منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   المقــالـة الأدبية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=62)
-   -   إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها... (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=3361)

هشام البرجاوي 07 / 04 / 2008 22 : 03 AM

إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
[align=justify]
التقينا على الطريقة الربيعية، ابتسمت الطبيعة و غنت احتفاء باللقاء، لم يكن أريج الصدفة إلا
حسنة من حسنات الفصل المبتهج، لا قيمة في شعوري لتحضيرات اللقاء، كل ما أستطيع قوله
أن الله أتقن الإعداد لذلك اليوم البعيد. طفقت أتفحص وجه الملكة ماري أنتوانيت في إحدى كتب
التاريخ العتيقة، فأوحى إلى المشهد باسم:" لطيفة"، هذا ما ترسخ في الذاكرة، اسم بلا جسد، لكنه
روح من النقاء و الإنسية تحلق بسعادة في خيالي الشاسع. أحاول لملمة كل الأوصاف
المقتبسة من روعة الاعتناق المؤقت للماضي المسرور، غير أن الصورة الأخيرة، اسم يهمس
بكل الإحتمالات، ما أروع أن يسافر الإنسان إلى غياهب الأيام الخوالي، لن تزعجه قتامة
الواقع، لكن الأهم من التجوال المطلق رفقة العقل، فهو وحده من يركب الإحساس، يوقد الحنين
و يسترجع الجمال المفقود.

تفاصيل اللقاء تلاشت، و ما ظل صامدا علاقة انسانية صافية تأبى النهاية، في كل قطرة لامعة
من قطرات فؤادين مزجهما القدر، تنبثق إرادة البقاء و عزيمة الإستمرار. اختارت صحبتنا
المدرسة، و فدت الشمل بالنفيس طيلة ست سنوات متواصلة، تخللها اكتشاف الإنتماء و بناء
الهوية و اللمس الطفولي لمعاني الإستقرار و الإطمئنان التي استشرى في كل موقع من المجتمع
أنها مهام مخصصة للكبار فقط، تقييم فاشل، فكأن الصغار لا يمتلكون الوعي الكافي لفهم
مصطلحات الإجتماع البشري المستمدة من التطبيق اليومي، و على كل حال فإنني أعتقد
أن لطيفة كانت صادقة و مصيبة في رأيها،:" نحن الدليل الحي على نجاح الاستقرار، فلماذا
يصرون على القول بعجزنا عن استيعابه". هكذا يرتسم فحوى كلامها في ذاكرتي، و ربما قد
أكون أنا القائل. اجتماعات التأمل في الحياة كانت كثيرة، فقد ارتشفنا رونق نسيان موعد
التعارف البسيط، منذ الأيام الأولى. هي من يؤكد لي أن سرعة النسيان مقياس لتوقع مصير
العلاقة الإنسانية، و خاصة نسيان وقت التعارف، و بالإضافة إلى إشارته الواضحة لتقدم
العلاقة، فإنه يتحكم في اكتمالها أو اخفاقها. لنا رؤيتان بريئتان ألفت بينهما أفكار مشتركة
فقد بدأ الله و الكون بالدخول إلى امتداد التساؤلات. رغبة الإدراك لا يحتكرها الإكتساب
العلمي، بل إنه قد يساهم في وأدها أو إجهاض تطورها في أفضل انجازاته. كما سيطر على
تفكيري مبكرا، انبرت لطيفة للنضال، رفضت لقب:"المتعلمين" بانطوائه المتعمد على انتقاص
جسيم من كرامة الإنسان، و قاومت شيوع الإكتساب،:" لسنا أكياسا بلاستيكية يستعملها
الزبائن لمدد زمنية قصيرة، ثم يلقون بها إلى سلة المهملات أو يوجهونها لإعادة التصنيع.
السؤال الذي لا يزال يراودني: هل كانت تسعى إلى عالم مثالي يرتكز على صحة سلوك
الفرد؟ قد أبالغ، و ربما تكون انطباعاتي متولدة عن التحاقي القسري بالكبار.
لحظة حميمية استوطنت ذاكرتي، مجرد قبلة قرب ساقية المدرسة، لا أدري متى حدثت،
لكن المهم أنها حدثت. من عاداتنا الخالدة الإجتهاد في شرح الأحداث المؤلمة، أما ما نعتبره
خيرا فإننا نكتفي و يجدر بناأن نستمتع به قبل أن ينفذ. هذا ما نستطيع أن نعامل به
البهجة، الإستمتاع بها، خاصة و أننا في أغلب الأحيان لا نتحكم فيها، فلطالما ارتبطت
بالصدفة. كأي باحث مبتدىء في متاهة الحب المثيرة، حلمت بقبل أخرى، و لم أتصور
للحظة أن رصيدي سيجمد عند قبلتين: الفاتحة التي نقشتها بأحرف وامضة ساقية الماء
قرب مكتب المديرة في المدرسة، و قبلة النهاية التي أقرها رحيل لطيفة مع أسرتها إلى مدينة
أخرى. لدى استلامي للخبر، لم أتفاجأ، لكنني حاولت ابداء رفض أباده اصرار والدها على
تسجيلها في إعدادية راقية، تفضل الصيت الرديء لإعدادية مدينتنا المكفهرة. أتذكر أنها
زارت منزلنا للمرة الأخيرة، و علمت من خلال شقيقي أننا شاركت في رحلة مع جماعة
من الأصدقاء إلى الحقول المتاخمة للوسط الحضري. غادرت بهو المنزل بسرعة، لنلتقي
أمام بوابة المدرسة...و رحلت.

يصعب علي أن أرسم ملامحها، بيد أن هذا الإخفاق المتقادم يخسر دوما أمام ايمان شخصي
بأن لطيفة كانت فتاة استثنائية.
[/align]

ناهد شما 07 / 04 / 2008 53 : 03 AM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
الأخ الأستاذ هشام \ حفظك الله آمين

دون مجاملة ما نثرته هنا أكثر من رائع .

أحسستُ أنك جمعت ما بين الإبهام في الرمز والوضوح في المعنى وهذا الشيء لا يمكن لأي شخص أن يتقنه .

تذهلني كعادتك بما تخط يدك السحرية مما تجود عليها خلايا مخك الرمادية .

تحياتي العابقة لهذا الموضوع الشيق ولقلمك الرشيق

عودي إلينا يا لطيفة

نصيرة تختوخ 07 / 04 / 2008 30 : 07 AM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
إنها الخامسة صباحا استيقظت لإنهاء بعد الواجبات قبل التوجه للعمل فتحت صفحة نور الأدب وهأنذا أجد لطيفة وابتسم.
تعجبني المفاجاأت والحكايات المختلفة التي تقفز من ذاكرة أوفكر إنسان عقلاني.
دمت بكل الخيرو أسعد الله صباحك... ذكرتني بجولتي في قصر فرساي ..
http://www.linternaute.com/histoire/...es/photo02.jpg

ميساء البشيتي 07 / 04 / 2008 29 : 08 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
استاذي الكريم هشام البرجاوي

ربما انا من المقلين في القراءة لمواضيعك الجميلة

لكني ما كنت لأفلت موضوع كهذا يفر من قبضة يدي

عنوان المقال (وانا أراها أقرب إلى الخاطرة ) عنوانها يدل على فحواها

وعندما أصبحت في الداخل ذهلت لرقة المشاعر المسكوبة في الخاطرة

فعلا خاطرة رائعة جدا ومؤثرة جدا واتمنى ان لا تتردد في المزيد

شكرا لك ودام قلمك البهي

هشام البرجاوي 07 / 04 / 2008 55 : 09 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
الأستاذة ناهد:
[align=justify]أسعدتني كلماتك الجميلة، و قد فوجئت بعمق حوارك مع ذكرى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها. لطيفة لن تعود يا أستاذة ناهد، فقد رحلت إلى العالم الآخر منذ سنين طويلة. و من خلال زياراتي المتكررة للمغرب فإنني زرت قبرها. لم أشأ أن أكشف رحيلها في النص، و لكن السياق الآن استلزمه.[/align]
تحياتي و تمنياتي الطيبة.

هشام البرجاوي 07 / 04 / 2008 58 : 09 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
الأستاذة نصيرة:
[align=justify]صورة الملكة ماري أنتوانيت هي من أيقظ في ذاكرتي صداقة عميقة قديمة، خلال زيارتي لغرفة تهييء الملكة في قصر فرساي ذهلت من قسوة القدر، السيدة ماري قالت لحراس لويس السادر عشر:" إذا لم يريدوا الخبز فأعطوهم قطع حلوى" بينما انهمك الملك في الإعداد للهروب.[/align]
مع التقدير.

هشام البرجاوي 07 / 04 / 2008 03 : 10 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
الأستاذة ميساء:
[align=justify]
هي خاطرة، و تبقى تذكرة للروح و سفرا مؤقتا إلى الأيام السعيدة، أريد أن أبتعد قليلا عن كآبة المقالات السياسية و قد أذيقها الطعم الأدبي كما هو الوضع في مقالة الفلوجة.
لطيفة كانت فتاة استثنائية، و لم أستطع نسيانها رغم ملامحها التي لم تحتفظ بها ذاكرتي.
[/align]

و عشت و عاش كل الطيبين.

نصيرة تختوخ 08 / 04 / 2008 38 : 07 AM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
ا ذا قدر لك أن تزور هولندا فعليك أن تزور قصر اللو بجوار مدينة آبلدورن والذي يعتبر قصر فرساي مصغر حيث يحتوي على نفس نمط الحدائق وأظن أشياء أخرى فيه استوحيت من فرساي.
أجد المثير نوعا ما في تلك القصور هو كل تلك الممرات و الغرف البروتوكولية إلى جانب علو السقف و الزينة التي يحملها أكتب هذا وتأتي لوحات رفائيل لزيارة مخيلتي...
ما أجمل إبداع الإنسان!!
تحياتي الصباحية

http://www.tourpress.nl/materials/pe...aal_Museum.jpghttp://www.wolseley-lodge.com/pictures/web/loobig.jpgالصور لقصر اللو Paleis het Loo

سلوى حماد 08 / 04 / 2008 24 : 03 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هشام البرجاوي (المشاركة 12481)
ما أروع أن يسافر الإنسان إلى غياهب الأيام الخوالي، لن تزعجه قتامة

الواقع، لكن الأهم من التجوال المطلق رفقة العقل، فهو وحده من يركب الإحساس، يوقد الحنين

و يسترجع الجمال المفقود.

أجد نفسي هنا امام كتاب من التاريخ يوثق علاقة انسانية مميزة ، من الأسطر الأولى احسست بأنه يجب علي ان اعتدل في جلستي واركز اهتمامي بما أقرأ لأن شيئاً في داخلي حدثني بأن السطور ستحمل لي تجربة انسانية عميقة من النوع الذي يشدني.

كثيرون يدخلون حياتنا بدون تخطيط ، فمنهم من يدخل حياتنا ويمضي دون ان يترك اثر، ومنهم يدخلها ليترك بصمة تبقى مطبوعة في وجداننا ، وبالرغم من غبار السنين المتراكم على الذاكرة
تبقى بصمة المميزين في مشوار حياتنا لامعة ، تطفو على سطح الذاكرة من وقت لأخر ،


نعم رائعة هي رحلات سفرنا المتكررة الى ايام الماضي ، خاصة اذا كان العقل رفيق الرحلة ،

اشعر بأن مواقف الماضي الجميلة هي القوت الذي يغذي وجودنا لنستمر في الحاضر ، نسترجع وجوه وحكايات ، فنبتسم ابتسامة تمحو كدر حاضر ملبد بغيوم واقع مرهق.

اسافر كثيراً الى الماضي ، اشد رحالي اليه لأستعير لحظات من الزمن الجميل ، واحاكي اناساً طيبين سكنوا حيزاً من ذاكرتي ، اجد رحلات سفري هذه كإجازة بعد سنة كاملة من العمل ، نحتاجه لنجدد نشاطنا ، اما السفر في الذاكرة فهو لتجديد انسانيتنا.

اخي العزيز هشام،
مقالة رائعة بكل المقاييس ، انسانية وادبية، نقشتها بإبداع انساني وحس مرهف ووصلت لنا كقراء بسلاسة مبهرة واستطعت ان توصل لنا رسالة مفادها بأن ما يبقى حياً بالذاكرة هي الاشياء الحسية والمشاعر الانسانية الجميلة خارج نطاق الجسد.

اتعلم اخي هشام ، لقد تذكرت هذه اللحظة ابن الجيران الذي كان عندما يراني العب بالشارع مع ابناء شارعنا يناولني قطعة من الشوكولا ويفر هارباً دون ان يتكلم ، اتذكره كلما اكلت قطعة من الشوكولا بالرغم من انني لا أتذكر ملامحه ولا أعلم شيئاً عنه.

رحم الله لطيفة ، اعتقد انها كانت انثى استثنائية بدليل وجودها حتى اللحظة في مخيلتك

اشكرك على هذا الرقي والإبداع،

دمت بكل الود،

سلوى حماد


هشام البرجاوي 08 / 04 / 2008 37 : 09 PM

رد: إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها...
 
أختي العزيزة الأستاذة سلوى:
[align=justify]ذكرى هذا الصديق تفسر لنا حبك العميق للشيكولاته. أشعر بالسعادة لأنني أيقظت في ذاكرتك أياما جميلة و صديقا عزيزا تغيب عنك ملامحه و في غياب الملامح سحر و رونق الذكرى. و مثلما أوردت في كلماتك الرائعة، فإن ما يترسب إلى أعماقنا الإنسانية هو السلوك، هو انسانية الإنسان.[/align]
لك كل التقدير أستاذتي الكريمة.



الساعة الآن 54 : 07 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية