل من التوصيف النظري إلى شيءٍ من النقد التطبيقي أمارسُه على نموذج مُنتَقَى من إحدى قصائده العمودية وهي قصيدة (رحيل) التي يقول في مطلعها:[/align]

دَعِيني أُفتِّشُ عنْ وَجهِ أُمي ــــــــــــــــــــــ أَنـا بَـرْبـرِيٌّ أَضعْـتُ الـدَّلِـيـلْ
وَرَقـمُ الْهُوِّيـةِ نَقــشٌ قـدِيـمٌ ــــــــــــــــــــــ عَلَى قِمةِ الشوْقِ لَا لنْ يزُولْ
[align=justify]في هذين البيتين، يرسمُ لنا الشاعر في الشطر الأول من أولاهما صورةَ رجل خرج يُفتِّشُ عن وجه أمه الذي أضاعه، والأم هنا، كما يَتَهَيَّأُ لي، رمزٌ لجماعة بشرية، بغضِّ النظر عن حجمها: "شعب، أمَّة، قبيلة، عشيرة، أسرة".. وعلى افتراض صحةِ هذا التفسير لرمز الأم، في هذا السياق، ربَّما يجوز القول إنَّ الشاعر غاضبٌ ممَّا يُمكن اعتباره ضياعَ هوية الجماعة التي ينتمي إليها، بين انتماءين أو أكثر.. ولكي لا يُبقي القارئَ جاهلاً عن أي جماعة يتحدث، يُعاجله في الشطر الثاني من البيت الأول نفسه بالقول: (أنا بربري).
إذاً نحن بصدد جماعة بشرية تُسمى "البربر"، هي التي ينتمي الشاعر إليها، ويحزنُه ضياعُ هويتها الأصلية بين انتماءات متعددة أراد أن يُحرِّرَها منها ويعيدَها إلى انتمائها الأصلي الوحيد، أي إلى البربر.. وفي رحلة بحثه عن أدلَةٍ تُوصِلُه إلى مبتغاه، يعثر على واحد من أهم هذه الأدلة على الإطلاق هو "رقم هوية أمه".. لكن هذا الرقم ليس اعتيادياً، لأنه ليس مكتوباً بأرقام كالتي يستخدمها الناس، بل هو نقشٌ قديم.. وقَصَدَ الشاعر بهذا التوصيف إخبار قارئه بعراقة المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، وبِتَمَيُّزِ الطريقة التي يُبَيِّنُ فيها أبناؤها انتماءهم إليها..
ثم يستمر السلطاني في تشكيل صورته المركبة، باثّاً الدهشة في كلِّ مفصَلٍ من مفاصلها، كما لابدَّ أن نشعر، حين يُخبرُنا مثلاً بأنَّ هذا الرقم/النقش ليس محفوراً على حجر أو خشب أو عَظْم أو أي شيء آخر مادي صلب، بل على "قمة الشوق"، أي على سطحٍ انفعالي لحالة عاطفية لا يمكن لمسُها بأيٍّ من الحواس الخمس، وإنما بالشعور والقدرة على التخيُّل فقط.. ولكن لماذا حفرَ السلطاني نقشَ هوية انتمائه على ذلك السطح غير المحسوس؟ أظنُّ ليخبرَنا باستحالة زواله، لأن أحداً لا يستطيع محوَ ما يكتبُه الإنسان على صفحة شوقه إلى صيرورةٍ مستقبلية يحلم بها لذاته الفردية ولجماعته التي ينتمي إليها، في نفس الوقت.. فما يُكتَب على نسيج النبضِ العاطفي للإنسان يمتلك قدرة الانتقال من جيل إلى جيل..
وهكذا، فمن صور صغيرة، لكل واحدة إشعاعها الرمزي الخاص، حين ننظر إليها منفردة، مضى السلطاني يُرَكِّب منها صورته النهائية التي يشعُّ تشكيلها اللاواقعي برمزية بالغة التأثير في النفس والوجدان..[/align]

يتبع...

فاطمة البشر 18 / 09 / 2016 29 : 02 AM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 

أعجبت كثيراً بما قرأت هنا ..
وتحليل أكثر من رائع ..
وأتابع معك أ. محمد الصواف ..

محمد الصالح الجزائري 18 / 09 / 2016 29 : 05 AM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
[align=justify]أخي الأكبر الدكتور الصواف..قدرتك النقدية الفائقة تجعلك تشارك الشاعر بيئته ومخياله..تكاد تغرف من نبع لطالما لازمه السلطاني..شكرا لك على دراسة تسعدني قبل النحات..و{يتبع} أعشقها كثيرا في دراساتك..محبتي وإعجابي بمنهجك الجميل في التحليل..[/align]

عزة عامر 18 / 09 / 2016 07 : 06 AM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
أستاذ.محمد توفيق الصواف ..أسلوب نقدي في قمة الروعة والجمال.. والسلاسة ..والتبسيط ..سعدت جدا بما قرأت هنا ..من بساطة التحليل ..رغم العمق الشديد ..الذي استغرق فيه المحلل(الناقد).. من خلال أبيات الشاعر النحات الرائعة..ولأني لأول مرة.. أقف بذلك التركيز ..على الكيفية الهادئة والدقيقةجدا.. التي يعمل من خلالها المشرط .. وكيفية تحكم الناقد فيه..بهذا الأسلوب المبهر.. الذي يضمن للنص عدم إنفلات .. صورة جمالية واحدة ..أو غير ذلك ..من بين يديه ..ويضمن للقارىء ..فهما عميقا للنص ..وعندما تلتقي مشاعر القارئ..بمشاعر الشاعر..من خلال التفكيك ..والإستجلاء الذي يقوم به المحلل الوسيط ..فذلك من وجهة نظري ..ذروة نجاح للمثلث المذكور..
شكرا لك ..أستاذنا..وكل التقدير والإحترام لجهدك

محمد توفيق الصواف 18 / 09 / 2016 24 : 10 PM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
الابنة الغالية فاطمة..
سَرَّني أَنْ أعجبَتْكِ هذه القراءة لشعر المبدع عادل سلطاني..
وأرجو من الله أن أتمكن، قبل نهاية العمر، من القيام بقراءات مماثلة لإبداعاتِ آخرين من أعضاء هذا الموقع..
دمتِ بخير، إنسانةً ومُبدعة..

محمد توفيق الصواف 18 / 09 / 2016 36 : 10 PM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
[align=justify]أخي الحبيب محمد الصالح..
أعلمُ أنك تَسعَد بما أكتبه عن شاعرنا الرائع الأستاذ عادل، ويُسعدني أن أَسُرَّكَ دائماً، لكن صدِّقني أنَّني لم أكتب عنه ما كتبتْ ملقاً لأحد، ولم أَمْدَحْه بما ليس فيه، خصوصاً وأنَّني لستُ من النقاد المدَّاحين، بل قلتُ فيه ما يستحق، بل أقلّ مما يستحق.. هذا من الناحية الفنية، أمَّا بالنسبة لمضمون شعره، فلم أَتعرَّض له بعد، وسأخصص له بعض الدراسات القصيرة التي ستظهر على الموقع قريباً إن شاء الله..
دمتً لي أخي الذي أحبّ وأحترم.. [/align]

محمد توفيق الصواف 18 / 09 / 2016 45 : 10 PM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
[align=justify]الأستاذة عزة..
المبدعة اللطيفة والنَّشِطَة في مُتابعة ما يُنشَر على صفحة الموقع، على اختلاف موضوعاته وتنوعها..
مساء الخير، وأسعد الله أوقاتك..
سَرَّني أن تندمجي بقراءتي النقدية لشعر المبدع السلطاني، وأن تستمتعي بها.. وأظنُّ أن مصدر متعتك جمال شعر السلطاني وليس نقدي له..
أمَّا بالنسبة للمشرط الذي أشرتِ إليه، فهو آخرُ غير الذي مع الأستاذ محمد الصالح.. (ابتسامة).. إنه مشرط لطيف جداً (ليزري) (ابتسامة)..
دمتِ تلك المُبدعة التي أُتابعُ إبداعَها مستمتعاً، وأسعدُ برؤيتها تتطور يوماً بعد يوم..
وفقكِ الله.. [/align]

عادل سلطاني 07 / 03 / 2017 19 : 12 AM

رد: عادل سلطاني... الشاعر النحَّات.. (3)
 
تحية طيبة مباركة مبدعنا الراقي الأستاذ محمد توفيق الصواف حلقة نقدية ثالثة ضمن سلسلة ناظمة واعية بممكن النص وبما يمكن أن يكون عليه ؛ قراءة متأنية ناقدة عاقلة واعية يسكنها التأمل المستل ما عمق المضمر النصي شكرا على جهدك النقدي المبذول لإماطة الخفي المتلبس بظاهر النص.

تحياتي


الساعة الآن 17 : 05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية