![]() |
النّعش قصّة بقلم سعيد محمد الجندوبي
النّعش
بقلم سعيد محمد الجندوبي استفاقت حوريّة وأنفاسها تكاد تنحبس من هول الكابوس المرعب الّذي أقضّ مضجعها. كان جسمها يرتعش ويتصبّب عرقا.. لم يعاودها النوم، فمكثت في فراشها منتظرة انبلاج الصبح حتّى تُفضي بكابوسها إلى أمّها. هكذا تعوّدت منذ الصّبا.. رأت فيما يرى النّائم مجموعة من النّاس تحمل نعشا، وسط مكان قفر، وفجأة ثارت زوبعة تحمل رمالا حمراء كلون الدّم، تبعها تساقط رذاذ أحمر، سرعان ما لطّخ ملابس وعمائم الرّجال من حمَلة النّعش، في حين لم تلمس قطرة واحدة كفن الميّت المسجّى وسطهم. توقّف الرّجال، ووضعوا النّعش أرضا، ثمّ تحلّقوا حوله، فيما يشبه الدائرة، من دون أن ينبسوا بكلمة واحدة.. وما هي إلاّ دقائق معدودات حتّى هبّ الميّت واقفا. فقام أحد الرجال، وكان أكبرهم سنّا، وقد أضاءت وجهه لحية طويلة بيضاء، ففكّ رباط الكفن، وقفل راجعا إلى مكانه ليجلس من جديد.. تساقط الكفن أرضا، فإذا بها فتاة في مقتبل العمر، ارتدت فستانا أبيضا طويلا كفساتين العرائس والأميرات، في حين انساب شعرها الأسود الطويل المتموّج على كتفيها وعلى جزء من وجهها النّاصع البياض.. لم تكن ملامح الفتاة قاطعة الوضوح.. استعاذت الأمّ من الشيطان وتشهّدت ثمّ قالت لابنتها وهي تُرَبِّت على يدها المرتعشة: "فأل خير إن شاء الله.. هذا عرس.. ربّما عرسك أنت يا حوريّة.. فالأحلام تُؤوّل بالخلاف.." *** المكان: مقبرة تكاد تكون مهجورة على مقربة من قرية صغيرة من القرى الجبليّة بشمال غرب تونس. الزمان: شتاء سنة 1972. انتهت مراسم الدّفن، وتفرّق الجمع الصّغير بعد أداء واجب العزاء لعائلة الميّت، في حين انشغل القرّاء في تقاسم أجرتهم بعد أن قاموا بمهمّتهم بإتقان المحترفين. وضعوا النّعش الفارغ على ظهر الشاحنة الصّغيرة، وانطلقوا عبر طريق ترابي وعر، تتخلّله برك وأوحال شتاء الشمال القاسي. تنفّس السّائق الصعداء حينما وطئت عجلات شاحنته إسفلت الطريق الرابط بين "عين دراهم" و"فرنانة"*.. حمد الله على ابتعاده عن المسالك الترابيّة بأوحالها وحفرها، بدون عوائق ولا مكدّرات. قطع السّائق الصّمت متذمّرا: -الله يهديهم! لماذا لم يدفنوه في مقبرة البلدة.. هناك في "فرنانة".. متحمّلين كلّ هذه المشقّة؟ -لقد كانت تلك رغبته، رحمة الله عليه.. أراد أن يُوارى الثّرى تحت سدرة "سيدي يحي" العتيقة، على مقربة من أهله.. جلّ أولاد "منَوِّرْ" يرقدون هناك.. -الله يرحمهم .. أجمعين.. خيّم الصمت من جديد.. وحدها "البيجو 403"، استرسلت في الشخير.. كانت الطريق في تلك المناطق الجبليّة صعبة المراس؛ فقد كانت كثيرة المنحدرات والمرتفعات، ملتوية، تعانق بلولبيّة صارمة الجبل، وتتلاعب بسالكها رفعا وخفضا إلى حدّ الغثيان. تكاد تلك الطريق الجبليّة تكون مغطّاة بسقف أخضر كثيف مما يغدق به شجر الصنوبر والفرنان من أغصان؛ وهذا ما يُكسبها صيفا رونقا وظلالا، وشتاءًا رهبة وانعدام أمان. كلّ من يعرف تلك الطريق يتجنّب سلوكها بعد مغيب الشمس، لا سيّما خلال فصل الشّتاء حيث تُغرق بعض منحدراتها السّيول، وتنهال من بعض مرتفعاتها الصّخور؛ وقد تخترقها من حين لآخر الذّئاب والثّعالب والخنازير.. سكّان تلك المناطق المحاذية للطريق، هم أكثر من يخشاها؛ إذْ هم أخبر النّاس بخفاياها.. فكثيرا مل تناقلت الألسن، عبر الأجيال، أخبار ما يجري فيها ليلا من حين لآخر، والّذي لا تفسير له عندهم إلاّ بما اكتنف بعض مقاطعها من غموض ووحشة.. فالطريق تسكنها الأرواح.. أرواح من أكلتهم عبر السنين. -ما أوحش هذه الطريق! قالها أحد القرّاء بعد أن تنهّد مردّدا الشهادتين. أجابه الثّاني، وكأنّه خشي أن يزعج مثل هذا الكلام الأرواح والعفاريت، فتخرج من سباتها: -اسكت يا هذا! اترك الرّجل يقود السيّارة.. لا تُربكه! ضحك السّائق وشفتاه تمسكان بالسيجارة فترتعش بينهما وسط سحابة كثيفة من الدّخان الأبيض.. كان أصغرهم سنّا.. -دعه يحكي يا عمّ "رابح".. همزهُ الأوّل في إشارة استفزازيّة: -بَيّكْ "رابح" معروف عنه الخوف.. إنّه يخشى حتّى من ظلّه! *** -"آهاي.. آهاي.." عرفه السّائق، بعد أن تبيّن بصعوبة ملامحه، فتوّقف على جانب الطريق. بعد التّسليم والسّؤال عن الأحوال، اتّخذ مكانه الى الخلف، بجانب النّعش الفارغ.. قال له أحد القرّاء بلؤم: -"أُحرسْ لنا الميّت، حذاري من أن يفرّ!" ابتسم "ابّيْ صالح" قائلا: -"توكّلْ على الله.. لا مفرَّ له تحت هذه الأمطار! وانطلقت الشّاحنة من جديد. "ابيّْ صالح" ذو القلب الصخريّ، كصخور الجبال التي نبت بين أحضانها، فضّل التّمدّد داخل الصندوق الخشبي على أن تتبلّل ملابسه الصّوفيّة الخشنة.. "سوف أُغادره حين تكفّ الأمطار عن النّزول.." *** *** *** *** * من قرى شمال غرب تونس، الجبليّة، ذات الغابات الكثيفة. ** كلمة "قيرّة" (بثلاث نقاط فوق القاف) كلمة دخيلة من الفرنسيّة guerre أو من الإيطاليّة guerra وهو الأرجح، وتعني الحرب. |
رد: النّعش قصّة بقلم سعيد محمد الجندوبي
لا يمكنني قول شيء أكثر من كلمة "رائعة" .. وهي نعت ليس لقصة واحدة وإنما لأربع قصص جاءت لتشكل روافد تتجمع عند مصب واحد .. هل أتكلم عن الأحلام وتفسيرها ؟ .. أم عن الرحلة وغرابتها ؟ أم عن الطبيعة و سحرها ؟ .. أم عن المأساة التي بدأت بوادرها منذ البداية ؟ .. ربما أهمل الكلام عن معاناة هذه الصبية وأمثالها أو مثيلاتها من الكادحين والكادحات .. الحقيقة أنني أمام قصة متوهجة ، تعج بأفكار ودلالات لا حصر لها .. كل شخصية لها قيمتها .. من بطلة القصة إلى أولئك الأجراء المسترزقين من مناسبات الموت .. مرورا بالشيخ الذي عركته حياة La guerra
نحن هنا في المغرب أيضا عندنا أصحاب المعاش من متقاعدي الحرب العالمية و الحرف الإسبانية .. وكانوا يستعملون نفس المصطلح .. أخي .. مهما قلت عن قصتك .. فلن أفيها حقها .. حقها ، نقد أدبي واف و محترف.. وأنا هنا أقول ما أملته علي قراءتي الممتعة والمتواضعة . أقول إني استمتعت جدا .. شكرا لك أخي .. أنا في انتظارالمزيد . دمت مبدعا متألقا |
رد: النّعش قصّة بقلم سعيد محمد الجندوبي
اقتباس:
أشكرك على وقفتك المتأنيّة على هذا النص وعلى القراءة التحليلية النافذة أرجو أن أكون عند حسن الظن مع محبّتي وتقديري سعيد محمد الجندوبي |
الساعة الآن 54 : 08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية