![]() |
علمونا كذبا !
علّمونا كذباً ! حين أتممتُ السنوات الستّ الأولى من عمري، تشوّقتُ لأحمل حقيبةً على ظهري، أركضُ بها إلى المدرسة، وأتصفّح كتباً بصورٍ ملوّنة، وأستمع إلى حديث معلّمةٍ تُبهر الأطفالَ بعمقِ معرفتها. في المدرسة علّمونا ألّا نشتري من بائع الحلوى الذي يبيع على حافة الطريق، لأنه يبيع حلوى مكشوفة. وفي صورةٍ -لا تبرحُ ذاكرتي- احتواها الكتاب المدرسيّ؛ لرجلٍ يبيع حلوى كشفها الرّسّام، ورَسَمَ ذباباً يحوم حوله، أكّدوا لنا أنّ هذا البائع يسبب الأمراض، لذا كنتُ أخشى أنْ أمرّ بجانب بائعي الحلوى ! مضتِ السنون، ولمْ أرَ ذباباً يحوم حول بائع حلوى يبيع على قارعة الطريق! وتساءلتُ لماذا لمْ يعلّمونا أنْ نقدّم نصيحةً للبائعِ بتغطيةِ الحلوى، حتى نشتري منه في اليوم التالي! الآن؛ عندما أصادف بائع حلوى، أودّ لوْ أقدّم له اعتذراي، أوْ أنْ أطبَع -بصمتٍ- قُبلةً على جبينه المتصبّب عرقاً، في سبيل إعالة أسرته. في المدرسة قالوا: "إنْ تسرّبت منَ المدرسة سينتهي بك المطاف على الرصيف، تبيع بضاعة رديئة، تلاحقك الشرطة، وينفر منك النّاس". لذلك لمْ أكنْ أحبّ هؤلاء الباعة الذين تصدح أصواتهم في شوارع المدينة. لكنْ ما الضير لو أخبرونا أنّ هؤلاء تركوا المدرسة بقهرٍ، ضحّوا بمستقبلهم لأجل أنْ يُكمل إخوتهم تعليمهم، ومازالتْ الدموع تترقرق في عيونهم كلما رأوْا طالباً يضمّ كتبه إلى صدره. وصرتُ إذا ما رأيت بائعاً متجولاً أتبسّمُ لتبسّمِهِ، وأنهلُ شيئاً من عزيمته وإصراره، أسرقُ من عينيه قليلاً منْ تمسكه بالحياة رغم تحدياتها. وفي درس "حلمك في المستقبل" أو ربما كان اسمه "اختر مهنتك"، احتوتْ صفحات الدرس على صورة طبيب، مهندس، محامٍ، معلم. ولكنهم نسوا -أوْ تناسَوْا- أنْ يخبرونا أنّ المهندس لا يكونُ مهندساً ناجحاً دون عامل بناءٍ ماهر، ودهّان فنّان، وكهربائيّ محترف. كما أنني لا أتذكر أنّهم قالوا في درس الأعياد والعطل الرسمية، أنّ هؤلاء يتصببون عرقاً في أماكن عملهم، بينما نحن نائمون في الأول من أيّار! ومازلتُ حتى الآن عندما أرى مبنى جميلاً، أقول كم كان عمّال البناء رائعين، كم تعبوا، وكم قاسُوا! وتقبّلهم من الإعجابِ عينايَ. وفي درس الرفق بالحيوان، وبينما كنّا نصفق للسيرك بقلوبٍ لاهفة، وظنُّنا أنّ جعل الحيوانِ يرقصُ ويقفِز رفقاً، لم يخبرونا أنّ هذه الحيوانات تُترك أياماً بالجوع، وتعاني شتى صنوف العذابِ، وأنّ المدربَ الذي حلمنا يوماً ما أنْ نكون مثله، يفعل أيّ شيء بذلك الحيوان فقط ليحظى بدراهم معدودة، وتصفيق حارّ في نهاية العرض! لمْ أعد أحبّ عروض السيرك، وأصدرتُ حكماً غيابياً على كل مدربي السيرك أنْ يذوقوا منْ معاناة تلك الحيوانات. أنهيتُ الاثنتي عشرة سنة في المدرسة، ظنّاً منّي أنّي خبرتُ الحياة، ووضعتُ كل شيء في جعبتي، فمضيتُ في الدّروب، وعند أول مفترق طريق ضعتُ بين غبار السّبل ورائحة الكتب، ثم ما لبثتْ أنِ اختفت رائحةُ الكتب إلى الأبد ... فاطمة البشر |
رد: علمونا كذبا !
هذا غيض من فيض فاطمة ..
مناهج تحوي أفكارا وتوجيهات تتناقض مع واقع مريري يكتشفه الطالب عفويا وهو يتلقى أولى دروسه في مدرسة الحياة . دامت لك المودة |
رد: علمونا كذبا !
ولكن ها أنذا أراك قد اكتسبت مهارة التفكير النقدي ... مهارة الحكم والاستنتاج .. ومهارات أخرى .. وهذا هو الأهم...
دمت عزيزتي فاطمة متميزة وصادقة ،. مع محبتي |
رد: علمونا كذبا !
أنت محقة أيتها الفاطمة .. وأسفا ، فجميعنا لم يحظى بذلك العلم الواقعي ، الهادف ، الممزوج بحكمة المعلم ، والقائمين على المنظومة بأكملها ، شكرا لضميرك النابض وأتمنى لو تصل حروفك هذه ، للذين يعقلون . شكرا لك مرة ثانية ، مع خالص محبتي .
|
رد: علمونا كذبا !
[center]عزيزتي أستاذة فاطمة
جميعنا خدعنا بما علمونا ، واكتشفنا في معترك الحياة أنها أكاذيب ، لكن المهم أننا عرفنا الحقيقة واكتشفناها ، أبدعت غاليتي ، لك كل الحب وباقات الورد . |
رد: علمونا كذبا !
هذه وجهة نظر مختلفة. عندما كذبوا عليك لم يفكروا في بائع الحلوى وإنما فكروا بك. وارادوا أن لا تعاني مثلما يعاني . ثم إن الحياة هي مسرح اكتشاف الحقائق، لكن الخوف أن يأتي الاكتشاف متاخرا.
تحياتي وتقديري |
رد: علمونا كذبا !
اقتباس:
شكرا لتواجدك أ. رشيد |
رد: علمونا كذبا !
تحياتي للأخت فاطمة، لقد مست كلماتك ذكريات لي أيام الطفولة ولكننا كأطفال كنا نشتري من الباعة الجائلين بعض الحلوى التي كانت شائعة وقتذاك بالدراهم التي نأخذها فقط لنشتري هذه الحلوى. ولم تخنّي ذاكرتي في هذا الشأن فكان البائع في الزقاق يغطي الحلوى التي كان يبيعها. وكان ينادي عليها خجلاً: عنبر .. عنبر. كانت أيام.
أما عروض السيرك فما زلت أحبها حتى الآن ولو أتيح لي حضورها لصفقت لمدربي الحيوانات، ليس لتركهم الحيوانات بالجوع أيّاماً وليس من أجل تعذيب الحيوانات، لأن المتفرج لا يتسنى له رؤية ما خلف الكواليس. ولكن حال هؤلاء المدربين ليس بأفضل من حال الحيوانات التي يدربونها لو تصورنا ماذا سيحل بهم لو استغنى السيرك عن خدماتهم أو نفقت حيواناتهم. دمت وإلى المزيد من العطاء. |
رد: علمونا كذبا !
اقتباس:
سعدتُ بمروركِ على كلماتي ودي ووردي |
رد: علمونا كذبا !
ما اجمل ما كتبت
ليس الكل لديه قلب رقيق ومشاعر جياشة واحاسيس مرهفة اتجاه هؤلاء الكادحين وما مروا به من مصاعب وليس الكل ير بعين البصيرة ويفسر بعقل راجح ويقارن ويفسر ويستخلص نتائج جميلة شكرا لقلمك وجمال حروفك |
الساعة الآن 00 : 11 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية