منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الرواية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=166)
-   -   حنيـــــــــــــن (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=5519)

نزهة المكي 07 / 07 / 2008 21 : 05 AM

حنيـــــــــــــن
 
حنيــــــــــــــــــــــن


بدأت الحياة تدب في أرجاء البلدة القديمة ، وخرج السكان من بيوتهم المتهالكة ينفضون عنهم غبار ليلة من الرعب و الدمار، ويكتبوا وجه الحياة والاستمرار...
على الجدران التي تلقت رصاصات الغدر في صمود ...شمخت صور الشهداء مجللة بالرهبة والعزة ...و على الارصفة المتربة عادت أقدام الجبابرة ترسم مسارها بكل عزم ...تحت نذر دمار قادم وموت يتربص بهم من كل جانب تعالت صيحات الباعة..ورنت ضحكات الصغار ...وضجت جنبات البلدة بأبواق السيارات وأصوات محركاتها المزعج ...و اكتملت صحوة الحياة....
فوق سطح بيت قديم مكون من دورين، كانت هناك امرأة عجوز تتحرك ببطء، لتأخذ مكانا لها تعودت أن تجلس فيه كل حين لترقب حركة الناس في الحي.و تدثر بناظرها الضعيف ما تيسر لها أن تدركه من المدى الممتد حولها إلى ما لا نهاية .
متلفعة في رداء اسود يضفي على وجهها الذي كسته التجاعيد نوعا من الوجوم و الحزن،وان كانت عيناها الغائرتان تشيان بالأمل و الرضا..أما جسدها النحيف فقد استقام عوده داخل عباءة فضفاضة تشكلت ألوانها و بهتت من القدم..
استوت العجوز فوق كرسي خشبي طويل القوائم يتيح لها أن ترى ما خلف سور سطحها و هي جالسة،و لحسن حظها انه لم يقم أمام بيتها أي بنيان يحجب عنها الرؤيا فتمتعت بمشاهدة أطراف قريتها القديمة حيث ولدت و ترعرعت .حتى جاء ذلك الإعصار الغاشم فاقتلع الشجر والبشر من التربة التي نسجت كيانهم و ألقى بهم في أماكن شتى من أطراف الوطن وخارج الوطن .
لا تفتا الذكريات تغيب عن ذهنها في مكانها هذا بل لا تستشعر وجودها إلا في هذا المكان المطل على ماضيها السعيد...ذكرياتها المغتصبة...و أحلامها المذبوحة..
ها هي الذكريات تتراقص من جديد أمام عينيها...و صور الماضي تخرج من ضباب الزمن البعيد،و تنتصب أمامها كمارد الحكايات القديمة..فتهز كيانها بصيحة مدوية...يختلط فيها الضحك بالنحيب.فيتحول رحيق الذكريات إلى مرارة في الحلق و تذوب الأماني داخل غصة في القلب...
تململت العجوز بآلامها..ورفعت رأسها نحو السماء و علقت ناظرها بذروة الأفق و هي تحرك الشفتان بما فاضت به روحها من صلاة و دعاء..
ما زالت المرأة مطرقة مفكرة ، حين امتدت إليها يد صغيرة شدت ذيل ثوبها..و نادتها بحنان.
-جدتي-جدتي..هيا بنا..الكل بانتظارك على مائدة الفطور ...
كان ذاك صوت حفيدها مصطفى..ابن آخر شهداءها حسن . زف إليها خبر استشهاده قبل ثلاث سنوات وترك لها ابنه هذا وهو في الثالثة من العمر وأخته فاطمة جنينا في بطن أمها راضيه.
ضمت الجدة كف الصغير إلى كفها ...ومضى بها ،تسابق خطاه الفتية خطاها التي أثقلها الكبر ...كأنه قاطرة المستقبل التي تجري في تحفز نحو الأمام ،وهي عربات الأيام والسنين التي تحفظ له ذخيرة العمر من كنوز التجربة ...


*****************************

...انفض الجمع عن مائدة الطعام المستديرة التي تتوسط بهو الدار و بقيت الجدة في مكانها تؤانس راضية أرملة فقيدها الشهيد حسن التي مازالت تطعم الصغيرة فاطمة ...
...شعرت الطفلة بالشبع وأعرضت عن لقمة كانت أمها تهم بوضعها لها في فمها.. قامت السيدة واتجهت نحو المطبخ حاملة في يدها ما تيسر حمله من الأطباق الفارغة..وتوارت الجدة نحو الخلف لتتكئ على وسادة مسنودة إلى الحائط ، ثم مدت ساقيها نحو الأمام لتريحهما من قعدتها القرفصاء التي كانت عليها وهي تأكل ...غاصت راضية داخل المطبخ وجاءت زينب لتستأذن أمها في الخروج لقضاء حاجيات البيت من السوق حاملة بين ذراعيها الصغيرة فاطمة التي لا تفارقها خاصة في مثل هاته المشاوير ...أذنت الأم لأبنتها بالانصراف ثم طبعت قبلة على جبين الصغيرة وأوصت زينب أن تكون كريمة في تلبية طلباتها ...أما مصطفى فقد كان داخل غرفته التي يشغلها مع عمه أحمد، يستعد للخروج مع جدته لزيارة شقيقها الشيخ عرفان لتبحث معه بعض مشاغل أسرتها، فهو كبير العائلة و المسئول عنها وعن أسرتها بعد وفاة زوجها...و صهرها أيضا لأن ابنها الأكبر خالد متزوج من ابنته آية ..وهو مقيم معه ويشاركه تجارته...أما أحمد أصغر أبنائها الذكور فقد انصرف مبكرا إلى عمله بمكتب إحدى المحطات الفضائية حيث يعمل كمراسل صحفي...
... خارج الدار كانت زينب تمشي في طريقها إلى السوق متجاهلة عيون جيرانها التي تخزها من كل جانب محاولة استفزازها للكلام أو حتى لإلقاء التحية ضاربة بخمارها الأسود حول رأسها و متلفعة في معطف بني غامق معانقة الصغيرة فاطمة التي أخفت جانبا من وجهها ... و كانت قبل نكبتها تمشي في هذا الطريق وفي غيره من طرقات الحي كالفراشة تنثر السلام والكلمات الحلوة على كل من يقابلها...
... حكايتها بدأت في هذا الطريق بالذات قبل أكثر من ثلاث سنوات .. والذي تحس أن كل حجر فيه يسخر منها.. وكل ذرة من ترابه تهمس وراءها بكل مشين.. أو تكاد تفر من تحت أقدامها وتتركها تهوى لأسفل درك ، حتى و إن أجمع كل أفراد أسرتها المكلومة أنها أول الضحايا ، وأن خنجر الخيانة الذي طعنهم قد نفذ عبر قلبها قبل أن ينال منهم ... ، لكن الشعور بالذنب لم يترك لها أي مجال للمصالحة لا مع نفسها ولا مع الحياة فباتت رهينة لليأس والضياع.
... كان اليوم خميسا ... أطل بشمس دافئة قلما يجود بها فصل الخريف البارد ... ، خرجت زينب لزيارة صديقتها الوحيدة راضية التي جمعتها بها كراسي الدراسة، ثم توطدت علاقتهما بالمصاهرة حين أصبحت زوجة شقيقها حسن، وكانت راضية في شهورها الأولى من حملها بفاطمة...،...وهي تمشي في الطريق لاحظت زينب أن هناك خطوات تلاحق خطاها... تنعطف خلفها عند كل منعطف... وتتثاقل و راءها كلما أبطأت السير ... شعرت الفتاة بالارتباك مع بعض النشوة ..فواصلت السير ... و ظل الشاب الرشيق يلاحق ظلها ويعاكسه ... ومضت هي ترسم عليه ملامح فارس أحلامها الذي طال انتظاره... عندما لمس الشاب منها بعض الاستجابة، أوسع خطاه نحوها و أطل على وجهها وألقى التحية...
هزت الفتاة رأسها ونظرت إليه باستغراب وقد غطت وجهها حمرة الخجل ، وأخذت ترمقه بعينيها العسليتان الواسعتان اللتان تنضحان بالسذاجة ...
... ذهلت الفتاة من جسارة هذا الشاب ... و لم تستطع حتى رد تحيته لما أصابها من ارتباك... أما هو فمضى يلتهمها بناظريه ... و يتفحص قسمات وجهها التي بدأت ترتعش من الارتباك و الخجل... ثم تدارك أمره و همس إليها...
ـ هل تسمحين لي بكلمة ؟
لم ترد الفتاة وتابعت المشي ...
أعاد الشاب سؤاله بإلحاح فيما يشبه المطاردة ....تمادت الفتاة في تمنعها وإن كانت الرغبة في مجاراته قد بدأت تضطرم في صدرها... و أخيرا قرر الشاب الإفضاء بما لديه لأن الظرف والوقت لم يكونا مناسبين للمزيد من المعاكسة من طرفه ولا التدلل من طرفها... فقال في شبه توسل ...
ـ ... إن غرضي شريف ... أرجوك أعطني فرصة فقط.. كلمة.. واحدة..
ولما آنس منها الاستجابة دس يده في جيب سترته واخرج منه بطاقة صغيرة قدمها إليها وهو يقول : .. مروان حامد العسكري ... في هاته البطاقة باقي بياناتي وقبل أن ينصرف عنها رجاها أن تحدد له موعدا للقائها كي تتيح له وقتا أوسع للتعارف و سألها إن كانت الساعة الخامسة من مساء الغد تناسبها و في نفس المكان ... وقبل أن تفكر أومأت برأسها موافقة . ا نصرف الشاب من أمامها وعلى وجهه ابتسامة الظفر و أخذ يرمقها من حين لآخر وهو يبتعد عنها بنظرات لا تخلو من خبث إلى أن غيبه أول منعطف .
.... أمسكت زينب بالبطاقة وأطبقت عليها بكفها دون أن تنبث بكلمة ، فالمفاجأة مازالت تخرس لسانها .. ، .. أخذت تمشي وقد ارتجف بالفرحة ممشاها ، تشد بقوة على بطاقتها وكأنها تشد على روحها كي لا تفيض منها ... أو على أيامها كي لا تضيع منها ... ماضيها بأحلامه الوردية ... حاضرها بهذا الإحساس الرهيب و الممتع ... آمالها التي كانت تتلألأ في سماء بعيدة والآن توشك أن تلامسها ...
... وصلت الفتاة إلى بيت شقيقها حسن ، وكانت تعلم أنه خارج البيت لأنه في مثل هذا الوقت يكون إما في العمل أو مع رفاقه المنتظمين في صفوف المقاومة ، فهو عضو ناشط رغم ما يلقاه من معارضة يشنها عليه خاله الشيخ عرفان الذي يبسط سلطته على العائلة ، وذالك ما أدى به أيضا إلى الزواج المبكر حتى يبتعد بقناعاته عن مضايقات خاله له وإن كان يفعلها خوفا عليه ...
... طرقت زينب الباب بكل ثقة بكلتا يديها محدثة إيقاعا جميلا و تأهبت لتزف البشرى لراضية ، فأتاها صوت المرأة الواهن من الداخل يسأل من الطارق و يطلب التريث ، وبعد لحظات قليلة فتحت راضية الباب ، فطالعتها زينب بوجه يشع بالبهجة و البشر و حيتها بشوق ثم التقطت الصغير مصطفى من الأرض بعد أن ترك ذيل ثوب أمه الذي كان يتشبث به وهو يسابقها نحو الباب عله يجد سبيلا للخروج من سجن البيت أو يأتي أحد من الأقرباء ليخلصه من جبروت والدته التي لا تكف عن تأنيبه و تقييد حركته ، ارتمى الطفل في أحضان عمته و ابتهج إذ جاءه الخلاص ...
ما أن استقرت الفتاة في غرفة الجلوس حتى بدأت تتدفق بالكلام و السعادة و النشوة تغمرانها ...
قصت زينب تفاصيل اللقاء القصير الذي جمعها بذلك الشاب ، و بعد أن انتهت تنبهت إلى اسم الرجل الذي لم يكن غريبا عليها ، فسألت راضيه إن كانت قد سمعت به من قبل فكررته راضية "مروان حامد العسكري " وهي تحاول التذكر لكنها لم تفلح في ذلك و قالت محاولة التقليل من المسألة ...
ـ ... أعتقد أن مثل هذا الاسم شائع ويمكن أن يمر على مسامعنا مثله في أي وقت عموما غدا ليس ببعيد و سوف نعرف قراره ...
... اتفقت المرأتان على كتمان الأمر عن العائلة حتى تتأكد الفتاة من صدق مسعى الرجل و حسن نيته ...
... في الوقت الذي كانت فيه المرأتان تنسجان ثوب الفرحة ، وتتهيآن لزف الخبر السعيد للأسرة العطشى لمثل هذا الحدث ، الأسرة التي أضناها القهر و الأحداث المرعبة ، كباقي الأسر المنكوبة بفعل الاستعمار الصهيوني ، فباتت تتوق لأي همسة أو نسمة تحمل لها السعادة ... في هذا الوقت كان حسن مع بعض رفاقه في المقاومة يهيئون لزفة أخرى بطلها أحد التواقين لحجز مكان له داخل الخيمة الكبيرة التي تضم أعراس الشهادة ...
فور خروجه من بيته صباحا ، التقى حسن بأحد جيرانه الذي ود مرافقته في الطريق ، للاستمتاع بصحبته وتبادل الحديث معه بخصوص مستجدات الأحداث التي تعود حسن أن يكون ملما بها ، محسنا تحليلها و التعليق عليها بأسلوبه الشيق الذي تمتزج فيه الجدية والطرافة وحضور النكتة ، الشيء الذي جعل كل من يعرفه يحبه و يحترمه ويهفو إلى صداقته . لكن هذه المرة خاب أمل الجار في حبيبه حسن ، لأن الرجل بدا عليه الانشغال و بعض الاضطراب و لم يبدي لجاره أية رغبة في الكلام بل سارع في التخلص منه بلباقة مدعيا أنه مرتبط بموعد هام والوقت يداهمه .
سار حسن مسرعا نحو الشارع الكبير الذي يفضي إليه حيه ليستقل سيارة توصله إلى هدفه . ولم يطل انتظاره إذ توقفت أمامه سيارة أجرة بداخلها بعض الركاب و تطلب المزيد ، فاندس حسن داخلها ، و قبل أن يهنأ في مكانه اندفع رجل آخر وراءه وحاول إدخال جثته الضخمة في السيارة المتهالكة ، فأفسح له ركابها المكان الذي يكفيه بقلوب رحبة ، و روح مفعمة بالحب والتعاون ، الشيء الذي زاد من حرج الرجل و امتنانه ، و حمرة وجهه وتصبب عرقه أيضا رغم الجو البارد الذي يغطي البلدة .
... بعد رحلة مضنية ، توقفت السيارة عند ناصية شارع كبير ، تصطف على ضفتيه بنايات كثيرة تخترقها طرقات وأزقة يتدفق منها و إليها أناس على وجوه معظمهم سمات البؤس في المعيشة و في عيونهم ظلمة القهر ، لكن شعاع الكبرياء والحزم مازال متوهجا فوق هامتهم المرفوعة ، و قوة التحدي والعزم معقودة في قبضاتهم السمراء التي ترعب الأعداء حتى وإن احتضنت حجرا ! . و كان كلا المجمعين السكنيين أشبه بقريتين تغطيهما مساحات شاسعة من المنازل الفقيرة بدل الحقول ، تزاحمت والتصقت في تلاحم عجيب ، وكأنها تتحامى في بعضها وتعلن وحدتها و توحدها أمام العدوان لرده و دحره رغم تباين أشكالها ، من حيث الارتفاع أو المظهر ، إذ أن بعضها كان يتطاول نحو السماء بأدوار عدة و أخرى تنحني و تتضاءل بفعل الهدم و التدمير المقصود أو بسبب ضيق ذات اليد لأن سكان الحيين هم من المهجرين من مدنهم و قراهم التي احتلت و الذين سلب كل ممتلكاتهم ، ثم ألقي بهم في هذه الأراضي التي صارت مخيمات تأويهم و اتسعت باتساع نكبتهم و مأساتهم إلى أن صارت أحياء و مدن و يواصلون فيها إصرارهم على الحياة و الاستمرار ...
... اخترق حسن أحد الأزقة الواقعة في الحي السكني الواقع على يمين موقف السيارة ، و سار مسرعا تغيبه منعطفات و تظهره أخرى ، ضائعا بين زحام المارة و صدمات يتلقاها من أطفال منطلقين كالسهام وهم لاهون ، عابثون بمخلفات جيش الرعب و الاحتلال من بقايا الطلقات و الشظايا التي حصدت بلا شك أرواح بعض أترابهم ... و متأهبة في كل لحظة أن تعاود التساقط على رؤوسهم دون سبق إنذار أو تحفظ ...
... بعد مسيرة عدة دقائق ، توقف حسن أمام بيت ينتصب في دورين فوق مساحة صغيرة ، لم ينجو بدوره من التشويه في المنظر إذ تصدع من أحد جدرانه ، و لحقت واجهته ثقوب و تشققات أحدثتها رصاصات الغدر وصواريخ الدمار التي تانهال على الحي من آن لآخر .
طرق حسن الباب ففتح بسرعة وكأن صاحب الدار كان خلفه ، امتدت له يد بالسلام ، وضمت كفه واجتذبته نحو الداخل في ترحاب شديد ، عانق حسن مضيفه و قبل جبينه ثم دلف الاثنان نحو الداخل .
كان صاحب البيت في أواخر الخمسينات من العمر ، يتكئ في مشيته على عكاز لأن رجله اليسرى كانت مبتورة ، وعلى خده الأيمن آثار حروق بليغة غطت محيط جفنه و أطفأت نور عينه ، أما فمه الذي أظله شارب أشيب فقد فقد جل قواطعه و اكتفى ببعض الأضراس المتآكلة التي تظهر كلما شرع فمه وهو يضحك لأتفه سبب كعادته ، حتى وإن كان في حالة عصبية ، تتناثر على صدره شعيرات بيضاء يرى من يمعن النظر بينها وشم صليب صغير باهت الاخضرار ، يفخر الرجل به كثيرا ويعتز بكونه وضع على صدره أثناء زيارة له لكنيسة المهد من طرف رجل فاضل يعمل داخلها .
كان هذا الرجل هو العم مرزوق ، أو أبو عيسى كما يحب أن يناديه حسن ورفاقه حتى يميزوا بينه و بين رجل آخر له نفس اللقب لكنه مسلم وينادونه بدوره بأبي محمد و إن لم يكن لكليهما ابن يسمى بهذا الاسم أو ذاك .
ترجع أسباب إعاقة العم مرزوق والتشوهات التي أصابت جسده إلى اعتداء غاشم
تعرض له أثناء قيامه بواجبه كعضو في طاقم إسعاف ، حين هرع هو و بعض رفاقه إلى مكان تعرض لقصف جوي بهدف تصفية أحد الناشطين في صفوف المقاومة وبالطبع لم تأبه قوات الغدر بالأبرياء الذين يعج بهم المكان ، فأرسلت على الجميع حمم أحقادها ، و لم تستثني منهم حتى ملائكة الرحمة الذين يرتدون ثوب السلام الأبيض ، و الذين لا يمكن أن يتواجدوا في مكان إلا لتقديم المساعدة و تضميد الجراح .
وهكذا نال العم مرزوق نصيبه من المأساة التي توزعت على أرضه و إخوانه من البشر الذين ابتلوا بمثل ذلك العدو .
... ومازال العم مرزوق وزوجته يذكران ذلك اليوم المشئوم بكل تفاصيله ....
عندما تلقى المستشفى الذي كان العم مرزوق يعمل به كمسعف و زوجته مريم كممرضة طلب استغاثة ، خف الرجل مع بعض رفاقه إلى مكان الحادث لإغاثة المصابين ، وعند مشارف الحي المنكوب ، تلقت سيارة الإسعاف التي كانت تقلهم صاروخا لقطع أية فرصة للنجاة أمام المصابين ، فاستشهد جميع رفاقه و نقل هو إلى المستشفى بين الحياة و الموت ، وقد تمت نجدته على يد المتطوعين الذين يهبون لإنقاذ المصابين عند كل اعتداء ، وكان بينهم هاته المرة حسن الذي قاده حسه الوطني و روحه التي تعشق التضحية و الفداء إلى عين المكان فور سماعه لذوي الانفجار الأول، و شارك في تقديم المساعدة وحمل الجرحى إلى السيارات المدنية قبل سيارات الإسعاف التي لا تفي في الغالب بالحاجة لقلتها و كثرة من هم بحاجة إليها . وقد أظهر حسن شجاعة لا توصف في عملية الإنقاذ وذلك عندما تقدم نحو سيارة الإسعاف المنكوبة وألقى بنفسه بين ألسنة اللهب لينتشل العم مرزوق الذي علق داخلها وهو يصارع الموت المحقق غير مبال بالخطر المحدق به.
... لم يدري العم مرزوق كم من يوم مر عليه وهو في غيبوبة رحمته من الشعور بألم لا يمكن أن يستحمل ، و خلال رقوده بالمستشفى كان حسن يواظب على زيارته ليطمأن عليه وعلى باقي الجرحى . و ذات صباح ذهب لعيادته كالعادة ، و عند باب غرفته سمع أنينا واهنا يصدر عن المريض ، فطرق الباب ليعلن عن وجوده ، فاستقبلته السيدة مريم بعيون دامعة تكسو وجهها ابتسامة أمل ، وهرولت نحوه وأمسكت بساعده وجذبته نحو مريضها وهي تهتف
ـ ... لقد عاد إلينا مرزوق ... لقد استفاق من غيبوبته ... !
أطل الشاب على وجه المريض الذي كان يغطيه دماض أبيض ، و انحنى عليه و قبل جبينه ثم هنأ أسرته التي كانت متحلقة بسريره والتي كانت تتكون من ابنه فادي و ابنتيه عزه و غادة . مكث حسن قليلا مع هذه الأسرة الصغيرة ثم استأذنهم في الانصراف و وعد السيدة مريم التي رجته المكوث معهم قليلا بالعودة لاحقا .
... غادر حسن غرفة المريض تخالجه الفرحة و الارتياح إذ اطمأن على العم مرزوق الذي غامر بحياته في سبيل إنقاذه ، وإن كانت الحسرة عمن فقدوا مازالت تمزق قلبه .
عندما زار حسن الرجل المريض لاحقا وجده شبه معافى من جروحه ، وفور أن تقدم من سريره حتى هتفت زوجته ...
ـ ... هاهو ذا حسن مصطفى أبو العز ... !
تحامل الرجل المريض على نفسه ، وأراد القيام من سريره ليأخذ الشاب في حضنه فقد قصت عليه زوجته قصة نجاته وكيف كان حسن بطلها . لكن الشاب منعه من ذلك وبادر هو إلى احتضانه ، فأوسع له الرجل مكانا فوق سريره ليكون أقرب منه وشكره على كل ما صنع من أجله ، فاعتذر الشاب وقد أصابه الخجل من كلام الرجل والموقف الذي وجد نفسه فيه وهو محاط بأفراد أسرته وبعض زواره الذين أخذوا يرمقونه بنظرات الإعجاب والامتنان ، وقال ...
ـ ... لا تشكرني على واجب أديته ، فذلك أقل شيء يمكن أن أقوم به تجاه رجل جعل رسالته في الحياة إسعاف الآخرين و مهمته في وطن محتل مقاومة الهلاك الذي يمطره عليه عدو لا يرحم ، فيسارع إلى إنقاذ ما يمكنه إنقاذه كلما حل البلاء معرضا حياته للخطر دون أن يأبه .
غير العم مرزوق مجرى الحديث وسأل حسن عن أهله وأحواله ، فاستغرق الرجلان في حديث حميم ، ومن ثم توطدت علاقتهما إلى أن غيبهما الموت تحت سقف واحد .. لأجل هدف واحد ..و ضد عدو واحد و إن كان دينهما ليس بواحد ..

يتبـــــــــع


الساعة الآن 42 : 04 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية