![]() |
اعتراف...
[align=justify]وأنا بكامل وعيي، رأيتُ كل ما حدث.. أقسم أنني لم أكن أحلم، ولا كنت مخموراً، ويشهد لي جميع الذين عرفوني بأنني راجح العقل وافر الذكاء، بل وحكيم أيضاً، وهي شهادة كافية لتؤكد أنني لست مخبولاً ولا مجنوناً..
نعم رأيت كل ما حدث بأمِّ عيني، وما زلتُ أصرُّ على أن ذاك الذي حدث، على الرغم من غرابته الشديدة، قد حدث على أرض الواقع، وليس في أجواز الخيال والوهم.. ما زلتم غير مصدقين؟ من حقكم ألا تصدقوا ما هو أغرب من الخيال، ولو أنني لم أره بعيني لرفضت تصديقه مثلكم، ولكن ما العمل وقد رأيته رأي العين؟ على أي حال لنَعُدْ بالقصة إلى بدايتها، لنحللها معاً، فربما يعثر أحدنا على رأس الخيط الذي يُوصلنا إلى تحليل غرابة ما حدث، ويفكّ لغزه، ويكشف سرَه.. في ذلك الصباح الشتائي البارد، وأنا في طريقي المعتاد إلى عملي، استوقفني رجلٌ لا أعرفه.. لم تكن ملامحه بالمألوفة كأيٍّ من البشر العاديين الذين نصادفهم.. كان فيه شيء ما غريب.. هل أقول إن هذا الشيء في العينين ووميضهما غير العادي؟ ربَّما.. أم تُراه في شكل الوجه الذي بدا لي في تلك اللحظة منفراً إلى حد ما؟ ربما.. لم يكن في الفم سوى سن واحدة تبدو بوضوح حين يتكلم أو يضحك وسط فراغ غريب.. وكذلك الصوت، كان أقرب إلى صوت رنين وعاء نحاسي.. لكن كل هذه العلامات الفارقة والغريبة، يمكن تجاوزها، حين يصل الأمر إلى الكلمات التي ينطق بها.. فبحركة بدت لي غير مهذبة من شخص لا أعرفه ولم أعرفه في حياتي من قبل، وضع يده المعروقة المغطاة بشعر كثيف على كتفي، وكأنه صديقي منذ أن وُلِدت، ثم راح يُحدثني بتلقائية وعفوية ودون أيِّ حرج قائلاً: - لقد قتلتُها.. نعم أنا الذي قتلتُها بيدي هاتين.. وصدقني لا أشعر بأيِّ ندم على قتلها، ولا بأيِّ تأنيب ضمير أو إحساس بالذنب.. بل بالعكس تماماً، أنا أشعر بسعادة غامرة لأنني قتلتُها.. لقد كانت فاسدة وحقيرة وسيئة أكثر بكثير مما تصور.. وهَمَمْتُ بأن أقاطعَه سائلاً مستغرباً: عمن تتحدث؟ لكنَّه لَوَّحَ لي بيده المعروقة الغزيرة الشعر أن اصمت! فانصعت إليه دون أيِّ اعتراض؛ فأكمل يقول، وقد دَاخَلَ صوتَه فرحٌ بدا لي طفولياً: - لقد تحمَّلْتُ عشرتَها، وصبرتُ على أذاها لي أكثر من نصف قرن.. ألا ترى كم هو زمن طويل ذلك النصف قرن..؟ وطيلة تلك الفترة كنتُ أتمنى لو أخنقها بيديّ هاتين، لكنني كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة خائفاً، وأُقرِّر إعطاءها فرصة جديدة.. لكن الحقيرة بنت الحقيرة كانت تعتبر تراجعي عن قتلها ضعفاً مني، فتتمادى أكثر في إيذائي وتعذيبي حتى عِيلَ صبري تماماً، فقررتُ قتلَها في تلك الليلة الرائعة..! صمتَ لحظة كمن يسترجع ذكرى مذاق شراب لذيذ شربه ذات يوم، أو مذاق طعام شهي مازال أثرُه في فمه، ثم قال بنبرة وشَتْ باستمتاعه في سرد ما يقوله لي: - لقد انتظرتُها حتى غرقت في النوم، متظاهراً بالنوم قبلها؛ وما إن اطمأننتُ إلى نومها، حتى انسللتُ من تحت اللحاف، ومضيت إلى المطبخ فأحضرتُ حبلاً قوياً، لَفَفْتُه على عنقها بهدوء شديد كي لا تستيقظ؛ وما إن اطمأننتُ إلى أن الحبل تَسَوَّرَ عنقَها، حتى جذبتُه بكلِّ ما أوتيتُ من قوة، وخنقتُها.. ارتعشَتْ قليلاً، قاومَتْ، لكنَّها في النهاية استسلمَتْ لقَدَرِها، وماتتْ تاركةً في عينيها الجاحظتين نظرةً ملؤها الاستغراب لاستطاعتي الإقدام على قَتْلِها بدمٍ بارد، ودون أن يَرِفَّ لي جفن، مع علمها الذي يبلغ حدَّ اليقين بأنَّني أحبُّها حبّاً لا يعدلُه حبُّ مخلوق لمخلوق على ظهر الأرض، منذ أن خلق الله آدم وإلى يومنا الحاضر..! قال ذلك، ثم تراجَعَ خطوةً إلى الوراء، ثم نظر في عينيّ مباشرةً، ثم قال لي متابعاً: - هذه يا سيدي قصتي التي انتظرتُك طويلاً لأرويَها لك، لقناعتي بأنك الوحيد الذي يمكن أن يفهمني ويُقَدِّر دوافعي إلى قَتْلِ تلك الحقيرة، وأن يُبَرِّئَ ساحتي ويعفو عني.. لدى سماع كلماته الأخيرة، أحسستُ بغضب شديد مشوب بكثير من الاستغراب وغير قليل من الخوف، فصرختُ به مازجاً غضبي واستغرابي وخوفي بنبرة صوتي المرتفعة: - أنا لستُ قاضياً يا هذا.. ودون أن يُبارحَه هدوؤه، قال لي: - أعرف.. ولكن بالنسبة لي أنت القاضي الوحيد الذي يمكن أن أثقَ به وبعدله..! - ولكن ماذا يُفيدك أن أقتنع بدوافعك طالما أنني لستُ الذي سيحكم عليك؟ - لا يهم. أنت فقط أخبرني ألستُ مُحِقّاً بقتلها؟ وبكثير من الغضب والضجر والتبرُّم، صحتُ به مجدداً: - لكن من هي تلك التي تتحدث عنها، وتقول لي إنك قتلتها؟ وكأنني فاجأتُه، فتح عينيه وفمه استغراباً، وهو يسألني: - ألم تعرفها بعد؟! وبنفس القدر من الاستغراب، أجبتُه: - لا.. - يا لكَ من غبي..! - أرجوك.. لا داعي لقلَّة الأدب في مخاطبتي.. - حسناً… أنا آسف.. - حسناً إذاً، أخبرني عمن تتحدث أولاً؟ - عن نفسي التي بين جَنْبَي..! - ماذا؟ صحتُ، وقد بلغ استغرابي وغضبي منتهاهما، ورحت أحدق في وجه الرجل وعينيه محاولاً التأكُّد إن كان مجنوناً أم لا، فإذا به، وقد رآني أنظر إليه على ذلك النحو، يُغْرِبُ في الضحك من تصرفي وبحثي، ثم يقول، وكأنه قرأ ما كان يجول بخاطري: - لا لستُ مجنوناً.. أنا رجل في كامل قواي العقلية.. - لنفترض.. ولكن يبقى السؤال الآخر قائماً.. - أيَّ سؤال تقصد؟ - لماذا اخترتني من دون الناس جميعاً لتُخبرني بقصتك الغريبة السخيفة هذه؟ - لأنَّكَ.. لأنَّكَ… لم يُكمِل، بل ابتسم لي ابتسامة غامضة كابتسامة الجوكندا، ثم تبخَّر من أمامي دون أن يترك لوجوده أيَّ أثر.. [/align] |
رد: اعتراف...
[align=justify]عزيزي الغالي محمد توفيق ..
دائما ما نلمس ذلك التشويق الذي يجذبنا إلى آخر حرف من قصصك المميزة لنجد أنفسنا أمام نهاية غير متوقعة ومفتوحة على جميع الاحتمالات . قرات واستمتعت . بوركت وبورك يراعك الخصب محبتي .[/align] |
رد: اعتراف...
الرائع الأستاذ محمد توفيق
عندما اقرا قصة غالبا كنت اتخيل النهاية ولكن هذه المرة فشلت كانت النهاية غير متوقعة وإن دل على شيء فإنما يدل على انك أبدعت ولك تميز منفرد في صياغة القصة فانت أحيانا تختصر العبارة لتقول أكثر فأكثر لتصنع الدهشة في ملامح القارئ دمت بألق |
رد: اعتراف...
اقتباس:
أشكرك على ما وصفتني به في تعليقك على هذه القصة، وما وصفتني به هو بعض ما عندك من قدرة على التشويق والامتاع.. لا أقول هذا ملقا بل عن قناعة تجعلني أنتظر ما تنشر من قصص وخاصة تلك التي تصف فيها الطبيعة كمسرح للأحداث التي ترويها.. مع محبتي وتقديري..[/align] |
رد: اعتراف...
اقتباس:
مع محبتي وتقديري.[/align]. |
رد: اعتراف...
يا للهول
لقد تركت القارئ في " حيص بيص " وكل منا سيضع النهاية التي يراها مناسبة ، مثلاً أنا رايت أن هذا الشخص هو النفس / الذات التي خاطبتك أي هي أنت ... ربما أنا مخطئ ... لكن الصواب أنك أدهشتنا شكراً لكَ أيها المبدع حد الجنون ... |
رد: اعتراف...
قصة مشوقة ورائعة وأسلوب يجذب القارىء ، ونهاية غير متوقعة ، أبدعت أديبنا أستاذ محمد توفيق الصواف ، بانتظار المزيد، تحياتي وتقديري . |
رد: اعتراف...
اقتباس:
لو قلتُ لكَ أنني سُررتُ بعودتك إلى التعليق على كتابتي أكثر مما سررتُ بمضمون تعليقك، مع أن مضمونه مدهش، فهل تصدقني؟ الحمد لله على العافية، والحمد لله على السلامة، وأدام الله هذا الحرف البهي والنبرة الجريئة العفوية في التعبير عن رأي صاحبها.. أتمنى أن أرى تعليقاتك دائماً على كل ما يُنشَر في الموقع.. محبتي الغامرة وتقديري..[/align] |
رد: اعتراف...
[align=justify]الغالية الأستاذة بوران..
سرني أن استرعت قصتي انتباهك وأنها نالت إعجابك وأَمْتَعَتْكِ.. دمتِ تلك الأخت اللطيفة المُتابِعَة لكل ما أنشره.. مع محبتي وتقديري..[/align] |
رد: اعتراف...
[align=justify]وضعتنا بين الحلم واليقظة ، بين الحقيقة والخيال ، بين الواقع واللاواقع ، حديث الذات للذات ، عندما نرى الأنا الآخر ! هذا التّداخل التمازجي المدهش يقودنا حتما إلى إعادة قراءة الصوّاف المفكّر ، الصواف المبدع ، بعد ذلك نستطيع قراءة الصواف القاص !
شكرا لك أخي الأكير الأستاذ توفيق على صدمة صادمة سأعود حتما إلى قراءتها مرات ومرّات ، بعد أن أستفيق (ابتسامة)..محبّتي واحترامي..[/align] |
الساعة الآن 31 : 12 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية