![]() |
فكرة...
[align=justify]فجأة... ظهرت أمام الجميع، لافتةً أنظارهم إليها، بكينونتها الشفافة، وقوامها الأهيف الرشيق.. آسرةً قلوبهم بوجهها الذي كان يشعُّ عذوبةً سماوية أخَّاذة... سالبةً عقولهم بنظرات عينيها الواسعتين اللتين كانتا تتألقان ببراءةِ شمسٍ حديثة الولادة تَتَلامَحُ خَفِرَةً من بين أهدابها الطويلة..
وكمن سُلِبَتْ إرادتُه في غفلة منه، اتجهوا جميعاً إليها، كلٌّ يريدها لنفسه.. فقابلَت اندفاعتهم نحوها بابتسامة ملأت أُفقَ انجذابهم إليها فرحاً لم يعهدوا مثل روعته من قبل، أَحَسُّوه يُولَدُ في قلوبهم، ثم يسري منها إلى عروقهم ليَتَحَوَّل، في النهاية، إلى أجنحةٍ تخفق بها خطواتهم التي راحت تتلاحقُ أسرع فأسرعَ خلف طيف ذلك الجمال الآسر، غير عابئين بالنهاية التي يمكن أن تقودَهم إليها صاحبتُه التي راحت تُسابقُ رغبتَهم في امتلاكها.. ولأنَّ الوقت يتوقَّف في لحظات الفرح الغامر كذاك الذي كان يَعْمُرُ قلوبَهم وهم يتسابقون للظفر بذلك الطيف الجميل، لم يعرف أحدٌ منهم طولَ المدة التي قَضَوْها وهم يركضون خلف صاحبته التي توقَّفَت فجأةً، على مَبْعَدَةٍ منهم، عندما وصلَت إلى تلك النقطة التي لم يَرَها أحدهم من قبل، والتي أذهلتهم جميعاً بروعتها.. لقد كانت نقطة التقاء السماء بالأرض.. النقطة التي لا يمكن للإنسان أن يبلغها إلا بعد أن يَتَخَلَّى عن كلِّ ما يَشُدُّه إلى أناه.. وبتوقفها، توقفوا جميعاً ينتظرون ما ستقوله أو تفعله.. فابتسمت لهم، وحَيَّتْهم جميعاً شاكرةً ما بذلوه من جهد لِلَّحَاقِ بها.. ثم خاطبتهم بصوت نبراته موسيقى سماوية تقطر طهراً وعذوبة: - أعلم أنَّ كلَّ واحد منكم يريدُني لنفسه لا شريك له بي.. ولكنني لا أستطيع أن أكون ملكاً إلا لواحد منكم فقط.. ليس شرطاً أنْ يكون هذا الواحدُ أسرعَكم أو أجملَكم أو أقواكم أو أغناكم أو أكثركَم حكمة وذكاءً، بل الشرط أن يقبلَ التخلي عن كينونته الترابية الكثيفة، والتَّحَوُّل إلى طيف مثلي.. هذا شرطي الوحيد ليملكَني وأستطيعَ الاتحاد به.. قالت ذلك، ثم نظرَتْ مُنَقِّلَةً نظراتها بينهم، فإذا بها تُفاجَأُ بذبول الفرح الذي كانت تشعُّ به وجوههم وعيونهم، وبِتَسَمُّرِ أقدامهم في أرض المكان الذي قادتهم إليه.. وكادت تيأس لولا أن تحرَّك أحدهم شاقّاً طريقاً له بين جموعهم التي تحوَّلت إلى عيون تفيض بالفضول رغبةً في رؤية ما سيفعله.. لم يكن أجملَهم ولا أفتاهم ولا أقواهم، بل كان شاباً ذا وجه طفوليِّ الملامح على الرغم من تجاوزه الثلاثين، مرحَ النظرات والخطوات، يمشي وكأنه يطير، وعلى شفتيه تتلألأ ابتسامةٌ حلوة صافية.. ظلَّ يتقدَّم نحوها، حتى صار على مَبْعَدَةِ أقدامٍ منها، فأشارت إليه أن قفْ.. فوقفَ مطيعاً.. ثم أشارت إليه أن ابدأ الخروج من ترابك.. فلم يتردد، بل سارعَ يَنْفُضُ ذرات جسده عن ذاته، مُعانِياً من الآلام الكثيرَ، حتى تمكَّن في النهاية من مغادرة ذلك الجسد الذي سرعان ما تحوَّل إلى كومة تراب، فورَ خروج صاحبه منه وتحوُّله أمام عيون مشاهديه إلى طيف.. أشارت إليه أن تقدَّم.. فتقدَّم حتى صار قُبالَتَها تماماً.. ابتسمت له بودٍّ.. تطاولَت على رؤوس أصابع قدميها حتى بلغت رأسَه فقَبَّلَتْه.. وبلحظة لم تُعلِن عن ميلادها، التحمَ طيفُها بطيفه، فولَّد التحامهما نوراً مبهراً غَشِيَ عيونَ كلِّ الذين كانوا ينظرون إليهما.. ثم اختفى ذلك النور المُبْهِر، فإذا بطيف الشاب يقف وحده في تلك النقطة.. بحثَتْ عيونهم عن صاحبة الطيف الجميل الذي التحمَ بطيف الشاب، فلم يعثروا لها على أثر في البداية، لكن ما لبثَتْ عيونهم أن اهتدت إلى وجودها وقد استقرت في رأسه.. انْتَظَروا ما سيفعله وإياها.. ولم يَطُلْ انتظارهم، فقد تحرَّكَ طيفُ الشاب نحو كومة التراب التي كانت جسده قبل قليل، ودخل فيها، فاستعاد كينونته الترابية من جديد، لم يتغير في شكله القديم شيء سوى ذلك التغيُّر الذي طرأ على عينيه، فقد كانت نظراتهما تبرق بقوة مذهلة.. وحين استكمل ارتداء جسده، اتجه نحوهم خطيباً: - لا تظنُّوا أنَّ هذه المخلوقة اللطيفة التي استقرَّت في رأسي منذ قليل، ستظلُّ لي وحدي طوال العمر، بل كان هذا شرطها لتحقيق التحامنا الأول فقط..، أمَّا شرطها الثاني الذي همسته لي، قبل التحامنا، وأرادتكم ألَّا تسمعوه، هو أن أمنحَها، بعد استقرارها في رأسي وقلبي، لكلِّ من يرغب بها منكم..! شرطَ أن يتخلَّى، بدوره، عن أناه الترابية الغليظة، ليستطيع بدوره أن يمنحَ تلك المخلوقة لغيره أيضاً..! وتعليلُها لهذا الشرط أنَّ حياتها على هذه الأرض هي مجموع الأشخاص الذين تستطيع الاستقرار في رؤوسهم وقلوبهم ووجدانهم...، وعمرُها محدودٌ ببقائها حيَّةً في أقوالهم وأفعالهم... قَبِلَ معظمهم الشرط..، وراح كلُّ واحد منهم يُسارعُ إلى نبذ أناه، استعداداً للالتحام بتلك المخلوقة وإسكانها في قلبه وعقله وتصرفاته.. وما إن تمَّ انتقالها من ذلك الشاب إليهم، حتى صار لجميعهم نفس الوجه والملامح والنظرات، وعندها أعلنوا بصوت واحد أنهم صاروا كُلّاً مُتَّحِداً لاستقرارها، هي نفسها، في عقل كلٍّ منهم وقلبه ووجدانه.. الخاتمة الأصلية للقصة وتعليلُها لهذا الشرط أنَّ حياتها على هذه الأرض هي مجموع الأشخاص الذين تستطيع الاستقرار في رؤوسهم وقلوبهم ووجدانهم...، لأنها مجرد فكرة، وعُمر أيِّ فكرة محدودٌ بعُمُرِ حامليها والمؤمنين بها... قَبِلَ معظمهم الشرط..، وراح يُسارعُ إلى نبذ أناه، استعداداً لاستقبال تلك الفكرة في قلبه واستقرارها في عقله.. وما إن تمَّ انتقالها من ذلك الشاب إليهم، حتى صار لجميعهم نفس الوجه والملامح والنظرات، وعندها أعلنوا بصوت واحد أنهم صاروا كُلّاً مُتَّحِداً لاستقرارها، هي نفسها، في عقل كلٍّ منهم عقيدةً تحكم قلبه وتتحكم بمشاعره وتصرفاته وأقواله.. [/align] |
رد: فكرة...
وأنا أعجبتني تلك الفكرة، وأعجبني أسلوبك في طرح أهمية الفكرة، ولذلك عندي لك فكرة، استمر في إبداعك، فقلمك من الأقلام التي يجب ألا تنضب .. ولكنني وددت لو أنك لم توضح مكامن القصة في النهاية، وتركتها مبهمةً قليلاً... دمت متألقاً مبدعاً أ. محمد توفيق ودي ووردي |
رد: فكرة...
[align=justify]ابنتي الغالية فاطمة.. أسعد الله أوقاتك بكل خير..
شكراً لما كتبتِه عن هذه القصة، وسرَّني أنها نالت إعجابك، شكلاً ومضموناً.. وأوافقك الرأي بشأن خاتمتها، لكن لخوفي من التباس المراد من مضمون القصة ضحيت بجمالية خاتمتها.. ثم جاءت ملاحظتك لتدفعني ثانية إلى التفكير بمحاولة صياغة خاتمة لا تُوقِع القارئ في الالتباس من جهة ولا تُفقِد القصة رمزيتها الشفافة من جهة أخرى، فأعدتُ صياغة الخاتمة لتصبح على الشكل الذي صارت عليه الآن والذي ستكتشفينه إذا أعدتِ قراءة القصة من جديد، وأرجو أن تنال خاتمتها إعجابك.. ولك ألف شكر على الملاحظة.. لك محبتي وتقديري..[/align] |
رد: فكرة...
[align=justify]من شروط فهم الفكرة، وضوحها ! لذلك هذه القصّة حققت هذا الشرط في الخاتمتين (ابتسامة) ، فالنقاء والطهارة والإخلاص والإيثار ، كلّ هذه المعاني وجدتها مجسّدة جلية واضحة !
أخي الغالي الدكتور توفيق..مازال الحلم قائما وبإلحاح في كلّ قصصك ! فأنت لم تشخ بعد..بل تزداد عنفوانا وشبابا مع كلّ حرف تخطّه! وكأني بك كتبتها في الثلاثين من عمرك (ابتسامة)! دعائي لك بالشفاء وموفور الصحة.. محبتي..[/align] |
رد: فكرة...
[align=justify]قرأت قصتك أخي محمد توفيق وأستطيع القول إن لك طريقتك الخاصة والمتميزة في طرح الأفكار وسرد الأحداث .. تكتنف قصتك سوريالية ، لكنها سوريالية تقترب من الواقع بدلالاتها ومغزاها .. ولهذا أرى أن تحافظ على حبكتها الأولى وتترك لكل واحد منا قراءته الخاصة والزاوية التي ينظر منها إلى القصة .
جميل ما يسكبه يراعك .. استمتعت فعلا . دام لك الألق ..[/align] |
رد: فكرة...
[align=justify]أخي الحبيب محمد الصالح..
أشكرك على هذه القراءة وما زخرت به من استنتاجات، أوافقك عليها جميعاً باستثناء واحدة هي أنني (لم أَشِخْ) (ابتسامة).. وبالنسبة لخاتمة القصة، فأنا معك بأنها ظلت واضحة في الصياغتين، ووضوحها مقصود.. وشكراً لدعائك الذي أرجو الله استجابتَه.. مع محبتي وتقديري...[/align] |
رد: فكرة...
اقتباس:
متابعتك لنصوصي تُسعدني، وتعليقاتك المميزة عليها تحفزني لكتابة المزيد، فشكراً لك، وشكراً لهذا التقييم التوصيفي لمضمون القصة وأسلوبها الفني.. أما بالنسبة للحبكة فلم أغيِّر فيها شيئاً ولكني غيرت الخاتمة تجاوباً مع رأي الأستاذة فاطمة البشر، إذ وجدتُ ملاحظتها مقنعة.. لكن، وزيادة في توفير حرية الاختيار، سأدرج الخاتمة الأصلية مع الخاتمة الجديدة في نهاية النص.. وللقارئ ما يريد منهما خاتمة لهذه القصة.. (ابتسامة عريضة).. أشكرك مرة أخرى، ولك محبتي الدائمة..[/align] |
رد: فكرة...
والدي العزيز / محمد توفيق الصواف ..فكرة جميلة ، مبدعة ، وجديدة ، ومن قراءتي لهذه الجزئية(وتعليلُها لهذا الشرط أنَّ حياتها على هذه الأرض هي مجموع الأشخاص الذين تستطيع الاستقرار في رؤوسهم وقلوبهم ووجدانهم...، وعمرُها محدودٌ ببقائها حيَّةً في أقوالهم وأفعالهم...) لاحت لي فكرة ، أو بمعنى أصح خطر لي خاطر ، مثلت فكرتك بهذا المثل للوهلة الأولى من قراءتها ، وهي ، أن الإنسان بسلوكه ، وأخلاقه ، ونقاء سريرته ، وترفقه بمن حوله ، يشبه إلى حد بعيد تلك الفكرة ، في المدى الذي تستطيع الفكرة أن تحياه ، من خلال معتنقيها والمؤمنون بها ، وكلما استزاد حسنا ، وخلقا ، ارتقى ، وسما ، واستقر في قلوب الناس ، وعقولهم ، وازدادت محبة الناس له ، وحسن ذكره ، وتعطرت سيرته ، حتى إنه ليقال أن حسن الخلق يبارك للناس في أعمارهم ، وليس ذلك بتأجيل الآجال ، بل بما يتصل من ذكرهم ، من عمر يذكرون فيه بعد رحيلهم ، فيعيش المائة ، والمائتين ، والألف عام ، وربما باقي الدهر يذكر فيعد وكأنه حيا ، شأنه في ذلك شأن الأسلاف ، الصالحين قبل الطالحين ، كالعبد الصالح ، وإن لم يخلد ذكراه البشر ، فالطير ، والأماكن ، والأشياء ، لا تنسى ، ومن فوقهم الخالق ، وملائكته عليه شهودا ..شكرا لك أبي ..وعذرا، فقد أخذتني الفكرة بعيدا بعيدا .
مع خالص التحية ، ومنتهى التقدير . |
رد: فكرة...
أعجبتني الفكرة أستاذي محمد الصواف ، وأعجبتني طريقة تناولها. تتضمن القصة الكثير من الصور وتنم عن تفكير عميق. فعلا إن الذين يحملون نفس الفكرة تجعهم ملامح واحدة.
تحياتي وتقديري الدائم. |
رد: فكرة...
وبعد التعديل شدّتني أكثر، ورأيت أن جمالية القصة بقيت محفوظة..
شكراً أستاذي العزيز لسعة صدرك ورحابته.. |
الساعة الآن 41 : 08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية