![]() |
العزاء - قصة قصيرة - نزار ب. الزين
[align=CENTER][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]
العزاء قصة قصيرة نزار ب. الزين* [/align][/cell][/table1][/align] جلس فادي على حافة الشرفة ، و أخذ يتأمل منظر الوادي الخلاب ، تملؤه أشجار الصنوبر كآلاف المظلات الخضراء تنتشر في كل مكان، بعضها ينحدر عميقا إلى قعر الوادي بينما يرتفع بعضها الآخر حتى حواف القمم ؛ التلال كلها و الجبل مكسوة بها ، عدا مساحة صغيرة في قمة الجبل الشرقي ، ظلت عارية . و ثمت كتل صغيرة من الغيوم تسرع خطاها نحو الجبل و قد بدأت تلعب لعبة التحول ، تغير شكلها في كل ثانية فتثير خياله ؛ تارة يراها كحيوان جامح فقد رأسه ، و تارة على شكل رأس فتاة بلا ملامح ، و حينا تأخذ شكل سمكة لا تلبث أن تتطور إلى فيل ، أو شكل تنين متعدد الرؤوس لا يلبث أن يفقد رؤوسه الواحد إثر الآخر ، كتل تتزايد مع اقتراب المغيب و تتسارع على إيقاع نسمات صيفية عليلة ، ثم تلتقي جميعا عند سفح الجبل فتتراكم هناك في كتلة ضبابية أخذت تتضخم شيئا فشيئا . أحس فادي اللحظة بقشعريرة ، فارتدى على الفور سترته ، ثم عاد إلى تأمل المنظر الذي لا يمل و لن يمل تأمله ، بينما بدأ الناس نساء و رجالا ، شبانا و شيبا ، يتمشون أزواجا أزواجا ، ذهابا و إيابا ، على الطريق المؤدي إلى قصر البيك . كان يفكر: هل موت بقرة يثير كل هذا الإشفاق ؟ لم تبق عائلة في القرية الأم أو في ضواحيها العالية ، إلا و زارت عائلة نعمة الله معزية : - " المال و لا الرجال يا روز ، المال و لا الرجال يا مطانيس " الأم بكت ، و الجدة بكت ، و الأب قطب جبينه ، و الناس ظلوا يتوافدون : " المال و لا الرجال " " الله يصبركم .. الله يعوضكم " و في العصر إمتلأ البيت عن آخره ، بعض النساء ارتدين السواد ؛ و عبارات مثل : " المال و لا الرجال يا أم كميل ، عوضكم على الله يا أبو كميل " تستمر و تتكرر. أما دعد ابنتهم ذات الثلاثة عشر ربيعا ، فلم تخرج اليوم بطوله من المطبخ ، تطهو دِلال القهوة ، دلَّة بعد دله ، حاولت جدتها العجوز مساعدتها فكسرت بيدها المرتجفة بعض الفناجين ، فنهرتها دعد ثم دفعتها بقسوة إلى خارج المطبخ و كادت تلقيها أرضا . يا لها من فتاة شرسة ، بالأمس طردت جميلة و أهلها شر طردة ، لأسباب لا يزال يجهلها ، و اليوم تعامل جدتها بمنتهى القسوة ؛ في الثالثة عشر و لكنها تتصرف كسيدة صارمة و محنكة في الأربعين . عاد الآن كميل من عمله في بيروت ، حضن أمه مواسيا ، ثم حضن أباه معزيا ثم جلس يستقبل مع أبويه مزيدا من المعزين : " المال و لا الرجال يا أبو كميل " " الله يعوضكم يا كميل و البركة فيك " "الله يصبرك يا أم كميل " و دعد في المطبخ مستمرة بطهو دِلال القهوة ، و فادي مستمر بتأمل المنظر الخلاب ، فقد بدأت أضواء القرى الصغيرة المتناثرة على سفح الجبل الشرقي و وادي الصنوبر ، تتلألأ و تتكاثر ، و انتشر الضباب الآن في الوادي كله و بدأ يغطي كل شيء . بعد انصراف آخر المعزين ، دخل فادي إلى غرفة الجلوس و استرخى بقرب كميل ، كانت دعد قد أعدت العشاء ، فجلسوا جميعا يتناولونه ، بينما كان الصمت يخيم فوق رؤوسهم جميعا ، و ما لبث كميل أن قطعه : - لا تبتئسا يا والديَّ ، فقد تجمع لديّ بعض المال ، كنت أوفره لمصاريف فرحي ، سأعطيك إياه يا أبي ، لتشتري بقرة بديلة . - الله يرضى عليك يا إبني ، احتفظ بنقودك في جيبك ، ففرحي بك يعوض ألف بقرة ! و بعد إلحاح من كلا والديه أجابهما راجيا : - أوافق شريطة أن تكفا عن الحزن و الأسى ! ثم إلتفت نحو فادي متساءلا : - و أنت ما يحزنك يا فادي ، البقرة أم جميلة ؟ فضحك الجميع ، فتظاهر فادي بالضحك محاولا إخفاء خجله الشديد ، و لكن أبو كميل أشار نحوه قائلا و هو لا زال يضحك : - أنظروا إلى وجهه لقد أصبح كالشمندر المطبوخ ! فانفجرت موجة جديدة من الضحك ، ثم علق كميل : - مؤكد ، لو كان فادي يحمل سلاحا في تلك اللحظة لما توانى عن قتل دعد . فانفجر بركان ضاحك جديد ، دفع فادي إلى الإنسحاب إلى فراشه . ***** عائلة نعمة الله ، من ذوي الدخل المحدود في ضيعة ضهر الهوا ، تملك المنزل ذا الغرف الأربع في طابقين و قطعة أرض مجاورة تزرع فيها أم كميل الكرمة ، و بضع شجرات صنوبر ؛ و في الصيف تؤجر الغرف لمصطافين من مدينة بيروت ، و فادي و أهله من هؤلاء . أما الجدة فتخبز خبز الصاج و مناقيش الزعتر صباح كل يوم سبت ، فتأكل العائلة بعضه و تبيع بعضه ، أما بقية أيامها فتقضيه في الغابة تجمع الأغصان و الأوراق المتساقطة من أشجار الغابة ، لتستخدمها - من ثم - وقودا لصاجها . و كانت البقرة المرحومة ، تنتج لبنا حليبا يفيض منه الكثير ، فتبيعه أم كميل للمصطافين في بيوت القرية الأخرى ؛ ثم مرضت ، فأحضروا لها طبيبا بيطريا ، الذي تكهن أنها ربما أكلت من نبات سام ، و أنها لن تعيش طويلا ، و ينصح العائلة بذبحها على ألا يأكل أحد من لحمها ؛ و لكن أم كميل رفضت الفكرة فتركت بقرتها تموت ميتة طبيعية . أما كميل الذي لم يحصِّل من العلم إلا على الشهادة المتوسطة ( البروفيه ) ، فقد دخل إحدى المسابقات التي أهلته لوظيفة في إدارة الهاتف الآلي المحدثة ، و لكن دعد رفضت أن تكمل إلى أكثر من الصف السادس . ***** عائلة لطيفة يعاملون فادي كأنه واحد منهم . و لكن ترى لِمَ تصرفوا هكذا مع جميلة و أهلها ؟ و كيف سمحوا لدعد و هي لا زالت طفلة لم تتعدَّ الثالثة عشر ، أن تشتمهم و تقذفهم بالحجارة ؟ ترى هل تأخروا بدفع الإيجار ؟ أم لأنهم قطفوا بعض العنب من الكرم ؟ أم لأنهم إستهلكوا مزيدا من الماء فوق ما هو مقنن لهم ؟ ثم أين و كيف سيلتقي بجميلة بعد هذا الذي حصل ؟ إنه لا يعرف حتى عنوانها في بيروت . كانت هذه التساؤلات تلح عليه قبيل أن يختطفه النوم . ***** توجه أبو كميل منذ الصباح الباكر إلى قصر البيك فقد كان (جنايني) القصر . و توجه كميل إلى دار خطيبته لتناول الإفطار بدعوة من أهلها . و توجهت أم كميل إلى الكرم لتغطية عناقيد العنب التي بدأت تغزوها الدبابير . و جلس فادي على الشرفة و بين يديه أدوات الرسم و بدأ يرسم قصر البيك و مدرجات الكرمة من حوله ، تقدمت منه دعد متسائلة : - ألا تمل الرسم ؟ فأجابها مبتسما : - إطلاقا ! و سألتحق يوما بمعهد لتعليم الرسم ، أجل ، أنا لا أمل الرسم و لا أضجر من عشق الطبيعة .. - و عشق البنات الفاسدات . أجابته ساخرة ، فقطب فادي جبينه ، مستاء و مستغربا ، ثم سألها ببعض غلظة : - ماذا تقصدين ؟ - أقصد ما رايته ؟ - و ما ذا رأيت ؟ ترى هل جاء دوري ؟ - حسابك فيما بعد ! - حسابي ؟! سألها بمزيد الدهشة ؟ ثم أضاف: – ما هذا الغموض و الأسلوب الملتوي ؟ أفصحي عما يدور بخلدك ! صمتت قليلا ثم أجابته متحدية : - أنت و جميلة ، قتلتما البقرة ؟ - أنا ؟ ما هذه الفرية يا دعد ؟ - شاهدتكما و أنتما تخرجان من غرفة التبن أكثر من مرة ! - أنت تتخيلين ! - بل كانت آثار التبن عالقة على ملابسكما في كل مرة ! . - ألهذا السبب طردت جميلة و أهلها ؟ - لهذا و لغيره ! - لو كان كلامك صحيحا لما صمتِّي ، فلسانك أطول منك ! - سكتّ كي لا أسبب لك مشكلة أو فضيحة ! قالت هذا و قد إشتعل وجهها حتى بدا بلون الجمر ، ثم ولّت هاربة. -------------------------------------------- * نزار بهاء الدين الزين سوري مغترب عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب ArabWata الموقع : www.FreeArabi.com |
الساعة الآن 10 : 11 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية