منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الرواية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=166)
-   -   رواية معنى الوطن 1 _ 6 (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=8602)

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 05 : 02 AM

رواية معنى الوطن 1 _ 6
 
( أ )

كان الجو غائماً فى البيت ، فالأم - تؤيدها الجدة بقوة - توبخ الجميع لتقصيرهم فى
حق البنات .
والبنات لم يعدن بنات ، أصبحن أمهات . والأم تصر على أن لهن حقاً علينا
ولابد أن نؤديه .
الجدة - مثل الأم - ضجرة متبرمة ، لكنها تحافظ على هدوئها ، حتى وهى توجه
لنا اللوم :
- أنتم ثلاثة رجال ، وهن أيضاً ثلاثة . فهل كثير على الرجل منكم أن يتحمل
مواسم أخت واحدة .
حاولت مجادلتها :
- لقد أصبحن أمهات ، وهذا ليس أول أو ثانى رمضان يأتى بعد زواجهن .
ترد فى حسم :
- هذه عادة ولن نقطعها
- لكن المواسم لاتنتهى ، فى كل شهر هجرى موسم .
يحاول محمد أن يحصى المواسم :
- 27 رجب ، 15 شعبان ، ورمضان فى أوله الياميش والمكسرات وفى منتصفه
الكنافة والمشبك وبعده العيد ولابد من العيدية .
لا تتركه الأم يكمل :
هذه حجة من رفع يده عن مسئوليات عائلته ، لقد انشغلت بنفسك
و زوجتك عنا .

يحاول محمد أن يعيد كلامهما لى :
- زوجته ستلد خلال أيام ، فمن أين له بتكلفة الولادة إن أنفق قروشه على
الياميش .
تغيظه الأم :
أنت وابنى الكبير جمال بتوع نسوانكم ، والشهامة ليست بالعمر ،
بطنى لم تحمل إلا غريب .
تؤمن الجدة على كلامها ثم تختم بالدعاء :
- ربنا يرده سالماً .

***
لكن غريب لم يعود .
فاتت الساعات على موعده ولم يحضر .
خرج اليوم - ككل يوم - عقب آذان الفجر ، على الكتف يحمل الكرتونة ويغادر
مصحوباً بدعوات الأم والجدة .
قال وهو يغادر :
- السوق اليوم بعيد والكرتونة ثقيلة .
" بالأمس اشترى الكرتونة فارغة من غندورة بائع الفاكهة . دفع فيها جنيهين .
فتحها فشممنا رائحة التفاح الذى باعه غندورة .
ساعدته فى إعداد بضاعته . فتح كرتونة الأكواب الزجاجية . وضعها إلى جوار
جردل الماء . يغسل الأكواب ويجففها ، ثم يناولها لى . أضع كل دستة أكواب فى
كيس ، أغلق الكيس جيداً وأنواله لزوجتى ، فمهمتها رص الأكياس فى الكرتونة
التى كانت للتفاح .
لما انتهى أحصى الأكواب المكسورة . زفر بأسى :
- دستة وكوبايتين . كثير والله

سألنى عن عدد الأكياس التى رصتها زوجتى .
راح يتمتم وهو يحسب التكلفة النهائية لكل نصف دستة قبل أن يحدد
سعر البيع .
ولما انتهى أغلق الكرتونة ربطها بالحبل وقام لينام .

هذا ما يفعله كل ليلة . وفى الفجر التالى يخرج حاملاً بضاعته ليعود مع
العصر منهكاً .
قد يبكر قليلاً أو يتأخر قليلاً لكن لم يحدث قبل اليوم أن تأخر حتى
غروب الشمس .

( ب )

خالف الأب عادته اليومية .
صلى المغرب ولم ينتظر بالمسجد حتى صلاة العشاء .
أسرع بالعودة ، سمعته يسأل عن غريب ، وسمعت الجدة تجيب :
- ربنا يرده بالسلامة .
دلف إلى الحجرة . كانت الأم تبكى . حاول طمأنتها . لم يفلح ، فهو أيضاً قلق .
تشاغل بالتليفزيون. سألنى إن كنت أعلم مكان سوق اليوم . أجبت بالنفى .أشعل سيجارة .
شد نفساً عميقاً . ثم رماها . أطلق الدخان وسعل . داس السيجارة بحذائه وهو يغادر
الحجرة . هتف بأعلى صوته منادياً محمد . عاد للحجرة وهو يفرك أصابعه . جاء محمد
فأمره :
- شف لى أصحاب غريب .
- سألتهم جميعاً . لم يره أحد اليوم .
أما يعلم أحدهم أى سوق قصد اليوم ؟
- لم يخبر أحداً بذلك ، والمشكلة أن أسواق يوم الأربعاء كثيرة ومتناثرة قبلى
و بحرى .
راح محمد يعدد أسماء الأماكن التى تشهد أسواقاً يوم الأربعاء ، استبعد أبى
الزقازيق والمنصورة فغريب لم يذهب إليهما من قبل . أقصى مسافة قطعها كانت إلى أشمـون .
قالت أمى أن قلبها يحدثها بأن أهل خطيبة غريب السابقة قد آذوه . ذكرتها بأنهم هم
الذين فسخوا الخطبة وأنهوا العلاقة تبكى قائلة :
- طوال عمره وبخته قليل . منذ مولده .
ينفث أبى غضبه فى التليفزيون . كان المتحدث يتهم غريبا بالتسول . تحدث عن مثل
مهنته واصفاً إياها بالهامشية ، وإنها أقرب إلى التسول منها إلى العمل وراح يعدد
أضرارها على الاقتصاد القومى لكن أبى لم يدعه يكمل العدد ، هتف فى محمد .
- اقفل على ابن الـ…… هذا ، والبيوت المفتوحة من هذه الأعمال تخرب . هذه
الأعمال تخرب الاقتصاد القومى ولا تخربه سرقة أموال البنوك وتهريبها
للخارج .
أغلق محمد التليفزيون . حاولت تهدئة الأب فلم يهدأ . واصل كلامه :
- تعليم و اتعلم . دخل الجيش وخرج وشغل مفيش . يعمل إيه ..يسرق
ولا يموت . ؟
تضاحك محمد :
اهدأ يا حاج . هو لا يقصد غريب .

لم يرد الأب . أشعل سيجارة . نفث دخانها باتجاه السقف . تابع فأراً يندس فى شق
بالحائط .
هبطت عيناه إلى التليفزيون المغلق . بسرعة صعد بهما إلى صورة جمال عبدالناصر
المعلقة على الجدار توقف عندها قليلاً ثم تجاوزها إلى صورته الشخصية . كان شاباً يرتدى
الزى العسكرى . قال :
- اتصورتها فى سبتمبر 73 ، آخر إجازة قبل الحرب .
انطفأت سيجارته . أشعل غيرها . لم يطل صمت الأم عاودت اتهامها لأهل خطيبته السابقة.

( ت )

تعرف غريب على خطيبته السابقة فى أحد الأسواق . أصبحا يلتقيان كل يوم
أربعاء . بعد شهور فاتح الأب برغبته فى الزواج منها . تذكر الأب صديقاً فى نفس القرية
. لم يره منذ خرجا من الجيش مع نهاية 1977 . قرر أن يذهب إليه ويسأله عن أهل
الفتاة ، ولم يعلن رأيه قبل ذلك .
اصطحبنى الأب إلى قليوب ، و منها ركبنا سيارة ميكروباص إلى القرية . سأل
السائق عن الصديق ، فأنزلنا بالقرب من منزله . رأيت الصديق طويلاً جاحظ العينين ،
كان شاحباً ويزداد شحوبه كلما ضحك . ضحك كثيراً هو وأبى وهما يتذكران الزملاء
ونوادرهم لكن الضحكات غادرتهما وهما يترحمان على شهداء اللواء 25 مدرع .
ترددت كثيراً كلمات السويس وجبل عتاقة والحصار . ولم ينه حديث الحرب إلا
نقرات على الباب . قال الرجل :
- أدخل يا جمال .
دخل شاب فى مثل سنى . قال أبيه ضاحكاً :
- له نفس اسمك .
صافحنا الشاب ثم خرج ليعود حاملاً الطبلية وضعها فى منتصف الحجرة ، وفرد فوقها
صحيفة قديمة . خرج مرات كثيرة وفى كل مرة يعود حاملاً طبقين . كل طبق بيد . ولما
امتلأت الطبلية أحضر دورق المياه وأغلق الباب .
أثناء الأكل تذكر أبى الغرض الحقيقى من الزيارة .
سأل صديقه عمن اختارهم غريب ، تجشأ الصديق وهو يمتدحهم ، وبعدما شربنا الشاى
أصر الرجل على أن يصطحبنا إليهم . حاول أبى التريث لكن الرجل زجره وذكره بان خير
البر عاجله .
( ث )

طالت الخطبة 16 شهراً ، لم يطق أهل الفتاة صبراً ، لاموها لرفضها ابن عمها العائد من
السعودية قالوا :
- أثرت الصايع .
البنت طالبت غريبا بأن يفعل شيئاً ، أهلها أمهلوه شهرين وبعدهما ردوا له الشبكة .
بكى غريب ، و لامتنى أمى :
- منك لله أنت السبب . أنت الذى شجعته على الرجوع من السعودية .
" كان غريب دائم الشكوى فى رسائله من إذلال الكفيل له ، بدا راغباً فى العودة لكنه
يخشى اللوم أراد أن يقول له واحد منا عُد ليعود ، قلتها له فعاد ، لم أستطع أن أجد له
عملاً . فلم يجد مثل أغلب شباب أبو النمرس . إلا كرتونة يحملها كل فجر ويدور بها
على الأسواق " .

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 07 : 02 AM

رواية معنى الوطن 2
 
( ج )

أخبرني محمد بأن جميع زملاء غريب توقعوا أن تكون الشرطة قبضت عليه ،
فالشرطة أيضاً تقصد الأسواق ، وكثيراً ما تقبض على الباعة الجائلين . تركت محمد قاصداً
هانى . كان صديقى قبل أن يصبح وكيلاً للنائب العام . أخر مرة زارنى فيها مر عليها
عامان - بعد زواجى بشهر - يومها ظننته جاء مهنئاً لكنه جاء لغرض أخر . عرض على
صفقة ( هذه كلمته ) تلاها بالتأكيد على أن الشاب العصامى - مثلى - الذى لم يرث ، ولم
يهاجر ، ولم ينحرف لابد له أن يستدين ليتم زواجه . أخبرنى بمعرفته بأنى استدنت
من أكثر من صديق لأستطيع إكمال زواجى .
لامنى لأنى لم ألجأ له ، وفى النهاية أعاد إلى أذنى كلمة " صفقة " قبل أن يعرض مشروعه
( وهذه أيضاً كلمته ) ذكرنى بأنى معاق وبأن الدولة ترعى أمثالى وتعفيهم من جمارك
السيارات المجهزة ، قبل أن يفصل مشروعه ثم قال :
- ستشترى سيارة مجهزة وأدفع أنا ثمنها ، ولا تنس أننى أستطيع إنهاء كافة
الإجراءات بسرعة ، وبمجرد أن تتسلم السيارة تتنازل لى عنها مقابل ألف
جنيه مكسب . ألم أقل لك إنها صفقة ، لكن لا تغضب منى ستوقع أولاً على
إيصال أمانة بثمن السيارة .
رفضت الصفقة فألح . ضاعف المبلغ . لم أتراجع . غادرنى غاضباً ومن يومها لم يزرنى .
***
أبدى هانى تعاطفه . وعد بأن يفعل شيئاً من أجل غريب . طالبنى بأن لا أتعب نفسى ،
وهو سيعمل اللازم .

***

حكيت لمحمد فلم يصدقه ، قال إنه كان يستطيع إنهاء المشكلة قبل أن أغادره ولن يكلفه
ذلك غير مكالمة تليفونية .
اتفقنا على أن نصبر حتى الفجر ، وإن لم يعد غريب نخرج نحن للبحث عنه ، يبحث
محمد فى أسواق الوجه القبلى . بينما أقصد أنا أسواق الوجه البحرى .
وافق الأب على الاقتراح وطالبنا أنا ومحمد أن نتصل كل ساعة لنعلمه بنتائج البحث لكن
الأم لم توافق . صرخت :
- ألن تفعلوا شيئاً حتى الصباح ؟

( ح )

لم ينم أحد .
كانت زوجتى تبكى وتتمتم بالدعاء . بينما تشاغلت بإعادة رص الكتب فى المكتبة .
أخرجت " الدرب الأخر " ذكرنى به أستاذ الاقتصاد الذى أغلقنا التليفزيون بسببه .
وجدت ورقة مثنية ( هل ذكرتنى بأخى غريب حينما قرأتها لأول مرة ؟ ) فردت الورقة
، وقرأتها لزوجتى :
" مع امتلاء المدينة بالناس ، والاستيلاء تدريجياً على المساحات الفضاء فيها
لأغراض الإسكان غير الرسمى ، بدأت أنشطة اقتصادية بأخذ مساراً مماثلاً
فى تطورها . وكانت التجارة هى أحد هذه الأنشطة " .
حكيت لزوجتى عن الكتاب ، فسألتنى عن مؤلفه وهل هو مصرى فقلت إن اسمه هرناندو
دى سوتو ، وهو من بيرو ولم يسمع بأبى النمرس وشبابها ، وواصلت القراءة :
" وكان هذا إيذاناً بميلاد التجارة غير الرسمية ، التى تجرى أساساً فى الشوارع
حيث تعرف بالبيع المتجول . ( ... )
" ومن ناحية أخرى بدأت الأسواق غير الرسمية عندما سعى الباعة العاملون فى
الشوارع إلى وضع حد لحالة عدم الأمان التى يعملون فيها " .
حاولت زوجتى أن تحول دون استمرارى فى القراءة،ذكرتنى بأنى لم أتناول دواء الضغط .
ابتلعت قرصاً ليخفض ضغط دمى المرتفع ، وواصلت القراءة .
" إن الوضع غير الرسمى ليس هو أفضل العوالم الممكنة ، إنه يتضمن تكاليف هائلة ، وإن الناس يحاولون تعويض هذه التكاليف بكل أنواع الطرق المبتكرة وإن كانت قاصرة . وإن خرق القانون ليس أمراً مستحباً فى نهاية المطاف ، وإن كل ما نراه من فوضى وإهدار للموارد وعمليات للتصدى ، و أعمال يومية تتسم بالجرأة ماهى إلا محاولات يائسة ومغامرة من أصحاب الوضع غير الرسمى لوضع نظام بديل لذلك الذى ينكر عليهم حمايته ".

طالبتنى زوجتى بأن أغلق الكتاب لأستريح قليلاً ، لكننى واصلت القراءة :
" وترجع أزمة مؤسساتنا القانونية جزئياً إلى إنها فقدت تدريجياً مصداقيتها ".
( .... )
" فقد كفت هذه المؤسسات عن أن توفر الوسائل اللازمة لحكم المجتمع
والحياة فيه "

( خ )

عقب صلاة الفجر أيقظت " عنتر " أطل من النافذة وهو شبه نائم . قلت :
- أريدك فى سفر .
رد وهو يتثاءب :
- بعد نصف ساعة تجدنى أمام بيتك .
وفى انتظاره راح الأب يذكرنى بأسماء الأماكن التى تشهد أسواقاً يوم الأربعاء . وعند
ذكر كل بلد يتوقف قليلاً ، يحكى عن صديق ، أغلبهم اُستشهدوا فى الحروب العديدة .
تطوع أبى فى الجيش عام 1955 وخرج منه عام 1977 . خاض كل الحروب وامتلأت
ذاكرته بأسماء الشهداء .
منعه عنتر من الاسترسال . توقف أمام البيت ، ولم يرفع يده
عن " الكلاكس " إلا بعد أن خرجت له .

( د )

توقفنا أولاً عند قسم الجيزة . كان الملازم يشرب شاياً بالحليب . قبل أن أكمل
كلامى قال :
- بعد 24 ساعة تقدموا بلاغ باختفائه .
قلت :
أنا لا أبلغ عن اختفائه ، فقط أريد التأكد إن كان محتجزاً هنا أم لا ؟
سألنى ثانية عن الاسم . أجبت :
- غريب أحمد منصور .
- لم يرد علىَ أحد بهذا الاسم .
رجوته :
- إن كان لديك بيان بأسماء المحتجزين أرجو أن تراجعه .
- قلت لك ليس هنا .
قالها بلهجة تجمع بين الغضب والتحذير ، فغادرته عائداً إلى التاكسى . عند
مديرية أمن الجيزة توقف عنتر . نهره الجندى وهو يشير بأن نبتعد .
- اطلع يا أجرة .
أشار عنتر بأن ينزلنى ثم يبتعد ، لكن الجندى لم يمنحنى الفرصة :
- قلت لك اطلع يا أجرة أحسن لك .

***
عدت المائة متر التى إبتعدها التاكسى مغتاظاً وأنا أضرب وجه الأسفلت بعكازى .
رمقت الجندى بغضب . تبدلت لهجته الآمرة :
- أسف يا أستاذ . إن رأى الباشا التاكسى أمام باب المديرية لن يرحمنى
سألت الجندى عن الحجز فسألنى عن الحكاية . لما سمعها قال :
- شباب هذه الأيام غاوى يطفش .
- هو لم يطفش .
تجاوز عن لهجتى الغضبى ، وأسدى لى معروفاً :
- لن يجيبك الضابط عن شئ . اذهب إلى عم خلف . هو رجل طيب
وحينما يراك بالعكاز سيخدمك .
وصف لى الطريق إلى خلف ، ولما سمع خلف حكايتى قادنى إلى غرفة الحجز
وهتف منادياً :
غريب أحمد منصور .. غريب أحمد منصور .
لكن غريب لم يرد ، فنصحنى خلف بالبحث فى المستشفيات .

( ذ )

وقفت طويلاً فى انتظار عنتر . تصفحت الجرائد بسرعة ثم طويتها . أعدت فرد
إحداها على الرصيف وجلست .
لما جاء عنتر اعتذر . فقد ذهب إلى محل عمله القريب ليوقع فى دفتر الحضور .
ضحك وهو يقول :
- المدير ابن الكلب استغل الظروف . كل يوم أفطره فول وطعمية لكنه
اليوم طلب قشطه وجبنه رومى . أحضرتهم مع باكو شاى فقال إنه
سيوقع لى فى دفتر الانصراف .

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 09 : 02 AM

رواية معنى الوطن 3
 
( ر )

عرجنا على منزل الأستاذ رشدى صاحب مكتب المحاسبة الذى أعمل به . ظننت
أن بوسعه أن يفعل شيئاً ، فحكيت له ، وهو بدوره حرص على تقصى كل
التفاصيل ، ولما انتهيت منحنى إجازة وأقرضنى مائة جنيه وقال :
- ربنا يجازى أولاد الحرام .

( ز )

قادنى " عنتر " إلى قسم امبابة ثم مستشفى امبابة العام . بعده مركزى شرطة
الوراق والمناشى .
فى كل مكان نرى الضابط الذى كان يشرب الشاى بالحليب فى قسم الجيزة . كان
يغير مشروبه . يشرب القهوة أو الشاى بدون حليب لكنه هو . قد تنطفئ
السيجارة بين أصابعه أو تشتعل لكنه هو ،وفى كل مرة يقول إن الاسم لم يمر
عليه (سيتضح كذبه فيما بعد ) وفى كل مرة يرفض إلقاء نظرة على أسماء
المحتجزين (لا يوجد كشف بأسمائهم ) .
قبل أن نجتاز الجيزة إلى القليوبية تذكرت أنى لم أتصل بالبيت . توقف عنتر
عندما رأى التليفون . علمت أن هانى لم يتصل ، وأن محمد تحدث مرتين من
الحوامدية ومن البدرشين .
اتصلت بهانى فلم أجده ، عدت إلى التاكسى فلاحظت أن العداد عاد إلى رقم
البداية . لمح عنتر نظرتى فقال :
- عندما يصل إلى 60 جنيه لابد أن أعيده إلى البداية حتى لا يحترق .

( س )

كان الزحام فى مركز شرطة القناطر شديداً جداً وكأننا فى سوق .
أوقفنى مخبر سرى . سألنى عن مقصدى ، ثم أشار بيديه لأعلى .
- اسأل عم حنفى . ستجده في حجرة النوبتجية .
على السلم زاحمنى مخبر آخر . رأيته يقود أربعة صبية . لحاهم لم تنبت بعد
وثيابهم بيضاء . سبقونى إلى حجرة النوبتجية . سمعت المخبر يقول .
- تحرى يا باشا .
قال بلهجة آمرة :
- قل لحنفى يجهز أربعة محاضر تحرى .
ثم التفت للصبية .
- تعال يا ….. أنت وهو ..
اقتربوا . سحب نفساً عميقاً من سيجارته ثم نفث الدخان فى وجه أقربهم إليه .
صفع أطولهم :
- ما اسمك ؟
- محمد إبراهيم .
- سنك ؟
- 15 سنة .
- ماذا تعمل ؟
- طالب .
- أين ؟
- تدريب مهنى .
- أين تسكن ؟
- بهتيم .

نفس الأسئلة وجهها للباقين . ولما انتهى عاد لسيجارته . نفث دخانها فى وجه
أحدهم . صفع آخر . سأل الثالث .
- قل أنت . لماذا جئتم القناطر ؟
- نحن خارجون فى سبيل الله .
شخر الضابط .
- فى سبيل إيه ؟ جايين فى غزوة للقناطر يعنى ؟
ضحك الضابط ساخراً بينما الصبية واجمين . ولما شعر الضابط بأنهم حصلوا على
وقت أطول من اللازم هتف لحنفى :
- المحاضر تخلص بسرعة .
- فى ثوان تخلص .

طال وقوفى فتوجهت لحنفى ، لم يلتفت لى . ولما أصررت على سؤاله شخط .
- نعم يا سيدى .
سألته عن غريب فقال :
- بعد ما أخلص المحاضر أشوف لك دفتر الأحوال .
دخل ضابط المباحث نظر إلى الصبية . سأل عن حكايتهم :
- بيقولوا خارجين فى سبيل الله .
- يبقوا من الأحباب .
- أحباب مين ؟
- الاسم المتداول لجماعة التبليغ والدعوة . وهى جماعة لا خوف منها
- ليه ؟
- ما بيتكلموش فى السياسة . وناسها طيبين لحد الهبل . زى العيال
دول .
- معنى كده إنهم معروفين ؟
- طبعاً ، وعلى فكرة ممكن تقطع المحاضر وتسيبهم يمشوا .
- بسرعة كده .
- إلا إذا كنت ناوى تتسلى بهم .
- يومين بس .

فرغ حنفى من المحاضر أسرعت بسؤاله . لم يفتح دفتر الأحوال . أجاب .
- سوق القناطر يوم الثلاثاء وليس الأربعاء . لكن بالأمس وقعت حادثة
والمصابين فى المستشفى .

( ش )

فى المستشفى دلونى على كاتبة الاستقبال . رأيتها تشرب الشاى ، إلى جوارها
امرأة تكبرها بنحو عشر سنوات . سمعت المرأة تنصح كاتبة الاستقبال :
- خلى بالك منه .
- ما تخافيش .
- أنا خايفة عليك .
- اطمئنى .

أمسكت المرأة بكوب الشاى ، فأسرعت بسؤال كاتبة الاستقبال قبل أن تواصل
المرأة نصائحها . غادرت كاتبة الاستقبال مكتبها . فتحت دولاب وراحت تخرج
منه دفاتر عدة . وضعت أحدها على المكتب وأعادت بقية الدفاتر إلى مكانها فى
الدولاب . أغلقت الدولاب وجلست إلى مكتبها . رشفت رشفتين بصوت
مسموع . عاودت زميلتها تحذيرها :
- لقد جاء ، خلى بالك .
أرسلت عينيها باتجاه الباب ، فاصطدمتا بالداخل . بادرها :
- النيابة تريد ملف تسمم التلامذة .
- بتوع الشهر اللى فات .
- لا اللى قبله .
- مش عايزه هزار .
- أنا بتكلم جد .
- و إيه فكرهم بعد شهرين ؟
- سيبى اللى معاك ودورى على الملف لأن مندوب النيابة منتظر عند
المدير .

غادرت المكتب . أعادت فتح الدولاب . اختفت بين الملفات . ذكرها زميلها .
الشهر اللى قبل اللى فات يعنى ملف الـ 14 .
- عارفة الشهر اللى فات تسمم تسعة واللى قبله 14 .
- وعلى آخر السنة تكون المدرسة كلها تسممت .

رجوت زميلتها أن تبحث لى عن أسماء مصابى الأمس . فتحت لى الدفتر وطالبتنى
أن أبحث بنفسى . قرأت الأسماء كلها ولم يكن بينها اسم " غريب " .

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 10 : 02 AM

رواية معنى الوطن 4
 
( ص )

كانت ساحة سوق الباجور موحلة .
ركن " عنتر " السيارة إلى جوار مقهى .
جلست بينما ذهب هو ليشترى سندوتشات . لم أستطع ابتلاع لقمة واحدة ، فقط
شربت الشاى والاسبرين لأقاوم الصداع والبرد .
اقترب منا صاحب المقهى . أدرك إننا غرباء فجاء يسأل عن مقصدنا . سألناه
فقال:
- بالأمس كنت فى مصر ، الولد مرعى كان هو الموجود .
- ليتك تناده .
- هو ليس موجوداً الآن سيعود خلال ساعة .

جلسنا ننتظر عودة مرعى ، فتذكرت مرعى آخر كان زميلى فى الجامعة .

" كان يسكن الحجرة المجاورة لحجرتى فى المدينة الجامعية . دخلت حجرته فرأيت صورة جيفارا . سألنى إن كنت أسمع الشيخ إمام فأجبت بأنه ابن قريتى وطلبت أن يسمعنى جيفارا مات "
" نقر بأصابعه على المكتب عازفاً اللحن الجنائزى . بدا متأثراً وكأن جيفارا مات لتوه ".
ولما انتهت الأغنية عاد لحالته الطبيعية . سالنى :
هل قرأت هذا الكتاب ؟
كان يمسك بمائة عام من العزلة . أجبت بالنفى فنصحنى أن أقرأه . مددت يدى لآخذ الكتاب فرفض . طلب كتاباً مقابله حتى يضمن أن أرد له كتابه . غادرته لدقيقتين وعدت وفى يدى " الدون الهادئ " .

اعتدنا تبادل الكتب والشرائط . قرأنا معاً بابلو نيرودا وأمل دنقل وناظم حكمت .
سمعنا معاً فيروز ومارسيل خليفة وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسيد درويش . عشقه لأمل دنقل جعله يُقلع عن كتابة الشعر . يقينه أن كل ما سيكتبه لن يساوى حرفا من شعر أمل .
وحينما شاركنا فتحى رضوان فى التظاهر احتجاجاً على اغتيال سليمان
خاطر جأر مرعى بقصيدة لا تصالح ،وأيها الواقفون على حافة المذبحة . هذه القصيدة كانت شعاره . يغنيها فى كل المواقف . حينما نقصد مطعم المدينة الجامعية ونجده مغلقاً كان ينشدها ضاحكاً .
يهتف :
المنازل أضرحة والزنازن أضرحة والمدن أضرحة .
ثم يرفع ملعقته قبل أن يكمل :
فارفعوا الأسلحة و اتبعونى .

وبعدما يفرغ من الطعام ينقر على الصينية الفارغة ويغنى لسيد درويش
" دنجى .. دنجى " ثم يغسل الملعقة ويعيدها إلى جيبه .
فى الطريق لحجرتينا يحدثنى عن حلمه بأن يكون مغنياً .

تخرج قبل منى بعام . زارنى أكثر من مرة فى العام الذى بقيته بعده فى الجامعة .
حينما أراه كنت أحن لسنوات ثلاثة قضيتها معه ومرت سريعاً .

كان يأتى لى ليبوح بعذاباته ويغنى .

ينتقل من " حبيتك بالصيف " إلى " بين ريتا و عيونى بندقية " .
يحكى عن " دنيا " التى لم تصن عهد الهوى ، وعن أخيه الذى عاد من العراق قتيلاً ، وعن شهور التجنيد التى لا تنتهى ويختم حديثه بلازمة
أبدية :
" مرت أزمنة الجد والفرح ، ولم يبق إلا التعاسة والشقاء . "
يرددها كثيراً قبل أن ينخرط فى الغناء أو الصمت المطبق "
أشعر بالحنين إليه ، أتذكر صوته العذب الشجى ، قهقهته وهو يحكى كثيراً عن
"مائة عام من العزلة " والفتاة التى طارت بواسطة ملاءات السرير ، يتمنى لو
يفعلها هو ودنيا . يطيران .

أتذكر أنى لم أكتب له رسالة واحدة طيلة السنوات التى مضت على تخرجى فى
الجامعة . هو أيضاً لم يرسل لى . كل الذين أحببتهم لم أزرهم ولم أراسلهم . هم
أيضاً لم يفعلوا بالرغم من تبادلنا للعناوين . فهل كنا حقاً أصدقاء ؟

سألت صاحب المقهى عن مرعى الآخر . كان يعرفه . أجاب :
- عمله ليس بعيداً عن هنا .
وصف لى مكان عمله فتركت عنتر يدخن الشيشة وذهبت إليه . تذكرنى فور
رؤيته لى . تعانقنا وبكينا . سألته عن " الكرش " الذى تضخم بشدة ، فقال :
- " معلق أنا على مشانق الصباح وجبهتى للمائدة محنية .
- مازلت تحفظ شعر أمل .
- المائدة من عندى .
ضحكنا . انتحى بى مكاناً قصياً فأدركت أنه بحاجة للبوح . استمعت إليه
فوجدت صوته فاقداً العذوبة التى كانت له . حكى عن أرملة أخيه رضوان . أصر
الأب أن يزوجه بها ليربى أولاد أخيه . وافق ليرضى الأب ويداوى شروخاً فى
القلب أحدثتها " دنيا " . لكن الشروخ اتسعت ، وتهاوى القلب فتسربت الروح .

ودع الأحلام القديمة . لم يبق منها إلا ذكريات باهتة . وحتى لا يستعيدها سألنى
عن سر الزيارة الغريبة . أجبته فرافقنى حتى المقهى . علمت من عنتر أن صبى
المقهى حضر . سألته عن أحداث الأمس ، فأخبرنى عن معركة شهدها السوق .

( ض )

فى المستشفى أفاد الطبيب بأن ثلاثة من مصابى المعركة عولجوا وخرجوا فى نفس
اليوم . لم يكن أحدهم يحمل اسم غريب أما الرابع فهو رجل فى الخمسين
جبسوا ساقه اليسرى المكسورة ، وأبقوه بالمستشفى . وبغلظة أخبر عن الخامس :
- اذهبوا لعم بدوى فى المشرحة ربما يكون القتيل هو من تبحثون عنه .
عند المشرحة بادرنا بدوى بالسؤال :
- رجل أم امرأة ؟
أجاب عنتر :
- شاب فى الثلاثين .
- أوصافه ؟
سألنى عنتر :
ماذا كان يلبس ؟
أجبت بانقباض :
- بنطلون جينز أزرق وسويتر جلد أسود ، وعلى الرأس والكتفين شال
أبيض .
أضاف عنتر :
- اسمه غريب أحمد منصور
قال بدوى :
- هذه الأوصاف تنطبق على جثة وردت بالأمس . لكن يبدو أن حافظة
نقوده سرقت فلم أعرف اسمه لكنه جاء بدون الشال الأبيض .
جزعت . غزتنى رغبة فى القىء .
أحسست وكأن روحى تتسرب مغادرة جسدى المنهك الذى تجمد مكانه . ولما أرانا
بدوى الجثة المنكفئة على وجهها قال عنتر :
- هو .. هو غريب .

صرخت ملتاعاً . قفزت معانقاً الجثة . انكفأت عليها . واصلت الصراخ . صرختي
كأنها حُملت بكل عذابات غريب و إحباطاته ، فخرجت وكأنها شوك ينزع من
أحشائى . ولما حاولت تقبيل الوجه شعرت بالشارب الكث . انتبهت . غريب لم
يكن ذا شارب . أدرت الوجه . لم يكن هو . وحينما ارتطمت بأرض المستشفى
سمعت صوتى يهتف :
- ليس هو .. ليس هو .

( ط )

مرعى وعنتر حملانى إلى التاكسى .
أصر مرعى على مرافقتنا حتى سوق أشمون .
أخبرنى عنتر عن اتصاله بأبى النمرس . قالوا له أن محمد اتصل مرتين من العياط
ومن الصف ولم يأت بخبر ، لم يبق له إلا أطفيح بينما بقيت لى أشمون .
طوال الطريق وعنتر يجتر ذكريات عن " أشمون جريس " ويصفها بأنها بلد
الخير .
- والله يا أستاذ مرعى أشمون جريس بلد كلها خير . وأهلها كرام .
وكل مرة تكون هذه الجملة افتتاحية لحكاية يسردها ، وكل حكاياته مرتبطة
بالمرحوم زوج خالته الذى كان يعمل بالجمعية الزراعية بأشمون .
كان عنتر طفلاً ، واعتادت أمه أن تصحبه كل صيف لزيارة شقيقتها .
- تصدق بايه يا أستاذ مرعى ؟
- بالله .
- والله ، الأرز المعمر الذى أكلته فى أشمون جريس رائحته لم تغادر
أنفى حتى الآن . يا سلام على رائحته . يا سلام على السمن البلدى " العايم على وش الطاجن " .
- خالتك كانت طباخة هائلة .
- لم تكن هى . كان الجيران ما أن يستشعروا وجودنا حتى يطرقوا باب
خالتى . واحدة تحمل حلة لبن ، وأخرى تأتى بالقشطة و الجبن
الحلوب وغيرها بالبيض وغيرها بالأرز المعمر . كانوا يعرفون أن
خالتى غريبة ، ويريدون عدم إشعارها بالغربة خاصة أثناء زيارتنا
لها .
***

فى مركز أشمون أشعل مرعى سيجارة لمساعد الشرطة . سحب الرجل نفساً ثم نفث
الدخان وقال :
- جاءنا بالأمس شابين قضيا ليلتهما بالحجز ، واليوم تم ترحيلهما
واحد إلى طنطا والآخر إلى بنها .
إذن لم يكن غريب أحدهما ، قصدنا المستشفى ولم نجد غريبا فعدنا نقطع الطريق
فى عكس الاتجاه .

( ظ )

عند مدخل أبو النمرس استوقفنا رجال الشرطة فتشونا واطلعوا على ما
يثبت هويتنا قبل أن يسمحوا لنا بالدخول .
عاودتنى الرغبة فى القئ لكننى حرصت على متابعة العداد كان الرقم ( 4800 ).
إذن كان عنتر يكذب حينما أعاد العداد إلى رقم البداية قبل ان نصل إلى بنها .
غلبنى القئ فغادرت التاكسى . أسندت رأسى إلى السور المحيط بترعة المنصورية
وأفرغت جوفى . ولما عدت وجدت العداد ثانية عند نقطة البداية جادلت عنتر
فأكد أننى لم أر جيداً لكونى متعب . أصر على أن العداد وصل إلى 60 جنيه .
فأعاده إلى البداية حتى لا يحترق .

كنت على يقين من كذبه لكنى استسلمت . عددت مائة وعشرين جنيهاً . مددت
يدى بالنقود فسألنى :
- كم ؟
- 120
- حسابى 150
- كيف ؟
- 120 العداد للبنزين والتاكسى أما تعبى فربعهم يعنى 30 جنيه زيادة.

بلغ استسلامى منتهاه . أضفت الثلاثين جنيهاً إلى ما فى يدى ، رفض عنتر أن
يلمسها . أقسم ألا تدخل جيبه قبل رجوع غريب .

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 12 : 02 AM

رواية معنى الوطن 5
 
( ع )

- " هل وجدته ؟ " .
عشرات الأفواه قذفتنى بالسؤال .
لم يره أحد يغادر التاكسى فكان من الطبيعى أن يعلموا بالإجابة دون حاجة
للسؤال ، لكنى أعذرهم . جميعهم تمنى لو يعود فكأنهم يسألوننى عن سر
الغياب . خاصة أن محمد عاد قبلى بساعتين فأصبحت " مناط أملهم " .
بدا البيت وأنه يشهد مأتماً ، الجيران والأقارب يملئون البيت . والذى ينصرف
يجئ غيره . الجميع يواسى ، ويرجو أن يطمئن ، ويحكى عن وقائع متشابهة .
كان الأب حزيناً ومرهقاً ، يدخن بشراهة رجوته أن يكف فنظر لى صامتاً ثم
سحب من سيجارته نفساً عميقاً .
من الداخل نادتنى أمى . رمتنى بنفس السؤال كانت تبكى والنسوة يواسينها ،
الجارة " بسيمة " كانت تبكى بحرقة وهى صامتة ، إلى جوارها تجلس " زينات"
التى كانت تتكلم كثيراً وتؤكد بثقة . وكأنها تعرف مكانه . على إنه سيعود فى
الغد . أكدت أن ابنها سرحان تعرض منذ شهرين لنفس الموقف . غاب يومين
وعاد فى الثالث . قالت لى الجدة أن أدع أمى وأصعد لأستريح . معى صعد محمد .
لاحظ حزنى و شرودى فحاول أن يسرى عنى :
- بسيمة كانت تبكى بحرقة .
- لاحظت ذلك .
ابتسم مضيفاً :
- يبدو أنها مازالت تحبه مع أنه قطع علاقته معها منذ سنة .
- كان الأمر مجرد نزوة .
- برأيك أيهما تنتظره بشوق أكثر بسيمة أم زينات ؟
وهل ترى الوقت مناسباً لهذه السخافة ؟

أدرك حدتى . خشى أن يرافقها اتهام بالشماتة أو على الأقل عدم الاهتمام بما
يحدث لأخيه . حاول نفى التهمة التى لم يوجهها له أحد .
- قلبى يحدثنى إنه لم يصب بمكروه .
- ولم غاب إذن ؟
- الشرطة . ابحث عن الشرطة .
- طوال اليوم وأنا أبحث .
- كل زملائه تعرضوا لمثل هذا الموقف . مؤكد إنه فى أحد المراكز أو
الأقسام التى مررنا بها . سيعود خلال يومين أو ثلاثة فلا تقلق .
كان موقناً من صحة كلامه ، فبدا وكأنه غير قلق . أعلم أن الشرطة تنشط للقبض
على الباعة الجائلين فى مثل هذه الأيام . يحمون منهم المستهلك والاقتصاد
القومى . لماذا لم يقرءوا هرناندو دى سوتو ؟ واستمعوا فقــــــــــط لمن وصفه أبى
بـ "ابن ...... " . أتمنى أن تصدق توقعات محمد . لكن ماذا لو لم تصدق ؟ .

ألزم الصمت فيغادرنى محمد . أتذكر تلميحاته عن بسيمة وزينات . دون أن أشعر
أو يقصد ألقى إلى بطوق نجاة ينتشلنى قليلاً من كربى .

بسيمة متزوجة من جارنا " فؤاد " الموظف بالإدارة الهندسية . هو المسئول عن
استخراج تراخيص المبانى . يكسب كثيراً من هذا العمل فالتراخيص لا تمنح إلا
لمن يدفع . لم يحتج لعمل آخر بعد الظهر أو فى المساء . يقضى بقية نهاره فى
لعب الكرة فى " النخل " ذلك الملعب الصغير خارج مدينتنا والمحاط بالنخيل من
كل جانب . يعلم مهارة " غريب " فى لعب الكرة فإن رآه يدعوه ليكون ضمن
فريقه . أصبحا صديقين رغم فارق السن . حتى السهرات يقضيانها معاً . وغالباً
فى بيت فؤاد . بسيمة تسهر معهما ، تعد الشاى على موقد السبرتو ، وهم
يقضون الأمسيات الصيفية على سطح البيت . ويستمعون إلى أم كلثوم عبر الكاسيت
ويتسلون بقزقزة اللب والفول السودانى وإطلاق النكات .

بسيمة تقوم كثيراً لتلقى نظرة على الأطفال النائمين أو لتبعد قطاً يحوم حول
حظيرة أفراخها .ومع كل قيام وقعود يتابعها غريب بتركيز شديد فثوبها المنزلى
يكشف عند كل قيام وقعود عن مساحات من فخذيها البضين . أما إذ بكى الصغير
مراد فهى تلقمه ثديها . ساعتها يتمنى غريب ألا يشبع الطفل .
فى الصيف الماضى أصيب فؤاد أثناء لعب الكرة ، فقد عرقله أحد منافسيه فارتطم
بالأرض .
شعر بآلام حارقة فى ساقه . قام غاضباً يتوعد من أوقعه . زادت الآلام ولم يستطع
الخطو . سقط ثانية فارتطمت رأسه بجذع نخلة وفقد الوعى .
فى المستشفى بكت بسيمة وأصرت على أن تبيت مع زوجها لكن الزوج رفض
طمأنته بأنها أرسلت العيال ليبيتوا مع أمها ولم يبق معها إلا الرضيع . ذكرها
الزوج بأنه سيقضى ليلة فى عنبر الرجال فأثناها عن عزمها .

اصطحبها غريب الذى كان آخر المغادرين من زوار فؤاد . رآه محمد يحمل عنها
الطفل ويدخل معها البيت . ورآه يخرج من عندها بعد ثلاث ساعات . ارتاب فى
الأمر وحاصر غريب طويلاً فاعترف ليتخلص من إلحاحه . لم يقل إلا جملة
واحدة :
" الشيطان ضحك علينا "

***
لم يره محمد وهو يتسلل داخلاً بيت زينات ، لكنه هو الذى حكى .
كان عائداً من أحد الأسواق بعد العصر ، والكرتونة كما هى ، لم تنقص شيئاً .
زينات أفسحت له مكاناً إلى جوارها فى السيارة الميكروباص . سألته .
- لماذا لم تسافر مع ابنى سرحان ؟
- لا أحب شغل المحافظات
- لكنه أفضل من الشغل هنا ، فسرحان يغيب شهراً أو شهر ونصف
ويعود مجبور الخاطر ، غير راحة من البلدية والشرطة والرجوع
بالكرتونة كما هى .
- أنا لا أحب الغربة ، وهنا مثل هناك .
عند آخر الخط غادروا الميكروباص وهو لم يزل يستشعر الدفء المنبعث من
فخذها.
سارا خطوات معاً فأخبرته بأن سرحان المسافر منذ أسبوعين أوحشها ، وأن زميلاً
له سيمر عليها ليحمل رسالة إليه ، وطلبت من غريب أن يكتب لها الرسالة .
فسار معها صوب بيتها وسمع حكايتها عن بوار سلعتها ، فالعرائس الآن يذهبن
للكوافير ولا يأتين لها ، وسرحان يظن أنها تكسب كثيراً ولا يرسل لها مالاً .
بالقرب من الباب وضع غريب الكرتونة ، جلس على الكنبة وغادرته لدقائق .
عادت ومعها قلم وكراسة . جلست إلى جوار غريب لتملى عليه الرسالة . تحدثت
عن أشواقها للابن المسافر وبكت مشيحة بوجهها عن غريب .
ربت على كتفها فاقتربت - بظهرها - منه ، ولم تكف عن البكاء . أراح يسراه
على كتفها الأيمن وهى لم تكف . هبطت يسراه قليلاً ثم تسللت عبر الإبط إلــــى
الثدى . قبض عليه بشدة فتأوهت وهى تبكى . أمسكت يمناه بالثدى الآخر فكفت
عن البكاء ، وعادت تنظر إليه . قبل شفتيها فأغمضت عينيها . ولما أطال المداعبة
حذرته من الإبطاء فقد يأتى زميل سرحان ليتسلم الرسالة وتضيع الفرصة .

ليلتها لم ينم محمد قبل أن يحكى لى . قال إن غريب سيضيع ولابد أن نفعل شيئاً
لإنقاذه .
واجهت غريب فلم ينكر . حاولت القيام بدور الأب الناصح فلم أفلح . قال لى :
- لا تلمنى . لو كنت مكانى هل كنت تستطيع الرفض .
- وبسيمة ؟
- كانت غلطة .
- غلطاتك كثيرة .
- ماذا أفعل وأنا فى الثلاثين ، بلا عمل ، وبلا أمل فى الزواج أو فى أى شئ ؟
- وهل الزنا هو الحل ؟
- ليس حلاً ، لكننى أريد أن أنسى قليلاً ما بى .
- كأنك تعتبره مخدراً .
- أعتبره كذلك المهم إنه ينسينى متاعبى ومشاكلى ولو للحظات قليلة .
جادلت طويلاً فلم تبد عليه نية فى التراجع .
اضطررت لإجباره على القسم . وضع المصحف على عينيه وأقسم ألا يعود لمثل
ذلك .

فى الأيام التالية كان يتجنب رؤيتى .
لا أدرى إن كان خجلاً بعدما عرفت سره أم ندماً بعدما اقتنع بخطئه ؟ أم ضيقاً بى
لأن إلحاحي دفعه لقسم لن يحنث به ؟

لم أشك لحظة فى التزامه بالقسم . لكن عاودنى الشعور بالعجز وأنا غير قادر
على مساعدته بأى شئ للخروج من أزمته ووقف هجمة الشحوب عليه .
نفس الشعور بالعجز انتابنى بعد عودته من السعودية بناء على نصيحتى أيضاً
فقررت ألا أنصحه بعد اليوم وألا أدعوه لفعل شئ أو أنهاه عن فعل شئ .
وأقنعت نفسى بألا أستمرئ دور العاقل الناصح فأنا أحوج للنصيحة وأعجز عن أن
أفعل شيئاً لنفسى أو لغيرى .

احمد رجب شلتوت 10 / 01 / 2009 14 : 02 AM

رواية معنى الوطن 6
 
( غ )

آلام المخاض فاجأت زوجتى .
أمى وجدتى هرعتا إليها .
بعد دقائق خرجت جدتى . قالت أن الوقت لم يزل مبكراً ، والولادة لن تتم قبل
الفجر . تبعتها أمى . حذرتنى :
- إن جاء المولود ذكراً إياك أن تسميه غريب .
تعجبت . سألتها عن السبب ، لم تجب إلا بالبكاء . أنابت عنها الجدة فى
الجواب :
- هذا فأل سيئ .
لم أفهم . استوضحت فتذكرت الجدة يوم ولادة أخى محمد . حكت أن أبى أراد أن
يسميه على اسم أبيه " محمد " ، ابنتها وافقت لأن محمد هو أيضاً اسم أبيها .
جدتى لأبى غضبت مدعية أن محمد المقصود ليس زوجها ، وابنها يرضى زوجته
وأبيه معا مستغلاً تشابه الأسماء . حتى يحسم جدى لأمى الأمر طلب من أبى
تغيير اسم المولود ومنحه اسماً أخر . بينما جدى لأبى اكتشف حلاً أيسر . أخرج
من الصديرى مصحفاً ، فتحه على سورة يس وطلب من أبى أن يقسم بألا يكذب ،
وأن ينطق باسم سمى المولود . أقسم بأنه اختار اسم أبيه لكن أمه لم تصدقه . وإن
تظاهرت بغير ذلك ، فبعد شهرين توفى جدى لأمى فقالت جدتى لأبى إن ابنها
كان كاذباً فلو سمى المولود على اسم جده لأبيه لمات هو وليس الجد الآخر .

جدى لأبى صدق زوجته ، فرح بنجاته من الموت لكنه خاصم ابنه أربعين يوماً
لأنه كذب عليه .

كانت الحكاية غريبة لكننى عذرت أمى ، ولم أخبر أحداً بأنى وعدت
زوجتى أن تختار هى اسم المولود أياً كان جنسه .

" حينما حملت زوجتى لأول مرة ، اتفقنا على أن أختار اسمه على أن تتولى هى أمر المولود الثانى .
قلت أنها ستلد بنتاً وسأسميها آفاق . ضحكت وقالت إنها ستضع ولداً يشبهنى .لكنها وضعت أنثى . أسميتها آفاق . هوجمت بضراوة بسبب الاسم الذى بدا للأهل غريباً . رأوه غير لائق لمجرد إنه غير شائع . لم تحتمل آفاق أن تكون سبباً للسخرية من أبيها فغادرت الدنيا صباح يوم السبوع وبقى الغربال المزركش شاغراً حتى اليوم " .

( ف )

لم تلد زوجتى عند الفجر حسب توقع جدتى .

أيقظت محمد لنخرج سوياً . عرض أن أبقى لأكون بجوار زوجتى . رفضت .
لا أستطيع تحمل عذاب الانتظار المزدوج : خروج المولود ورجوع غريب .
قال محمد إن زملاء غريب يتوقعون وجوده فى أحد ثلاثة أماكن:
قسم الأزبكيه ، قسم قصر النيل ، مديرية أمن القاهرة.
أضاف بأن قلبه يحدثه بأن غريب لم يصب بأذى لذا لن نذهب إلى المستشفيات .
قالت أمى :
- وإن لم تجدوه فى أحد هذه الأماكن .
رددت واجماً :
- عندئذ لا يصبح أمامنا إلا انتظار رحمة ربنا .
خرجت أدارى دموعى ،وفى أذنى صراخ زوجتى . تذكرت آفاق ، وبكاء غريب . ضم جثمانها قبل أن ندفنها وصرخ فبكيت . نهره محمد وحملها عنه إلى جوف القبر .

( ق )

ماذا تقول لهم ؟
سالنى محمد ، اقترحت أن نؤجل الاتصال التليفونى لما بعد صلاة الجمعة .
غادرنا مديرية أمن القاهرة قاصدين مولانا الحسين . لم أزره منذ رمضان الماضى .
كان غريب معى فى آخر زيارة لسيد الشهداء . قال ونحن نتناول طعام السحور:
- شئ غريب .
- ما هو ؟
- قدرتنا على خلق البهجة .
كيف ؟
- أنظر كيف حولنا الضريح إلى مكان للنزهة والفرح . أعتقد لو كان
الضريح فى بلد آخر لما أثار غير الحزن والرغبة فى البكاء .
غريب لم يستقر على هذا الرأى طويلاً ، هو هكذا دائماً لا يعرف الاستقرار على
شئ أو فى مكان .
كنا نشرب الشاى فى شرفتى ونسمع فيروز تغنى :
- إن ما سهرنا فى بيروت نسهر بالشام .
رددها وقال :
- سيسهرون فى بيروت أو فى دمشق . وما داموا جماعة ويصرون على
السهر .
فهم يصرون على البهجة . هم قوم يعرفون كيف يحيون أما نحن فنعرف
جيداً كيف نموت .
فإننا نسهر بمفردنا ، ونسهر لنتألم ونتوجع .
( ك )

كان الزحام شديداً .
أحد المارة اصطدم بى . كدت أقع على الأرض لولا أن أمسكت بمحمد .
اعتذر الرجل بسرعة وهو يواصل سيره . أنظر فى الوجوه . أحدق فيها . كلها
مهمومة يعلوها الصدأ . يعثر العكاز فى حصاة .
أضيق بالزحام . أشعر بالاختناق . أقف مكانى لكن الزحام الشديد يجبرنى على
مواصلة المسير . فالجثث السائرة تحث الخطا وإن اعترضت مسيرها بالوقوف
ستدهسنى .
لازمنى الشعور بالاختناق حتى رأيت الضريح ، فاضت عينى بالدموع . قال
محمد:
- لماذا نلوم أمك إذن ؟
كفكفت الدمع وجلست أسمع الخطيب .
بعد الصلاة لم أقو على النهوض ، وددت البقاء فى رحاب الشهيد لكن محمد
رفض فقفلنا راجعين بدون غريب .

( ل )

قلت لمحمد :
- إن رزقت بأنثى سأسميها أيضاً آفاق
قال :
- لتعاند الموت الذى اختطف أختها يوم السبوع .
قلت :
- وربما تكون البشارة .

( م )

آفاق عاندتنى ولم تجئ . وضعت أمها ذكراً . أسماه أبى " يحيى " فقد أتته البشارة وهو يسمع القرآن :
- " يا يحيى " خذ الكتاب بقوة .
أخذت يحيى بين ذراعى . قبلته على جبهته .
ابتسمت له لكن سرعان ما غاضت الابتسامة . إذ خطرت لى سالومى وهى تطلب
رأسه .

( ن )

جاء يوم السبت ولم نجد ما نفعله . كان لابد أن نفعل شيئاً فذهبنا إلى مركز
الجيزة فلعل خبراً أتاهم عن غريب .
لم يقم الصول من مكانه إلا بعد أن دس محمد فى يده الخمسة جنيهات . دسها
فى جيبه ونهض بتثاقل فتح دفتره وراح يقلب الصفحات بسرعة ثم توقف عند
الصفحة الأخيرة تمتم باسم غريب ثم أشار بإبهامه إلى السطر الأخير :
- غريب أحمد منصور ، اسمه موجود . جاء صباح اليوم مع الوارد
الجديد .
سألته عن المكان الذى صدره فقال :
- جاء من الوراق .
تذكرت الضابط الجالس على كرسيه فى مدخل المركز ، يضع ساقاً فوق الأخرى ،
ويرشف القهوة . رمقنى أنا وعنتر ثم نفى وجود غريب عنده .
طلبنا من الصول أن يرينا غريب لكنه طلب الحلاوة أولاً . حصل على خمسة
جنيهات أخرى فسبقنا إلى غرفة الحجز . فتحها فرأينا غريب يجلس القرفصاء
هم بالخروج إلينا لكن الصول أغلق الباب . سألناه عن تهمة غريب فقال :
- أخذوه تحر .
- يعنى لم يوجه له اتهام .
- وهل قتل قتيلاً ؟
- نريد أن نأخذه .
- اذهبا للضابط واضمناه .
رفض الضابط أن نضمن أخانا .
قال لى إنه لا يستطيع أن يخرجه قبل عرضه على النيابة المسائية . معنى ذلك أن
يظل غريب هنا حتى منتصف الليل ، وقد يبيت ليلة أخرى .

سألنا الصول النصيحة ، فنصحنا بأن نقصد المعلم عاشور ، فالضابط لا يرد له كلمة وهو الوحيد القادر على إخراج غريب من الحجز .
هرعنا إلى المعلم عاشور . سمع الحكاية فطلب من زوجته إحضار مفاتيح السيارة .
عاتبنا لأننا لم نكن من مؤيديه فى الانتخابات السابقة وحتى لم نهنئه بالنجاح .
قبل أن يوقف السيارة أكد على عدم " زعله " منا ، نحن على الأقل كنا واضحين
ولم نخدعه كما فعل البعض . ممن خانوه ، أكلوا طعامه وأخذوا فلوسه ثم انتخبوا
خصمه .
غادرنا السيارة ونحن نعلن مبايعتنا المسبقة له . سبقنا داخلاً المركز . رأيناه
يدخل حجرة المأمور . أوقفنا الشرطى بالخارج . رأينا المأمور يعانقه . ينادى
الشرطى . يطلب القهوة . ثوان وجاءت القهوة . كان قد سمع الحكاية من المعلم
عاشور . يأمر الشرطى فيخرج . بعد دقيقتين عاد ساحباً غريب .
ولما فرغ فنجان القهوة نهض المعلم عاشور . صافح المأمور ثم خرج لنا بغريب الذى
اغرورقت عيناه بالدموع .

( هـ )

فى السيارة بكى غريب ولامنا لأننا لم نفعل له شيئاً طيلة هذه المدة . لامنا المعلم
عاشور لأننا لم نلجأ له منذ اليوم الأول . قال إنه كان يستطيع إنهاء المشكلة
بالتليفون . وعده محمد بأن نفعل ذلك فى المرة القادمة .
توقفت السيارة أمام بابنا . قفز غريب . علت الزغاريد . تجمع الجيران مهنئين .
حياهم المعلم عاشور قبل أن ينطلق بسيارته .

( و )

تحلقنا حول غريب . أمى ضمته إلى صدرها وعاودت البكاء . طالبتنا بأن ننتخب
المعلم عاشور . قال أبى إنه لا يعلم سر الثراء المفاجئ للرجل الذى كان معدماً منذ
عشر سنوات قلت لعل بغلة العرش زارته ،ذكرتنا أمى بالمعروف الذى أسداه لنا
الرجل . وسألت غريب عم حدث ؟ سمعناه جميعاً :
- يوم الأربعاء نفدت البضاعة مبكراً . غادرت السوق قبل آذان الظهر .
عند محطة الأتوبيس توقف الضابط ليملأ سيارته .
- ألم تكن معك بطاقتك ؟
- كلنا كانت معنا البطاقات .
أبرزناها له لكنه أصر على القبض علينا ، ولم يسجل أسمائنا فى دفتر
الأحوال ولم يعرضنا على النيابة .
خلعت أمى طرحتها . رفعت يديها للسماء ثم تضرعت :
- ربنا يحرق قلب أمه عليه .
ضحك غريب وهو يحكى عن رجل عجوز . ارتابوا فى الكيس البلاستيكى الأسود
الذى يحمله . فتشه المخبرون فوجدوا به عدة لفات قمر الدين . أخذوها فثار وطالب الضابط أن يفرج عنه أو يرد له قمر الدين .
ظل يطالب بذلك حتى جاءته نوبة الربو مساء الجمعة . خشى الضابط أن يموت
العجوز فى الحجز فأخرج عنه ، ورحل الباقين صباح السبت .

( ى )

كان المساء مناسباً للاحتفال بغريب ويحيى معاً .

ذبحت أمى ذكر البط المزغط الذى ادخرته لإفطار أول يوم من رمضان .
تسميه يوم الرفرافة . يضحك غريب ويسألها عن سر التسمية . تقول أن كل
المسلمين يذبحون البط المزغط فى اليوم الأول لرمضان . والبط المذبوح يرفرف فى
كل البيوت . ضحكنا وقال أبى :
- ما فرقتش كتير أول إفطار مثل أول سحور .
جلسنا فى انتظار اكتمال نضج ذكر البط .
كان غريب يحمل يحيى ، يهدهده ، يعيد حكاية الرجل العجوز الذى سلبه
المخبرون قمر الدين .
طالبه محمد بأن يبحث عن وظيفة بدل من العمل الذى يعرضه لمضايقات الشرطة
وكأنه قاتل أو لص .
أعلن غريب عن قراره بالسفر إلى أى مكان .
نصحته ألا تكون قراراته ردود أفعال ، ونصحنا أبى أن نصمت . استعجل الطعام
وقال لمحمد :
- افتح التليفزيون .
بكى يحيى فحمله غريب إلى أمه . رصت زوجة أخى الأطباق على الطبلية فتحلقنا
حولها أوليت ظهرى للفيلم . شاهدته فى السينما وكان غريب معى . يومها خرج
من السينما وهو يردد مع المطرب :
هلفوت ومالكش لزمة
وماحدش دارى بيكا .

جلست أمى بجوار غريب . وضعت أمامه ذكر البط . وهى تقسم بأن يأكله بأكمله
. ضحكنا . تذكر محمد أن يسال غريب عن مصير قمر الدين . هل استرده صاحبه
أم تركه للمخبرين ؟ . نهرته أمى :
- ما تفكرهوش وسيبه يأكل .
عدنا نضحك لكن ضحكتى غارت لما انطلق صوت المغنى فى الفيلم يسألنى :
- يعنى إيه كلمة وطن ؟
يعنى أرض
حدود
مكان
ولا حالة م الشجن

تمت


الساعة الآن 14 : 02 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية