منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   بلا أثر (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=33690)

ليلى مرجان 15 / 04 / 2020 35 : 07 PM

بلا أثر
 
بلا أثر
خرجن ذات ربيع زاه في نزهة إلى الغابة؛ يافعات في مقتبل العمر، تملؤهن الحيوية والنشاط. بعد الاستمتاع بيوم جميل قضينه يرتعن بين الأشجار المورقة والأزهار البهية الألوان، غادرن مقر الاستجمام عشية، في الموعد المحدد لقدوم سيارة الأجرة؛ التي تعاقدن مع صاحبها لإيقالهن ذهابا وإيابا بثمن مغر، لكن ندى تخلفت عنهن لانشغالها بجمع الفطر الذي تبْرَع في اختيار الصالح منه للأكل؛ وقد شُغفت بطراوته وشكله وكبرِ حجمه، ولتوغلها وسط الغابة الشاسعة؛ لم يصلها نداء صديقاتها اللواتي بدلنا جهدا جهيدا في البحث عنها، ولا صوت السائق الذي بدأ قويا وانتهى خافتا، نفذ صبر هذا الأخير مع غروب الشمس؛ فغادرن الغابة دونها وقلوبهن تعتصر حزنا، والعيون تذرف دمعا حارقا، وعلى الشفاه أكثر من سؤال، وانقلبت النزهة البهيجة هما وغما على مصير صديقتهن المحبوبة؛ ذات الوجه الوضاء كالبدر عند اكتماله.
بعد أن أسدل الظلام خيوطه بلل الندى عشب الغابة، وندى تائهة وسط الأشجار الكثيفة، لم تدرك بعدها عن صديقاتها حتى امتلأت سلتها القصبية بالفطر الشهي. أسرعت الخطى محاولة إيجادهن حيث كن يجلسن؛ لكن الظلام حال دون ذلك، وبدأ الخوف يسيطر عليها، تسارعت دقات قلبها، جف حلقها من شدة الصياح والنداء على صديقاتها، دبّ العياء في جسدها النحيل بعد أن استعصى عليها الخروج من الغابة الشاسعة؛ فكلما سلكت منحى للنجاة زادت توغلا وسطها، وباءت كل محاولاتها بالفشل؛ فافترشت رداء كتفيها القرمزي اللون الحريري الملمس، توسدت ركبتيها في جلسة القرفصاء، وغطت رأسها بكلتا يديها اتقاء الريح؛ التي انحنت لها أغصان الأشجار، واتقاء فزع الظلام، ثم استسلمت للبكاء؛ بكاء يفتت الصخر الصلد، ولم يغمض لها جفن.
عاتبت ندى نفسها على سلوكها المتهور؛ الذي أوقعها في بؤرة حزن لا مخرج لها منها إلا ببزوغ فجر الغد، والاهتداء إلى حضن أمها لتتدثر بدفء حنانه، عاشت أحاسيس متدحرجة على غيم رعب رهيب، وبينما الندم يقضم قلبها، سرى في ذاتها هواء ساخن همد له حفيف الشجر، وأحست بشيء يقترب منها، رفعت رأسها في شديد احتراس، هالها المشهد؛ عينان براقتان بلا وجه بلا جسد، انتصبت قامتها في سرعة البرق ترمق العينين العاليتين، والرعشة تسري في أوصالها، كبر حجم ما رأته، وارتفع تيار الضوء فيهما؛ حتى بدا جسدها شامة على وجه محيط وضاء وسط ظلام دامس، تخال المشهد لوحة بريشة فنان. وقف شعرها الليلي والعينان تقتربان منها، انتفخ رأسها وتعدى حِمل جسدها، داخت بها الغابة؛ كأنها تدور في كوكب منفصل عن جاذبية الأرض، شلت حركتها ثم غابت عن الوعي.
استفاقت على تسلل خيوط الشمس الذهبية من نافدة كبيرة تداعب وجهها الشاحب، وهي ترقد بلا حركة في سرير؛ يطوف حوله بعض من جيش أبيض احتاروا في أمرها، كل الفحوصات التي أجريت عليها تؤكد عدم تعرضها لأي اعتداء؛ حتى ثيابها لم تلوث، والحالة أنها عازب ببطن ينتفخ بشكل مهول وسرعة غير طبيعية. فتحت عينيها وظلت ساهمة شاردة الذهن، وكأنها أصيبت بصاعقة كهرومغناطيسية ذات فوتون عالي الترددات؛ ولم تفطن بأسرتها التي انفطر قلبها حزنا عليها، ولم تحس بدمع أمها المهتزة بزلزال الواقعة المدمر كاهل الصبر؛ فكلما حاولت لمس شعرها أو تقبيلها بحرارة كبد تمحو بها فوهة الخراب وتغطيها بعباءة الاطمئنان؛ استحالت بشرتها لونا ترابيا أفزع الجميع؛ وجعل منها حالة استثنائية تأهب ثلة من الأطباء لدراستها، وتتبع مراحل انتفاخ بطنها وكأنها تجاوزت مرحلة الولادة.
نهاية اليوم الذي استفاقت فيه؛ بعد أن أُخْلِيت الغرفة من زوارها وغادرها كل مراقب لحالتها، حين حل الليل بسواده البهيم وبقيت وحيدة دون أنيس، أحست بالحركة تدب في أطرافها وجسدها يعود إلى حالته، سرعان ما جحظت عيناها صوب العينين اللتين أضاءت سريرها، وتكرر نفس المشهد الذي رأته في الغابة ونفس الفزع الذي حل بها دون سابق إشعار، وهالها المنظر من جديد؛ فأجاءها المخاض. امتقع وجهها ولبس كل الألوان القاتمة، والعينان العاليتان دون جسد تقترب من بطنها، خافضتان رافعتان حجمه، وعيناها تكادان تتملصان من تجويفهما، وعلى شدة الجوع إلى الكلام خرس لسانها، وباتت على تلك الحالة إلى الثلث الأخير من الليل، في جو لا يسمع فيه إلا صوت الصمت الكثيف. وتمت الولادة بعد مخاض طويل غير عسير؛ لم تحس بألمه لكنها أدركت صعوبته لطول مدة الولادة، وخالت الجنين ضخما طويلا، لكنه لم يكن سوى عينان براقتان، ورأت عينين تحت عينان دون جسد، فأدركت أن الجنين في حضن دافئ. أسدلت جفنيها في حركة لا إرادية بعد عياء شديد، وخلدت للنوم.
صباح الغد أسرع الأطباء ليتفقدوا حالة ندى الفريدة من نوعها؛ أذهلهم ما رأوا؛ فتاة طبيعية في تمام الصحة والعافية، لا أثر لانتفاخ بطنها ولا أثر لجنينها، وهي تغط في نوم عميق بوجه آدمي مشرق، ومما زاد في دهشتهم حين استيقظت؛ أنها لم تع لما هي في مرقد المستشفى، فسجلت حالتها بما وراء الطبيعة.



خولة السعيد 15 / 04 / 2020 30 : 08 PM

رد: بلا أثر
 
مشوق نصك ليلى وبدايته كنت أرى فيها ندى تلك الصغيرة التي عرفناها جميعا بعشقها لجمع الورد .. إنها فلة، سينوهوييت.. وأولئك الذين ارتدوا ثيابا بيضا كأنهم الأقزام الذين حموها من شر الأشرار... والعينان .. اعين الأشجار المفزعة التي بدت لفلة ليلا بالغابة وهي تهرب من الشر إلى عالم خير الأقزام (ابتسامة)..
أبدعت ليلى.. وشكرا على الإمتاع

رشيد الميموني 15 / 04 / 2020 52 : 11 PM

رد: بلا أثر
 
هذا النوع من القصص يشد القارئ إلى آخر سطر ليجد نفسه أمام تساؤلات واحتمالات زهنا يكن سر جاذبية هذا الصنف من القصص وقد برعت فيه ليلى الى ابعد حد . وهو مانسميه La nouvelle fantastique اي القصة الغريبة أو الخارقة .
مزيدا من الإبداع المماثل
مع خالص مودتي

عزة عامر 16 / 04 / 2020 38 : 12 AM

رد: بلا أثر
 
جميلة ليلي ،ولعب الخيال دوره فأدخلني الغابة مع ندى وعشت أحاسيس الرعب التي عاشتها..
كانت ندى عندك ، سنوهوييت عند خولة ، بسنت عندي في قصة مرتجلة حكيتها ل ابنتي في صغرها ، وتوالت من ابنه إلى إبنه حتى اعتمدت كحدوتة بين الحواديت ..
دمت بخير وإبداع .

ليلى مرجان 17 / 04 / 2020 40 : 04 AM

رد: بلا أثر
 
كل الشكر لك خولة على قراءتك التي أعادتك إلى طفولتك.

ليلى مرجان 17 / 04 / 2020 47 : 04 AM

رد: بلا أثر
 
شكرا أخي الأديب رشيد على تعليقك الراقي الواعي
هي تجربة أولى في هذا النوع من القص.
دمت مشجعا

ليلى مرجان 17 / 04 / 2020 51 : 04 AM

رد: بلا أثر
 
راقني تجاوبك عزة مع أحداث النص
دمت بالجوار

يوسف المريني 17 / 04 / 2020 53 : 11 AM

رد: بلا أثر
 
قصة مشوقة استمتعت بها كثيرا . شكرا أستاذة ليلى

ليلى مرجان 20 / 04 / 2020 10 : 01 AM

رد: بلا أثر
 
كل الشكر لك أستاذ يوسف على حسن التذوق
دام حضورك بالجوار


الساعة الآن 45 : 03 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية